عبداللطيف مهنا
مصاصو دماء الشعوب النهمون لن يكفوا عن إراقة دماء البشرية. مسلسلات حروبهم الإستعمارية بسيناريوهاتها الجهنمية المتعددة وشعاراتها الزائفة المضللة لن تتوقف. أزماتهم الإقتصادية الراهنة توفر لهم حوافزعدوانية مضافة لابتكار المزيد من مستجد المكائد ومبررات التدخُّل. تدفعهم لإنتهاج المزيد من السبل الإلتفافية الملتوية لنهب مقدرات الشعوب والعبث بمصائر الأمم المستضعفة. يؤكد هذا، إن كان من حاجةٍ لتأكيده، ما نشهده من مظاهرلوثةٍ إستعماريةٍ غربيةٍ متجددةٍ لاتسترها طلاءات العصرنة أو صخب مزاعم الأنسنة ولا بريق يافطات الخداع بإكليشيهاتها متعددة الإستخدامات الإنتقائية إياها : الديموقراطية، حقوق الإنسان، “الشرعية الدولية “، و”الحرب على الإرهاب”!
هنا نحن لا نتحدث عن الولايات المتحدة في سني جدبها الأخلاقي، بعد بلوغها أوج تسلُّطها الكوني، ومن ثم أخذها في مكابدة صيرورة البدء في الإنحدار، فإصابتها بالضرورة بجنون بدايات رحلة التراجع ومعاندات حتمية الإفول. ولاعن الشمطاء شيخة المستعمرين جميعاً ومعلمتهم بريطانيا، هذه التي لاتخفي حنينها لأمسها الآفل ويعوِّض خبثها المعتَّق عجزها بالتطوُّع مهمازاً في خدمة عدوانية القادرين طمعاً في غنائم الحروب لاغرمها. بل عن فرنسا، هذه التي غالباً ما تفتقر سياساتها إلى الحكمة، ويعوزها الخبث البريطاني، وتفتقد العضلات الأميركية، لكنما تتميز عنهما في رعونتها المعهودة ومكابراتها المتعجرفة، أو تهور العاجزالباحث عن أمجادٍ ذهبت ولن تعود. عن من ترفض الإعتذار عن ماضيها الجزائري الأسود، وتعطل عدالتها الفخورة بها ثمانيةً وعشرين عاماً باعتقالها مناضلاً من أجل الحرية مثل جورج إبراهيم عبدالله إستجابةً منها للضغوط الأميركية والصهيونية، وتعيق مجرد صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن يدين المجزرة الإرهابية الفظيعة في جامعة حلب، وإذ لاتكف عن التشدق بما تضمه اليافطات التي مر ذكرها، يقول لنا الحدث المالي أن أفريقية لاتزال في مخيلتها السياسية هى أفريقيستان الفرنسية التى غادرتها مكرهةً قبل نصف قرن وتتحين الآن الفرص المتاحة للعودة إليها.هنا لاثمة فرقٍ بين ساركوزي اليمين ولاخليفته رولاند اليسار، وكليهما يذكراننا بجيموليه العدوان الثلاثي عام 1967 !
إن عقدة تراجع الفرانكفونية وتفاقم الأزمة الإقتصادية وانحسار النفوذ الإقتصادي في أفريقية لصالح التغلغل الصيني واضطراده هما وراء التدخُّل الفرنسي في مالي، وفيه ما يكافي لتحولها المتوقع إلى ماليستان. هاهم إشتراكيو فرنسا يتحولون إلى محافظين جدد، وما يفعله رولاند الآن هناك هو نسخة مكررة لما فعله ساركوزي في ليبيا وساحل العاج وتشاد، وبالأمس كانت شركة “توتال” النفطية المرشدة لآلة الموت الفرنسية في ليبيا واليوم شركة “أريفا” لمناجم اليورانيوم المرشدة لها في مالي. إنهم لم يذهبوا إلى الصحراء إلا لنهب ماهو مطمور تحت رمالها من ثروات فقرائها. إذن، ما العجب أن نرى رولاند اللاحق على خطى ساركوزي السابق وكلاهما على خطى بوش الأبن ؟! وهل سيختلف التدخُّل الفرنسي هناك، تدميراً، وتبريراً، ومآلاً، عن ذاك الأميركي في العراق وافغانستان والصومال، ويمكن إضافة الباكستان واليمن وما يُستجَّد في قادم الأيام ؟! ثم أوليس ومن المفيد هنا مراجعة مسلسل الإنقلابات الأفريقية في السنوات الأخيرة ومتابعة خيوطها الباريسية ؟! أوليس الأدهى أن هناك إجماعان فرنسيان شعبي ورسمي يصطفان خلف هذا التدخُّل وثالث إعلامي يزيِّنه ويبرره. لم يعد أحد هناك يتذكَّر وعود رولاند الإنتخابية بأن “زمن الإستعمار الفرنسي في أفريقية قد ولى… وفرنسا لن تتدخَّل في الشؤون الأفريقية بعد اليوم”. بات رولاند “محارب الإرهاب” كما كان الحال مع ساركوزي “منقذ الليبيين”، والنخوة الإستعمارية الإنسانية تتسترعورتها المفضوحه ب”قرارأممي” مع دعوات بان كي مون للغزاة بالتوفيق!
من مفارقات الحدث المالى أن الدولة، التي عجزت عن تحرير رهينةٍ واحدةٍ من رهائنها في مالي وتسببت في مقتله، وفي إعدام جاسوس من جواسيسها ومقتل أحد جنودها وأسر آخر وسقوط عدة ضحايا نصفهم من النساء والأطفال في محاولةٍ شبيهةٍ لتحريره في الصومال، تدق طبول حربها باحثةً عمن يمولها ويخوضها معها أو عنها. من الآن يشتكي وزير حربها : “نواجه ظروفاً صعبةً مع مجموعات جيدة التسلح”، ويصيح وزير خارجيتها : “الكل يجب أن يلتزم بمحاربة الإرهاب”، وإذ يجول رئيسها باحثاً عمن يمول حربه الأفريقية، التي يريد خوضها بما يتيسر من جيوشٍ أفريقيةٍ حولتها تبعية أنظمتها إلى مرتزقة… والأمثلة أثيوبية وكينية ونيجيرية ومعهن بوركينا فاسو، وتستعد أديس أبابا لمؤتمر”مانحين” لتمويلها… يكتفي غربه بدعمه سياسياً ودعاوياً ولوجستياً واستخباراتياً، والسيدة الأميركية ليست في وارد ورطات مضافة، يكفيها مالديها، لكنها إذ تصفق له، لن تسمح له مشاركتها قطف ثمارها !
التدخل الفرنسي في مالي سيحولها إلى ماليستان، وكافة الدول المجاورة مرشحة لأن تغدو باكستان أخرى، وأول الغيث جزائري بدأ يمذبحة عين ميناس، ومن تقاتلهم فرنسا بمن ستورِّطهم معها ليسوا الآن كلهم “قاعدةً” أو “أنصار دين” أو”بوكوحرام”، وغداً سوف يرفدهم تدخُّلها بمسمياتٍ مستجدةٍ أخرى… فرنسا هناك تستعيد سيرتها الأولى !