سورية ومرحلة ما قبل التفاوض… المهل والمتطلبات؟

 بقلم العميد الدكتور امين محمد حطيط

لم يعد خافيا على عاقل بان الازمة السورية دخلت مرحلة بات المعتدي فيه مقتنعا بوجوب البحث عن “مخرج غير عسكري” ينهي المواجهة المتعددة الاشكال التي دارت على الارض السورية لما يقرب من السنتين، وهي المواجهة التي فرضها عدوان شن على سورية بقيادة غربية وادارة اقليمية وتمويل وتنفيذ من انظمة ومنظمات وهيئات عربية واسلامية ارتضت ان تكون اداة بيد اعداء الامتين العربية والاسلامية، وان تنفذ عدواناً غير مسبوق بوحشتيه واسالبيه وعمليات التضليل واستعمال الاسلام واحكامه بعد تحريفها وتشويهها، استعماله اداة للتأطير وشد العصب وحشد الطاقات من اجل القتال الاجرامي ضد النظام والشعب السوري المقاوم الذي استمر رغم كل الضغوط رافعا راية فلسطين والحقوق الوطنية والقومية التي اغتصبتها اسرائيل بدعم غربي.

والان باتت ملامح المرحلة المقبلة تتضح بما ينبئ بان هناك قناعة لدى الجهة المعتدية بان هجومها فشل وبان الامور بدأت تفلت من يدها والتدحرج لتهدد مصالحها بعيدا عن الميدان السوري، خاصة بعد ان انخرطت في المواجهة بشكل مباشر علني او غير مباشر مستور، اطراف دولية ترى ان موقعها ومستقبل سياستها الدولية في سقفها وفعاليتها مرتبط بشكل وثيق بما تؤول اليه الامور في سورية، ولذلك كان قرارها بعدم السماح للعدوان الغربي بتحقيق اهدافه مهما كلف الامر وطال الزمن.

لكل ذلك بات الجميع يدركون ان السبيل الوحيد المتاح الان لانقاذ هذه المصالح او تلك بات يكمن في ايجاد مخرج دبلوماسي يضع حدا للمواجهة العسكرية ويعيد صياغة المشهد المشرقي على ضوء ما وصلت اليه تلك المواجهة، والسعي الى تحقيق بعضا من المصالح عبر الدبلوماسية ان امكن ذلك بعد ان عجز الميدان عن تحقيقها. وبالتالي بات حديث قيادة العدوان عن المخرج الدبلوماسي حديثا جديا يصدق الى حد بعيد، حديث ابتدأ بموقف اطلقه اوباما في خطاب القسم للولاية الثانية ثم التزم به وبالسعي اليه جون كيري الوزير الجديد للخارجية الاميركية، واكد على وجوب تنفيذه رئيس اركان الجيوش الاميركية الذي اعلن بوضوح ان لا حل عسكري في سورية من اي نوع وطبيعة وان المخرج الوحيد المتاح هو المخرج الدبلوماسي.

ومع هذا التحول الجديد للموقف الاميركي، ولان اميركا هي الممسكة بقيادة العدوان على سورية والتي بيدها ان تأمر هذا او ذاك من التابعين والادوات، فاننا نفهم الموقف الاميركي هذه المرة بانه ينحو الى الجدية ويضطر الى الدبلوماسية والتفاوض من اجل الخروج من الازمة، ولهذا بتنا على قناعة حذرة بان الازمة قد تكون الان دخلت مرحلة “ما قبل التفاوض الدولي” او مرحلة “الاعداد للتفاوض الجدي” الذي يمهد للحوار الداخلي، وهو امر لم يكن الا نتيجة لعناصر وعوامل افرزتها المواجهة وبات من غير الممكن تجاوز السقف الذي وصلت اليه، يحملنا على هذا الاعتقاد – اي ان الازمة دخلت في هذه “المرحلة التمهيدية ” – جملة مواقف ووقائع نذكر منها:

                    ·اقتناع اميركا بقوة النظام السياسي في سورية، وتمييزها بين القدرة على الهدم والقتل وبين اسقاط النظام واقامة النظام البديل، وقد ايقنت اميركا ان عوامل موضوعية وذاتية متعددة العناوين سورياً واقليمياً ودولياً تمنع وبشكل مطلق سقوط النظام، وفي المقابل تعلم اميركا ان عصابات الارهاب تستطيع ان تقتل وتدمر وتهجر ولكنها لا تستطيع ان تسيطر او تقيم نظامها في سورية، واذا كان في التدمير مصلحة لاسرائيل في المدى المنظور فانه سيرتد على اميركا سلبا في المدى الابعد خاصة وان العصابات الارهابية والتكفيرية باتت تتملص من السيطرة الاميركية ما اثار هواجس الغرب ومخاوفه، وما المواقف المستجدة فرنسياً وبريطانياً الا نتيجة هذه المخاوف التي عبر عنها الكسندر هيغ وزير خارجية بريطانية بقوله ان “ان سورية باتت محل تحشد الجهاديين في العالم وان هذا من شانه مستقبلا ان يهدد الامن الاوربي”.

                    ·فشل “جماعة الاخوان المسلمين” في الامساك بالبلاد التي توصلت الى حكمها – في كل من تونس ومصر حيث وصلت استلمت السلطة – وافتضاح امرها في اعين الشعب، وظهور الصراع الخفي بين الاخوان والسلفين الى العلن وجنوحهم الى ارساء انظمة الغائية كل ذلك كتل الشعب هنا او هناك بوجه الاسلامويين الدمويين ” وحال دون الاستقرار في البلدان التي سيطروا عليها، ما يقود الى القول بان نجاح هؤلاء في سورية الان بات بنطر الغرب امرا شبه مستحيل، حيث ان الشعب لن يختارهم عبر صناديق الاقتراع، وان السلاح الذي شهروه لن يوصلهم الى الحكم او يسقط النظام. وبالتالي ان الحلم باقامة دولة الاخوان الدينية حول اسرائيل لتبرر يهودية اسرائيل و ضمان وجودها الدائم انه حلم لن يتحقق.

                    ·ان المعركة التي تخوضها سورية هي معركة دفاعية من المستوى الرفيع المعقد، الى حد القول بانها معركة حياة او موت لانها معركة حرية و مصير، وبالتالي فان سورية الدولة والحكم و الشعب، والحلفاء معها يعلمون ان كلفة المواجهة اليوم مهما ارتفعت ستكون اقل من الثمن الذي يدفع في حال سقوط الدولة او تفككها تحت وطأة العدوان لذلك لا مجال للحديث عن توقف هذه المواجهة مهما طال امدها وتسليم البلاد للجهة الاستعمارية المقنعة باقنعة اسلاموية، ومع المخاوف التي ذكرناها في حال اطالة المعركة يكون البحث عن مخرج دبلوماسي هو الحل المنطقي.

لكل ذلك فاننا نميل الى التصديق بجدية الطرح الاميركي و الحديث الاميركي عن مخرج من الازمة تقود اليه الدبلوماسية، ولكن هذا لا يعني ان المعارك و المواجهات وارتكاب الجرائم والعمليات الارهابية بحق الشعب السوري ستتوقف غدا، اننا لا نقول بهذا لان للمرحلة الممهدة للمفاوضات خصائصها التي لا يمكن تجاهلها او القفز فوقها حيث لها متطلبات لا بد من تحققها منها:

                    ·وجوب معالجة العوائق التي تعترض الدخول الى قاعة المفاوضات، ما يعني اسقاط منطق رفض الحوار ورفض التفاوض والتحول اولا الى منطق التفاوض المشروط ثم الى االقبول بمبدأ التفاوض غير المشروط. وقد قطعت اميركا وادواتها اكثر من نصف الطريق هنا الى ان وصلت الى التسليم بمنطق الحل الدبلوماسي، والقبول بالتفاوض مع تحديد بعض الشروط التي ستسقط خلال المرحلة التمهيدية ايضاً.

                    ·حشد اوراق القوة الذاتية والمكتسبة ومحاولة تجريد الخصم من اوراقه او اضعافها، وهنا يكون التنافس على الحلفاء ومنع الخصم من الاستمرار في الاحتفاظ بتحالفاته، ونقرأ هنا في بيان ائتلاف الدوحة الاخير ما يشكل تطبيقا لهذين الامر لجهة مناشدة روسيا وايران بالابتعاد عن سورية الى اخر المعزوفة الممجوجة تلك، ثم تلفيق تهمة واكذوبة مشاركة حزب الله في القتال في سورية لتحقيق االغايات نفسها.

                    ·الضغط الميداني الى الحد الاقصى، لان التفاوض عادة ينطلق لتكريس ما يكون رسم في الميدان و لهذا تستميت العصابلت المسلحة في سورية، تستميت لتحقيق انجازات ميدانية هنا وهناك من اجل الاتكاء عليها و صرفها لاحقا مكاسب على طاولة التفاوض، وبهذا نفسر تلك الشدة في الميدان خاصة في الشمال والشمال الشرقي من سورية.

                    ·الحرب النفسية التي تتصاعد وتيرتها بشكل يحمل الاطراف او يدفعهم الى تنازل عن شروط تعرض قبل التفاوض، ويندرج في هذا القبيل ما روجته رئاسة اركان الجيوش الاميركية لجهة جهوز الخطط للتدخل العسكري في سورية (والحقتها بعبارة يبقى العمل الدبلوماسي هو الافضل) او ما روجت له وسائل اعلام العدوان عن حشد اكثر من مئة الف مسلح حول دمشق ثم اضافت ان المعركة مؤجلة.

بعد هذا قد يسأل سائل عن المهلة المعقولة للمرحلة التمهيدية تلك، وهنا و دون اغراق في التفاؤل او افراط في التشاؤم نقول، ان المفاوضات لن تبدأ الا بعد ان يتأكد الفرقاء المرشحين للدخول فيها بانهم وصلوا الى الحد الاقصى من الاوراق الممكنة سلبا او ايجابا، وبعد ان يقتنع الفرقاء المستبعدون عنها بان فعلهم مهما كان مؤثرا لن يعيق التفاوض ولن يؤثر على نتائجه، نقول هذا لاننا على يقين بان قسما من المتدخلين في الشأن السوري لن يكون لهم محل فعلي على طاولة التفاوض مثل قطر وسواها.

 وارتكازا على ذلك قد يكون تحديد مهل الانطلاق في التفاوض ضربا من المغامرة، لكن واستنادا الى معطيات موضوعية متصلة بممارسات القوى الفاعلة و جداول اعمالها، يمكن القول بان اواخر الشهر المقبل وبعد لقاء بوتين – اوباما المتوقع ان يحصل في الاسبوع الاخير من اذار المقبل، وبعد حلحلة منتظرة في الملف النووي الايراني و المتوقعة خلال الاسابيع الثلاثة المقبلة، بعد هذا يمكن القول بان المفاوضات ستنطلق بعد تحقق ما ذكرنا وعلى وقع قدر معين من لهيب النار التي لن تنطفئ كليا الا بعد توقف الدعم الخارجي لها، وهذا لن يكون الا بعد الاتفاق الدولي على الحل.

لكن يجب التذكير بان الحل الاتي والمرتقب الوصول اليه لن يكون من طبيعة القرار الدولي الذي يفرض على سورية، بل سيكون خياراً سورياً برعاية دولية، وبالتالي يكون العمل على مرحلتين: في الاولى تفاوض دولي لانتاج بيئة ملائمة لحوار السوريين وتمكينهم من الاتفاق ومنع تدخل المعرقلين وفي الثانية يكون حوار سوري يهدف الى انتاج صيغة تجمع النسبة الاعلى من السوريين. يكون في انتاج هذه البيئة الدولية تلك وما يعقبها من حل في سورية مصلحة للاطراف الدوليين المساهمين في انتاجها، تتمثل في منع تشكل خطر يتهدد مصالحهم القائمة في المنطقة والعالم، و تثبيت المصالح التي يطمحون اليها دون ان يكن ذلك على حساب سيادة السورية وقرارها المستقل.