د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 29 مارس 2013
المقدمة:
جولة الرئيس اوباما في المنطقة، وذروتها الممثلة بالمكالمة الهاتفية التي اجراها بين رئيسي الوزراء التركي و”الاسرئيلي” شكلت محور اهتمام مراكز الابحاث، خاصة لعودة المياه الى مجاريها في علاقات الزعيمين بعد تقديم بنيامين نتياهو “اعتذاره” لتركيا بشأن استهداف سفينة الاغاثة التركية “نافي مرمرة،” ووقوع عدد من الضحايا الاتراك على متنها.
سيستعرض قسم التحليل هذا التطور في العلاقات التركية – “الاسرائيلية،” والطرف الاخير هو المستفيد الاكبر بعد الولايات المتحدة كونه يندرج في سياق استراتيجيتها الاقليمية لتدمير سورية وتفتيت المعسكر الداعم للمقاومة.
ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث
زيارة اوباما لفلسطين المحتلة والاردن واحيائه العلاقات الثنائية بين تركيا و”اسرائيل،” وتداعيات الازمة السورية، واستقالة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي وحكومته، واليمن وتونس كانت من اهم المحاور التي تناولتها مراكز الفكر والابحاث الاميركية.
معهد المشروع الاميركي American Enterprise Institute اعتبر ابقاء وزير الخارجية جون كيري في المنطقة تجسيدا لعزم الرئيس اوباما “التوجه بجدية نحو التسوية السلمية،” مستدركا انه كان ينبغي على اوباما الا يطلب من رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، القدوم الى طاولة المفاوضات مجردا من وضع شروط مسبقة، مع العلم ان انعقاد المفاوضات من شانه “اتاحة الفرصة للرئيس اوباما ممارسة ضغط على اسرائيل لوقف جهودها في توسيع الاستيطان.” واضاف ان “استقالة الحكومة اللبنانية” لا توفر ارضية لجولة اوباما لاحداث التغيير المطلوب.
معهد واشنطن Washington Institute بدوره اعرب عن سعادته لجولة الرئيس اوباما التي اتاحت له “ارساء علاقة عاطفية مع المواطنين الاسرائيليين، وعززت مصداقيته للتعامل مع برنامج ايران النووي، وتصويب مسار المفاوضات السلمية بين اسرائيل والفلسطينيين واعادتها الى صدارة الاجندة الاقليمية.”
كما اثنى معهد بروكينغز Brookings Institute على مبادرة اوباما لترميم العلاقات التركية “الاسرائيلية،” اذ ان الجانبين “ادركا اهمية اصلاح علاقاتهما كونه يخدم مصالحهما المشتركة.. سيما في مواجهتما الازمة السورية.” واستدرك بالقول ان مسار الترميم سيستغرق وقتا طويلا لعودة “شهر العسل” في حقبة التسعينيات بينهما الى سابق عهده. وحث الولايات المتحدة ادامة انخراطها “للاشراف على المحادثات بين تركيا واسرائيل.”
مركز السياسات الأمنية Center for Security Policy اعرب عن عدم رضاه “لتقديم اسرائيل اعتذار لتركيا.. بل يتعين عليها تخفيف اعتمادها على المعونات العسكرية التي تتلقاها من الولايات المتحدة،” والتوجه نحو تنمية صناعاتها العسكرية المحلية “مرسلة اشارة قوية بذلك الى جيرانها بانها قد تستغني عن اعتمادها الكامل على الولايات المتحدة.. التي باتت حليفا لا يعتمد عليه بالنسبة لاسرائيل وكذلك بالنسبة لما يتبقى من حلفاء للولايات المتحدة.. الاعتذار لتركيا كان خطأً استراتيجيا.”
معهد بروكينغز Brookings Institute جهد لسبر اغوار دوافع روسيا للوقوف الى جانب الرئيس بشار الاسد “لخشية (الرئيس بوتين) الحقيقية من انهيار مؤسسات الدولة.. واعتقاده ان سورية تمثل ساحة الصراع الكوني الاخيرة بين الدول العلمانية والاسلاموية السنية، الذي بدأ في افغانستان وانتقل الى الشيشان ومزق عددا من الدول العربية.” كما سيحمِّل بوتين الولايات المتحدة مسؤولية تدمير الدولة السورية “واحلال المتطرفين الاسلاميين السنة عبر تبنيها الديموقراطية والثورات العربية.”
السياسة الخارجية الاميركية نحو سورية “باءت بالفشل،” كما توصل معهد كاتو Cato Institute. محذرا من استمرار النهج الراهن الداعم للمتمردين الذي “سيستدرج الولايات المتحدة عميقا في الازمة السورية… المغلف بالتبرير لاضعاف النفوذ الايراني، الذي سيكون له ارتدادات في البحرين يقابله تصميم ايراني اشد لاقتناء سلاح نووي.”
انعكاسات الازمة السورية على المستوى الانساني تناولها معهد بروكينغز Brookings Institute ملفتا النظر الى ان “طواقم الامم المتحدة لا تستطيع الانتشار في المناطق التي تخضع لسيطرة المتمردين،” كما سعى قرار الجمعية العامة للامم المتحدة اقراره، مطالبا دول البريكس (روسيا، الصين، البرازيل، جنوب افريقيا والهند) التقدم بتبني قرار اممي اشد وضوحا لعمل الاطقم الاغاثية داخل الاراضي التي يسيطر عليها المسلحون.
معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War يعوّل على دور “المجلس العسكري الاعلى” في الجيش الحر للحد من “تغلغل المتطرفين وتحفيز تلك العناصر الانضمام تحت لوائه.. واقصاء القوى الساعية لتدمير الدولة السورية، كجبهة النصرة.”
جدد معهد واشنطن Washington Institute مطالبته الادارة الاميركية تقديم الدعم العسكري للمسلحين السوريين “مما سيترتب على نتائج مرضية” للاستراتيجية الاميركية والغربية “والتأثير على المسار المستقبلي لمرحلة ما بعد انهيار النظام.”
تنامي عديد المقاتلين الاجانب في سورية كان محور اهتمام مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies، سيما فصيل “جيش المهاجرين والانصار وقائده الآتي من منطقة القوقاز الروسية المكنى بابي عمر الشيشاني.” واوضح ان الفصيل يتضمن نحو 1000 مقاتل متطوع ضمن صفوفه ويتمركز في منطقة مدينة حلب “وساهم بفعالية في الهجوم على عدد من القواعد العسكرية الرئيسة للدولة. وينبغي تشديد الانظار على التقدم العسكري الذي يقوم به في سورية ودعم استمراره في العمل هناك.”
تشكيل الحكومة المؤقتة في سورية لم يلق ترحيبا من معهد كارنيغي Carnegie Endowment “لخلوها من اي مضمون حقيقي.. مما يطرح شكوكا حول استراتيجية الائتلاف الوطني” بصرف النظر عن الانجاز الشكلي في الفوز بمقعد سورية في الجامعة العربية الذي سيبقى كذلك “الا بعد ان يثبت الائتلاف قدرته على ادارة المناطق المحررة.” بل ان الائتلاف “يبرهن على مستوى متدني خطير لفقدان الفطنة والحنكة السياسية” للتعامل بفعالية ومسؤولية على المستوى الدولي، كما ان تجمع “اصدقاء سورية ليس بوسعه توفير ضمانات النجاح للائتلاف باضفائه الاعتراف الديبلوماسي عليه..”
لبنانيا، حذر معهد كارنيغي Carnegie Endowment من تداعيات استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي سيما وان “هناك مخاطر حقيقية للخطوة تنذر بتدهور الاوضاع السياسية والامنية.” وحذر الاطراف المختلفة المنخرطة في “الصراع بالوكالة على الساحة السورية من ان جارتها اللبنانية مهددة من تصاعد العنف وخروجه عن نطاق السيطرة،” حاثا كافة الاطراف استدراك الامر سريعا والتوصل الى صيغة “حكم تأتي بحكومة شراكة وطنية جديدة.. تستند الى نظام انتخابي توافقي تخوض الانتخابات على ضوء نصوصه المتفق عليها.”
تنامي اتساع الهوة الاجتماعية في دول الخليج كانت مصدر تحذير معهد واشنطن Washington Institute لما ينطوي عليها من تداعيات سياسية ان لم يتم استدراكها ومعالجتها. وقال ان نحو “ثلث السكان في دول البحرين وعُمان وقطر، وربع السكان في الكويت ودولة الامارات، هم من الفئة العمرية الناشئة بين 15 – 29 عاما. وبلغت معدلات البطالة بينها نسبا تتراوح بين 17 – 24 %” باستثناء الامارات التي تقل فيها النسبة قليلا. واوضح ان من عادة قادة تلك الدول الغرف من ميزانية الدولة وتوزيع الاموال “لدرء السخط العام.. المولد لفقدان الكرامة عند تلك الفئة وحفزها على المطالبة بتوفير فرص عمل افضل ومداخيل مناسبة.”
وحث المعهد عينه، Washington Institute، الولايات المتحدة على دعم الجهود لانجاح “مؤتمر الحوار الوطني” في اليمن واستغلال حضوره “للحد من رقعة انتشار تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.. وايجاد قاسم مشترك مع اليمنيين لاصلاح مؤسسات الدولة وترميم العلاقات مع القبائل التي ايدت القاعدة.. وحفز الحكومة المركزية في صنعاء “على دعم واستقطاب تشكيلات اللجان الشعبية” التي تتمسك بالولاء القبلي “وتوفير الامن وفرص العمل لها” في المعركة المشتركة ضد تنظيم القاعدة.
انزلاق “الثورة التونسية نحو التشدد وسيطرة السلفيين عليها” كانت محطة اهتمام مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democraciesمحذرة من مخاطر العودة بها الى الماضي السحيق، سيما في تجليات مسلك “عدم التسامح” للقوى والتجمعات الاخرى في المجتمع التونسي وتهديد “المذاهب الاسلامية الاخرى والطائفة المسيحية.. وكل من يختلف مع رؤيتها ومعتقداتها.”
الدور المتبلور للعراق في الساحة العربية كان شأن معهد ابحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Institute قائلا ان “الدول العربية تعمل على تحسين علاقاتها مع الحكومة العراقية بغية الحد من تغلغل النفوذ الايراني.. بعد ادراك تلك الدول خطأ سياساتها الماضية.” واستخلص بالقول ان الصراع سيستمر على كسب ولاء الطوائف العراقية، بيد ان الثابت “اننا سنشهد تصميم الدول العربية على القتال والتصدي للحد من النفوذ الايراني.”
التحليل:
استئناف التحالف الوثيق بين تركيا و”اسرائيل” للانتقام من سورية
بمرور الذكرى العاشرة لتسلم رجب طيب اردوغان مهامه السياسية في منصب رئيس الوزراء، يدشن مرحلة فريدة في ديمومة السياسة التركية، اذ اضحى اطول زعيم سياسي يبقى في منصبه بصورة متواصلة متفوقا على رئيس الوزراء الاسبق المنتخب عدنان مندريس الذي اطاحت به الطغمة العسكرية في انقلاب وقع عام 1960، ثم حوكم واعدم على ايديها.
كما تلقى اردوغان “هدية واعادة اعتبار” من الرئيس الاميركي باراك اوباما، 22 آذار الجاري، حينما خاطبه هاتفيا قبل مغادرته مطار اللد متوجها الى عمّان للتوسط بينه وبين نظيره “الاسرائيلي” بنيامين نتنياهو في مكالمة دامت نحو 30 دقيقة، التي قدم فيها نتنياهو اعتذاره عن اعتراض قواته البحرية لسفينة “نافي مرمرة” التركية ومقتل عدد من النشطاء الاتراك على متنها. الجانب الاميركي كاد يزهو بانجازه موضحا ان نتنياهو اقر بارتكاب “اخطاء ميدانية” لكنها لم تكن مقصودة، بل “اعرب الجانب الاسرائيلي عن اسفه لمقتل البعض وجرح الاخرين.”
الآلة الاعلامية لحزب اردوغان، حزب الحرية والعدالة، تحركت على الفور لتزف النبأ ببهجة عالية “لموافقة اسرائيل على الشروط التركية الثلاثة،” والايحاء بأن الاولى رضخت صاغرة لشروطها. في فلسطين المحتلة، تعاملت يومية “جيروزاليم بوست” مع النبأ بازدراء قائلة ان اردوغان ووزير خارجيته احمد داوود اوغلو يصوران الأمر وكأنه “انتصار هام انجزاه معا ضد اسرائيل.. بل ان اردوغان لم يحقق كل ما طمح اليه،” سيما شرطه المسبق برفع الحصار المفروض على غزة، والاهم اسقاط تركيا للتهم القانونية الموجهة للضباط “الاسرائيليين” المسؤولين عن مجزرة “نافي مرمرة.”
اردوغان بدوره تمادى في تضخيم المسألة الشكلية كاشفا عن نرجسيته في مخاطبة انصاره “عندما بدأ نتنياهو بالحديث معي عبر الهاتف، قمت بقطع الاتصال. وقلت له انني ارغب في مخاطبة الرئيس اوباما اولا. انني احن لسماع صوته.”
اهداف الدور الاميركي، مجسدا بدخول الرئيس اوباما على الخط مباشرة، قد يكتنفه الغموض لدى البعض، سيما وان علاقته الشخصية والعملية مع نتنياهو شهدت توترا معلنا منذ حملة الانتخابات الرئاسية ودعم الاخير للمنافس الجمهوري ميت رومني. بيد ان حقيقة التطورات السياسية تدفعنا الى القول ان نتنياهو حقق تنازلا معينا من قبل الرئيس اوباما، ربما يفضي الى توسيع هامش مجال مناورته بشأن الملف الايراني او الحصول على مزيد من المعدات العسكرية والمساعدات الاميركية، فضلا عن رغبة الطرفين التركي و”الاسرائيلي” باعادة علاقتهما الى سابق عهدها. واوضح الرئيس “الاسرائيلي” شمعون بيريز الامر بالقول ان للطرفين “اسبابا عدة لتعزيز العلاقات الاسرائيلية – التركية والتعاون بينهما اكثر من اي وقت مضى.” نتنياهو، من جانبه، ذهب للتأكيد على تغير التطورات الاقليمية، ومن بينها ما يجري في سورية، مما يستدعي تعاون اوثق بين الطرفين اللذين يشتركان حدوديا مع سورية. اذن، ما اطلق على تسميته “اعتذار اسرائيلي” كان امرا ضروريا “لضمان أمن اسرائيل،” او هكذا يوحي.
دوافع تركيا للمضي بترميم علاقاتها مع “اسرائيل” كانت اقل وضوحا. اذ ذهب “مجلس العلاقات الخارجية” الى القول ان الحافز الاكبر لتركيا “ربما يعود لعوامل ثلاث مجتمعة: سورية وايران ومجال الطاقة،” اذ يفسح لها الوصول الى موارد اكتشفت حديثا في مياه البحر المتوسط مما يحتم عليها ايجاد مخرج للتعاون مع “اسرائيل،” مهما كلفها الامر بالنسبة لانعكاساته على تردي علاقاتها مع كل من روسيا وايران من وراء ذلك. اردوغان، بدوره، تمادى في تملقه بالتركيز على “العلاقات التاريخية المشتركة بين اليهود والشعب التركي،” غير غافل عن ذكر دور الامبراطورية العثمانية الداعم لاستيطان اليهود في فلسطين منذ القرن الثامن عشر. بالاضافة لذلك، يدرك الطرفان اهمية تعاونهما في احتواء الازمة السورية والحد من انتقال عدواها الى خارج الحدود او نحو مزيد من التدهور وفقدان السيطرة عليها.
الثابت ايضا ان تركيا تلعب دورا محوريا في فك وانهاء عزلة “اسرائيل” في المنطقة، سيما في اعقاب تبنيها للتغيرات السياسية التي جاءت بحركة الاخوان المسلمين الى السلطة في عدد من اقطار العرب، ونفوذها الملحوظ على قياداتها، خاصة في مصر. بالمقابل، لزوم “اسرائيل” جانب تركيا يخفف من قلقها على عدة جبهات متعددة: ايران وروسيا وقبرص وبلدان المشرق العربي، بالاضافة الى وضعهما المميز داخل حلف الناتو – بصرف النظر عن ان “اسرائيل” ليست عضواً رسمياً في الحلف.
في اعقاب اكتشافات موارد الطاقة من النفط والغاز الطبيعي في اعماق البحر المتوسط، تعاظم دور قبرص (الشطر اليوناني) بالدرجة الاولى لتلعب دورا هاما في تنمية وتطوير برنامج الطاقة، واتاحة الفرصة لتركيا و”اسرائيل” استغلال خيراتها المكتشفة لمنافسة روسيا، المصدر الاساسي لتوريد الطاقة الى تركيا. ومن شأن استعادة العلاقات الثنائية، بين تركيا و”اسرائيل،” ايضا فسح المجال لتصدير الغاز الطبيعي من سواحل فلسطين المحتلة الى وعبر الاراضي التركية باتجاه الاسواق الاوروبية، الامر الذي يخدم المصلحة الاستراتيجية للطرفين.
كما لا يجوز اغفال أهمية عامل تجميد تركيا للورقة الكردية في الصراع واخراجها من التداول المسلح، مرحليا، وما قد يمثله من ترحيب وتعزيز موقعها لدى واشنطن وحلف شمال الاطلسي. ومن شانه ايضا تخفيف العبء عن كاهل الدولة التركية، في المستويات العسكرية والمالية، لتتفرغ للانضمام الكلي الى الجهود الاميركية في السيطرة على منطقة البحر المتوسط وسورية.
وكما تجلى سابقا، باستطاعة تركيا ممارسة نفوذها السياسي والايديولوجي للضغط على اطراف المقاومة في قطاع غزة لمصلحة “اسرائيل،” سيما وان نتنياهو في مكالمته الهاتفية المذكورة اوضح لاردوغان ان مصير العلاقات الثنائية بينهما مرتبط بما ستؤول اليه اوضاع الفلسطينيين. الثابت الملموس في “التنازلات الاسرائيلية” هو ما تشهده حركة توريد السلع الاستهلاكية الى غزة من تخفيف الاجراءات على قيودها السابقة.
تركيا، “اسرائيل،” وايران
يجمع المحللون والساسة على السواء بالدور المحوري لتركيا في تعزيز قدرات الدفاع الجوي “لاسرائيل” ضد ايران، والتي كانت شبه غائبة عن الخطاب السياسي مؤخرا، مع العلم ان قواعد الرادار المتطورة لحلف الناتو في المناطق الشرقية لتركيا، التي تشرف على ادارتها وتوجيهها القوات العسكرية الاميركية، تقوم بتزويد “اسرائيل” بمعلومات بالغة الحساسية حول النظم الصاروخية الايرانية، والتي بواسطتها تستطيع الاولى تصويب نظم آرو للدفاعات الجوية ضد صواريخ “شهاب” الايرانية؛ فضلا عن عدم رغبة او ارتياح تركيا لرؤية جارتها الايرانية على عتبة الارتقاء الى مصاف الدول النووية، والتي تشاطرها “اسرائيل” في الهدف عينه. عمليا، قد يؤدي هذا الامر الى صرف نظر تركيا عن طلعات جوية للطائرات الحربية “الاسرائيلية” للمرور باجوائها في طريقها الى تسديد ضربة لايران.
حاجة الطرفين لبعضهما البعض يخدم الاهداف “الاسرائيلية” بالدرجة الاولى، اذ يعزز وجودها على الحدود الشمالية مع سورية بشكل خاص، ويخفف عنها بعض الاعباء كي تنصرف الى معالجة التهديد الذي قد يأتي من الجبهة الجنوبية مع مصر، في الوقت الذي تذهب فيه تركيا الى تحمل اعباء التدخل والسيطرة على احداث سورية.
طموحات اردوغان السياسية لم تعد ثمة تكهنات، بل يراهن على قدرته وحزبه من ورائه بتغيير بعض النصوص الدستورية لصالحه الشخصي التي تحرمه حاليا من الترشح لولاية اخرى، ومن ثم يتطلع لمنصب رئاسة الجمهورية. رهانه يعتمد على صلابة الاداء الاقتصادي واستقراره. اما ترتيباته المعلنة مع رئيس حزب العمال الكردستاني المعتقل، عبد الله اوجلان، لوقف اطلاق النار فهي تأتي في سياق الصراع الاشمل مع سورية بغية نزع فتيل الملف الكردي المتفجر من الداخل التركي، واخراجه من سيطرة الحكومة السورية واحتمال فتح جبهة صراع جديدة.
اقتصاديا، عودة العلاقات التجارية والديبلوماسية الى سابق عهدها مع “اسرائيل” يعزز الفائض في التبادل التجاري بينهما لصالح تركيا، اذ بلغ مجموع العملية التجارية بينهما لعام 2011 نحو 4 مليارات دولار.
في الملف القبرصي، يعّول اردوغان على مساعدة “اسرائيل” في استغلال نفوذها لدى القبارصة اليونانيين الذين تتطلع حكومتهم الى نسج علاقات اقتصادية افضل مع الدول الغربية، سيما في ظل الازمة المالية التي تعصف بالبلاد راهنا، وولوج طريق بديل عن تركيا للقيام بذلك. تجدر الاشارة الى ان الرئيس القبرصي اليوناني الحالي، نيكوس اناستاسياديس، يعد رجل الغرب بامتياز ويتطلع للانضمام الى هيئات الناتو للشراكة من اجل السلام. وهذا يستدعي تعاونا اوثق مع تركيا، عضو الحلف، لضمان عدم معارضتها فضلا عن دورها المفترض باستغلال نتفوذها لدى القبارصة الاتراك بغية التوصل الى تسوية سياسية في الجزيرة القبرصية، والتي من شأنها بمفردها تعديل الاداء الاقتصادي للجزيرة سيما لناحية تنعم جميع المواطنين بالخيرات الطبيعية المكتشفة بالقرب من الشواطيء البحرية لبلادهم. الامر الذي سيولد نشاطا واهتماما اقتصاديا على مستويات عدة، من بينها استقطاب استثمارات خارجية للمساهمة في نهضة البلاد، الامر الذي سيفيد تركيا حتما، بل ستكون في مصاف المستفيد الاكبر. اما “اسرائيل،” فبامكانها توفير مصادر استثمارية في قطاع الطاقة الافضل استقرارا ونموا.
استعراض المنافع المشتركة للطرفين، تركيا و”اسرائيل،” كما تقدم، يوضح بشكل جلي دوافعهما ومصالحهما في المديين المتوسط والبعيد في سياق الصراع الاوسع الدائر على الساحة السورية، ومن ورائها اضلاع محور القوى الداعمة للمقاومة؛ ليس في المنافع الاقتصادية للطرفين فحسب، بل مشروعية السؤال لماذا انتظر نتنياهو فترة طويلة قبل المحادثة الهاتفية وترميم ما اطلق عليه توتر العلاقات الثنائية بالرغم من ان نقاط التوافق والالتقاء بينهما تفوق نقاط التنافر والتناحر بمرات عدة.
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
مدير المركز: د. منذر سليمان
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com