“كنعان” تنشر كتاب على حلقات “إعترافات قاتل إقتصادي”، تأليف جون بيركنز وترجمة بسام ابو غزالة.

·       مقدّمة المترجم

  • ·       تمهيد المؤلف

مقدّمة المترجم

 

انتشرت بين العربِ في العصر الحديثِ فكرةُ وجودِ مؤامرةٍ غربيّةٍ ضدَّهم؛ ثمّ انقسمَ المثقفون إلى فئتين: فئةٍ لا تزالُ تعزو للمؤامرة كلَّ مشاكلنا، وفئةٍ ترفضُ وجودَها وتردُّ مشاكلنا إلى قصورٍ فينا أو تقصيرٍ منا. ولعلّ فكرةَ المؤامرة هذه ظهرت بظهور الاستعمارِ الغربيِّ للوطنِ العربيّ، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى التي تقوّضت على أثرها الدولةُ العثمانية، فاتحةً البابَ للاستعمار البريطانيِّ في المشرق العربي.

على أنّ التطرُّف في الحالين ممقوت. فلا يجوز لنا أن نكتفي بملامة الاستعمار في كلِّ مشكلةٍ نواجهُها؛ لكننا في الوقت ذاته لا يجوزُ أنْ ننسى ما يفعلُه الاستعماريون لنا في الحاضر ولا ما يُخططون لفعله في المستقبل. والمؤامرةُ تعريفا تعني التخطيط، وإنْ كان تخطيطاً لعملٍ خبيثٍ مكتوم. ومما لا شكَّ فيه أنّ الغربَ الإمبرياليَّ لا يُضمرُ الخير لنا، لأن مثل هذا الخير يتناقضُ بالضرورة مع مصالحه. والمصالحُ في السياسةِ هي الفيصل؛ والخيرُ – كما الشرُّ – ينطوي على عاطفة، ولا مكانَ في السياسة للعاطفةِ. بلى، يُريدُنا الغربُ أتباعاً مُطيعين، نفتحُ له مواردَنا الطبيعيةَ ليستغلَّها على هواه، وأسواقَنا ليُصرِّفَ فيها منتجاتِ صناعته، وعقولَنا ليزرعَ فيها لغته وثقافته. ولا يتأتَّى له هذا إلا بقهر إرادتنا بتنصيبِ حكام مستبدّين يُؤمِّنون له الطريق. وهنا تبدأ جدليةُ الإرادةِ الذاتيةِ وفعلِ المؤامرة، أيُّهما يفعل فينا فعلَه.

لعلّ أكثرَ ما حمل مثقفينا على تبني فكرةِ المؤامرةِ مواقفُ الحكامِ العربِ الممالئين للغرب، إعجاباً أو استخذاءً، خاصةً بعد الحرب العالمية الأولى، بالرغم من الخديعة الكبرى التي خدعتهم بها بريطانيا وفرنسا، يوم اتفقتا على اقتسام غنائم الحرب في ما بينهما، فأبرمتا معاهدة سايكس-بيكو (16 أيّار 1916) التي قُسِّم بموجبها الهلالُ الخصيب إلى خمس دول، كانت حصةُ فرنسا منها شمالَ بلاد الشام، وحصةُ بريطانيا العراقَ وجنوبَ بلاد الشام. وفي العام التالي للمعاهدة، في 2 تشرين الثاني 1917، أصدر وزيرُ خارجية بريطانيا، آرثَر جِمس بَلفور، “إعلانه” المسمى وعد بلفور، يعدُ فيه يهودَ أوربا الصهاينةَ بتسهيل هجرتِهم إلى فلسطين لإقامة دولةٍ يهوديةٍ عليها، مُعتبرا سكانَها الأصليين محضَ طوائفَ غيرِ يهودية. ولم يكن الدافعُ وراء هذا الوعد – الذي عُزِّز بالعمل لاحقا – أن الحكومةَ البريطانيةَ شعرت بالشفقةِ على حال اليهود بسبب اضطهاد مسيحيي أوربا لهم، بل لأنّ تلك الحكومةَ كانت ترى في زراعةِ هذا الجسم السرطانيِّ الغريبِ في خاصرةِ الوطنِ العربيِّ وسيلةً لاستنزاف العرب وإعاقةِ قيام دولة عربيةٍ موحدةٍ لن تكون في صالح الإمبرياليةِ البريطانيةِ ومطامعِها في الوطن العربيّ. كلُّ هذا بينما كان عربُ المشرق يعتبرون بريطانيا حليفتَهم في ثورتهم على الحكم العثمانيّ، تساعدهم في إقامة دولتهم الموحّدة، ويساعدونها في حربها على العثمانيين والألمان. تلك، إذاً، مؤامرةٌ لا لبس فيها. فكيف لنا أن نظنَّ أنّ المؤامرةَ ليست موجودةً إلا في عقولنا؟

هذا الكتابُ كتبه الأمريكيّ جون بيركنز سرداً لتجربتِه الشخصية. وهو توكيدٌ واضحٌ على المؤامرةِ الأمريكيةِ على شعوبِ العالمِ الثالثِ المستضعَفِ الذي تريد أن تطويه الإمبراطوريةُ الأمريكية تحت جناحها. صحيحٌ أن الكاتبَ في آخر الكتاب لا يراها مؤامرة، لكنه يُفسّرُها بطريقته التي تُفضي في نهاية المطافِ إلى السوء ذاته، لا على العالم الثالث وحده، بل على الولايات المتحدة أيضا.

جوهرُ الكتابِ شرحٌ لأسلوب الولايات المتحدة الحديث في بناء إمبراطوريتها، وإخضاع العالم لها. وهو يختلفُ عن الأسلوبِ الإمبرياليِّ القديم في أنه لا يلجأ للقوة العسكرية إلا بعد استنفادِ وسيلتين يُسهبُ الكاتبُ في شرحهما، باعتبار أنه كان واحدا من “القتلة الاقتصاديين”، وهو تعبير كان متبعاً رسميا حين دُرِّبَ على وظيفته. وقد لخّص الكاتبُ مهمته بقوله: كانت وظيفتي “أن أُشجِّعَ زعماء العالم على الوقوع في شَرَكِ قروضٍ تؤمِّنُ ولاءهم. وبهذا يُمكننا ابتزازُهم متى شئنا لتأمين حاجاتِنا السياسية والاقتصادية والعسكرية.”

فإذا رفض حاكمُ دولةٍ ما غوايةَ القتلة الاقتصاديين، تحرّك للعمل من يُسمًّوْن الواويات (بنات آوى). وهؤلاء مجرمون محترفون مهمتُهم تصفيةُ الحاكمِ العنيدِ تصفيةً جسدية، أو الإطاحةُ به والإتيانُ بحاكم مُطيع. وقد كان هذا مصيرَ جيم رُلْدُس، رئيس الإكوادور، وعمر توريجُس، رئيس بنما، اللذين اغتيلا في حادثِ تحطم طائرتيهما واحتراقهما. أما في العراق، كما يقولُ الكاتب، فقد فشلَ القتلةُ الاقتصاديون وبناتُ آوى جميعاً، لذلك لم تجدْ الولاياتُ المتحدة سبيلا لإخضاعه سوى باحتلاله عسكريا. ذلك، حسب تعبير الكاتب، أن “العراقَ مهمٌّ جدا لنا، أهمُّ بكثيرٍ مما هو ظاهرٌ على السطح.” بلى، كانت الحربُ على العراق للسيطرةِ على نفطه وموقعِه الجغراسيّ المهمّ، بغضِّ النظر عن الذرائع التي سيقت في الحربين.

يُطالبُ الكاتبُ الشعبَ الأمريكي بأن يتحرّك، لأنّ جشعَ حكامِه، وهم من يُمثِّلون مصالح الشركات الكبرى، يزيدُ من حقد العالم على الولايات المتحدة وكرهه لها، وهو ما يقود إلى أعمال الإرهاب ضد الشعب الأمريكيّ وفي عقر داره، كما حدث في الحادي عشرَ من أيلول، 2001.

فهل نقعدُ نحنُ بانتظار أنْ تتحسّنَ أخلاقُ الساسةِ الأمريكيين فيكفُّوا شرّهم عنا؟

بسام شفيق أبوغزالة

عمّان: 1 كانون الثاني 2010

(أ)

تمهيد

 

القتلة الاقتصاديون رجال محترفون يتقاضون أجراً عاليا لخداع دول العالم بابتزاز ترليونات الدولارات. وهم بهذا يحوِّلون الأموالَ من البنك الدولي، ومن الوكالة الأمريكية للتنمية العالمية، ومن منظمات “مساعداتٍ” أجنبية أخرى، لتصبَّ أخيراً في خزائن الشركات الضخمة وجيوب قلةٍ من الأسر الغنية التي تتحكم بموارد الأرض الطبيعية. وسبيلهم إلى ذلك تقاريرُ مالية محتالة، وانتخاباتٌ مُزوَّرة، ورشاوى، وابتزاز، وغواية جنس، وجرائم قتل. إنهم يمارسون لعبةً قديمةً قِدَمَ الإمبراطوريات، ولكنها لعبةٌ اتخذت في هذا الزمن العولمي أبعاداً جديدة رهيبة.

بلى، لقد كنت واحداً من هؤلاء.

        كتبتُ هذا الكلام عام 1982، كبداية لكتاب اتخذت له عنوان ضمير قاتل اقتصادي. وكنتُ كَرَّستُ هذا الكتابَ لرئيسي دولتين كانا من زبائني، وكنتُ أحترمُهما وأرى فيهما روحين متآلفتين – أعني جيم رُلْدُس، رئيس الإكوادور، وعمر توريجُس، رئيس بنما، وقد قُتِلَ كلٌّ منهما في تحطم طائرتيهما واحتراقهما. وما كان ذلك بحادث عارض، بل اغتيلا لمعارضتهما أُخوَّةَ الشركات والحكومة ومدراء البنوك، الذين كان هدفهم إقامة الإمبراطورية العالمية. وإذ فشلنا، نحن القتلةَ الاقتصاديين، في تدجين رُلْدُس وتوريجُس، تولَّى الأمرَ الفريقُ الآخرُ من القتلة، أعنى أبناء آوى التابعين لوكالة الاستخبار المركزية.

        ولقد أقنعني بعضُهم بأنْ أكفَّ عن كتابة ذلك الكتاب. بَيْدَ أني شرعتُ في كتابته أربعَ مرات أخرى خلال العشرين سنة القادمة. وفي كل مناسبة كان قراري بشروعي ثانية في الكتابة لتأثُّري بالأحداث العالمية الجارية: غزو الولايات المتحدة لبنما، وحرب الخليج الأولى، والصومال، وبروز أسامة بن لادن. غير أنّ التهديدات والرشاوى كانت دائما تُقنعُني بالتوقف.

        في العام 2003، قرأ مديرُ دار نشر كبرى تملكُها شركةٌ عالميةٌ قويةٌ مخطوطةَ ما أصبح اليوم اعترافات قاتل اقتصادي. وقد وصفها بقوله “إنها قصة مثيرة تستحقُّ الرواية.” لكنه ابتسم لي بحزن، وهزَّ رأسه، وقال إنه لا يستطيع المجازفة بنشرها لأن المتنفذين في مراكز قيادة العالم قد يعترضون. وقد اقترح عليّ أنْ أُحوِّلَها إلى رواية خيالية، عندها “نستطيع تسويقَكَ باعتبارك روائيا مثل جون لو كاريه أو غْراهَم غْرين.”

        لكنها ليست من صنع الخيال. إنها قصة حياتي الحقيقية. ولقد وافق على مساعدتي في قولها ناشر شجاع لا علاقة له بشركة عالمية.

        لا بدّ لهذه القصة من أن تُروى. ذلك أننا نعيش في زمن الأزمات الرهيبة – والفرص الضخمة. وقصة هذا القاتل الاقتصادي بالذات إنما تروي كيف وصلنا إلى حيث نحن ولماذا نواجهُ اليوم أزماتٍ تبدو عصية على الحل. لا بدّ لهذه القصة من أن تُروى لأننا بفهم أخطائنا السابقة فقط نستطيع الاستفادة من الفرص القادمة؛ لأن ضربةَ الحادي عشر من أيلول والحربَ الثانية على العراق حدثتا؛ لأنه، بالإضافة إلى الثلاثة الآلاف الذين قُتِلوا في 11 أيلول 2001 على أيدي الإرهابيين، مات أربعة وعشرون ألفا آخرون بسبب الجوع وما يتأتى عنه. والحقيقة أن أربعة وعشرين ألفا يموتون كل يوم لعجزهم عن الحصول على ما يسد رمقهم من قوت.[i] والأهم من ذلك أن هذه القصة يجبُ أن تُروَى لأن ثمة اليوم، لأول مرة في التاريخ، دولةً تملك القدرة والمال والقوة لتغيير ذلك كله. إنها الدولة التي وُلدتُ فيها والتي خدمتُها كقاتل اقتصادي، أعني الولايات المتحدة الأمريكية.

        ما الذي أقنعني أخيرا بأنْ أتجاهل التهديداتِ والرشاوى؟

        جوابي الموجز هو أن ابنتي الوحيدة، جيسيكا، تخرجت من الجامعة، وهاهي ذي تخرجُ إلى العالم مسؤولةً عن نفسِها. وحين قلت لها حديثاً إنني أفكر في نشر هذا الكتاب مُعرباً لها عن مخاوفي، قالت، “لا تخف يا أبي، إن هم نالوا منك، فسوف أتولى الأمرَ من حيث انتهيت. إننا في حاجة إلى القيام بهذا لأجل الأحفاد الذين سأقدِّمُهم لك يوما ما.”

        أما السبب الأهم فذو علاقةٍ بإخلاصي المتفاني للبلد الذي ترعرعتُ فيه، ولعشقي للمُثُلِ التي نادى بها آباؤنا المؤسِّسون، ولالتزامي العميق بالجمهورية الأمريكية التي تعد اليوم بـ”الحياة والحرية ونشدان السعادة” للناس قاطبةً وفي كل مكان، ولتصميمي بعد الحادي عشر من أيلول ألا أقعد عاجزا مرة أخرى بينما يُحوِّلُ القتلةُ الاقتصاديون تلك الجمهورية إلى إمبراطورية عالمية. هذه هي الصيغة الهيكلية للجواب الطويل؛ أما اللحم والدم فسوف يضافان في الفصول التالية.

        هذه قصة حقيقية عشتُ كلَّ دقيقةٍ فيها. وما أصف من مشاهد، وأناس، ومحادثات، ومشاعر، كانت كلُّها جزءاً من حياتي. إنها قصتي الشخصية، لكنها حدثت ضمن السياق الأكبر للأحداث العالمية التي شكلت تاريخنا، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم وتشكِّلُ أساس مستقبل أطفالنا. وقد بذلت ما أوتيتُ من جهد لأقدم بدقة هؤلاء الناس وهذه التجارب والمحادثات. وحين أبحث الأحداث التاريخية أو أسترجعُ محادثات مع أناس آخرين، أفعل ذلك مستعينا بأدوات عديدة: الوثائق المنشورة؛ السجلات والمذكرات الشخصية؛ ذكرياتي وذكريات غيري من المشاركين؛ المخطوطات الخمس التي بدأتُها سابقا؛ التقارير التاريخية لمؤلفين آخرين، وبصورة خاصة تلك المنشورة حديثا وتكشف عن معلومات كانت في السابق محجورا عليها أو غير متوافرة. أما المراجع، فمثبتة في الهوامش لتعطي الفرصة للقراء المهتمين في متابعة هذه المواضيع بمزيد من التعمق. ولتيسير تدفق السرد في بعض الحالات، كنتُ أعمد إلى جمع عدة محاورات مع شخص ما في محادثة واحدة.

        تساءل ناشر الكتاب إن كنا حقيقة نصف أنفسنا بالقتلة الاقتصاديين، فأجبتُ بنعم، وإن كان ذلك باستخدام الأحرف الأولى من هذا التعبير.* والحقيقة أن مُدَرِّبَتي كلودين، يوم بدأتُ معها عام 1971، قالت لي، “مهمتي هي أن أُشكِّلَكَ لتصبح قاتلا اقتصاديا. وليس لأحدٍ أن يعرفَ ما تفعل – حتى زوجتك.” ثم تحوَّلت إلى الجدِّ وقالت، “حين تدخل، تدخل إلى الأبد.”

دورُ كلودين مَثَلٌ رائعٌ للتلاعب الذي يقوم عليه العمل الذي انضممتُ إليه. فقد كانت، إلى حُسنها وذكائها، فعالةً جدا؛ أدركتْ نقاط ضعفي واستخدمتْها لصالحها إلى أقصى حد. فوظيفتها والطريقة التي تؤديها تمثِّلُ حذقَ أولئك القوم القابعين وراء هذا النظام.

        كانت كلودين واضحةً تماما في وصف ما كان سيُطلَبُ مني عملُه. فقد قالت، إن وظيفتي “أن أُشجِّعَ زعماء العالم على الوقوع في شَرَكِ قروضٍ تؤمِّنُ ولاءهم. وبهذا يُمكننا ابتزازُهم متى شئنا لتأمين حاجاتِنا السياسية والاقتصادية والعسكرية. مقابل ذلك يُمكنُهم دعمُ أوضاعهم السياسية بجلب حدائقَ صناعيةٍ ومحطاتٍ كهربائيةٍ ومطاراتٍ لشعوبهم، فيغدو أصحابُ شركات الهندسة والإنشاءات الأمريكية أثرياء بصورة خرافية.”

        واليوم نرى النتائج المسعورةَ لهذا النظام. نرى مدراء تنفيذيين في أكثر شركاتنا احتراماً يستخدمون أناساً في آسيا بأجور تقرب من الاستعباد لكي يكدحوا في ظروف غير إنسانية. نرى شركات النفط تضخ السموم بلا اكتراثٍ في أنهار الغابات المطيرة، فتقتل الإنسان والحيوان والنبات، وترتكب الإبادة الجماعية بين الحضارات القديمة، وهي واعيةٌ لما تفعل. نرى الصناعاتِ الدوائيةَ تضنُّ بالأدوية المنقذةِ لحياة المصابين في أفريقيا بالفيروس المسبب لنقص المناعة المكتسبة. نرى في بلدنا، الولايات المتحدة، اثني عشر مليون أسرةٍ قلقةً على وجبة طعامها القادمة.[ii] نرى صناعة الطاقة تخلق شركة على شاكلة إنرون، وصناعة الحسابات تخلق شركة على شاكلة أنديرسَن. نرى أن معدل الدخل لخُمس سكان العالم في أغنى الدول مقارنة بخُمسهم في أفقرها قد تغيرت من 30 إلى 1 عام 1960 إلى 74 إلى 1 عام 1995.[iii] نرى أن الولايات المتحدة تنفقُ أكثر من 87 مليار دولار لشن حرب على العراق بينما تُقدر الأمم المتحدة أننا بأقلَّ من نصف هذا المبلغ نستطيع تأمين الماء النقيّ، والغذاء الكافي، وخدمات الصرف الصحي، والتعليم الأساسي لكل فرد على وجه الأرض.[iv]

        ثم نستغرب كيف يهاجمنا الإرهابيون.

يُلقي بعض الناس باللائمة على مؤامرة منظمة؛ وليت الأمر بهذه البساطة. فالمتآمرون يُمكن اجتثاثهم وجلبهم للعدالة. بَيْدَ أن هذا النظام يتغذى على ما هو أخطر من المؤامرة، وهو ليس منقادا لثلة صغيرة من الرجال، بل لفكرة باتت مقبولة كأنها تنزيل مقدس؛ فحواها أن كل نموٍّ اقتصادي ينفع الجنس البشري، وكلما كان النموُّ أكبر كانت الفائدة أعمّ. ولهذا الاعتقاد نتيجة طبيعية: أن الذين يتفوقون في جني مكاسب النموِّ الاقتصاديِّ يُعلَى من شأنهم ويكافئون، بينما المولودون في الأطراف مُقَدَّرٌ عليهم أن يكونوا ضحيةَ الاستغلال.

هذه الفكرة، بطبيعة الحال، خاطئة. فنحن نعلم أن النموَّ الاقتصاديَّ في الكثرة من البلدان لا يُفيد إلا جزءاً صغيرا فقط من السكان، بل قد يورثُ حالاتٍ متزايدةً من اليأس لدى الأغلبية. ويُقوَّى هذا الأثر بالاعتقاد الملازم له أن لا بدَّ لقادة الصناعة الذين يُسيِّرون هذا النظام من أن يتمتعوا بمركز خاص، وهو اعتقاد يُشكِّلُ أصل الكثير من مشاكلنا؛ ولعله السبب أيضا وراء انتشار نظريات المؤامرة. فحين يُكافأُ الرجال والنساء على الجشع، يغدو الجشعُ حافزا مُفسدا؛ وحين نعتبر الاستهلاك الجشع لموارد الأرض عملا نبيلا، ونُعَلِّمُ أطفالنا أن يُحاكوا أناسا يعيشون حياة غير متوازنة، ونحكم على قطاعات ضخمة من السكان أن يكونوا خدما لأقلية من النخبة، فإننا نبحث عن المتاعب، وننالها.

في سعيها للوصول إلى الإمبراطورية العالمية، تستخدم الشركاتُ والبنوكُ والحكوماتُ (أي معا “سلطة الشركات”*) عضلاتِها الماليةَ والسياسيةَ لتجعل مدارسنا وأعمالنا ووسائل اتصالنا داعمة لتلك الفكرة المُضلِّلة وما يتأتى عنها. وقد أوصلتنا إلى حدٍّ أصبحت فيه ثقافتنا العالمية آلة رهيبة تتطلب بصورة متزايدة كمياتٍ متزايدةً من الوقود والصيانة بحيث تستهلك في النهاية كلَّ شيء أمامها، ثم لا تجد بُدًّا من أن تلتهم نفسها.

وسلطة الشركات هذه ليست مؤامرة؛ بل إن أعضاءها متفقون قطعا على قيم وأهداف مشتركة. وأهم مهامِّ هذه السلطة أن تُديم ذلك النظامَ وتستمرَّ في توسيعه وتقويته. أما حياة “صانعيه” وما يملكون من قصور ومراكبِ ترفيهٍ وطائراتٍ خاصةٍ، فتُقدَّمُ كأمثلةٍ لحثنا جميعاً على الاستهلاك، والاستهلاك، والاستهلاك. وتُقتَنَصُ كلُّ فرصةٍ لإقناعنا بأن شراءَ الأشياء واجبٌ مدني، ونهبَ الأرض جيدٌ للاقتصاد، وهو لذلك يخدم مصالحنا العليا. وتُدفعُ لأمثالي رواتبُ عاليةٌ بصورة مُفرطة لنعرضَ بما يُقدِّمُه النظام. فإنْ فشلنا في مهمتنا، دخلَ الحلبةَ صنفٌ من القتلةِ أشدُّ مكرا، هو ابنُ آوى. فإن فشل ابنُ آوى، تولى العسكرُ المهمة.

هذا الكتابُ، يوم كنتُ قاتلا اقتصاديا، هو اعترافُ رجل كان جزءاً من مجموعةٍ صغيرةٍ نسبيا. أما اليوم فإن من يقومون بأدوار مشابهةٍ أصبحوا أكبر عددا، ويحملون مسمياتٍ أجملَ، ويتجوَّلون في ردهات شركات من مثل مُنسانتو، وجنرال إلكترك، ونايك، وجنرال موتورز، وولمارت، وجميع الشركات الكبرى الأخرى في العالم. و”اعترافات قاتل اقتصادي” بمعناها الحقيقي هي قصتهم جميعاً كما هي قصتي.

إنها قصتُك أيضاً، قصة عالَمِكَ وعالَمي، قصة الإمبراطورية العالمية الحقيقية. ويُعلّمُنا التاريخ أنه ما لم نُعدِّلْ هذه القصةَ، فمن المؤكَّدِ أنها ستنتهي بصورة مأساوية. ذلك أنَّ الإمبراطوريات لا تخلد؛ وقد سقطت جميعُها بصورةٍ فظيعة. إنها، في مسعاها إلى مزيد من السيطرة، تُدمِّرُ العديدَ من الحضاراتِ، ثمّ بدورِها ينالها السقوط. وما من دولةٍ أو مجموعةٍ من الدول يُمكن في المدى البعيدِ أنْ تزدهرَ باستغلال غيرها.

وقد كُتِبَ هذا الكتابُ لكي نتعظ ونعيد تشكيل قصتنا. وإني لواثقٌ من أنه حين يُصبحُ العديدُ منا على علم بكيفية استغلالنا من قِبَلِ الآلة الاقتصادية التي تبتدعُ شهيةً لموارد العالم لا تشبع، وتُنتِجُ أنظمةً ترعى العبوديةَ، فلن نتحمَّلها أكثر مما تحمَّلْنا. سوف نُعيدُ تقييم دورنا في عالمٍ تسبحُ أقليتُه في الثراء بينما تغرقُ أغلبيته في الفقر والتلوِّثِ والعنف. سوف نُلزم أنفسنا بالمضيِّ قُدُماً في سبيل المحبة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للجميع.

إن الاعتراف بالمشكلة لهو الخطوة الأولى نحو حلها. كما أنّ الاعتراف بالخطيئة بداية الصلاح. فلْيكنْ هذا الكتابُ بداية خلاصنا؛ ولْيكن هاديا لنا إلى مستويات جديدة من التفاني؛ وليقُدْنا إلى تحقيق أحلامنا في مجتمعات متوازنة ذات كرامة.

ما كان لهذا الكتاب أن يُكتب من غير الكثرة من الناس الذين شاركتُهم حياتهم والذين أوردتُ أوصافَهم في الصفحات التالية. فلهم الشكر لما قدموا لي من خبرات ودروس.

كذلك أشكر أولئك الذين شجعوني على الإقدام على رواية قصتي: ستيفن رِشتشافن (Stephan Rechtschaffen)، بل ولِن توِست (Bill and Lynne Twist)، آن كِمب (Ann Kemp)، آرت روفي (Art Roffey)، والكثيرين ممن شاركوا في رحلات وورشات “تغيير الحلم”، خاصة إيف بروس (Eve Bruce)، ولِن روبرتس-هارِك (Lyn Roberts-Harrick)، وماري تِندول (Mary Tendall)، وزوجتي وشريكتي الرائعة لخمسة وعشرين عاما، وِنِفْرِد (Winifred)، وابنتنا جيسيكا (Jessica).

كما أشكر الكثرة من الرجال والنساء الذين قدّموا لي أفكاراً عميقة شخصية ومعلومات عن المصارف متعددة الجنسيات، والشركات العالمية، وتلميحات سياسية عن مختلف الدول، وأخص بالشكر مايكل بن-إلاي (Michael Ben-Eli)، وسابرينا بولوني (Sabrina Bologni)، وجوان غابرييل كرّاسكو (Juan Gabriel Carrasco)، وجامي غرانت (Jamie Grant)، وبول شو (Paul Shaw)، وآخرين يودون ألا تُعرف أسماؤهم لكنهم يعرفون من هم.

حين انتهيت من كتابة المخطوطة، لم يكتفِ ستيفن بيرسانتي (Steven Piersanti)، مؤسس بيرِت-كولر (Berrett-Koehler) بامتلاكه الشجاعة لقبولي، بل إنه كرّس ساعات طويلة لي كمحرر لامع، فساعدني في تشكيل الكتاب أكثر من مرة. فشكري الجزيل لستيفن ولرِتشَرد بيرل (Richard Perl)، الذي قدّمني له، كذلك لنوفا براون (Nova Brown)، وراندي فيات (Randi Fiat)، وألِن جونز (Allen Jones)، وكرِس لي (Chris Lee)، وجَنِفر لِس (Jennifer Liss)، ولوري بيلوشو (Laurie Pellouchoud)، وجِني وليمز (Jenny Williams)، الذين قرأوا المخطوطة ونقدوها؛ ولديفد كورتن (David Korten)، الذي لم يكتف بالقراءة والنقد، بل جعلني أبذل جهدا كبيرا لتصل إلى معاييرة العالية؛ ولوكيلي بول فِدوركو (Paul Fedorko)؛ ولفَلَري بروستر (Valerie Brewster) لإبداعها تصميم الكتاب؛ ولتُدْ مََنْزا (Todd Manza)، المحرر اللغوي والفيلسوف المبدع.

وكلمة شكر خاص أصل بها جيفان سيفسُبرامَنيان (Jeevan Sivasubramanian)، مدير التحرير لدى بيرِت-كولر (Berrett-Koehler)، وكِن لوبُف (Ken Lupoff)، ورِك وِلسُن (Ric Wilson)، وماريا جيسَس أغويلو (Maria Jesus Aguilo)، وبات أنديرسَن (Pat Anderson)، ومارينا كوك (Marina Cook)، ومايكل كرولي (Michael Crowley)، وروبِن دونوفان (Robin Donovan)، كرِستِن فرانتز (Kristen Frantz)، وتيفاني لي (Tiffany Lee)، وكثرين لِنغرُن (Catherine Lengronne)، وديان بلاتنر (Dianne Platner) – جميع موظفي بيرِت-كولر الذين يدركون الحاجة إلى الوعي والذين يعملون بلا كلل لجعل هذا العالم مكانا أفضل.

حين التزمت [دار النشر] بلوم (Plume) ومجموعة بنغوِن (Penguin) بنشر هذا الكتاب في غلاف ورقي، اجتهد موظفوها في إنتاج هذا الإصدار الجديد، بما في ذلك المواد الإضافية. وإني لممتنٌّ جداً للمحرِّرة، إميلي هينز (Emily Haynes)، لاهتمامها الكبير منذ البداية، ولصبرها عليّ، ولمواهبها كمحررةِ ودبلوُماسية. كما أشكر ترينا كيتنغ (Trena Keating)، رئيسة التحرير، وبرانت جينواي (Brant Janeway)، مدير الدعاية، ونورينا فرابُتّا (Norina Frabotta) وأبِغيل بَوَرْزْ (Abigail Powers)، محررَيْ الإنتاج؛ وألين أكيلِس (Aline Akelis)، مديرة الحقوق الفرعية؛ وجايا مايسِلي (Jaya Micely)، مصممة الغلاف الجديد القوي؛ وغرِتشن سوورتلي (Gretchen Swartly)، منسق التسويق. أما موظفو كل من بلوم وبيرِت-كولر، فقد تعاونوا بطريقة رائعة، وكرَّسوا أنفسهم هم وبول فِدوركو لتحقيق الهدف المشترك في إيصال هذه الرسالة إلى أكبر عدد من الناس، بتركيز خاصٍّ على تلاميذ الجامعات والمدارس الثانوية.

لا بدّ لي من أن أشكر كلّ من عمل معي في شركة مين (MAIN) ولم يكونوا على علم بالأدوار التي كانوا يقومون بها في مساعدة القتلة الاقتصاديين في تشكيل الإمبراطورية العالمية. أشكر بصورة خاصة أولئك الذين عملوا معي ورافقوني في السفر إلى بلدان قصيّة، وشاركوني في أوقات عديدة غالية. كذلك أشكر إيهود سبيرلنغ (Ehud Sperling) وموظفيه في إنر ترادِشِنز الدولية، ناشري كتبي السابقة عن الثقافات المحلية والشامانية، والأصدقاء الذين شجعوني على التأليف.

كما أتقدم ببالغ الشكر لأولئك الرجال والنساء الذين آوَوْني في بيوتهم في الغابات والصحارى والجبال، وفي أكواخ الكرتون حول قنوات جاكرتا، وفي أحياء الفقراء في مدن العالم التي لا تُحصى، ممن أشركوني في طعامهم وحياتهم، وكانوا أعظم مصدر إلهام لي.

جون بيركنز

آب 2004