تأليف جون بيركنز وترجمة بسام ابو غزالة.
الجزء الثالث
1975-1981
الفصل السابع عشر
المفاوضات حول قناة بنما
وغْراهَم غْرين
أوجدتْ السعوديةُ مِهَنا كثيرة، أما مهنتي فكانت ماضية قُدُما. لكنّ المؤكَّد أنّ نجاحاتي في تلك المملكة الصحراوية قد فتحت لي أبواباً جديدة. وما إنْ حلّ عام 1977، حتى كنتُ بنيتُ لي إمبراطوريةً صغيرةً تضمُّ من الموظفين حوالي عشرين مهنيا مقرُّهم الرئيسيُّ في مكتبنا في بوسطن، ومجموعةً من المستشارين من الدوائر والمكاتب الأخرى في شركة مين، منتشرين حولَ العالم، كما أصبحتُ أصغر شريك في تاريخ الشركة البالغ مئة سنة. وبالإضافة إلى لقبي ككبير الاقتصاديين، لٌُقِّبْتُ بمدير الاقتصاد والتخطيط الإقليمي. وكنتُ أُحاضرُ في هارفرد وأماكن أخرى، وكانت الجرائدُ تطلبُ مني مقالاتٍ حول الأحداث الراهنة.[i] كذلك كنتُ أملك يختاً شراعياً راسياً في ميناء بوسطن إلى جانب السفينة الحربية التاريخية “كُنْستِتْيوشن”، الملقّبة باسم “أُولد آيرُنْسايْد”، والمشهورة في إخضاعها القراصنةَ البربر بعد الحرب الثورية بمدة قصيرة. كنتُ قبل بلوغي الأربعين أقبضُ راتباً ممتازاً وأملكُ ثروةً واعدةً بوضعي في عداد الندرة من أصحاب الملايين. صحيحٌ أنّ زواجي تداعى؛ لكني كنتُ أقضي وقتي مع نساء جميلات ساحرات في قارات عدة.
جاء برونو بفكرةٍ لمحاولةٍ مبتكرةٍ في التنبّؤ: نموذجٍ اقتصاديٍّ رياضيٍّ معتمدٍ على كتابات رياضيٍّ روسي ظهر عند انعطاف القرن. ويتضمنُ النموذجُ تخصيصَ احتمالاتٍ ذاتيةٍ للتوقعات بأنّ بعضَ قطاعاتٍ محددةٍ من اقتصادٍ ما سوف تنمو. وقد استطعتُ أنْ أرى أن هذا يُمكنُ أن يكون أداةً مثاليةً لتبرير معدّلات الزيادة المنفوخة التي كنا نحبُّ أن نعرضها للحصول على قروض كبيرة. وقد سألني برونو أن أفكِّر فيما يُمكنني فعلُه بهذه الفكرة.
جئتُ إلى دائرتي برياضيٍّ شابٍّ من معهد مساشوستس للتقانة (إم.آي.تي)، هو الدكتور ناديبورام بْراساد، ووضعتُ تحت يده ميزانية. فقام، خلال ستة أشهر، بتطوير طريقة ماركوف للنماذج الاقتصادية الرياضية. ثم وضعنا معا سلسلة من الأبحاث الفنية التي عرضت ماركوف كطريقة ثورية للتنبؤ بأثر الاستثمار في البنية التحتية على النمو الاقتصادي.
كان لنا ما أردنا تماما: أداةٌ “تُثبتُ” علمياً أننا نُسدي خيراً إلى الدول بمساعدتها في طلب القروض التي لن تستطيع سدادها. أضفْ إلى ذلك أنه ما من أحد سوى اقتصاديٍّ رياضيٍّ ماهر يملك الوقت والمال يُمكنه فهمُ خفايا ماركوف المعقدة، أو مساءلةُ استنتاجاتها. وقد نُشرت أوراق البحث من قِبَلِ عدة منظمات محترمة، وقمنا بعرضها رسميا في مؤتمراتٍ وجامعاتٍ في عدد من الدول. فغدت الأوراقُ مشهورةً في نطاق المهنة كلِّها – ونحن معها.[ii]
التزمنا، عمر توريجُس وأنا، بكتمان اتفاقنا السري. تأكّدتُ من أنْ تكونَ دراساتُنا صادقة ومن أنّ توصياتنا تأخذ الفقراءَ بعين الاعتبار. وبالرغم من أنني كنتُ أسمع بعض الهمهمات من أنّ تنبؤاتنا في بنما لم تكن ملتزمةً بالمعايير المنفوخة المعتادة، بل كانت تشي بالاشتراكية، فالحقيقةُ أنّ شركة مين بقيت تكسب العقود من حكومة توريجُس. وقد تضمنت هذه العقودُ العقد الأول – تقديم خطط رئيسية مبتكرة تشمل الزراعة وقطاعات البنية التحتية الأكثر تقليدياً. كذلك كنتُ أراقبُ من بعيد حين بدأ توريجُس وجيمي كارتر يتفاوضان حول معاهدة القناة.
أثارتْ مفاوضاتُ القناة اهتماما كبيرا وعواطف جياشةً حول العالم. فقد كان الناس في كل مكان ينتظرون ليروا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفعل ما يعتقد سوادُ الناس في العالم أنه الحق – أي السماح للبنميين بالسيطرة – أو أنها بدل ذلك سوف تُعيد وضعَ “بيان المصير” بصيغةٍ عالمية، وهو الذي هزّه تهافتنا في الفيتنام. وقد بدا للكثرة من الناس أن رجلا معقولا وذا رحمةٍ قد انتُخِب لرئاسة الولايات المتحدة في الوقت المناسب تماما. بيد أن معاقلََ المحافظين في واشنطن ومنابرَ اليمين الديني كانت تصرخُ شاجبة. كيف لنا أن نتخلّى عن هذا الحصن الدفاعي الوطني، عن هذا الرمز الإبداعي الأمريكي، عن هذا الشريط المائي الذي يربط ثروات أمريكا الجنوبية بنزوات المصالح التجارية الأمريكية؟
في أثناء رحلاتي إلى بنما، كنت معتادا على النزول في فندق كنتننتال. لكنني في زيارتي الخامسة انتقلتُ إلى فندق بنما عبر الشارع بسبب أعمال التجديد في الكنتننتال والضجيج الذي يُحدثُه البناء. وقد انزعجتُ من ذلك التغيير في البداية – لأن الكنتننتال كان بيتي بعيدا عن بيتي. أما الآن فقد بدأتْ تأسرني الردهةُ الفسيحةُ حيث أجلس، بكراسيِّها من الخيرزان ومراوحها الخشبية المعلقة في السقف. وقد تخيلت فيها المشهدَ المُصوّرَ في فِلم الدار البيضاء، وتراءى لي أنّ هَمْفْري بوغَرْت سيدخل الردهة في أية لحظة. وضعتُ جانباً نسخة صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس حيث انتهيتُ للتو من قراءة مقال كتبه غْراهَم غْرين حول بنما، وحدّقت إلى تلك المراوح أتذكّر إحدى الأمسيات قبلَ سنتين تقريبا.
عام 1975، إذ كان عمر تورجُس يتكلمُ إلى مجموعة من البنميين ذوي النفوذ، قال متنبئاً، “فورد رئيسٌ ضعيفٌ، ولن يُعادَ انتخابُه.” كنتُ يومئذٍ من الأجانب القلة الذين دُعوا إلى ذلك النادي الأنيق ذي المراوح المعلقة في السقف. واستأنف قائلاً، “وهذا هو السبب الذي جعلني أقرِّرُ الإسراعَ في قضية القناة هذه. فقد آن الأوانُ للبدء في معركةٍ سياسيةٍ شاملةٍ لاستردادها.”
كان خطابُه موحياً لي. فعدتُ إلى غرفتي في الفندق وكتبتُ رسالة أرسلتُها لاحقاً إلى صحيفة بوسطُنْ غْلوب. وحين عُدتُ إلى بوسطن، هاتفني أحدُ المحررين على مكتبي طالباً أنْ أكتب مقالا عموديا. وفي العدد الصادر في 19 أيلول 1975 من تلك الصحيفة، ظهر مقالي “ليس للاستعمار مكانٌ في بنما عام 1975″، مستنفداً حوالي نصف الصفحة المقابلة لمقال المحرر.
ذكر المقالُ ثلاثةَ أسبابٍ محددةٍ لنقلِ مسؤوليةِ القناةِ إلى بنما. أوَّلُها أنّ “الوضعَ الحاليَّ غيرُ عادل – وهو سببٌ مهمٌّ لأي قرار.” وثانيها أنّ “المعاهدة الحالية تخلقُ مخاطر أمنيةً أسوأ بكثير مما لو نُقلت السيطرة إلى البنميين.” وقد استندتُ كمرجع إلى دراسةٍ وضَعَتْها “مفوضيةُ القناة البحرية”،* التي توصلتْ إلى نتيجةٍ مفادها أنّ “الحركة يمكن إيقافها لسنتين بقنبلة مزروعةٍ – على نحو يُمكن تصوره من قبل رجل واحد – في جانب سدِّ غاتُن”. وهي نقطةٌ أكد عليها الجنرال توريجُس في خطاب أمام الجمهور. وثالثُها أنّ “الوضع الحالي يخلق مشاكل خطيرةً للعلاقات ما بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وهي علاقات مأزومة أصلا.” وخلصتُ إلى ما يلي:
“إنّ أفضلَ وسيلةٍ لضمان عمل القناةِ باستمرارٍ وكفاءةٍ مساعدةُ البنميين في السيطرة عليها وتحمُّل مسؤوليتها. فإن قمنا بهذا، نكن فخورين بأننا ابتدأنا عملا يؤكد التزامنا بقضية تقرير المصير التي عاهدنا أنفسنا عليها قبل 200 عام. …
كان الاستعمارُ أمرا دارجا عند انعطاف القرن (بداية القرن العشرين) كما كان عام 1775. ولعل إقرار مثل هذه المعاهدة يُمكنُ فهمُه في سياق تلك الأزمان. أما اليوم فلا مبرر لها، ولا مكان للاستعمار عام 1975. وإذ نحتفلُ بمئويتنا الثانية، يجب أن نُدرك هذا الأمر ونتصرف بموجبه.”[iii]
كانت كتابةُ ذلك المقال خطوةً جريئة من جانبي، خاصّةً أنني قُبلتُ شريكاً في شركة مين، حيث يُتَوَقَّعُ من الشركاء أنْ يتجنبوا الصحافة، وبالتأكيد أن يمتنعوا عن نشر مقالات سياسية ناقدة في صفحات تحرير أكثر الجرائد احتراماً في نيو إنكلاند. وقد استلمتُ من خلال البريد المكتبي كمّاً هائلاً من الملاحظات البذيئة المشبوكة إلى نسخٍ من المقال، معظمها بلا توقيع. بيد أني كنتُ واثقاً من أنني تعرّفتُ على خطِّ أحدهم، هو شارلي إلِنغْويرث، مديرُ أول مشروعٍ لي في شركة مين، الذي مضى عليه أكثرُ من عشر سنواتٍ (مقارنةً بأقلَّ من خمسٍ لي) ولم يُصبحْ بعدُ شريكا. كان على ورقة الملاحظة صورة جمجمةٍ وحشيةٍ وعظمتين متصالبتين، وكانت رسالتُها بسيطة: “أحقّاً أنّ هذا الشيوعيَّ شريكٌ في شركتنا؟”
استدعاني برونو إلى مكتبه وقال، “لسوف تتلقي سيلاً من الاستهجان على هذا، فشركة مين محافظة إلى حدِّ كبير. لكنني أعتقد أنك بارع. توريجُس سيُحبُّها؛ وآملُ أنْ ترسل له نسخة منها. عظيم. أما هؤلاء المهرِّجون هنا في هذا المكتب، الذين يظنُّون توريجُس اشتراكيا، فلن يهتموا بالأمر ما دام العمل جاريا في مجراه.”
كان برونو محقّاً – كالعادة. كان الزمنُ عام 1977، وقد احتلّ كارتر البيت الأبيض، والمفاوضاتُ الجديةُ حول القناة جارية. وكان الكثرةُ من منافسي شركة مين قد التزموا الجانبَ الخاطئ فاُخرجوا من بنما، بينما تضاعفت أعمالنا. كنتُ جالساً في ردهة فندق بنما، وقد انتهيتُ للتوِّ من قراءة مقال كتبه غْراهَم غْرين في صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس.
كان المقالُ، “الدولةُ ذاتُ الحدودِ الخمسة”، قطعةً جريئةً تضمنتْ نقاشاً للفساد بين كبار الضباط في الحرس الوطني في بنما. وقد أشار الكاتبُ إلى أنّ الجنرال نفسه اعترف بمنحه الكثيرين من أركانه مزايا خاصّةً، كالمساكن الفخمة، لأنه “إنْ لم أدفعْ لهم أنا، فستقوم بذلك وكالة الاستخبار المركزية.” والإشارة واضحة في أنّ الاستخبارات الأمريكية كانت مصممةً على تقويض رغبات الرئيس كارتر، ومستعدةً، إنْ تطلّب الأمر، لرشوةِ القادة العسكريين البنميين لكي يُخرِّبوا مفاوضات المعاهدة.[iv] لم أستطع أن أصرف عن بالي ما إذا كانت الواوياتُ قد بدأت فعلاً تُحاصر توريجُس.
كنتُ رأيتُ صورةً في صفحة “الناس” في مجلة تايم أو مجلة نيوزويك لتوريجُس وغْرين جالسَيْن معا. وقد أشار التعليقُ إلى أنّ الكاتب كان ضيفاً خاصّاً وبات صديقا. تساءلتُ عن شعور الجنرال تجاه هذا الروائيِّ، الذي يبدو أنه يثق به، وقد كتب مثل هذا الانتقاد.
أثار مقالُ غْراهَم غْرين تساؤلا آخر ذا علاقةٍ بذلك اليوم من سنة 1972 حين جلستُ إلى طاولة القهوة مع توريجُس. في ذلك الوقتُ، افترضتُ أن توريجُس كان مدركاً أنّ الغايةَ من لعبة المساعدات الخارجية أنْ تجعله ثرياً بينما تَغُلُّ بالدَّيْن بلادَه. كنتُ واثقاً من أنّ العملية تستند إلى افتراض أنّ لدى رجال السلطة قابليةً للإفساد، وأن قراره ألا يبحثَ عن منفعة شخصيةٍ – بل أن يستخدم المساعدة الخارجية لنفع شعبه – سوف يُعتبرُ تهديداً قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالنظام برمته. كان العالمُ يُراقبُ هذا الرجل؛ فقد كانت لتصرفاته عواقبُ جازت بنما بعيدا، ولهذا لن يُستَخَفَّ به.
تساءلتُ كيف يكون ردُّ فعل سلطة الشركات إذا ساعدت القروضُ الممنوحة لبنما الفقراءَ ولم تُسهمَْ في تراكم الديون المستحيلة. والآن أتساءل إن كان توريجُس ندم على الصفقة التي اتفقنا عليها هو وأنا في ذلك اليوم – ولم أكن متأكداً من شعوري أنا تجاه تلك الصفقات. فقد تراجعتُ عن دوري كقاتل اقتصادي، ولعبتُ لعبتَه هو لا لعبتي أنا، متقبِّلا إصراره على الأمانة مقابل الحصول على مزيدٍ من العقود. كان هذا، من وجهة نظرٍ اقتصاديةٍ محضة، قراراً تجارياً حكيماً لشركة مين. بالرغم من هذا، فإنه لم يكنْ متماهياً مع ما غرسته كلودين في نفسي، إذ لم يكن يُسهمُ في تقدم الإمبراطورية العالمية. فهل أُطلِقَ العِنانُ الآن لبنات آوى؟
تذكّرتُ أنه عنّ ببالي حين غادرتُ منزل توريجُس في ذلك اليوم بأن تاريخ أمريكا اللاتينية مليءٌ بالأبطال القتلى. فالنظامُ القائمُ على إفساد الشخصيات العامة لا يرأفُ بالشخصيات التي ترفض الفساد.
ظننتُ أن عينيَّ تخادعانني حين مرّ شخصٌ مألوفُ الوجه يمشى بطيئاً في الردهة. فللوهلة الأولى تشوّش ذهني إذ خِلتُه هَمْفْري بوغَرْت. لكنّ بوغَرْت قضى نحبه منذ زمن بعيد. ثم عرفتُ الرجل الذي مرّ بي على مهل. إنه أحد أركان الأدب الإنكليزي الحديث، مؤلف السلطة والمجد، الممثلون الهزليون، رجلنا في هافانا،* بالإضافة إلى ذلك المقال الذي وضعته إلى جانبي على المائدة. إنه غْراهَم غْرين، وقد تردد قليلا ناظرا حوله، ثم مضى قُدُماً نحو المقهى.
انتابني دافعٌ أن أناديه أو أن ألحق به؛ لكنني لم أفعل. فقد شعرتُ بصوتٍ في داخلي يقول إنه في حاجةٍ إلى أن يصفو لنفسه، وبصوتٍ آخر يقول إنه سيُشيحُ بوجهه عني. حملتُ صحيفة نيويوركرِفيو أُف بُكس وفوجئتُ بعد لحظةٍ أنْ وجدتُني أقفُ في مدخل المقهى.
كنتُ قد تناولتُ فطوري في ساعةٍ مبكرةٍ من ذلك الصباح، فنظر لي كبير النوادل نظرة مستغربة. أجلتُ بصري ورأيتُ غْراهَم غْرين يجلسُ وحده إلى مائدة بالقرب من الحائط.
أشرتُ إلى المائدة المجاورة له، وقلتُ للنادل، “هناك، أودُّ أنْ أتناول فطوراً ثانياً هناك.” كنتُ دائما كريماً في دفع الإكراميات، فابتسم لي النادل وقادني إلى تلك المائدة.
كان الروائيُّ مستغرقاً في قراءة جريدته، أما أنا فطلبتُ قهوةً وهلاليةً بالعسل. كنتُ أودُّ أنْ أكتشف أفكار غْرين عن بنما، وعن توريجُس، وعن مسألة القناة، لكنني لم أجد وسيلةً للبدء في مثل هذه المحادثة. ثم رفع نظره ليرتشف رشفةً من كأسه، فبادرتُه بالقول، “أرجو المعذرة.”
حملق بي – أو هكذا بدا لي. وقال، “نعم؟”
“أكره أن أتطفّل. أظنُّك غْراهَم غْرين، ألست هو؟”
“بلى، أنا هو حقا.” وابتسم بحرارة مضيفاً، “معظمُ الناس في بنما لا يُميِّزونني.”
واسترسلتُ في القول إنه الروائيُّ المفضّلُ عندي، ثم أجملتُ له تاريخ حياتي، بما في ذلك عملي مع شركة مين واجتماعاتي بتوريجُس. فسألني إنْ كنتُ المستشار الذي كتب مقالا عن خروج الولايات المتحدة من بنما. “في بوسطن غلوب، إنْ لم تخنّي الذاكرة.”
شعرتُ بالإطراء.
فقال، “جريءٌ منك ما فعلتَ، خاصّةً بالنظر إلى منصبك. لمَ لا تجلس معي؟”
انتقلتُ إلى مائدته وجلستُ معه زهاءَ ساعة ونصف الساعة. فتبيّن لي من دردشتنا سويّاً مدى قربه من توريجُس، إذ أحياناً ما كان يتكلّمُ عن الجنرال كأبٍ عن ولده.
قال، “دعاني الجنرالُ إلى كتابة كتابٍ عن بلده، وهذا بالضبط ما أفعل. لن يكون قصّاً خياليا – سيكون خارج نطاق ما أكتب في العادة.”
سألتُه عن سبب كتابته الرواية بدل الكتابة الواقعية، فقال، “الرواية الخيالية أسلم. فمعظم موضوعاتي مثيرةٌ للجدل. فيتنام. هاييتي. الثورة المكسيكية. والكثرةُ من الناشرين يخشَوْنَ نشرَ الكتابة الواقعية حول هذه الأمور.” ثم أشار إلى صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس حيث كانت ملقاةً على المائدة التي أخليت، وقال، “مثلُ هذه الكلماتِ يُمكنُ أنْ تُخرِّبَ كثيراً.” ثم ابتسم وأضاف، “أنا أيضاً أُحبُّ كتابةَ القصّ الخياليّ، فهي تمنحني حرية أوسع بكثير.” ثم نظر لي بتأمُّل، وأضاف، “المهمُّ أنْ تكتبَ عن أشياء مهمّة، مثل مقالك عن القناة في بوسطن غلوب.”
كان إعجابُه بتوريجُس واضحاً. وقد بدا أنّ باستطاعة رئيس دولة بنما أنْ يُثير إعجابَ روائيٍّ بقدر ما يُثير إعجاب الفقراء والمحرومين. وكان واضحاً أيضاً خوفُ غْرين على حياة صديقه.
قال، “إنه لمسعىً ضخمٌ أنْ تُنافسَ ذلك العملاق في الشمال.” وهزّ رأسَه آسفاً، ثم قال، “أخافُ على سلامته.”
وإذ أزف وقتُ مغادرته، وقف ببطءٍ وصافحني قائلا، “عليّ أن ألحقَ بالطائرة إلى فرنسا.” ثم حدّق إلى عينيّ وقال، “لمَ لا تكتبُ كتابا؟” وأومأ لي إيماءةً مُشجّعة قائلاً، “إنه في نفسك. ولكنْ تذكّرْ أنْ تجعله عن أشياء مهمة.” ثم استدار ومضى في سبيله، لكنه وقف وعاد بضع خطواتٍ إلى المطعم، وقال، “لا تقلق. سوف ينتصرُ الجنرال. سوف يستعيدُ القناة.”
بلى، لقد استعادها توريجُس. ففي ذلك العام، 1977، نجح في تفاوضه حول معاهدةٍ جديدة مع الرئيس كارتر انتقلت بموجبها منطقةُ القناة والقناةُ ذاتُها إلى السيادة البنمية. وكان على البيت الأبيض أنْ يُقنع الكنغرس بالتصديق عليها، مما أثار معركة طويلةً شاقّة. وفي نهاية الأمر فاز التصديق على المعاهدة بصوتٍ واحدٍ أحد. غير أن المحافظين أقسموا على الانتقام.
حين ظهر كتاب غْراهَم غْرين، الوصول إلى معرفة الجنرال،* بعد عدة سنوات، كان الإهداءُ “إلى أصدقاء صديقي، عمر توريجُس، في نيكاراغوا والسلفادور وبنما.”[v]
[1] منذ مظاهرات إسقاط حلف يغداد 1954 كان أوسع معتقل هو أل إتش 4 الذي اسسه الاستعمار البريطاني، ثم جاءت حملة 1965.
* Interoceanic Canal Commission
* The Power and the Glory, The Comedians, Our Man in Havana.
* Getting to Know the General
[i] راجع على سبيل الامثال:
John M. Perkins, “Colonialism in Panama Has No Place in 1975,” Boston Evening Globe, Op-Ed page, September 19, 1975; John M. Perkins, “US-Brazil Pact Upsets Ecuador,” The Boston Globe, Op-Ed page, May 10, 1976.
[ii] للاطلاع على أـمثلة حول الأوراق التي كتبها جون بيركنز في مجلات تقنية، راجع:
John M. Perkins et al, “A Markov Process Applied to Forecasting, Part I-Economic Development” and “A Markov Process Applied to Forecasting, Part II-The Demand for Electricity,” The Institute of Electrical and Electronics Engineers, Conference Papers C 73 475-1 (July 1973) and C 74 146-7 (January 1974), respectively; John M. Perkins and Nadipuram R. Prasad, “A Model for Describing Direct and Indirect Interrelationships Between the Economy and the Environment,” Consulting Engineer, April 1973; Edwin Vennard, John M. Perkins, and Robert C. Ender, “Electric Demand from Interconnected Systems,” TAPPI Journal (Technical Association of the Pulp and Paper Industry), 28th Conference Edition, 1974; John M. Perkins et al., “Iranian Steel: Implications for the Economy and the Demand for Electricity” and “Markov Method Applied to Planning,” presented at the Forth Iranian Conference on Engineering, Pahlavi University, Shiraz, Iran, May 12-16, 1974; and Economic Theories and Applications: A Collection of Technical Papers, with a foreword by John M. Perkins (Boston: Chas. T. Main, Inc. 1975)
[iii] John M. Perkins, “Colonialism in Panama Has No Place in 1975,” Boston Evening Globe, Op-Ed page, September 19, 1975.
[iv] Graham Green, Getting to Know the General (New York, Pocket Books, 1984), pp 89-90
[v] Green, ibid.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.