التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية


د. منذر سليمان

 

مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

واشنطن، 8 آذار 2013

 

المقدمة:

        غيب الموت الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، الذي تحدى سياسة الهيمنة التي مارستها الولايات المتحدة ليس في الحديقة الخلفية لها فحسب، بل على المستوى الكوني. ومن المنتظر ان تتمحور الاولويات السياسية المقبلة على مرحلة من سيخلف تشافيز.

        بعد سعي حثيث وممنهج للادرات الرئاسية الاميركية المتعاقبة بعدم السماح لمناقشة سياسة اغتيالاتها باستخدام طائرات الدرونز، وعزلها عن التداول العام، تجددت الاهتمامات الاعلامية بالترافق مع ترشيح الرئيس اوباما لجون برينان لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية، والاعلان عن بعض الوثائق بالغة السرية التي ترسم استراتيجية الاغتيالات.

        سيستعرض قسم التحليل بروز دور منظمة اللوبي اليهودي – ايباك في معركة معارضة مرشحي الرئيس اوباما، والتعرف على اساليبها في استقطاب وغسل دماغ العناصر الواعدة في المرحلة الجامعية لتسلم مناصب قيادية، واستثمار ذلك الدور لخدمة اهدافها في احكام القبضة على السياسة الاميركية بشكل عام، ومنطقتنا العربية بشكل خاص. كما سيمر التحليل على اساليب اللوبي المتبعة في الظهور بمظهر “النأي بالنفس” عن معارضة ترشيح تشك هيغل لمنصب وزير الدفاع، الذي شكل الواجهة المعلنة لسياستها بينما حقيقة الامر كانت تدور في الاصطفافات من خلف الكواليس، وايهام هيغل ان “عدم معارضة ايباك” لترشيحه يقتضي النزول عند بعض المتطلبات لخدمة “اسرائيل.”

ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث

        “الدروس المستفادة من الربيع العربي والتحديات المنظورة،” كان عنوان ندوة عقدها مركز ويلسون Wilson Center منطلقا من فرضية ان غياب دولة المؤسسات تقود الى “افراط الاعتماد على النصوص الدستورية في المراحل الانتقالية.. اذ ان الشعوب العربية تفتقد لتراث ولوج النظام الديموقراطي” بالطرق السلمية. ومضى يعدد مزايا “وضوح النصوص الدستورية.. سيما وان فريقي الاحزاب الدينية والعلمانية على السواء لا يحترف ممارسة التعددية السياسية.” وخلص بالقول ان لكل بلد ظروفه الخاصة، الا ان “مسار التطور سينمو ببطء شديد بالنظر الى ان المنطقة برمتها غير معتادة على رؤية التعددية السياسية او النظام الانتخابي.”

        معهد كارنيغي Carnegie Endowment سلط الاضواء على الروابط بين الحريات السياسية والامن الاقتصادي محذرا من ان “الاستمرار في اعتماد النماذج المجربة للعقدين الماضيين” من شأنه تقويض الاصلاحات الاقتصادية المرجوة، والتي ينبغي ان “تشمل المستويات السياسية… وتضافر العناصر السياسية والاقتصادية في العمل سويا لتنمية المنطقة.”

        جولة وزير الخارجية جون كيري في المنطقة ومحورية الوضع السوري في جدول اعمالها كانت محطة اهتمام مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation بالتركيز على أهمية دور”العامل التسليحي لاحداث التغيير المرجو لمستقبل سورية.” وحذرت من ان نجاج الجولة “يستند الى عامل مدى اقناع الرئيس اوباما لتقديم وسائل دعم وامدادات اكبر للمجموعات غير الاسلامية ضمن قوى المعارضة السورية بغية التعجيل في الاطاحة (بالرئيس) الاسد وتحييد نفوذ المتطرفين الاسلاميين” في المرحلة المقبلة من سورية.

        معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War اصدر دراسة بعنوان “نظام الاسد: من مكافحة التمرد الى الحرب الاهلية،” يزعم فيها ان الرئيس السوري “يخسر الحرب لمكافحة التمرد،” اذ لم يستطع استخدام كافة قواته العسكرية مما دفعه “للاعتماد حصرا على التشكيلات الموالية له دون منافس.” واستدرك بالقول انه بصرف النظر عن ظهور بعض الاعياء على اداء القوات السورية المسلحة، فان “المواجهات وفرت لها خبرة ميدانية فريدة وما تبقى منها من قوات تشكل التشكيلات الاكثر اخلاصا وولاء للنظام.”

        ناشد معهد الدراسات اليهودية لشؤون الامن القومي JINSA الولايات المتحدة التدخل “لانهاء هيمنة حزب الله على لبنان.. وقد يتطلب الامر انخراط ديبلوماسي مكثف للي اذرع بعض القوى.. سيما وان واشنطن تحظى بمكانة مميزة للتأثير على باريس، وعليها استغلال تلك الميزة دون تردد.” كما طالب واشنطن “بتهدئة خواطر فرنسا وقلقها من مصير قواتها لحفظ السلام في الجنوب اللبناني والعمل على انهاء التفويض بعمل “اليونيفيل” رسميا.. والا تدع الفرصة الراهنة تذهب سدى.”

        بينما تناول معهد الشرق الاوسط Middle East Institute البعد الفلسطيني في الازمة السورية الذي تحول من “دور محايد الى انخراط فاعل مع طرفي الازمة،” محذرا من “التداعيات الوخيمة على الفلسطينيين في حال سقوط الحكومة السورية.” واشار ايضا الى الاجراءات الاردنية “التي تقيد حركة الفلسطينيين وعدم السماح لهم بالاقامة في الاردن” هروبا من ويلات الحرب، الامر الذي “يعرض الفلسطينيين عموما لمخاطر اعلى، بصرف النظر عن اماكن تواجدهم ان كانوا في غزة او سورية او الضفة الغربية.”

        تجدد مطالب مقاطعة اسرائيل كان محطة انتقاد مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations زاعما ان “اجراءات المقاطعة تعاكس جهود السلام.. كما ان المقاطعة الشعبية العربية لاسرائيل تؤذي الفلسطينيين، سيما وان عددا من الائمة (المسلمين) يرحبون بزيارة العرب الى القدس.” وحث المجلس على اتخاذ اجراءات من شأنها “أنسنة – اضفاء الطابع الانساني – على اسرائيل لدى العرب – واستغلال نفوذ حلفاء الولايات المتحدة بين الاسلاميين للتصدي للنزعات المناهضة للسامية في المناهج الدراسية، وخطب صلوات يوم الجمعة، والسماح للمواطنين العرب بالزيارة والاتجار مع اسرائيل..”

        نتائج الانتخابات النيابية في الكنيست كانت موضع اهتمام معهد واشنطن Washington Institute الذى اعرب عن اعتقاده ان دخول “حزبين جديدين من الهواة السياسيين (ياش عتيد وحزب نفتالي بينيت).. قد يعزز موقف المؤسسة العسكرية ضد ايران،” بالزعم ان المؤسسة تنوي مواكبة السياسة الاميركية “قدر الامكان.”

        اشاد المعهد الاميركي للسلام U.S. Institute of Peace بما اسماه فضائل الربيع العربي على ليبيا اذ “شرع المسؤولون الرسميون هناك للاقرار بانتهاكات الحقوق الانسانية الجارية.. وعزمهم على التصدي لها.” وحث الليبيون على الاستمرار في تضافر الجهود المدنية مع السلطات الرسمية للتصدي لتلك الظاهرة.

        بالتساوق مع السياسة الاميركية لشيطنة ايران، استضاف مركز ويلسون Wilson Center ندوة للاطلاع على نتائج استطلاعات للرأي العام العربي اجراه “جيمس زغبي” مع افول العام 2012. وشمل الاستطلاع 17 دولة عربية وثلاث دول اخرى للاستدلال على النبض الشعبي حول “النظرة لايران وبرنامجها النووي” وقضايا اخرى متعلقة بتراثها وتركيبتها السكانية. وجاء في احدى النتائج ان الشعوب العربية “تنظر بايجابية عامة للموقف الايراني من الامبريالية والصهيونية.. بينما بدأ تدهور المشاعر المؤيدة بعد حرب تموز عام 2006، مصحوبا بموقف ايران من البحرين وسورية والعراق، واجراءاتها المناهضة للحركات الخضراء (الربيع العربي) وطموحاتها النووية..” بالمقابل، اشار الاستطلاع الى “تنامي الدور التركي في المنطقة رافقه تطوير ايجابي في النظرة العامة.”

        بينما حذرت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies من تحكم “دول معادية بممرات الطاقة العالمية،” كناية عن التهديدات الايرانية لاغلاق مضيق هرمز امام الملاحة البحرية. وانطلاقا من هذا التأسيس النظري، مضت المؤسسة لتشيد بالاهمية الاستراتيجية المتنامية لخليج غينيا الغني بالنفط والذي من المتوقع “ان تستورد الولايات المتحدة نحو 25% من احتياجاتها النفطية من منطقة خليج غينيا مع حلول عام 2015.” وحثت المؤسسة القوى الدولية المختلفة “بذل جهود مضاعفة لحماية منابع الطاقة في خليج غينيا” من منظمات شبيهة ببوكو حرام في نيجريا وتنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي.

        معهد واشنطن Washington Institute اشاد بتنامي الدور التركي في شؤون المنطقة، نظرا “للاوضاع المستقرة التي رافقها تدفق استثمارات في مرافقها المتعددة.. مما مهد لها توفر قدر من القوة الناعمة.” ومن “اهم التحديات التي تواجهها تركيا تبرز ادارة الصراع في سورية.. والتي من شأنها مفاقمة الانشقاقات التركية الداخلية.. وتقويض سمعتها كنموذج وواحة استقرار.”

        بالتزامن مع تعيين قائد جديد لقيادة القوات الوسطى الاميركية، شدد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS على “اهمية العمل بين اميركا وحلفائها من دول الخليج العربي وآخرين للحفاظ على أمن الخليج وضمان استمرار تدفق الصادرات النفطية، ومواجهة التهديدات الايرانية المتنامية فيما يتعلق باندلاع حرب غير متماثلة، واستخدام الصواريخ واحتمال اقتناء ايران اسلحة نووية.” ومضى بالقول انه يتعين على الولايات المتحدة “تشجيع انخراط بريطانيا وفرنسا في جهود حماية أمن الخليج ضد المطامع الايرانية.. والتثبت من جهوزية قواتها العسكرية الدائمة لشن غارات استباقية على المنشآت النووية الايرانية.. والعمل على ضمان عدم تحول ايران الى دولة نووية.”

        بعد تولي وزير الدفاع تشك هيغل مهام منصبه، اعرب معهد هدسون Hudson Institute عن اعتقاده بأن على رأس اوليات مهامه يبرز “تحدي ادارة استراتيجية الانسحاب العسكري الاميركي من افغانستان.” مناشدا صناع القرار “التريث في مواجهة سريعة مع الصين في صراعها مع اليابان.. ودعم التسويات السلمية للنزاعات الاقليمية بين الصين وجيرانها.”

التحليل:

نفوذ “ايباك”: هل هي مرحلة تراجع وأُفول؟

        بداية المتاعب “للجنة الاميركية الاسرائيلية للعلاقات العامة” برزت في مؤتمرها السنوي الذي عقد مطلع الاسبوع. اذ وبصرف النظر عن تصدر الشخصيات الرسمية، وعلى رأسها نائب الرئيس الاميركي، جو بايدن، قائمة المتحدثين الى جانب حضور كبير ومميز لاعضاء الكونغرس بمجلسيه ولجانه الفاعلة من الحزبين، شذ المؤتمر عن المعتاد وتغيب عنه كل من الرئيس الاميركي باراك اوباما ورئيس الوزراء “الاسرائيلي.”

تفاقم الازمة السابقة بين اوباما ونتنياهو ارخى ظلاله على اكبر منظمة يهودية فاعلة في المستوى السياسي، سيما وان اوباما لم يغفر لنتنياهو تدخله السافر في الانتخابات الرئاسية الاميركية ودعمه المعلن لمنافسه الجمهوري، ميت رومني.

        غياب الرئيس الاميركي ورئيس الوزراء “الاسرائيلي” (وجه كلمته بالفيديو) امر غير مألوف لمنظمة هي الافضل تنظيما والاعظم نفوذا من بين المجموعات السياسية الاخرى في الولايات المتحدة، وينبغي الا يذهب المرء بعيدا في تفسير الازمة الناشئة وكأنها ادت لالغاء ايباك من المعادلة. يعتقد البعض ان مراهنات “اسرائيل،” بالدخول وخسارة نظيفة للمعركة مع الرئيس اوباما لترشيحه وزيري الدفاع والخارجية، قد سدد بعض الضربات السياسية لها. اما حقيقة الأمر فان فريقها الممثل “بايباك” فانه يعمل بصلابة وبعيدا عن الجلبة والاضواء لتعزيز قبضة “اسرائيل” على مفاصل السياسة الاميركية – بدعم من وزير الدفاع الجديد.

        السعي لاماطة اللثام عن “ايباك” والتعرف على اساليبها بلي الاذرع يعادل قدرة المرء على استيعاب كنه السياسة الميكيافيلية، في افضل الحالات. فالمنظمة قلما تخرج للعلن باساليبها وسياساتها، وتفضل التحرك بعيدا عن اعين وسائل الاعلام وتنسيق الجهود مع الساسة وصناع القرار من وراء الستار، وليس عبر المنابر الاعلامية.

        تأسست ايباك عام 1951 على يد موظف في وزارة الخارجية “الاسرائيلية،” يدعى آيزياه كينين، قبل تحولها للاطار التنظيمي الراهن عام 1953. اذ سعت منذ ساعات تأسيسها الاولى على انشاء نفوذ سياسي تستخدمته للتأثير على صناع القرار السياسي الاميركي، بغية الاستمرار في الدعم الاميركي اللامحدود “لاسرائيل” على حساب اولويات سياسية اخرى. تضم المنظمة نحو 100،000 عضوا هذه الايام، وللدلالة على نطاق تأثيرها وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بانها “منظمة فائقة الاهمية للتأثير على العلاقات الاميركية مع اسرائيل.” وذهب البعض بوصفها بانها من اقوى جماعات الضغط (اللوبي) والتاثير في عاصمة القرار السياسي، بينما يعتبرها البعض الآخر كوكيل عمل بالنيابة عن الحكومة “الاسرائيلية،” ايا تكن هويتها، “لتضييق الخناق” على الكونغرس الاميركي بمجلسيه.

        على رأس اعمال “ايباك” يأتي حشد الدعم لديمومة المساعدات المالية الاميركية “لاسرائيل،” ولعب دور اساسي في رفع سقف المساعدات السنوية الى 3 مليارات دولار، مما يضع “اسرائيل” في مرتبة “الطرف الاكبر لتلقي مساعدات اميركية تراكمية ضمن برنامج المساعدات الاجنبية” الذي تبنته وتشرف عليه الحكومة الاميركية منذ الحرب العالمية الثانية. كما ان “ايباك” تلعب دورا هاما في ادخال “استثناءات دستورية” على مشاريع القرارات المختلفة بما يخدم “اسرائيل،” والتي لا يسري مفعولها على حلفاء الولايات المتحدة الآخرين. ووصف مركز ابحاث تابع للكونغرس، يعد خدمات الكونغرس البحثية، تلك الاستثناءات  بانها تنص على تقديم “مساعدات بصيغة هبات مالية، وغير منصوص على وجهة البرامج المنوي دعمها.. وصرف تلك الهبات بكامل قيمتها في مطلع الشهر الاول من كل سنة مالية (اكتوبر)، عوضا عن التحويلات الموسمية. ويسمح “لاسرائيل” انفاق نحو 25% من برنامج المساعدات العسكرية على مشتريات تخص المعدات والخدمات المقدمة للقوات المسلحة داخل “اسرائيل،” تشمل اعمال الابحاث والتطوير، بدلا من صرفها لمنفعة السوق الاميركية.”

        نفوذ ايباك على السياسة الاميركية اسطوري بامتياز. ووصف احد رؤسائها السابقين، ديفيد ستاينر، المدى الذي ذهب اليه عام 1992 بلقائه وزير الخارجية الاميركية، جيمس بيكر، للتوصل الى تسوية بينهما، اذ قال متبجحا “فضلا عن 3 مليارات دولار، فان (ادارة الرئيس بوش الاب) تركض وراء اصوات اليهود، وسأخبره بكل ما يطرب سماعه.. علاوة على 10 مليارات دولار كضمانات للقروض في مجالات اخرى لا يعلم عنها الكثير.”

        عودة لمعركة الترشيحات، فقد رأى البعض ان المصادقة على ترشيح تشك هيغل لوزارة الدفاع يعد مؤشر على بدء تآكل نفوذ اللوبي “الاسرائيلي” في واشنطن، والذي عمل بكد وتصميم من خلف الستار على تطويق مجال حرية حركة وزير الدفاع الجديد المرتقبة وتحويل وجهته الى المدافع الاول عن استمرار الدعم الاميركي “لاسرائيل.”

        وينبغي لفت النظر الى آلية تحرك “ايباك،” اذ بمجرد اعلان الرئيس اوباما عن ترشيحه هيغل لمنصب وزير الدفاع يوم 7 كانون الثاني – يناير من العام الجاري سارعت ايباك للاعلان انها لا تنوي معارضة هيغل. بل ذهبت ابعد من ذلك لاضفاء صفة الحيادية بالنسبة له وتعمد الناطق الرسمي باسمها تجاهل الامر كليا والزعم بأن “ايباك لا تتخذ مواقف حيال المرشحين من قبل الرئيس.” والتزمت ايباك الصمت التام خلال الجدل الذي رافق ترشيحه، كما لم تقدم مساعدة عينية للتأثير على آلية التصويت. بعض المراقبين يؤكدون ان ترشيح هيغل كان سيصطدم بحائط موقف ايباك ان قررت معاداته ومن ثم اخراجه من المعادلة.

        منظمات يهودية اخرى اعربت عن مناهضتها ترشيح هيغل، منها صدور مذكرة من 14 صفحة عن “المنظمة الصهيونية الاميركية” التي ارست اسباب معارضتها لهيغل. كما انضمت “عصبة مناهضة تشويه السمعة” لجهود معارضته.

        اما ايباك، فقد اتبعت استراتيجية اكثر حنكة راهنت فيها على المدى الابعد والسماح لهيغل تولي منصب وزير الدفاع. واضحى هيغل مدين لايباك لعدم اقدامها على اجهاض ترشيحه، وما لبثت ان بدأت مراهنتها تؤتي أكلها، استنادا الى نتيجة توصلت اليها بالثمن المطلوب تقديمه لو استمرت في استعداء لاعب اساسي بامكانه ممارسة نفوذ قوي في توجيه العلاقات الاميركية – الاسرائيلية.

        لم تكن ايباك غافلة لحقيقة توفر عدد كبير من الافراد المؤيدين لاسرائيل في هيكل وزارة الدفاع وعدم التسبب باعاقة جهودهم من قبل وزير الدفاع الجديد. وعليه، ليس مستبعدا لو قام هيغل بكبح جهودهم على خلفية معاداة ترشيحه.

        بل، الشاغل الاكبر لايباك راهنا هو مناخ التخفيضات المالية، لا سيما لوزارة الدفاع، وضمان استثناء “اسرائيل” من نصيب التخفيض، للسنة الحالية وفي المستقبل. ولهذا السبب، سعت ايباك لمارسة نفوذها على اعضاء الكونغرس لاقرار “اسرائيل كحليف استراتيجي هام” للولايات المتحدة، وهي مرتبة فريدة لا تتمتع بها اي دولة اخرى. يقتضي هذا التصنيف قيام الحكومة الاميركية بتحويل البرامج المقررة “لاسرائيل” الى بند ميزانية البنتاغون، مما يستوجب دعم تشك هيغل للقيام بذلك – الذي كان سيرفضه في ظرف معارضة ايباك لترشيحه.

        الاستراتيجية “الهادئة” الموصوفة اعلاه تمثل ذروة الترتيبات التي تجري بعيدا عن الاضواء، وتقتضي عدم ممانعة ايباك ترشيح هيغل “واستغلال” الخطوة لضمان ديمومة الدعم المالي كجزء عضوي في ميزانية وزارة الدفاع الاميركية؛ الامر الذي سيعزز النفوذ السياسي لهيغل. والثمن المطلوب هو دور هيغل المؤيد لاستمرار تدفق المساعدات الاميركية لاسرائيل عبر دهاليز وزارته. من المستبعد ان يكرر هيغل نقده “للوبي اليهودي” مرة اخرى.

ايباك من خلف الستار

        تشتهر “ايباك” بقدرتها على زج عملائها بكثافة داخل الادارات المتعاقبة، سواء للحزب الجمهوري او الديموقراطي. شهد عام 1992 احداثا ادت لاستقالة رئيس منظمة ايباك، ديفيد ستاينر، عقب تسجيل احاديث له يتباهى بمدى نفوذه السياسي الذي ادى لموافقة الادارة على تقديم الدعم “لاسرائيل.” وزعم ستاينر انه كان في سياق “التفاوض” مع ادارة الرئيس الجديد بيل كلينتون بخصوص من سيقع عليه اختياره لتولي مناصب وزير الخارجية ورئيس وكالة الامن القومي. واوضح ان باستطاعة “ايباك” الاعتماد على “نحو عشرة افراد (ذو نفوذ لافت) داخل طاقم حملة كلينتون الانتخابية، في مقرها الرئيسي.. بمدينة ليتل روك (آركنساس)، وانهم جميعا سيتولون مناصب” في الادارة الجديدة.

        من نافل القول ان ارصدة ايباك البشرية تم تجنيدها خلال مرحلة دراستها الجامعية، بل اشتملت خطة التجنيد على بضع مئات من الطلبة الجامعيين ليتولوا مراكز قيادية في المستقبل واغرائهم برحلات مدفوعة التكاليف بالكامل لحضور مؤتمر ايباك للعام الجاري. واوضح مسؤول قسم تنمية القيادات في المنظمة، جوناثان كيسلر، ان “كل مرشح لمجلس الشيوخ في المستقبل  سيمر على حرم جامعي اميركي. كما سيمر كل عضو مجلس نواب في المستقبل على حرم جامعي ايضا. فوظيفة ايباك هي التعرف على اولئك والانخراط معهم وتثقيف الشريحة المميزة والواعدة بتولي مناصب قيادية سياسية في الحرم الجامعي.”

        برنامج ايباك التدريبي ينطوي على تثقيف الطلبة بالقضايا التي تهمهم، ومن ثم صهرهم كي يصبحوا دعاة ناجحين مؤيدين “لاسرائيل.” في الزمن الراهن، تنشط “ايباك” على بضع مئات من الجامعات الاميركية، كما يزعم موقعها الالكتروني. وتوفر ايباك لاعضائها الطلبة مواد تثقيفية متنوعة مرة كل اسبوعين، منها تغطية احدث المسائل التشريعية، توجيهات للعمل، القيام بزيارات “لاسرائيل،” وتوفير تدريب اختصاصي لما تصفه بنص “الرد على الدعاية،” كما ورد في الموقع الالكتروني لـ “التحالف لاجل اسرائيل في الجامعة،” المدعوم من ايباك.

        من غير المتوقع ان ينتهي الامر بكافة طلبة ايباك تولي مناصب سياسية. فالبعض سيقع عليه الاختيار للانضمام الى مؤسسات الامن القومي الاميركية.

        اضحت ايباك مركز دعاوى مختلفة بانها تنشط لحساب اسرائيل في اعمال التجسس على الولايات المتحدة. في شهر نيسان 2005، افاق الجميع على خبر صاعق بطرد مسؤول قسم الشؤون السياسية في المنظمة، ستيفن روزن، الى جانب الخبير في الشأن الايراني لديها ايضا، كيث وايسمان، على خلفية تحقيق يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالي للتيقن من امكانية ايصالهما معلومات اميركية سرية لاسرائيل تلقياها من شخص يدعى لورنس فرانكلين. تم اتهامهما لاحقا بالتآمر المخل للقانون لجمع والكشف عن معلومات سرية حول الامن القومي الاميركي وايصالها لاسرائيل. وتبرعت ايباك بتحمل تكاليف الحملة القضائية للدفاع عن وايسمان تتضمن مرحلة استئناف الحكم ان تطلب الامر، وتم اسقاط لائحة الاتهام بعدئذ.

        بعد تلك الحادثة بفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 30 يوما، اعلنت وزارة العدل اعتقال عقيد احتياط في سلاح الجو الاميركي يدعى لورنس انثوني فرانكلين، كان يعمل في منصب محلل في شؤون الدفاع في مكتب دوغلاس فايث في البنتاغون. ووجهت له التهمة بايصال معلومات سرية لاسرائيل تتعلق بالامن القومي، وجاء في لائحة الاتهامات ذكر “ايباك” نصا في سياق اجتماع عقد على وجبة غداء سرب فيه فرانكلين معلومات صنفت “عالية السرية” لمسؤوليْ ايباك المذكورين. واعترف فرانكلين بالذنب لايصاله اسرارا حكومية الى المتهمين الاخرين، كما شمل اعترافه قيامه بتسليم معلومات سرية مباشرة الى مسؤول حكومي اسرائيلي في واشنطن. وصدر الحكم بالسجن 151 شهرا (ما يعادل 13 عاما) ودفع غرامة مالية بقيمة 10،000 دولار. واستنادا الى اتفاقية اعترافاته، وافق فرانكلين على التعاون مع الاجهزة الامنية الاميركية في اجراءات التحقيق الفيدرالية الاوسع.

         ضلوع ايباك في التجسس على الولايات المتحدة تشير الى تنامي نقاط ضعف في جسمها– اذ لا تستطيع المراهنة على تعاون مسؤولين اميركيين معها كما في السابق، مما يدفعها اللجوء لاستخدام اساليب مخلة بالقانون للظفر بمعلومات كانت تتلقاها من هيئات رفيعة المستوى.

        ما تقدم يقودنا الى ضرورة عدم الاستخفاف بنفوذ ايباك نظرا لتشابك مصالح عدد لا باس به من القوى. اذ اثبتت انها رعت نمو جيل جديد من الساسة المؤيدين “لاسرائيل” لتبوأ مناصب متعددة في هيكلية الحكومة الاميركية. واستنادا الى مهارة ايباك في الضغط من خلف الستار وبعيدا عن الضجيج الاعلامي، ستستمر في خدمة مركزية “اسرائيل” وخصوصيتها في السياسة الخارجية الاميركية الى امد منظور.

:::::

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

مدير المركز: د. منذر سليمان

العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com