جريمة عرسال….الجيش لا يمكن ان يسكت او يتراجع والا….؟!

العميد د. أمين محمد حطيط

 

لا يمكن ان يدّعي عاقل واعٍ تابعَ تطورات الأحداث في لبنان، منذ ان بدأ الهجوم العدواني على سورية، لا يمكنه ان يدّعي انه فوجئ بما جرى من اعتداء وجريمة موصوفة بحق الجيش في عرسال،لأن الذي حصل ليس اكثر من محطة في مسار وحلقة في سلسلة بدأت يوم اتخذ فريق سياسي في لبنان قرار الانخراط في العدوان على سورية، وجاهر رئيس هذا التيار بذاك الأمر قاطعاً  الوعد والعهد ان لا يعود الى لبنان الى عن طريق مطار دمشق بعد « تحريره». وأن فعل هذا التيار ادخل لبنان في الازمة تلك ولم يغيّر الحال ما اعلنته السلطة اللبنانية عبر حكومتها القائمة من التزام  سياسة النأي بالنفس. فإعلانها بقي حبرا على ورق لم يبصر النور ولم يلمس احد من المراقبين الموضوعين تطبيقا له.
ومع السكوت الرسمي عن انتهاك سياسة النأي بالنفس، اندفع الفريق المشترك في العدوان على سورية ليقوم بكل ما هو ممكن و متاح له ليقدم الخدمات للعصابات الارهابية، فحوّل مناطق لبنانية ثلاث الى مناطق تحشد، وقواعد انطلاق للارهابيين عبر الحدود اللبنانية (عرسال وادي خالد وعكار)، وعندما وصف وزير الدفاع اللبناني حال  عرسال منذ سنة ونصف تقريبا قائلا بأن تنظيم القاعدة لجأ اليها، هبّ تيار المستقبل ومعه تفرعات ما يسمّى «14 اذار» ورفضوا موقف وزير الدفاع و ذهبوا الى عرسال متعاطفين معها، مستنكرين وصفها بانها ملجأ لارهابيي القاعدة. ولما حاول الجيش اللبناني مع مطلع العام 2011 ان يضع حداً  لخروج هذه المنطقة او تلك من كنف الامن الشرعي اللبناني ومن سيطرة الدولة، هبّ تيار المستقبل بمن جنّد من مؤيديه ومن ينطق من نوابه، رافضا تحرك الجيش ومعترضا على العملية، ومشترطا ان يستحصل الجيش على اذنهم او ترخيصهم اذا شاء التحرك، ويتتابع السلوك العدائي والتحريضي ضد الجيش بعد ذلك، ولا ننسى ما  كان من شأن
التصرف ضد الضباط والعسكريين اثر ممارستهم مهامهم على حاجز الكويخات وتوقيفهم كـ « مجرمين عاديين « ثم ما كان من شأن اطلاق سراح  شادي المولوي الناشط في تنظيم مسلح، وُصف بأنه تنظيم ارهابي بعد توقيفه وفقا للاصول.
المتتبع لما ذكر يجد نفسه امام  سلوكيات تقود كلها الى قول واحد بأن  لدى تيار المستقبل قرار واضح المضمون يتمثل  بإخراج المنطقة الشمالية الحدودية مع سورية من يد السلطة والامن الشرعي و تسليمها الى الارهابيين في سورية، و اقامة ما يسمى» قاعدة لاند»  او «نصرة الشام لاند»  قياسا على ما كان يوما في الجنوب من تحويل العرقوب الى فتح لاند.
واليوم و بعد ان نجح تيار المستقبل في فعلته، و اخرج عرسال من يد الدولة، تقع الواقعة فيها  ويقدم مسلحون  في التركيب والجنسية  اتخذوا  من  عرسال ملجأً ومقر اقامة آمن، يقدمون و بكل وقاحة و فجور على نصب كمين لدورية من الجيش قامت بتنفيذ مهمّة امنية محدودة انتهت بتوقيف احد المطلوبين للعدالة لارتكابه جرائم قتل وخطف و افعال تقع تحت توصيف اعمال الارهاب التي التزم لبنان و يفاخر امام المجتمع الدولي بانه يقوم بحرب عليه ( على الارهاب منذ العام 2000 حيث الضنية الى العام 2007 حيث نهر البارد ). يُنصبون الكمين وهم يعرفون ان من سيواجهون هو الجيش اللبناني، وبعد ان وقعت الدورية في الكمين المُعد عن سابق تصور وتصميم ضدها، احتجز العسكريون وهم بلباسهم العسكري و نقلوا الى بلدية عرسال دون ان يكون اي شبهة او التباس حول صفتهم وهوياتهم، ثم تم الاجهاز على ضابط ورتيب وبصورة وحشية تأباها الشرائع كلها والقوانين، وكان ما كان من امر التمثيل بالجثث والتشفي من اصجابها.
وانه لمن شديد الاشمئزاز والالم معا، ان نسمع بعد هذه الفظاعة اصواتا تحاول تبرير الجريمة، وتبرئة مرتكبيها،مواقف يتخذها من ناصب العداء للحقيقة، والتزم الجفاء مع الشرف والاخلاق، ومن المضحك مع ذلك ان نسمع نائبا ينظر حول اصول القيام بعملية امنية، ويقترح ان يتقدم الجيش بطلب الترخيص والاذن من اهل البلدة ليدخل اليها، وان يمتنع عن القيام بعملية عسكرية فيها ان لم يكن المختار حاضرا، وكان الامر شأن عادي يشبه اعمال التحديد و التحرير ومساحة الاراضي، او انه تفتيش منزل لمجرم عادي. وهنا لا بد من ان نتذكر ونذكر بان الفئة السياسية ذاتها استنكرت قيام الامن العام باستدارج شادي المولوي الى خارج منزله لتوقيفه حتى لا تدخل اليه في منزله و تتسبب بمواجهة ومقاومة ما. ومن يربط الاستنكار هنا بالرفض هناك يستخلص ان الفئة السياسية المستقبلية الحريرية لا تريد تطبيق القانون ولا تريد امنا شرعيا، انما تريد امرا واحدا هو ابتعاد الدولة واجهزتها عن جمهورها ومناطقها لتكرسها مناطق نفوذ خالصة لها لا يشاركها فيه احد بما في ذلك  الدولة. واخيرا لم ينس هؤلاء « لازمة الشعر الثابتة لديهم « واتهام  حزب الله بالقضية  والزج به في عملية  لا يسمح الجيش اصلا بان يشاركه في تنفيذها كما في تنفيذ اي من مهامه  احد، ومع ذلك كانت خزائن الكذب و التلفيق و التزوير جاهزة لتمد اصحابها بما يعنيهم على ترويج التخرصات، ولكن نسي هؤلاء بأن جهودهم ستذهب سدى امام حقائق تثبتها الوقائع والمنطق السليم والتحليل العلمي المجرد الذي يقود الى ما يلي :
إن الجيش اللبناني قام بمهمة امنية و نفذها وفقا للقواعد والاصول والتعليمات الثابتة (s.o.p) التي ترعى مثل هذا النمط من العمليات بما في ذلك اللباس العسكري الذي ارتداه العسكريون والاليات العسكرية التي تنقلوا بها وان اي ادعاء خلاف ذلك من اجل التلطي وراء جهل هوية المنفذين، لن يكون له قيمة او وزن.
إن الكمين الذي نُصب للدورية العسكرية كان يعلم المسؤولون عنه والمشاركون فيه انهم  يواجهون الجيش، ثم ان اليد التي رفعت الفأس وهشمت به جسد الضابط كان يعلم صاحبها و الجمهور المتحلق حوله في بلدية عرسال، كان يعلم انه يقتل ضابطاً في الجيش. كما يعلم  سواه بانه  قتل رتيبا.
ان اقحام حزب الله في القضية هو سلوك يأتي في سياق متصل للعمل العدائي ضد المقاومة. وهو سلوك يُمارَس من قبل تلك الفئة التي التزمت النيل من المقاومة مقابل استيلائها  على الحكم واستئثارها بالسلطة في لبنان. وان تيار المستقبل يرى ان فرص عودته الى الحكم تتطلب  دعم الخارج وهذا الامر ترتفع احتمالاته  كلما رفع صوته واوغل في عدوانه على المقاومة و محورها.
في مقابل هذه الحقائق المُرّة يطرح الآن  التحدي بوجه الجيش، وهو تحدٍّ معقّد اذ لا يكفي الجيش سلوك الجناة ضده، الا انه يشعر وبمرارة ايضا من سلوك بعض مَن  في السلطة حيث يجدهم يتعاملون مع القضية وهي الجريمة الموصوفة التي يعرف الجاني فيها وبكل وضوح يتعاملون معها وكأنها « مجرد اشكال « – يا لفظاعة العبارة و الوصف، وهنا يشتد ألم العسكريين عندما يُجرون  المقارنة  بين سلوك هذا البعض ممن في السلطة اليوم حيال جريمة اغتيال رئيس فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي، وجريمة قتل آمر دورية  القوة الضاربة في فرع المخابرات في الجيش، ويجدون ان لبنان كاد ان يدفع الى منزلق خطر فيه النار والفتنة وتعطيل الدولة، بعد ان لوّح رئيس الحكومة بالاستقالة وامتنعت فئة عن التعامل مع الحكومة، و لا زالت تعطل العمل التشريعي، في حين ان الفئة ذاتها تحتضن الآن الجناة و تفتش عن المبررات لهم، وتضغط على الجيش لمنعه من تعقبهم  ثم ترفع بطاقة الفتنة الطائفية والمذهبية من اجل المزيد من الضغوط لتسهيل إفلات المجرم من العقاب.
ان الجيش وأمام هذا التحدي يجري حساباته و تقدير الموقف لاستخلاص القرار والعِبر، وهو يعلم انه مهما كان من امر السياسة و تجّارها الساقطين، يبقى له وحده ان يمارس  حقه في الدفاع عن نفسه والمحافظة على هيبته، وهو بمقتضى القانون مُلزم بالمحافظة على نفسه، وبالمحافظة على  معنويات جنوده  لانه بذلك يحفظ الوطن، وله ان يمارس مهامّه هذه  من غير استئذان، والقانون اكد له على هذا الحق والواجب والصلاحية معاً حيث له  :
القيام بكل ما يلزم من عمليات امنية و عسكرية من اجل توقيف الجناة وسوقهم الى القضاء، من دون ان يثنيه في ذلك تمنٍّ من هذا المسؤول او ذاك، او صراخ من هذه الجماعة او تلك.
ليس الجيش بحاجة الى قرار سياسي لينفذ ما ينبغي القيام به ميدانيا، فالجيش مُعتدى عليه ويمارس الان الرد تحت عنوان الدفاع المشروع عن النفس، وان اي تراجع عن ممارسة هذا الحق يُعتبر تنازلا عن دماء الشهداء العسكريين وتفريطا بالمؤسسة وهيبتها ما يعني التفريط بالوطن.
ان اقدام البعض من السياسيين على ممارسة اللعبة القذرة ومساواة الجيش بالارهابيين، سلوك ينبغي ان لا يؤثر في القرار العسكري مهما كان حجم الصراخ و درجة التهويل، والقيادة العسكرية هي التي تحدد  مسار قرارتها وعلى ضوء  المصلحة العسكرية والوطنية العليا التي وحدها  ما تؤخذ  في الاعتبار في اي قرار وسلوك.
وهنا لا بد من ان نثني على ما صدر عن  قائد الجيش في امر اليوم بعد الجريمة وهو موقف يستحق كل الدعم والتأييد من كل مواطن لبناني يحمل في نفسه ذرة وطنية وشرف، وقد  بات الجيش مسؤولا عن متابعة التنفيذ من دون ان يصغي الا لوطنيته ومناقبيته، ومن دون ان  يساوم على دماء ابنائه، فالمرحلة حرجة والمساومة والتنازل امر قاتل ليس للجيش فحسب بل للبنان الوطن والدولة بكليتها.

::::

جريدة البناء اللبنانية