عبداللطيف مهنا
عرفت الأيام الأخيرة إرتفاعاً في منسوب الحديث عن إنتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثةٍ متوقعةٍ. الغضبة الجماهيرية التي عمت الضفة وغزة خلال مظاهرات التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، أو “إنتفاضة البطون الخاوية “، وفق مابات يطلق على إضرابهم، واشتداد هذه الغضبة في مظاهرات تشييع الأسير الشهيدعرفات جرادات، الذي استشهد إثر تعذيبه إبَّان التحقيق معه، عبَّرت عن حالةٍ شعبيةٍ تشى بما يكفي من المسببات المباشرة لهذا الإرتفاع، وحتى الجزم لدى بعض المتوقعين باقتراب إندلاعها. وذهب البعض إلى احتساب أن هناك ماينوف قليلاً عن العقد بين اندلاع إنتفاضة فلسطينية وما تليها وأنه الآن جاء أوان الثالثة.
العدو بدوره استعد للمتوقع الذي يخشى وقوعه. وضع قواه الأمنية في في حالةٍ قصوى من الطوارىء، ونشر جنده وعسسه في مختلف الأماكن وعديد المواقع، وبات حديث الإنتفاضة على رأس تحليلات وسائل إعلامه والمتصدر لتصريحات سياسييه وأمنييه على السواء. سارع للأفراج عن أموال السلطة وأرفق هذا بمطالبتها بالقيام بمسؤلياتها، التي تعني عنده المسارعة إلى تطويق الغضبة الجماهيرية ومحاولة إستيعابها ومنع تطوّرها. السلطة، على لسان رئيسها، حمَّلت الإحتلال مسؤلية نشر الفوضى في الضفة، وهناك مايشي بأنها سوف تعمد إلى تحويل قضية الآسرى إلى مسألةٍ تفاوضيةٍ في أية عودةٍ محتملةٍ لطاولة المفاوضات هى تأمل أن تأتي بوارقها مع إطلالة أوباما على المنطقة نهايات شهرنا هذا. لأن مسألة إطلاق عددٍ ما من الأسرى من المعتقلات مثلاً، سوف يسهِّل لها العودة التي ترتجيها لما تدعوها “عملية السلام”، حتى وإن عمد المحتل، كعادته، إلى إعتقال عددٍ آخر أكبر من المناضلين كبديلٍ عمن أطلق سراحهم، و إعادة إعتقال من أُفرج عنهم لاحقاً!
ماتقدم يطرح سؤاله المستوجب وهو هل نضجت فعلاً كافة الظروف المسببة والمواتية لاندلاع هذا الإستحقاق النضالي المرتقب ؟
يمكن الإجابة بلا تردد، أن كافة الظروف الموضوعية والمتراكمة لاندلاع إنتفاضةٍ شعبيةٍ مستحقةٍ في الضفة تحديداً هي متوفرة منذ أمدٍ في ظل احتلال يصادر الأرض والهواء واللقمة والهوية والحلم بل الحياة وكل ما تعنيه كلمة وطن، وحوَّل ماتبقى منه إلى كانتونات ومعازل أشبه بالمعتقلات الكبرى، يسعى عبر الحواجز العسكرية والأسوار والتهويد الزاحف، وغارت المستعربين، إلى تحويل حياة إنسانها إلى جحيم تضطرد فيه معاناة المقهورين الصامدين داخله، بحيث بات كل فلسطيني فيها إما مشروع لشهيدٍ أو أسيرٍ أو مبعدٍ. ناهيك عن تبدد الأوهام التسووية التي جرى ضخها لأكثر من عقدين وكانت أحد العوامل الكارثية التي نجمت عنها مثل هذه الظروف المشار إليها والسائرة قدماً إلى الأسوأ. بيد أن العوائق الموضوعية أيضاً لهذا الإندلاع هى حاضرة ومتوفرة ولايستهان بها، وفي المقدمة منها جاري التنسيق الأمنى وفق الترتيبات الأوسلوية مع الإحتلال، والذى قرنه ضمنياً، كما أشرنا، بإفراجه عن أموال السلطة، بدعوته لها بالقيام بمسؤلياتها في حفظ الإستقرار، بمعنى عدم السماح بالتصعيد الشعبي المنتفض ومحاولة إحتوائه.
من جانبها السلطة أُحرجت ولامن سبيلٍ لها سوى التكيف مع الغضبة الجماهيرية ومجاراتها ولو لفظياً، مع الإستعداد، الذي أشرنا إليه، لتوظيفها فيما قد تأتي به زيارة أوباما لفلسطين المحتلة من مأمولٍ تفاوضيٍ. ولاننسى أنها أصلاً لاتوافق إلا على “مقاومة شعبية” تسهم في دعم منطقها التسووي، ولاترتقي أكثر من مايمكن وصفه بالمقاومة على الطريقة البلعينية ضد قطعان المستعمرين والأسوارالتهويدية، أومدينة الشمس وما شابه، لأن أي مقاومةٍ شعبيةٍ ذات طبيعةٍ جماهيريةٍ مواجهةٍ ومتصاعدةٍ قد تؤدي إلى إنتفاضةٍ شعبيةٍ شبيهةٍ بالإنتفاضتين السالفتين، كما قد نمى من بوادر الغضبة الجماهيرية الراهنة، يُخشى من فقدان السيطرة عليها وبالتالي عدم القدرة على إحتوائها.
بقى أن نقول، نعم، إن انتفاضة الأقصى قد أشعلت شرارتها الأولى زيارة شارون المستفزة لساحة المسجد الأقصى المبارك، وهذه المتوقعة إن اندلعت فلا من جدالٍ في أن مطلق شرارتها بامتيازٍ هم الأسرى، لكن يجب قبل المسارعة إلى إطلاق مسمى إنتفاضة الأسرى عليها عدم إغفال حقيقة لايجدر إغفالها وهى الظروف الموضوعية التي جعلت من إندلاعها إستحقاقاً نضالياً مستوجباً، تماماً كما كان الحال بالنسبة لسابقتيها… شعب وصلت حدود معاناته تحت نير استعمارٍ إستيطانيٍ إحلاليٍ فاجرٍ منسوباً يفوق التصور ولم يشهد له التاريخ مثيلاً، وما قضية الأسرى المشتعلة إلا واحدة من وجوه معاناته المتعددة وتستحق أن تكون في المقدمة منها…هل نحن أزاْ إنتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثةٍ بيَّنا الظروف والعوائق الموضوعية المستوجبة والمعيقة لها ؟؟
… الجواب يظل رهناً للمفاجآت النضالية لدى شعبٍ من عاداته الكفاحية مفاجأة الجميع…