(الجزء الثالث والأخير)
عادل سمارة[1]
الاشتراكية:
قال الحكيم: “أنا ماركسي. يساري الثقافة، التراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية. معني بالإسلام بقدر أية حركة إسلامية. كما أن القومية العربية مكون أصيل من مكوناتي… إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية، ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية، وماركسيتي التقدمية. (سويد المقدمة و ص 104). “إنني لا أجد تناقضا بين كوني عربيا يؤمن بالأمة العربية وبين أن أكون اشتراكيا حقيقياً”(سويد، ص 29).
هذه المكونات الانتمائية والفكرية والسياسية لا تحقق نفسها إلا في طبيعة الحركة التي تجسدها على صعيد قومي، حركة قومية الامتداد طبقية المبنى تسمح لكل قطر طالما، التجزئة تنيخ على الوطن، بتحديد آليات وأشكال نضالاته. لكنها حركة تتواشج وتتشارك بأعلى درجة من المشروع العملي. والمشروع العملي هنا هو مركب، فكري نظري وعملي ميداني تطبيقي. إن الخلفية الثقافية للفرد والطبقة والمجتمع متداخلة بقدر سعة الاطلاع، ولكن لا بد أن يكون فيها أمران أساسيان:
الأول: العامل الحاسم فكرياً بل نظرياً بين مختلف المكونات الثقافية والهوياتية، وفي هذه الحالة تكون النظرية الشيوعية هي الأساس البنائي الفكري لتحقيق هيمنة هذه النظرية في مقابل هيمنة اللبرالية الرأسمالية وذلك للحفاظ على الهدف المستقبلي أي وصول الاشتراكية على خلفية الوعي الطبقي الشيوعي.
والثاني: تجلي هذا العامل عملياً، بمعنى كون الحزب حاملاً لاسم الحيز الجغرافي الذي يعمل فيه، وهنا معنى قومية الامتداد أي حركة أو حزب شيوعي عربي على أن لا يستثني غير العرب من شركاء الوطن.
ففيما تتمفصل أنماط الإنتاج ولكن واحدها يهيمن، لا يمكننا تجاهل تمفصل الأطروحات النظرية تمفصل صراع أو تمفصل احتواء.
قرأت ذات مرة الوصف التالي لفيديل كاسترو: “كاسترو وطني كوبي أممي”.
يفيد في هذا المستوى طرح مسألة الاشتراكية ليس بما هي فكرة محضة، بل بما هي مسألة صراع طبقي على الصعيد العالمي من جهة وفي البلد الواحد من جهة ثانية. هذا الصراع الذي انتهى حتى اللحظة بهزيمة العمل مقابل رأس المال. وهزيمة العمل لا تتجسد ولا تنحصر في تفكك بلدان الاشتراكية المحققة، بقدر ما تتمثل في هزيمة الطبقات العاملة في المركز الرأسمالي نفسه وفي محيطه بالطبع، وهي الهزيمة التي سمحت لرأس المال بالتمكن من شنّ هجمة دولانية رأسمالية ضد بلدان الاشتراكية المحققة مستفيدة من:
·استخدام ما حصلت وتحصل، وستحصل عليه (إلى وقت قادم ليس بالقصير) من فوائض من محيطها ولا سيما أموال قطريات النفط العربية التي غذت ولا تزال الثورة المضادة على صعيد عالمي وهو الدور المعولم للريع النفطي في سياق الريع المعولم.
·وما حصلت عليه من قيمة زائدة من المركز ذاته من الطبقات الشعبية.
كي تستخدمه في إلحاق الهزيمة بدول الاشتراكية المحققة.
كما استفادت بالضرورة من الفساد والتكلُّس والبقرطة التي أصابت دول الاشتراكية المحققة، ومن خطيئتها في منازلة رأس المال في موقع قوته المتميزة، أي الإنفاق على التسلُّح.
وهزيمة دول الاشتراكية المحققة، أكدت بدورها على الضرورة القصوى للاشتراكية. فالرأسمالية المنتصرة قد أشهرت تغوُّلها على صعيد عالمي، الأمر الذي جعل الاشتراكية ضرورة أكثر من أي وقت مضى. ولا حاجة هنا لإثبات ذلك بتوفير آخر أرقام ملكية أكبر 500 شركة في العالم وأسماء أثرى عشرة رجال…الخ.
المفيد إيراده هنا هو توصيف آليات عمل الصراع الطبقي على صعيد عالمي، واشتداد هذا الصراع بعد سقوط الاشتراكية المحققة عبر قيام رأس المال ليس فقط بسحب منجزات النضال العمالي عبر قرون، وليس فقط في طرد المرأة للعمل المنزلي خالق الغباء والسذاجة، بل أيضاً اختطاف أمم بأكملها، حال العراق وأفغانستان ويوغسلافيا ومؤخراً ليبيا وسيلان اللعاب على سوريا.
الأمر الأشد خطورة هو تعاطي وازدياد من يتعاطون مع هذه التطورات كأمور عادية. هذا الاستسلام المريع من قطاعات واسعة من الشيوعيين والماركسيين، هذا الاستدخال للهزيمة على نطاق واسع كما لو كان انتصار رأس المال هو ما انتظروه وناضلوا من أجله. بل الخطورة الأشد كامنة في نقل ما انهار في داخلهم إلى الجيل الجديد، نقل شعار (تينا)!
بين إصرار الحكيم على ماركسيته، وبين التخلي التام عن الماركسية لدى قوى بأسرها مسافة وعي وموقف لا تُقاس. وإذا كان لا بد من ذكرى، فهذا ما يجب أن نتذكره!
المثقفون:
قال الحكيم: حول كون المأزق الفلسطيني مأزقاً فكرياً في الدرجة الأولى: “نعم، لو كنت اليوم على رأس واحدة من الدول العربية لجمعت المثقفين العرب، من مختلف الاتجاهات، وطلبت منهم دراسة هذه الأزمة. بعد ذلك، وفي ضوء دراساتهم، نقوم بالعمل السياسي“.(سويد، ص 117).
إذا كان الكمبرادور هو الخاصرة اليمنى الأضعف في المجتمع الفلسطيني، ففي حقبة التسوية أصبح المثقفون هم الخاصرة اليسرى الأضعف كذلك. وبعيداً عن الخوض في هذا المحيط، أود الإشارة إلى أن تدني مستوى الافتراض الحزبي سواء من حيث الطرح النظري والتعميق الفكري والتحليل السياسي وتراجع الأداء النضالي وتمييع الانتماء الطبقي…كل هذه ساهمت بوضوح في أنجزة الأحزاب، وطرد المثقفين الثوريين من الحركة السياسية الوطنية، وشراء كثرة منهم من قبل الأنجزة. وحتى وصول الأمر إلى تحول بعض المثقفين إلى قوى موازية في الوزن لحركات سياسية برمتها، فهل يُعقل هذا! هل تستطيع حركة سياسية اليوم جمع المثقفين لتشكيل خزان فكري ليقوم بما يجب القيام به؟ وهل يقبل المثقفون ذلك؟ هناك مهرجانات أبحاث في البلد، ولكن كم مركز أبحاث حقيقي هناك؟
في مؤتمر هرتسليا لهذا العام (2008) اقترح مريدور (وزير المالية السابق للكيان) أن يُفرض على كل رجل سياسة أن يقرأ ساعة في اليوم كي يتمكن من التحليل. فالسياسي طفيلي على التحليل إن لم يقرأ.
العولمة والقومية:
قال الحكيم: “أنا لا أستطيع القول إنّ القومية أبدية. لكن أستطيع القول إنَّ هناك في هذه الفترة التاريخية الطويلة، ثوابت –ومنها القومية- وبالتالي لا أعتقد أنَّ العولمة ستكون قادرة على محوه” (سويد، ص 90).
هنا وكأن الرجل يدافع عن القومية العربية كتمظهر لوعي الأمة العربية لوجودها. وعي تتم الهجمة عليه منذ قرن ومن مختلف العالميات. العالمية الإمبريالية، وعالمية الدين السياسي لصالح عالمية دينية افتراضية، وعالمية التحريفية سواء الستالينية او التروتسكية. اللافت ان الحكيم بقي على وعيه هذا رغم الهجمة المشتدة والممتدة ضد الأمة العربية، وهذا الوعي ما زال يتعرض للهجمة بل إنها تشتد حيث تعمل على تفتيت الدولة القطرية ليس لصالح دولة الوحدة بل لصالح دول مذهبية وطائفية وجهوية…الخ.
تتطلَّب العولمة قراءات عدة. إنما، لا بد من قراءة العولمة في علاقتها بكل من أمم المركز وبالتالي قومياته من جهة، وتلك في المحيط من جهة ثانية، كل على حدة، بل بانفصال تام. كما لا بد من قراءة قيام المركز بخلق قوميات عامة جديدة كالاتحاد الأوروبي تتجاوز روابط الدم وتنخرط في روابط الاقتصاد والمنافسة، هذا من متغيرات القومية واحتمال انتقالها إلى العالمية فالأممية. إذا كانت القومية مرحلة، وهي كذلك، فيمكن أنْ تكون انتقالية ويمكن أن تأخذ أشكالاً ومضامين مختلفة في خدمة طبقة أو شعب أو العالم. ويمكن أن تُستخدم أداة ضد شعبها كذلك.
اتخذت القومية في علاقتها بالرأسمالية ثلاث حالات في ثلاث مراحل لتطور رأس المال.
فلسطين:
ليس كثيراً ما يسمح به المقام ليناقش. فتجربة نضال الحكيم مواكبة كتأسيس في نضال الشعب والأمة على الصعيد الفلسطيني. لذا، سأتوقف عند بعض المحطات الفاصلة.
الأرض المحتلة مركز الثقل:
أعتقد أنَّ فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في خلق حاضنة شعبية عربية، حتى لو تركز النضال أكثر ضد الأنظمة، وتقلص لصالح فلسطين لكانت النتائج أفضل، هذا الفشل أشعر المقاومة أنها “وحدها”. كما أن قرار الخروج من لبنان لم يجسد كومونة باريس ولا تراث القرامطة. وهذا قضى على العمق العربي. وعليه فالحديث عن أن مركز الثقل انتقل إلى الداخل ليس صحيحاً، أصبح الداخل الملاذ الأخير، وأصبح مركز الثقل التسووي، ملجأ للقيادات التي حققت العودة لها وليس للشعب. والمهم كرست تقسيم الفلسطينيين وتخلي المقاومة عملياً عن من ليس في الأرض المحتلة 1967. باختصار، كان لا بد من البقاء في لبنان وفي سوريا.ولا بد أن نسجل للحكيم انه لم يرحل غلى تونس. إن الزعم بأن مركز الثقل في الداخل هو تضحية بالعمق العربي وتصوير الصراع كما لو كان فقط فلسطينياً/صهيونياً، وهذا خاطئ تماماً. إنه صراع بين المركز الرأسمالي وفي مقدمته الكيان وبين الأمة العربية ونقطتها الساخنة فلسطين. وأي فكاك لفلسطين عن الوطن العربي نضالياً هو مدخلٌ إلى الاستسلام. لقد كان نقل القيادة إلى الداخل مثابة حاضنة لها كي تساوم دون أن تقع تحت أي نقد أو رفض عربي حقيقي. لقد وسع العدو من المناطق الساخنة لتشمل العراق وليبيا والصومال وجنوب السودان واليوم سوريا.
فالأرض المحتلة مركز الثقل كبؤرة مقاومة، وليست مركز الثقل على أرضية التفاوض ولا على أرضية المعركة النهائية في هزيمة الكيان الصهيوني. والفارق بينهما هائل. لأن مجرد العودة العلنية إلى أرض الوطن، هو تقاطع مع الأرض المحتلة كمركز ثقل تفاوضي. وربما لهذا تحديداً حافظ الحكيم على شرف عدم العودة عبر علنية أختام الحدود وتصاريح ال ( VIP).
الدولة الفلسطينية:
إن الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإشكنازية مسألة خلافية بل غير عملية وهي اقتسام الوطن مع العدو. ولا شك أن العودة عبر الجسور والتفاوض منحازة لصالح أطروحة الأرض المحتلة مركز الثقل بالمعنى التفاوضي.
قال الحكيم: “أنا أريد دولة فلسطينية في هذه المرحلة. وأعتبر هذا الموضوع مرحلياً، لأنني أريد كل فلسطين، كلها“. (سويد، ص 102).
ربما لهذا بالضبط وُجهت انتقادات صهيونية للموساد لأنها لم تقم باغتيال الحكيم، فرحل دون اغتيال. اجتهاد الحكيم هنا صحيح. ولكن يعيبه أمران:
أولاً: إن التطورات لا تسمح بذلك، أقصد بدولة فلسطينية كحل مرحلي. فالاحتلال ومعسكره يريدون بالدولة الفلسطينية دولة جورج بوش وليس وطن جورج حبش. يريدون دولة تعترف أساساً ومسبقاً بالكيان الصهيوني من جهة وبرؤيته لطبيعة ومساحة ودور هذه الدولة من جهة ثانية، بل دولة تعترف بيهودية الكيان ولا يعترف هو بها في النهاية، ناهيك عن شطب القضية الأساس وهي تحرير فلسطين والعودة. من يريد كل فلسطين، يعي أنّه يريد دولة فلسطينية على كل شبر يحرر حقاً، وليس على شبر يُحصل عليه بالتفاوض ليتخلى مقابله عن أميال ليس من فلسطين وحسب بل من الجولان وجنوب لبنان وسيناء والأغوار الأردنية أيضاً، وربما يُطال تسونامي تبادل الأراضي أجزاء من شمال السعودية.
وثانياً: لأن التطورات لا تسمح، فالقبول بمشروع الدولتين يسمح للكثيرين باستخدامه لتبرير الحكم الذاتي كنواة لدولة لن تكون دولة.
وعليه، إذا كان لنا أن نرى التماسك بين فكر الحكيم ومواقفه، فهو هنا بالضبط، في رفض العودة الفردي، أكثر مما هو في أي موقع أو موقف فكري آخر. ما من شك أن الرجل كان يود لو يُدفن إلى جانب أخته الكبرى في اللد. ولكن بين العواطف والمواقف قرار نفسي صعب ولا بد للتاريخيين أن يمتطوه. يمكن للمثقف والمفكر والأكاديمي أن يكتب الكثير، وأن يتحدث أكثر، وأنْ يلقي بالتعهدات على عواهنها، ولكن العبرة في التخطي، في اتخاذ الموقف ودفع ثمنه.
لذا، كان لا بد للرجل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة دون ضجة إعلامية ودون مستشفيات كبرى في المركز الرأسمالي، ودون أطباء لم يشهد التاريخ أمثالاً لهم ودون أن تنفق عليه ميزانية م.ت.ف ما أنفقته على كبار الفساد والإفساد. إذا كان للذين حزنوا على الرجل وبكوه، أن يعرفوا الأهم والأشرف فهو في هذه التفاصيل. هي تفاصيل ولكنها في حقبة التنازلات، قواعد ورواسٍ.
الوحدة الوطنية:
قال الحكيم: منذ 1967 سعينا لتأسيس جبهة وطنية عريضة (فتح الصاعقة شباب الثأر أبطال العودة وجبهة التحرير الفلسطينية جبريل فاجأنا أبو عمار بالذهاب للداخل وأعلن أنَّ الوحدة الوطنية تتحقق في الميدان! (سويد، ص 40).
ربما كان اشد ما اتعب قلب الرجل هي تقلبات ومفاجآت ابوعمار، وقد تعايشا عقوداً. لكن، ما هي الوحدة الوطنية المطلوبة لشعب مشرد ومحتل؟ أليس المطلوب جبهة وطنية واحدة؟ وهذا ما لم يحصل على الصعيد الفلسطيني قط. أما منظمة التحرير الفلسطينية فكانت ولا تزال نسخة عن جامعة الدول العربية. بيت يسكنه الجميع، ولكن، يفعل فيه كل ما يريد ولا يأخذ أحد برأي الآخر إلا إذا موّله!. ومن هنا ظلت هذه المنظمة زاعمة تمثيل كل الشعب الفلسطيني سواء من يقاوم ومن يساوم. إذا كانت حركة مقاومة لشعب في الشتات وتحت الاحتلال لم ترتق إلى مستوى جبهة وطنية، فهل يمكن أن تحقق وحدة وطنية ذات معنى؟ ليست عبقرية الإجابة ب (لا). فهذه ال (لا) ضخمة بحجم الوطن ومهمة تحريره.
سؤال: ولكن، لو كانت هناك حركة قومية شاملة سواء على شكل الكومنتانج او الماوية هل كانت ستحاصر فريق التسوية وتضيِّق هامش المناورة ومن ثم تفرض وجوب الاختيار بين تحالف مع الأنظمة وتحالف مع الشعب، وبالتالي تجعل من الهرولة نحو التسوية أمراً صعباً على الأقل؟
الانتفاضة وأوسلو:
يقول الحكيم: “مع الانتفاضة راهنت لأول مرة على أنَّ من الممكن تحقيق الحرية والاستقلال على جزء من فلسطين كنت أقول في نفسي: لو استمرت الانتفاضة على هذا النحو فستضطر إسرائيل إلى الرضوخ” (سويد، ص34).
على ماذا قامت هذه المراهنة؟ أعتقد أنها قامت على طبيعة التقارير التي كانت تخرج من الأرض المحتلة إلى الخارج، ناهيك عن التضخيم الإعلامي بالنص والصورة للانتفاضة الأولى. كان لا بد لهذه التقارير وذاك التضخيم أن يوحي للرجل بالإمكانية التي توصل إليها.
لقد أكدت في كتابي التنمية بالحماية الشعبية (آذار 1988)، أن الانتفاضة على مباركتها لن تنجز دولة. ولم يكن ذلك لأنني أؤمن بحل الدولتين، فهو حل لم أؤمن به قط، ولكن لأن المعطيات وميزان القوى كفاحياً وسياسياً لم يكن ليساعد أهل الدولتين على تحصيل دولة للفلسطينيين. ومن جهة ثانية، فالكيان الصهيوني الإشكنازي لا يمكن أن يتغير أو يتحول إلا وهو مهزومٌ. وإذا هُزم، فلماذا لا يكون الحل بدولتين؟ لقد اتضح موقف الكيان حينما اشترط: “وقف الانتفاضة للموافقة على اتفاق أوسلو” (سويد، ص35).
وضع فلسطين الآن:
لعل الدرجة التي وصلت إليها قوى فلسطينية عديدة باعثٌ على الصدمة حتى لمن عرف البنى والنوايا والتوجهات والمصالح. ولا أعني هنا الانقسام إلى المقاومة والمساومة، ولكن أعني خلخلة المبنى المجتمعي نفسه. وهي الخلخلة التي لا تخفيها لا العنتريات ولا التفجعات ولا نسب قوة هيولية للشعب الفلسطيني بما يفارقه عن الأمة والأمم.
هل يمكن لمجتمع أنْ يقاوم دون أن يُطعم نفسه؟ وهو ممول من أعدائه؟ مجتمع تم تفكيكه وتطويعه بحيث لا ينتج ولا يعمل بل تفرق بين كثرة من الطوابير، تنويعة من الطوابير:
· طوابير وكالة الغوث.
· طوابير الأنجزة.
· طوابير المؤسسات الدولية.
· طوابير موظفي السلطة الممولة من مانحين هم خالقو الكيان الصهيوني وضامنو بقائه وتفوقه في كلّ أمر.
· ولا شك أن هناك طوابير مخفية من عملاء دول عديدة، لا نعرفها، الله يعرفها.
· أما المادة اللاصقة التي تسمح لكل هذه الطفيليات بالبقاء في جسم المجتمع فهو الفساد والإفساد والتطبيع في الأرض المحتلة وهو الأعمق والأشمل مقارنة حتى بأنظمة الكمبرادور المعترفة بالكيان.
فهل يمكن لهذا المناخ أن يدع متنفساً لمقاومة شعبية؟ هل المقاومة ممكنة وقد وصلنا إلى درجة العجز عن القيام بأي عمل لوحدنا إلا بتمويل أجنبي؟ من لا يقبل هذا التحليل الحارق، فليقرأ الصحف المحلية. لقد وصل الأمر إذا التقى الرجل زوجته فذلك بدعم من: “الوكالة الأميركية للتنمية، فريدريش إيبرت، برتش كاونسل، المركز الثقافي الفرنسي. وحتى من الحكومات غير الحكومية النرويج، السويد، الدنمارك…الخ. هل كل هؤلاء فاعلو خير.
الدولة الواحدة: بعيداً عن ملابسات الحديث فيها، يزداد عدد من يقولون بها. وهي تجمع أطيافاً من ماركسيين وشيوعيين قوميين وصولاً إلى عملاء الوكالة الأميركية للتنمية والملتقى المدني الأميركي. هل تتصورون كل هذا، ومن بوسعه كشف الهويات والنوايا! إذن هي مسألة على أهميتها مثابة حقل ألغام.
لقد تحول البعض إليها بعد اقتناعه بفشل تجربة الدولتين، أو لأنه لم يجد له مكاناً في عربة الدولتين. ما يهمني هنا إلقاء الضوء على تناقض مشروع الدولة الديمقرطية العلمانية مع المشروع القومي، فما بالك بالأممي.
فالموقف الفكري/النظري ليس انتقائياً ومتغيراً إذا كان هو دليلاً نظرياً حقاً. إن دولة ديمقراطية علمانية كما هي مطروحة الآن هي مطالبة اللاجئين بالانتقال، إذا كان حق العودة مطروحاً من أصحاب هذا المشروع، من اللجوء القسري إلى عبودية طوعية. هي معادية للمشروع القومي الشعبي العربي. هي آلية إخضاع جديدة للفلسطينيين، بمعنى أنَّ من احتل الأرض يبقَ فيها. وبقاء الأرض بيد اليهود هو نفسه أفضل عامل لعزوف اللاجئين عن العودة بأكثريتهم وبالتالي، فمشروع دولة ديمقراطية علمانية بمعزل عن تأميم الأرض على الأقل إن لم يكن انتزاعها من المستوطنين هو تصفية خبيثة لحق العودة. وخلوها من البعد العربي هو تجنيد فلسطينييها ليكونوا أداة للسلطة الاستيطانية الحاكمة، ربما حرس حدود جديد!
قلة أو ندرة من المستوطنين يتحدثون عن هذا الأمر، وأكثر من يتحدثون منحدرون إما من أصول يسارية بما فيها التروتسكيون الذين يرون تحقيق الأممية عبر عولمة رأس المال في إمبراطورية الولايات المتحدة ومدرستها الجديدة المحافظية الجديدة. هؤلاء اليساريون المتحولون “ببرويسترويكا” أميركية يضعون لنظرائهم الفلسطينيين خطاً فاصلاً: نسمح لكم أيها التلامذة بالحديث عن دولة ديمقراطية علمانية، غير اشتراكية ومعزولة عن العرب. فيقول التلامذة (رغم أن شنب الواحد منهم يسحب تراكتور) نعم أيها المعلمون! ألا يدفع هذا إلى وجوب تجاوز “الهيمنة الثقافية والفكرية للمركزانية الأوروبية بيمينها ويسارها؟
في الجانب الأهم في الأمر، فالعدو يراهن على:
· تمتعه بالقوة المتفوقة إلى الأبد.
· وعلى عامل الزمن لترسيخ التعب والنسيان عند الفلسطينيين والعرب.
· تغيير أوضاع ومصالح وارتباطات الطبقات لا سيما الكمبردور كقوى لتصفية القضية الفلسطينية.
لذا، فإن واقع الحال يقول، وبمعزل عن كافة أنواع التغزل العذري المفترض بإمكانية تغيير ما في السياسة الأميركية في المنطقة، إن الحديث مشروع عن أيّة قضية. أما قضية الدولة الواحدة فتشترط هزيمته الكيان وتصفية مؤسساته (أي تصفية احتكار الأرض، والصناعة والجيش والثقافة العنصرية وشطب قانون العودة وتحقيق حق العودة الفلسطيني) ليكون هناك مناخٌ للعمل على دولة واحدة. وما دام أمرها مطروحاً حتى ولو للعصف الفكري، علينا أن يكون لنا رأينا فيها الذي هو كل ما قلته أعلاه ضمن مشروع الوحدة العربية او الاتحاد في وطن عربي اشتراكي.
مراجع:
1) المؤتمر الخامس، بحث وتحرير ماهر دسوقي، عن المركز الفلسطيني للدراسات، القدس، أيلول 1993.
2) ورقة عادل سمارة “حول الوثيقة النظرية للمؤتمر الخامس للجبهة الشعبية، ص ص 55-111. عُرضت في محاضرة بجامعة بير زيت.
3) التجربة النضالية الفلسطينية حوار شامل مع جورج حبش. أجرى الحوار محمود سويد، نشر مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نيسان 1998.
4) Adel Samara, Beyond De-Linking: Development by Popular Protection vs Development by State, 2005.