البطريرك الراعي في دمشق……….رسائل وتداعيات

العميد الدكتور امين حطيط

شكّلت زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى دمشق بمناسبة تنصيب البطريرك الارثوذكسي حدثاً بذاتها، ورسمت علامة فارقة في مسار ما يجري في سورية وحولها ووجهت رسائل بالغة الأهمية لمن يعنيهم الأمر، كما أنها أحدثت صدمة كبيرة في أكثر من اتجاه وموقع، صدمات متعدّدة المعاني والدلالات وفقا للجهة المتلقّية او المتابعة للشأن السوري، او القائمة بالعدوان الذي يستهدف سورية منذ عامين.
وقبل ان نعرض لكل ما طرح من أسئلة هنا، لا بد من التوقّف عند الشخصية المميّزة للبطريرك الراعي– بطريرك الشركة والمحبة – تلك الشخصية التي أحدثت تغييراً في مسار محدّد، تؤكدها الزيارة الآن، حيث لا بد من التنويه بشجاعة البطريرك وحكمته وبُعد نظره وحرصه على رعيته، وهو أعطى في ذلك مثلا لمن يتصدّى لقيادة او أمرة، مثلاً يقوم على القول بأن «الراعي الصالح» يهتمّ برعيته ويعيش معها ويذهب إليها في محنتها مهما كانت المخاطر، ولا يتركها ويجول في فنادق النجوم الخمس والفراش الوثير، كما يفعل الكثير من مدعي الزعامة والقيادة في هذا الزمان.
لقد كانت رحلة البطريرك الراعي من بيروت إلى دمشق برا وعبر بوابة المصنع – جديدة يابوس ومرورا بريف دمشق والغوطة الغربية، بمثابة الصدمة التي أفقدت البعض في لبنان والمنطقة توازنهم، خاصة أولئك الذين وطّنوا النفس على أساس انهم هم القيادة وعلى الآخر ان يتبع، فانزلق هذا او ذاك من هؤلاء إلى ما يفضح سريرته ويكشف حقيقة نظرته إلى المسيحيين وتفاطع مع الخطة الصهيونية في تهميش المسيحيين ثم اقتلاعهم من أرضهم، وهذا ما كنّا لفتنا إليه منذ زمن وقلنا بأن المسيحيين الآن بين استراتيجيتين: إما التجذّر في الأرض، او التهجير والإلغاء. و اذا كان البعض ممن رفع يوما شعار «الأمن المسيحي فوق كل اعتبار»، قد مارس عكس شعاره، وهجّر المسيحيين من أي محل في لبنان حلّ فيه بعسكره، ثم أقام اليوم تحالفاً
مع من يريد تهميش المسيحيين ويحول دون تمكينهم من انتخاب نوابهم في المجلس النيابي اللبناني، فان البطريرك الراعي وهو «الراعي الصالح» كما تثبت سلوكياته، يعمل بعكس هذه الاستراتيجية ويتبنّى استراتيجية التجذّر والانتماء إلى الشرق، وهي التي أطلقها العماد ميشال عون وتحمّل الكثير في سبيل إرسائها وإنجاحها.
ولأن الأمر كذلك، جاء من يصف البطريرك بانه « يتحالف مع الشيطان»، او يصف القداس الذي رأسه في العاصمة السورية بانه «قداس شيطاني « او يتهكّم على البطريرك برسم كاريكاتوري، في موقف يعبّر عن المرارة والهذيان الذي سبّبته الزيارة للفريق اللبناني المنخرط في العدوان على سورية والاقليمي المحتضن لهؤلاء، وهم ممن حلموا بـ «سقوط سورية « واستباحتها من قبل الموجات التكفيرية الإقصائية الإلغائية، وتدمير مَواطن القوة التي تزعج «إسرائيل»، وتحويلها إلى ركام تحلم به تركيا لتضع اليد عليها في سياق مشروعها الامبراطوري الموهوم.
لكن البطريرك ورغم ان زيارته لدمشق جاءت بمناسبة بروتوكولية دينية كنسية تتعلّق بتنصيب بطريرك لطائفة الروم الارثوذكس في انطاكية وسائر المشرق، فانه أراد كما يبدو ان يفهم هؤلاء بأن التلفيق والحرب النفسية والغوغاء، يمكن ان تؤثر بمفاعيلها على من لا يملك القدرة على البحث والتحرّي عن الحقيقة، أما من يملك القدرة على الفهم والتحليل فانه يميّز الغث من السمين ويدرك حقيقة الأمور، وهنا وفيما خصّ سورية يمكنه ان يدرك بأن المخطّط الذي استهدفها لإسقاطها وإسقاط التعايش بين الأديان فيها وتحويلها إلى بؤرة فساد وتدمير العلاقات الإنسانية في الشرق، ولتكون أيضا حلقة جديدة في سلسلة العمل الصهيوني لتهجير المسيحيين من الشرق كما حصل في فلسطين والعراق، ويعد لتنفيذه في لبنان من خلال توسّع الحركات السلفية التكفيرية، سورية هذه بصمودها أفشلت المخطّط، وهي تملك المناعة والقوة التي تمكنها من متابعة المواجهة وحفظ أبنائها مهما كانت أديانهم، حفظهم فيها ولها، وتتيح لقادة الكنائس في الشرق والذين اغتصبت تركيا مقرهم الرئيسي في أنطاكية، ان يتخذوا من دمشق مركزاً بديلاً يجتمعون فيه ويتلاقون مع شركاء لهم في المواطنية والقومية ويمارسون طقوسهم الدينية برعاية الدولة وحمايتها، وهذا ما شهد عليه لقاء البطاركة الثلاثة ( الراعي –اليازجي – لحام )، وقام على مشهد ومسمع من رجال دين وسياسية تقاطروا من أنحاء الأرض.
ولهذا ولأنها زيارة تأتي كفعل إيمان بتجذر المسيحيين في الشرق، وبالإضافة إلى صدمة أعداء سورية، فقد شكلت الزيارة ومن منطلق ما يمثله موقع البطريرك الماروني من أهمية بنظر الغرب ومن موقع مميّز بنظر الفاتيكان وعطفا على موقع الفاتيكان ذاته في الخريطة الاستراتيجية الدولية عامة والغربية خاصة، شكلت هذه الزيارة دليلا على الانعطاف الدولي وخاصة الغربي في التعاطي مع الأزمة السورية، بما فيه من إقرار بأن سورية الدولة والكيان السياسي الذي تقوده سلطة منتخبة من الشعب، هذا الكيان لا زال قوياً وممسكاً بالأمور ويحفظ لأبنائه ومن كل الأديان حقهم في المعتقد و الممارسة بعكس الحال الذي استشرى في بلاد «الحريق العربي» المسمّى «ربيعاً»، حيث ينتشر القتل وتسود سياسة كمّ الأفواه والتهميش والتهجير، وبالتالي أظهرت الزيارة ذاك التباين الفظيع في سورية، بين نظام يحتضن الأديان ويساوي في ممارسة الشعائر الدينية بين المواطنيين، وبين أكذوبة «الثورة» وحقيقة «الفوضى» التي تعيث في الأرض فساداً وتدمّر دور العبادة وتمنع الممارسة الدينية من قبل من لم يكن من معتقدها. وعلى ضوء ذلك، نستطيع ان نقول بأن الزيارة وبعد ان أكدت على العمل باستراتيجية «الانتماء المسيحي للشرق والتجذّر فيه «، وجهت الرسائل التالية:
1) ان الفاتيكان ومعه الغرب يدرك الآن تماماً ان الخطر الذي يتهدّد المسيحيين يتأتى من نزعة الرفض والتكفير، وانه لن يتخلى عن الوجود المسيحي في الشرق، واذا كانت أولى وسائل الدفاع تكمن في وحدة الموقف المسيحي، فها هي الوحدة تتجلّى في تنصيب بطريرك شرقي وبحضور بطريرك تابع للكنيسة الغربية، ولأجل ذلك كان الراعي و لحام (كنيسة غربية) إلى جانب اليازجي (كنيسة شرقية).
2) ان النظام السوري الحالي يقود دولة مدنية يضمن فيها للمواطن حقوقه السياسية وللطوائف حقوقها الدينية معتقدا وممارسة، وان استمراره وبهذا الشكل يعتبر حاجة لاستقرار المنطقة ولبقاء سكانها ومنهم المسيحيون فيها، واذا كان حاجة لإصلاحه فان العنف لا يكون طريقاً له.
3) ان سورية وبعد سنتين على العدوان عليها، لا زالت ممسكة بزمام الأمور قادرة على حماية ضيوفها وليست كما يروج أعداؤها وتزعق أبواق الضلال ومحطات الفتنة، وهي قادرة على الخروج من أزمتها، وهي فعلا على عتبة الخروج الفعلي من الأزمة.
4) من أراد الإصلاح الحقيقي فليسلك طريقه المنطقي، ولا مجال إلا للحوار والعمل السياسي والدبلوماسي لتحقيق ذلك، وللخروج من الأزمة، وفي هذا تسفيه لمواقف كل من رفض الحوار ولجأ إلى السلاح.

::::

جريدة البناء