… وتأجلت المصالحة!

 عبداللطيف مهنا

في سياق معهود التجاذبات التصالحية وكرنفالات تكاذباتها العديدة المعلقة التنفيذ بين رام الله وغزة ابتدعت الساحة الفلسطينية مصطلحاً جديداً أضافته إلى قاموسها الزاخر وطرحته برسم التداول. إنه مصطلح “عملية المصالحة”. وهوعلى الرغم من رنينه المحبب، فلعل من سوء طالعه حتى الآن، أنك إذ تسمعه لأول مرة سرعان ما يذكرك بآخر سيىء الصيت أحتل هذه الساحة المحتلة أصلاً لأكثر من عقدين وفعل بها الأفاعيل هو “العملية السلمية”. تلكم التي تذكرك بسياقٍ تفريطيٍ كارثيٍ طال وأفضى إلى واقع حالها الراهن الذي لايسرصديقاً ولايزعج عدواً. هوِّدت الأرض فلم يبق إلا نزر من نتفٍ كانتونيةٍ، أو معازل متناثرةٍ. ذلك تحت سمع وبصر وشهادة زور عشاق هذه “العملية”، المصرِّين على التشبث بجدثها المهترىء الذي دفنه الإحتلال وشيَّعه رعاتها منذ عقودٍ. وبين “العمليتين”، “السلمية” و”التصالحية”، عاشت هذه الساحة سنواتها الأخيرة حائرةً بين وهم الأولى وكارثيتها وحلم الثانية وانقشاعات سراباتها المتكررة، حيث غدت سلسلة من لقاءاتٍ موسميةٍ كرنفالية تنتهي عادةً بتشييعها إلى رحمة التأجيل ليعاد بعثها مرة أخرى إن دعت الضرورات التكتيكية لذلك، فبات حديثها مزمناً، كما يقولون في المثل الشعبي، “مثل حكاية إبريق الزيت”.

آخر آحاديث المصالحة كان لقائها الأخير في القاهرة الذي لم تنتهي ما رافقته من جلبةٍ بعد. قبل انعقاده ضُخ في الساحة بوابلٍ من محفزات التفاؤل، والإيحاء بأنه في هذه المرة سيكون له ما بعده، فبات يؤمل بأن يكون آخر لقاءات وجبات التكاذب المعتادة، أو يمكن أن يأتي أُكله تصالحاً وتوحيدياً، أو لم شملٍ وإنهاءً لانقسام، إلخ هذه المفردات، التي سبق وأن مُسحت كالعملة القديمة لكثرة تداولها، إذ لم تنفَّذ التوافقات المتعلقة بها سابقاً، بل كانت لا تلبث أن تنحر على مذبح الجنوح التسووي التصفوي، أو برسم انتظار عودة التفاوض المرتجى مع المحتل كلما لاحت بارقة له ولو كانت خلبيةً.

قيل أنهم ذاهبون هذه المرة للتوافق على جدولٍ زمنيٍ، للإتفاق على ماكان دونه خرط القتاد، وهو التالي : إستكمال بحث مسألة إقرار إنتخابات المجلس الوطني… هذا الغائب المنسي الذي أكلت عليه عقود الإهمال وشربت، ولا يستحضر رميمه إلا كشاهد زور أو لتمرير إفكٍ تسووي… وكذا الشروع في تسجيل الناخبين. وتشكيل الحكومة التصالحية العتيدة، وحدد لهذا التشكيل موعداً هو البداية من شهرنا القادم المقترب. بالإضافة إلى “تفعيل” ما دعيت ب”لجنة الحريات والمصالحة المجتمعية”. وشارك في بث التفاؤل إلى جانب طرفي اللقاء جوقة الفصائل التصالحية الديكورية المشاركة، والتي قال قائلها يوماً واصفاً مشاركاتها في مثل هكذاس اللقاءات ب”شاهد ما شافشي حاجة” ! باختصار قالوا إن هذا ألإجتماع سوف يحسم المدرج على جدول أعماله، وعلى الخصوص تشكيل الحكومة وموعد إجراء الإنتخابات… إنتهى آخر الهمروجات التصالحية ولم تحسم ولا مسألة وأحدة مما زخر به هذا الجدول المفترى عليه… فشل اللقاء، ولكنه لم يعدم توديعه بالمقولة التي إعتادت أطرافه تشييع مثيلاته بها… لقد سجَّل المرحوم تقدماً !

ما تقدم يبشرنا بأن مسلسل هذه “العملية التصالحية ” الجارية وقائعها علي هذا المنوال سوف تترى حلقاته وتتعاقب مواسمه لردحٍ غير معلومٍ من الزمن ألإنقسامي السائد. هذا ليس من قبل التشاؤم بقدر ما هو قراءة موضوعية للحال… لماذا؟

لأننا ازاء حوارات تصالحية تكتيكية تتم الدعوة إليها لحاجة طرفيها لمثلها، وهما اللذين لا يجمعهما جامع سوى محاولة التملص من مسؤلية ما يعرف في الساحة بالإنقسام، وممارسة حديثها كلعب مطلوب في الوقت الضائع. طرف، كما قلنا في مقالنا السابق، هى عنده سلفاً برسم التأجيل بانتظار لوصول غيثٍ تسووي وهمي قد تأتي به رياح أوباما القادم لزيارة الكيان الصهيوني وبعض دول المنطقة آواخر الشهر الذي سيهل، والطرف المقابل بانتظار ما ستفسر عنه التحولات المعتملة في المنطقة… أي أن عملية تجاذبها تتم بين طرفين يفترض أنهما نقيضين، واحدهما لا ينكر أنه المساوم الذي لا يكل ولا يمل من الإعلان بأن حل القضية بالنسبة له له مسرب واحد ماثم سواه وهو التفاوض والتفاوض والتفاوض باعتباره نهجاً اختطه ولا يروم عنه بديلاً ولا يستطيع، لدرجةٍ أن يصفه كبير مفاوضيه في ذات كتابٍ بأنه حياة ! وثانيهما يرفع شعار المقاومة وبالتالي يفترض أنه لا يعارض نهج الأول فحسب، بل يرفضه ويواجهه….

المشكلة أن لا أحد في الساحة الفلسطينية لا يعلم أنه مامن مصالحةٍ حقيقيةٍ تتم، ولا من نسيجٍ وحدويٍ يمكن إعادة لحمته، أوحدةٍ وطنية ٍترتجى، إوإنهاءٍ لإنقسام ينتظر، دون توافق كافة قوى الساحة على برنامج حدٍ أدنىٍ وطنيٍ مقاومٍ، وعودةٍ نهائيةٍ للتسوويين من تغريبة “العملية السلمية” والخروج الكامل من آسار القفص الأوسلوي… الكل يعلم هذا علم اليقين، ومع هذا يظل مسلسل “عملية المصالحة ” تتوالى حلقاته على ذات المنوال وكعادته يظل شبح “العملية السلمية” لها بالمرصاد!