د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 8 فبراير 2013
المقدمة:
انخرطت مراكز الفكر والابحاث في متابعة جدل ترشيح الرئيس اوباما لجون برينان لمنصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، لا سيما مع بروز وثيقة بشكل مذكرة قانونية مصدرها وزارة العدل تشرعن فيها شن عمليات اغتيال لمواطنين اميركيين مقيمين خارج البلاد باستخدام طائرات الدرونز. برينان، بدوره، يعد المرجع المصمم لبرنامج الاغتيالات بالدرونز – كما اصطلح على تسميته.
سيعالج التحليل المرفق كافة النواحي القانونية والسياسية لتلك الوثيقة، التي تم تسريب ملخصها ممتدا على 17 صفحة، كجزء من وثيقة اوسع واشمل تحتفظ بها الادارة الاميركية؛ وتداعياتها على السياسة الخارجية وكلفتها على المستوى الداخلي.
ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث
دشن معهد كاتو Cato Institute حرب اوباما بطائرات الدرونز بالنظر الى الجوانب القانونية الناظمة والدور المتوقع من الدولة المركزية “لحماية الشعب الاميركي من هجمات عنيفة” بكل ما اوتيت من قوة وعزم، لكن يتعين عليها “الاخذ بعين الاعتبار احتمال وقوع خطأ عند التطبيق وهل بوسعها تبني مزيد من الاجراءات للتخفيف من حدة تلك الاخطاء.. واحيانا تؤدي تلك الاخطاء الى ضحايا من الاطفال.”
معهد بروكينغز Brookings Institution اعرب عن رأيه بأن المذكرة الداخلية لا تغطى سوى قدر ضئيل من القضايا المعنية، اذ ان “الزعم بصلاحية قرار الفتك بمواطنين اميركيين.. يشكل الانجازات التراكمية لادعاءات سابقة تبنتها الادارة.”
ترشيح جون برينان لمنصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، سي آي ايه، شكل فرصة لمراجعة المهام الاساسية المنوطة بالوكالة، التي باعتقاد البعض جرى عسكرتها على حساب وظيفتها في جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية. وقال معهد المشروع الاميركي American Enterprise Institute “يتعين على الوكالة البحث في سبل افضل للحصول على معلومات استخبارية اساسية ووضعها امام الاطراف المعنية” في وقت مبكر. ونظرا لمناخ التقشف المالي ساري المفعول “فان انشاء قوات وهيئات زائدة عن الحاجة.. ليس ثمة موضع تساؤل فحسب، بل عمل غير مسؤول.”
مركز السياسة الامنية Center for Security Policy اعرب عن اعتقاده ان ترشيح برينان في منصب “مستشار اوباما الرئيسي لمكافحة الارهاب” يشكل استهتارا لاميركا بأنها “لا تدرك عمق وخطورة تهديد الجهاديين.. ودليل اضافي انها لا تعير اهتماما جادا لتنامي قوة العدو.” وزعم المركز ان برينان “لا يعترف بخطورة التفوق الاسلامي.. ويخفق في ادراك تنامي الجهاديين الاعداء داخل الولايات المتحدة.”
القرار الاتهامي للسلطات البلغارية لعناصر يقال انها على ارتباط بحزب الله شكلت منصة انطلاق لتجدد الهجوم على الحزب وما يمثله. اذ عقد معهد واشنطنWashington Institute ندوة موسعة، محورها حث دول الاتحاد الاوروبي التصرف بوحي الاتهام “وادراج حزب الله على لائحة المنظمات الارهابية.” واعرب عن خيبة امله “لتردد بعض الدول الاوروبية تصنيف الحزب بأكملة كمنظمة ارهابية،” لا سيما فرنسا التي تتصرف بهاجس “المحافظة على مستوى نفوذها في لبنان.. فضلا عن قواتها المتواجدة هناك كجزء من قوات حفظ السلام الدولية، اليونيفيل، وقلقها لسلامتهم الشخصية..”
الغارة الجوية “الاسرائيلية” على سورية كانت مركز اهتمام المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي Jewish Institute for national Security الذي رآها ضرورية “لضعضعة سيطرة الدولة السورية على اراضيها، وتقليص سيطرتها على ترسانتها الهائلة من المضادات الجوية والارضية وصواريخ ارض- ارض والاسلحة الكيميائية والبيولوجية.”
التدخل العسكري في سورية “اضحى بعيد المنال ان لم يحظ بدعم اميركي مباشر،” حسب رؤية معهد بروكينغز Brookings Institute. وحث المعهد صناع القرار تبني قرار التدخل العسكري في سورية “الذي من شأنه الضغط على (الرئيس) الاسد للتوصل الى حل ديبلوماسي.. على غرار التدخلات العسكرية في البوسنة وليبيا” التي افضت الى حلول استبعدت الحكومات القائمة.
اعرب معهد واشنطن Washington Institute عن عميق قلقه لتنامي نزعة التطرف لقوى المعارضة السورية المسلحة، محملا الادارة الاميركية مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع الميدانية “لارتباكها في اتخاذ قرار بدعم المعارضة.. مما وضعها امام تحديات اكثر حدة لضمان سلامة المصالح الاميركية في سورية.” وحثت الادارة الجديدة على “تعزيز جهودها لتدريب وتمويل وتسليح الوحدات العسكرية التابعة للمجلس” الوطني السوري والتي “بوسعها الحد من بروز قوى عسكرية تكن العداء والكراهية للقيم والمصالح الاميركية في المنطقة.”
مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations بدوره اعرب عن اعتقاده ان قوى المعارضة المسلحة “اضحت اكثر استعدادا للاقرار بعدم قدرة قواها انزال هزيمة ميدانية (بالرئيس) الاسد عند هذا المنعطف، خلافا لما كان يعتقد سابقا.” ومضى بالقول ان “الحقيقة المشار اليها هي الباعث على عرض زعيم المعارضة معاذ الخطيب التوصل الى حل عبر المفاوضات عبر روسيا وايران..” وفيما يخص الغارة “الاسرائيلية” على سورية، اعرب المجلس عن دعمه لها “ومبررة بالنسبة لاسرائيل.. عند التثبت من ان (الهدف) شاحنة لنقل الاسلحة لحزب الله..”
الانتخابات الرئاسية الايرانية المقبلة كانت محور اهتمام المجلس الاميركي للسياسة الخارجية American Foreign Policy Council الذي اعرب عن اعتقاده بان المرحلة ستشهد صراعات حامية الوطيس “وعزم ملالي ايران على عدم الركون الى فرضيات مسلم بها.. لاعتقادهم انها ستشكل استفتاءا على ادارتهم شؤون البلاد في مواجهة العقوبات الغربية” المفروضة على ايران. ورأى المجلس ان ذلك التوجه لصناديق الاقتراع “يشكل دلالة على مدى الانقسام وهشاشة النظام الكهنوتي في ايران.”
اما معهد واشنطن Washington Institute فقد حث “الولايات المتحدة وحلفائها على تعزيز اجراءات الضغط على ايران، والثبات في مطالبهم، والاقلاع عن التعامل مع العناد الايراني بتقديم عروض سخية.”
مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies اعربت عن قلقها “لعدم صدقية الحكومة الايرانية المستمر حول برنامجها النووي” واتهمت وزير الخارجية علي اكبر صالحي “بالخداع” في زيارته الاخيرة لالمانيا. وخلصت المؤسسة بالقول ان “الحكومة الايرانية مخادعة وفاقدة الشرعية نظرا لسحقها قوى المعارضة الايرانية ولعدم سماحها بتغطية اعلامية مستقلة داخل البلاد.”
فلسطينيا، جدد معهد واشنطن Washington Institute ثقته بقيادة حركة فتح “الشريك الافضل للمحادثات السلمية شريطة استمرار التزامها بحل الدولتين واستمرار تعاونها على المستوى الميداني مع اسرائيل،” وطرح حركة حماس جانبا “لعدم استعدادها التوصل الى سلام مع اسرائيل.”
التحليل:
حرب الدرونز قد تتحول الى اللعنة التي تلاحق اوباما وعهده الثاني
يقال عن اوباما انه بالغ الاسراف ويستهلك رصيده السياسي بالسرعة عينها التي ينفق فيها اموال الشعب. رافق افراج ادارته قبل بضعة ايام عن نص الوثيقة التي تشرعن قتل مواطنين اميركيين دون اللجوء للقضاء، جدل صاخب لم تهدأ حدته بعد مما قد يضطر اوباما لاستنزاف ما تبقى له من رصيد سياسي سريعا، بل ربما دخل مرحلة الاقتراض.
في الحيثيات، اصدرت وزارة العدل الاميركية ملخص مذكرة اعدتها لاعضاء الكونغرس تعدد فيها ولأول مرة المعايير الناظمة لادراج مواطنين اميركيين على قائمة الاغتيالات التي حددتها اجهزة الامن القومي، لا سيما تقدم المراتبية في هيكلية تنظيم القاعدة او التي تعود لاحدى اذرعه الميدانية. وتفيد الوثيقة، “المذكرة البيضاء،” ان استهداف المواطنين الاميركيين المنخرطين في تنظيم القاعدة او على علاقة بتهديدات مصدرها القاعدة واغتيالهم أمر مشروع دون اللجوء للسبل القضائية، حين توفر العناصر التالية: “1- اقرار مسؤول مطلع وعالي المستوى بان الفرد المعني يشكل تهديدا وشيكا للقيام باعمال عنف ضد الولايات المتحدة؛ 2- اعتقال الجاني امر غير قابل للتطبيق؛ 3- ينبغي تنفيذ الاغتيال او “العملية الفتاكة” وفق نصوص قوانين الحرب.” بيد ان الوثيقة تقفز عن تعريف القصد من “مجموعة مرتبطة” او معايير منصب “مسؤول رفيع المستوى،” او الكيفية التي سيمضي بها ذلك المسؤول للتوصل الى اتخاذ القرار.
هناك سابقة قانونية للوثيقة المذكورة. اذ اصدرت المحكمة العليا قرارا قضائيا عام 2006 تخوّل بموجبه الولايات المتحدة استخدام وسائل القوة ضد مواطنين اميركيين ينخرطون في عمليات مسلحة ضد البلاد. وليس هناك ما يستدعي للتفريق بين شخص يخطط لعمليات هجومية داخل الولايات المتحدة من بقعة ما خارج مسرح العمليات المعلن، طالما تم الاتفاق على ان بلد المصدر يشكل نقطة تجمع لتنظيم القاعدة والقوات المنضوية تحت لوائه. وتزعم مذكرة وزارة العدل المشار اليها ان لديها كامل الصلاحية لشرعنة استخدام القوة استنادا الى التفويض المقدم لها من الكونغرس الاميركي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
مناهضة سياسة الاغتيالات جاءت من قوى مختلفة على امتداد الطيف السياسي. في جانب اليمين المتشدد مثلا، معلق الراديو الشهير راش ليمبواه قال اضحى “الافق مفتوح على مصراعيه. اذن، يصبح بالامكان اغتيال مواطنين اميركيين بناء على ثمة اشتباه، معيار لا يستند الى معلومات استخبارية حقا.” في الطرف السياسي المقابل، وصف المعلق الليبرالي في اسبوعية “نيو ريبابليك،” جيفري روزين، السياسة الواردة في المذكرة بانها “انتهاك للدستور” وتقوّض الحقوق الدستورية. امر فريد حدوثه في السياسة حين تتناغم رؤية فريقي التناقض على مسألة حيوية.
التداعيات الناجمة عن مذكرة شرعنة الاغتيال تتجاوز نطاق “الحرب على الارهاب،” مما يفسر تضافر اطراف سياسية اميركية مختلفة لمكافحتها، لا سيما وان جذر المسألة المتمثلة بانصياع القوى المختلفة لنصوص القانون بشكل عام يشكل احد اهم اعمدة المباديء التي تتغنى بها اميركا. ووصف المؤرخ الاميركي، جون ميتشام، في مقابلة متلفزة مع شبكة (ام اس ان بي سي) نزعة الانصياع الى القانون بانها “احد الاسباب الرئيسة التي دفعتنا للانسلاخ (عن بريطانيا).. اذ ان سيادة القانون لا يجوز حصرها لاهواء المَلك ولا ينبغي تطبيق نصوصه بشكل اعتباطي. وهذا بالضبط طبيعة الامر الذي بين ايدينا، (تطبيق القانون) في يد الملك حصرا.”
ليس من العسير التوصل الى استنتاجات تفيد بانتهاكات دستورية تمت. فالمادة الخامسة من التعديل الدستوري الاميركي تحظر “قتل الابرياء وانتهاك الحريات والاستيلاء على الاملاك، دون مقاضاة قانونية.” وفي عام 2004 رفضت المحكمة العليا ادعاء الحكومة الاميركية لمقاضاة ياسر الحمدي المولود في اميركا لابوين سعوديين والذي اعتقل في افغانستان عام 2001 ابان نشاطه القيام باعمال اغاثية وجرى تصنيفه كمقاتل عدو، وفق تصنيفات البنتاغون في عهد وزير الدفاع دونالد رمسفلد. وعللت المحكمة قرارها بان الحكم النهائي للتيقن من خطورة المعتقلين تعود الى القضاة حصرا بخلاف زعم السلطة السياسية.
الانتهاكات الدستورية طالت المادة الرابعة من التعديل الدستوري ايضا على خلفية زعم السلطة التنفيذية لحقها في الملاحقة والفتك بمواطن اميركي لتضاؤل فرص القاء القبض عليه. وفي حالات اخرى تتعلق بانتهاك المادة الرابعة اكدت المحكمة العليا على ان “استخدام القوة للفتك او الحيلولة دون هروب جناة مشتبه بهم، بصرف النظر عن الظروف المحيطة، يعد امرا غير معقول في نظر الدستور.. وفي حال عدم تشكيل المشتبه به خطرا ماثلا لرجال الامن او لآخرين، فان الضرر الناجم عن الاخفاق في اعتقاله لا يبرر استخدام القوة الفتاكة لتحقيق ذلك.”
وتجسد حرص الشعب الاميركي والتمسك بحقوقه الدستورية مؤخرا في خضم الجدل والمطالبات المتعددة بالحد من انتشار السلاح ولجوء افراده التمسك بنصوص المادة الثانية من التعديل التي تسمح باقتناء السلاح لكل المواطنين. وفي هذا الجانب بالذات، ظهر حجم المعارضة الشعبية الهائل للحد من السلاح مما فاجأ ادارة الرئيس اوباما. للدلالة، قال الكاتب جيفري روزين “بما ان مرافعة ادارة الرئيس اوباما اقتصرت على عمليات اغتيال الاميركيين المقيمين خارج البلاد، فان الحجج التي ساقتها قد تنطبق ايضا على اغتيال اميركيين داخل البلاد على قدم المساواة.”
دفاعا عن السياسة
لا يخلو الطيف السياسي من مؤيدين لسياسات الرئيس اوباما، ومن ضمنهم بعض خصومه الذين يستندون الى قرار اتخذه الكونغرس يخوّل بموجبه السلطة التنفيذية شن اعمال عدائية (كما توصف بالاصل). وعليه، فان الشروع بتطبيق القرار – الذي يشمل تحديد واختيار الاهداف – هي مسؤولية القوات العسكرية برئاسة رئيس مدني يساعده وزير الدفاع. عندما تشن حرب ما، يقول اولئك، ان القوات العسكرية مخولة بالفتك بالاعداء في معركة تدور وجها لوجه، وهم نيام في ثكناتهم او معسكراتهم، بل وهم في حال الهرب بسبب الرعب الذي دب في صفوفهم. فمهاجمة وقتل العدو لا يصنف اغتيالا، بل مواجهة.
لتمييز التباين بين الحالتين يؤكد اولئك على ان الولايات المتحدة تواجه حالة نزاع مسلح ضد تنظيم القاعدة عملا بنصوص قرار “التفويض لاستخدام القوة العسكرية” لما بعد مرحلة الحادي عشر من سبتمبر. وعليه، فان الولايات المتحدة لا تخوض مواجهات لصيانة القانون؛ بمعنى آخر فان مهاجمة عنصر من القاعدة يعادل هجوم ضد الفييتكونغ في اعقاب هجمة تيت (1968) بخلاف استهداف مواطن اميركي عضو في شبكة تهريب المخدرات الكولومبية. فتاجر المخدرات الاميركي الذي يتخذ من اميركا الحنوبية مسرحا لنشاطاته يحتفظ بحقوقه الفردية كاملة في التوجه للقضاء ولن يتعرض للقتل دون سابق انذار عبر غارة لطائرة الدرونز. اما العضو الاميركي في تنظيم القاعدة، فلا ينطبق عليه الامر جراء حالة حرب مفتوحة اعلنتها القاعدة ضد الولايات المتحدة، اي حالة حرب اقرها طرفي الصراع.
ليس بوسع نماذج الثغرات القانونية المذكورة الاجابة عن الغارات للحكومات الاجنبية او مواطنيها المدنيين التي تخاض الحرب على اراضيها. كما انها لا تقدم اجابات وافية حول دور وكالة الاستخبارات المركزية في الاشراف على الغارات (وهي جهاز مدني مهمته جمع معلومات استخبارية)، وليست وزارة الدفاع المخولة بادارة الحروب.
التداعيات على السياسة الخارجية
من المرجح ان يتنامى الجدل حول شرعية الاغتيالات لمواطنين اميركيين خارج الوطن خلال الجلسات المقبلة لاستجواب المرشح جون برينان، بصفته الاب الشرعي لبرنامج الاغتيالات بطائرات الدرونز. سيواجه تساؤلات تطالبه طرح تصوره الشخصي حول بنود المذكرة وآلية تطبيقها عند استلام مهام منصبه الجديد. من الثابت ان برينان لن يشذ عن نطاق طروحات الرئيس اوباما، مسؤوله المباشر، وستحدد طبيعة الاسئلة واجاباته عليها المدى الذي سيتم تضخيم المسألة ام وأدها وتجاوزها. ان الاجابات السطحية والبائسة التي قدمها قبله مرشح وزير الدفاع تشك هيغل قد تسبب مزيدا من الاحراج للرئيس اوباما، محليا ودوليا.
لن تسعف مذكرة وزارة العدل الرئيس اوباما وسمعته في الخارج، اذ ان برنامج الاغتيالات بطائرات الدرونز يخضع لرقابة ونقد شديدين كونه يشن عمليات معادية في اراضي الغير دون الحصول على موافقة مسبقة من حكوماتها. اما الطبيعة التعسفية لاختيار الاهداف من شانها مراكمة مزيد من رفض الحكومات الاجنبية – التي يصفها البرنامج بـ “الشركاء.” بل قد تدفع بعض الدول الى تجريم استخدام اراضيها لعمليات الدرونز.
كما ان المذكرة اثارت مسألة عدم قانونية الاغتيالات التي تنفذ في الخارج – وهي السياسة التي كبدت الولايات المتحدة حرجا كبيرا في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؛ الامر الذي حدا برئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، فرانك تشيرتش، تشكيل لجنة برئاسته لتقصي انتهاكات الاجهزة الامنية الاميركية وخطط الاغتيالات التي اشرفت عليها، لا سيما محاولات اغتيال الرئيس فيدل كاسترو. وتوصلت اللجنة الى جملة استنتاجات لعل اهمها ان من شأن الاغتيالات الممنهجة توليد ردات فعل عنيفة تهدد المزيد من ارواح الاميركيين بدلا من حمايتهم. ولا تزال تلك السياسات والمخططات تلبد اجواء العلاقات الثنائية مع عدد من الدول، اهمها تشيلي.
الرصيد السياسي والاضرار السياسية
يلاحظ البون الشاسع بين تقلبات سياسة اوباما مقارنة مع تصريحاته السابقة في مرحلة عضويته في مجلس الشيوخ. اذ التزم عام 2007 علنا بالقول “لا مجال بعد اليوم لتفويض يخوّل التجسس على مواطنين لاعتبارات الامن القومي لا تشوبهم شبهة جنائية. كفانا تعقب المواطنين الذين لم يرتكبوا عملا ابعد من التظاهر ضد حرب استندت للتضليل. كفانا استهتارا بالقانون حينما يكون الامر في غير صالحنا. تلك القيم تتناقض مع هويتنا. كما انها لا تشكل عناصر ضرورية لهزيمة الارهابيين. المحكمة التي انشأت خصيصا للنظر في قضايا المراقبة والتجسس الخارجية لا تزال سارية المفعول. فصل السلطات ساري المفعول ايضا، كما ان الدستور لا يزال كذلك. سنشكل نموذجا يحتذى به مرة اخرى للعالم بان سلطة القانون لا تخضع لنزوات وتعنت الحكام، وان تطبيق العدالة ليس اعتباطيا.”
قد لا يتذكر الجمهور حرفية ما قاله آنذاك، لكن معانيه لا تزال حاضرة في الذهن العام.
تاريخ الرؤساء الفائزين بدورة رئاسية ثانية، في العصر الحديث، يشير الى معاناتهم من “لعنة الولاية الثانية،” التي تنال من شعبية الادارة وتحول دون تنفيذ الطموحات السياسية. فالرئيس الاسبق هاري ترومان عانى من الحرب الكورية التي اضطرته انهاء فترة ولايته والخروج كاحد اقل الرؤساء شعبية. الرئيس ليندون جونسون ارتبط سجله بحرب فييتنام، والرئيس نيكسون كان نصيبه فضيحة ووترغيت، ولجورج بوش الاب كانت الحرب على العراق، الرئيس جيمي كارتر اتسم بمأزق رهائن السفارة الاميركية، بيل كلينتون سبقته فضيحة مونيكا لوينسكي، وجورج بوش الابن كانت الحرب على العراق المحرك الاساس لتدهور شعبيته. استنادا الى تاريخ حافل بالامثلة كما سبق، باستطاعة المرء التنبؤ ببروز قضية ما من شانها شل قدرة ادارة الرئيس اوباما.
هناك اسباب متعددة تتحكم بالظاهرة تلك. الشعور بالنشوة في الولاية الثانية يؤدي الى عجرفة التصرف ودفع الرئيس لتجاوز القيود المفروضة. كما ان المواطن العادي يصاب بالسؤم والضجر بعد مضي 6 سنوات وما سيلوح في الافق من مرشحين (من الحزبين الديموقراطي والجمهوري) طامحين للرئاسة من الذين سيسعون لتمييز مواقفهم عن سياسات الادارة الراهنة.
المذكرة المشار اليها الصادرة عن الادارة قد تشكل حافزا لمرحلة تدهور شعبية الرئيس. اذ يعتبر المحافظون والجمهوريون ان المذكرة تشكل دليلا على تجاوز اوباما صلاحياته الرئاسية، الى جانب قضايا خلافية اخرى مثل مشروع قانون تعد له الادارة للحد من انتشار السلاح الفردي. ومن شأن تلك التوجهات حشد القاعدة الانتخابية وتعزيز الاصطفافات السياسية تمهيدا لاستثمارها في الانتخابات النصفية عام 2014، ومن ثم الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2016.
ولا يستبعد استغلال بعض الطامحين للرئاسة من الديموقراطيين الازمة الراهنة لتمييز موقفهم عن مازق الرئيس اوباما، والتلميح ان بوسعهم تقديم اداء افضل. من بعض الاسماء التي يتم تداولها في هذه المرحلة المبكرة: نائب الرئيس جو بايدن، هيلاري كلينتون، وزيرة الأمن الداخلي جانيت نابوليتانو، وحاكم ولاية نيويورك اندرو كومو. اغلبية الطامحين سينأون بانفسهم عن بايدن، بل سيسعون لتهميشه كمرشح رئاسي غير ملائم للحزب الديموقراطي.
التصورات المطروحة لا تعدو تكهنات من الصعب الجزم بها في وقت مبكر، بيد ان التاريخ القريب يشير الى الازمات التي يواجهها عادة الرئيس في منتصف ولاية رئاسته الثانية. وعادة يبرز عامل الغطرسة التي تؤدي الى تجاوز حدود الصلاحيات الرئاسية مما يستدعي ادانته من قبل الحزبين.
مذكرة وزارة العدل برزت كعقدة في المنشار وفي وقت جد مبكر من الولاية الرئاسية الثانية للرئيس اوباما. ديمومة المسألة لن يكون مستغربا، بل قد تصبح قضية ثابتة التداول للسنوات المقبلة.
::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
مدير المركز: د. منذر سليمان
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com