العرب الأميركيون وإستدخال الدونية:


بين تزييف التاريخ،.. والهروب من الهوية

د. مسعد عربيد

 

 

  • حروب أميركا: “حروب الدفاع عن دستورنا وديمقراطيتنا”.

بالطبع، كان من الممكن غض النظر عن هذه الدعوة لتَلقى مصيرها في سلة النفايات مثلها مثل 90 % من البريد الذي يصل الى بيوتنا في اميركا كل يوم. ولكني آثرتُ هذه المرة ان أتوقف… وأن أعيد القراءة مرةً ثانية.

هي دعوة من المُتحف العربي الأميركي (ديربورن، ولاية ميتشيغان) لإفتتاح معرض لتكريم العرب الأميركيين الذين قدموا لأميركا خدمات في مجالات رئيسية ثلاث: القوات المسلحة والخدمات الدبلوماسية وقوات السلام Peace Corps،

لنبدأ بنص الدعوة بالانكليزية والذي جاء تحت عنوان:

Patriots & Peacemakers:

Arab Americans in Service to Our Country

Arab Americans have been an integral part of our nation since its inception. They have contributed greatly to our society and since the American Revolution, they have fought and died in every U.S. war defending our constitution and democracy. Today, an estimated four million Arab Americans have a significant presence within the United States، This exhibit explores Arab American life and culture, including religion, family life, work and gender.

 

وأرجو ان تلاحظوا معي ان القائمين على هذه الدعوة، ومنعاً لأي شك أو إلتباس، لم يكتفوا ب”الحروب” بل صروا على “كل الحروب” every war.

إذن، نحن حيال دعوة من المُتحف العربي الأميركي ــــ والذي أكنُ التقدير لرسالته في تدوين تاريخ وتجارب المغتربين العرب في أميركا ـــ لتكريم العرب الأميركيين من “محبي الوطن وصانعي السلام” الذين قدّموا مساهمات جليلة وقاتلوا وضحوا بحياتهم “في كل الحروب الأميركية” “دفاعاً عن دستورنا [الأميركي] وديمقراطيتنا”.

لن تتسع هذه العجالة لمناقشة كافة جوانب هذه الدعوة، فالأسئلة التي تثيرها كثيرة وتحمل دلالات عميقة في معاني الهوية والإنتماء. كما أننا سندع جانباً طابع البروباغندا الواضح في هذه الدعوة، وهو ما أضحى سمة الخطاب الأميركي بامتياز في العقود الأخيرة، ذلك الخطاب الذي اصبح مُعولماً بقدر ما هو ممجوج على مستوى الانسانية بأسرها.

سنتناول الأمر من زاويتين أساسيتين: (1) حقائق التاريخ و (2) والموقف الأخلاقي.

أسئلة في التاريخ

قالوا في الماضي ان الحقيقة هي الضحية الأولى في السياسة والحروب. ونحن هنا امام أنموذج ساطع على هذه المقولة:

حروب من اجل الدفاع عن الدستور والديمقراطية الأميركيين؟

ومَنْ كان المعتدي عليهما؟

وهل كانت حروب أميركا حقاً من اجل الدفاع عن الدستور والديمقراطية؟ وكيف؟ وضد مَنْ؟

تُرى، هل هو جهل بالتاريخ؟ أشك في ذلك. فليس في الأمر طلاسم تستعصي على التفسير.

أم هو تزييف عن دراية وعمد وتدليس على الكرامة (الأميركية والعربية)؟

هل هو إحتقار لعقولنا وذاكرتنا توخياً بان تنطلي علينا مثل هذه التفاهات؟ وكيف ومشاهد حروب كوريا وفيتنام ما زالت ماثلة أمامنا، وذكراها ما زالت عالقة بذهننا بكل وحشيتها ودمويتها ونابالمها… والعراق والأفغانستان ما زالا ينزفان حتى الساعة بالرغم من الخداع حول “إنسحاب” القوات الأميركية؟ وكيف لنا ان نصدق “الإنسحاب”، والتاريخ يعلمنا ان رأس المال المحتل لم ينسحب يوماً دون أن يترك وراءه الانظمة والبنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التابعة والعميلة الكفيلة بضمانة مصالحه لأمدٍ طويل قادم. ناهيك عن أن هذا المحتل يدخل بالمفاجئة السريعة ويُطرد بالتدريج، ولكن حتى حينما تنتصر الشعوب معنوياً فانها ترث وطناً مدمراً تماماً مما أرغم كثيراً من البلدان على إعادة أمريكا من الباب الخلفي (انظر مثالي فيتنام والعراق وكيف “عادت” أميركا في الحالتين).

كيف لنا أن نصدق “حروب الدفاع عن دستورنا وديمقراطيتنا” وتفريخات سايكس ـ بيكو تتجدد كل يوم، لا في سورية وبلاد الشام والهلال الخصيب وحسب، بل وفي الصومال والسودان… “والحبل على الجرّار”.

من أين جاؤوا لنا بهذه الأكاذيب التي يصعب حتى على عتاة الإمبريالية التبجح بها.

إذا وضعنا جانباً هجمات 11 سبتمبر 2001، الى حين يُحسم الجدل فيها ويجيب المستقبل والتاريخ عن حقيقة مَنْ قام بها، فان أراضي الولايات المتحدة الأميركية لم تتعرض للعدوان منذ حرب 1812 حين غزتها سفن “بريطانيا العظمى”. وهي حرب، كما تقول كتب التاريخ، أعلنتها الولايات المتحدة آنذاك على الامبراطورية البريطانية التي سعت الى فرض العقوبات والمعيقات على حرية التجارة الأميركية ودعمت مطالب الشعوب الهندية الأصلانية ضد التوسع الأميركي والإستيلاء على أراضيها، بل هناك مَنْ يدّعي بان أحد أسباب تلك الحرب كان نية الولايات المتحدة المبيتة في ضم كندا الى أراضيها. كما أن تلك الحرب كما هي حرب الاستقلال عن بريطانيا هما مخاض العلاقة بين الأم وإبنتها، وهي علاقة لا تزال حتى الآن مميزة.

فهل كان هؤلاء جهلة بالتاريخ أم أنهم حَسِبوا اننا نحن الجاهلون به، أم أن الأمر لا يعدو كونه خداعاَ وتزييفاَ للحقيقة والتاريخ مع سبق الإصرار.

هل خَطَرَ لهؤلاء أثر مثل هذه الأكاذيب على جاليتنا وخاصة أجيالنا الشابة والقادمة التي لم تعايش ما عايشه جيلنا من دمار الحروب منذ الحرب الكونية الثانية وصعود الولايات المتحدة الى الهيمنة على القطب الرأسمالي ـــ الإمبريالي بعد رحيل الكولونياليات الاوروبية الهرمة (خاصة فرنسا وبريطانيا)؟

في محاولة لفهم هذه المقولات، أسبابها وجذورها، يقف المرء أمام عدة خيارات:

◄ السعي “لتأكيد” الهوية والإنتماء الأميركيين والتدليل على الذوبان في “البوتقة الأمريكية” والإندماج في المجتمع الأميركي الأبيض… حتى على حساب الحقيقة والأخلاق والكرامة.

◄ محاولة للجمع بين الهويتين ــــ العربية والأميركية ــــ في معادلة تسود فيها الهوية الأميركية المهيمنة بينما تُختزل العربية حتى تفقد مكوناتها الجوهرية ولا يبقى منها سوى الإسم وربما بعض المأكولات من أطباق الحمص والفلافل اذا تسنى لنا ان نحتفظ بها قبل أن يسطو عليها صهاينة أميركا؟

◄ نتاج سندروم الخوف والتخويف والرُهاب الذي يعيشه الكثيرون من العرب الأميركيين منذ احداث سبتمبر 2001؟ وهو رُهاب أصبح قميص عثمان لتبرير التخلي عن الهوية القومية والثقافية والهروب الى الأمام تحت غطاء:”دعونا من السياسة فما جَلبت لنا سوى المشاكل وخراب الديار”؟

أسئلة في الأخلاق

هل حقاُ يريد العرب الأميركيون دعم وتبرير الحروب الأميركية وتوصيفها حروباَ للدفاع عن “دستورنا وديمقراطيتنا”، والمفاخرة بأبنائنا الذين حاربوا أو سقطوا فيها وتزييف حقائق التاريخ من حولها؟

هل حقاً يعتزّ العرب الأميركيون بدعمهم لهذه الحروب أم انهم في الحقيقة يريدون الوقوف على الجانب الصحيح ـــ الأخلاقي والنبيل ـــ من التاريخ متمسكين بالوفاء للإنسان والحق والتاريخ؟ ومحافظين على الولاء للبلد المضيف دون أن يعني ذلك التواطئ مع سياسات حكومته وحروبها العدوانية في طول الكرة الأرضية وعرضها؟

لماذا يُفاخر مسؤولو المُتحف العربي الأميركي وغيرهم من نشاط الجالية العربية القائمين على هذا النشاط بسفك دماء شعوب الفقراء في العالم؟ ومَنْ خولهم التحدث بإسمنا وإستباحة كرامتنا؟

هل يَعون أننا حين نصف هذه الحروب بانها كانت للدفاع عن الدستور والديمقراطية، إنما نعرب عن تأييدنا ومباركتنا لها؟ أليس في نص هذه الدعوة دعوة أخرى مبطنة تناجي العقل والضمير بمزيد من الحروب ضد شعوب العالم؟

في الجانب المقابل، تقف خيرة من أبناء أميركا، على قلتهم ومعهم العالم باسره ضد الهيمنة الإمبريالية الأميركية وحروبها، بينما ننحاز نحن الى التواطئ مع القتل والدمار. فأيُ فخرٍ هذا! وماذا سيكتب التاريخ لأجيالنا القادمة!

هناك الملايين من الأميركيين، البيض والسود واللاتينو ومن كافة الأعراق والإثنيات وكافة شرائح وطبقات المجتمع الأميركي، مِمَنْ تندى جبينهم خجلاً من حروب حكومتهم التي يعتبرونها وصمة عارٍ وعبئاَ على ضميرهم وتاريخهم. وهناك الملايين مِمَنْ يناهضون هذه الحروب وتدميرها لبلدان وثروات وحضارت الشعوب الأخرى. بل هناك كثير من الأميركيين الذين يشعرون بعمق بان الجدل حول حرب فيتنام وآثارها وسندرومها ما زال محتدماٌ ولم يُقفل بعد… بل يقول بعضهم بانه في الحقيقة لم يبدأ؟ جدل حول المسؤولية التاريخية والأخلاقية والمادية لهذه الحرب… وفوق كل شيء الإنسانية حيال ثلاثة ملايين شهيد فيتنامي ومصرع ما يزيد عن 55 الف جندي أميركي فيها. هذا بالإضافة الى ما يقارب خمسة عشر مليونا من سكان المعمورة التي أودت بارواحهم الحروب الأميركية في العقود الأخيرة وفق تقديرات المحللين. ولآية غاية؟ النهب والجشع وإدامة الربح الرأسمالي.

هل يُعقل ان منظمي هذا المعرض لم يفطنوا الى كل هذه المآسي؟ ولم يدركوا أنهم، في الحد الأدنى، يساندون إحتلال العراق وتدميره ويبررون قتل وتشريد الملايين من أبنائه؟

كيف تكون عربياً، بل كيف تكون إنساناُ، ولا يدمِ قلبك للعراق؟ أليس العراق جزءاً غالياً من التراب العربي، من الوطن الأصلي الذي قدمنا منه؟ أم أن الشك قد تسلل إلينا حتى في هويتنا؟

 ألم يعِ هؤلاء وهم يتبجحون عن الديمقراطية أن تجزئة سورية وتدميرها ماضٍ على قدمِ وساق أمام أعيننا وأعين العالم باسره وفق مخطط أميركي ــــ غربي رُسمت معالمه وخطط تنفيذه منذ أمد؟ وسوريه هذه، أليست أمُنا التي إحتضنتنا لآلاف السنين قبل أن أخذنا الترحال منذ اواخر القرن التاسع عشر الى شواطئ أميركا التي نفاخر بحروبها؟

سؤال قلما نسأله

ليس هنا مقام النقاش حول تكريم الدولة او المجتمع، أي دولة وأي مجتمع، لجنوده ومحاربية،.. الجدد والقدماء. إلاّ اننا في تكريم المحاربين، لا نستطيع أن نفلت أخلاقياً من السؤال السرمدي… السؤال الذي أرّق الإنسان مذ كان: مِنْ أجل ماذا قاتل هؤلاء وضحوا بحياتهم؟ لماذا كانت تلك الحرب وما هي أهدافها؟ وهل جاءت ذوداً عن الوطن، أم انها كانت عدوانية من أجل التوسع والنهب والهيمنة؟

ولكن، ولو حكّمنا معايير الحق والتاريخ والأخلاق، لماذا لا نكرّم تلك الندرة من أبناء أميركا التي عصت الأوامر ورفضت الخدمة العسكرية والمشاركة في الحروب الأميركية منذ فيتنام وصولاً الى العراق وأفغانستان، واوالئك عانوا من الملاحقة وما زالوا وفضّلوا السجن على ان يذهبوا الى قتل الأبرياء في أقاصي الأرض؟

لماذا لا نكرّم اولئك الذين إكتشفوا حقيقة الحروب الأميركية بعد ان ذاقوا أمريّها فأقسموا ان يبقوا مناهضين لها؟

ولعل السؤال الآخر والذي لا يقل أهمية هو: هل كان بين هؤلاء، من شرفاء الضمير والرافضين للمشاركة في الحروب والمناهضين لها، عرب أميركيون؟ وإن كان، فأين هم؟ وهل سنكرمهم أيضاً؟ أم أن أغلبيتنا ستظل وفيةً ل”الدستور والديمقراطية” و”منذ نشوء أميركا” كما جاء في نص الدعوة أعلاه؟

* * *

تحاورت مع صديقٍ وإسترسلت في تساؤلاتي: هل هو تخلف أم حفاظ على مصالح شخصية ومادية وطبقية؟ هل هو إحتقار للذات أم إفتتان بالأميركي الأوروبي الأبيض أم كلاهما معاً؟ ولعلي أختم بما قلته لصديقي:

كثيرة هي الأسئلة التي يستطيع المرء ان يستولدها من واقع العرب الأميركيين ولكننا سندعها أمانة في عنق القارئ وبرسم المستقبل، ولعل الأجوبة كامنة بين سطور الأسئلة. إلاّ أن أمراً واحداً أضحى في حكم اليقين، يلمسه كل مَنْ يريد أن يرى الواقع بعيون أمينة صادقة لا برغائبية المهزوم: لقد إقتضى حفاظ بعضنا على مصالحهم (المادية والطبقية بالأساس) أن يتخلوا عن القيم والكرامة وفي كثير من الأحيان عن الهوية والإنتماء، وأن يقبلوا بالدونية حيال الأميركي الأبيض، وبلغ بهم الأمر الى إستدخال هذه الدونية الى حد الخضوع، الاجتماعي والثقافي والقومي، للهيمنه الأميركية البيضاء القابضة على صنع القرار على كافة مستويات الحياة الأميركية. وما أقصده ب”إستدخال الدونية”، بإيجاز، هو القبول التام بسيادة الأميركي الأبيض والإستسلام لفوقيته التي اخذت تتسلل الى ذاتنا وسلوكنا ومفاهيمنا وقيمنا. ولا أنكر أن الوجه الآخر لهذا الاستدخال هو ظروف هجرتنا إلى أمريكا وتواصل أنظمتنا وحكامنا في خدمة المصالح الأميركية ومشاركتهم حروبها وحتى الحرب بالإنابة عن أمريكا في العراق وليبيا وسوريا. فلا شك أن هذه الظروف تساهم في إقتناص عقول الكثيرين منا وتُشعرهم باستمراء الخنوع.

لقد أصبحنا نصدق الكذبة الأميركية الكبرى دون أن ندرك أننا في الآن ذاته أصبحنا ضحاياها أيضاّ،.. كذبة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان و و،… تلك التي أخترعها الأميركي الأبيض وثابر على ترديدها حتى صدقناها، كما صدقها كثيرون، وأصبحنا على أتم الاستعداد للإنضمام الى جوقة الدجل والخداع والذود عن الحروب الإمبريالية الأميركية المعادية للإنسان… حروب النهب والقتل والدمار للإنسان أينما كان.