د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 5 ابريل 2013
المقدمة
انتقل مركز الثقل في اهتمامات مراكز الابحاث المختلفة الى الازمة الاميركية المتبلورة مع كوريا الشمالية، بالترافق مع تجديد لغة التهديد في خطاب الادارة الاميركية حول تداعيات استخدام اسلحة كيميائية في سورية.
سيستعرض قسم التحليل مسألة الاسلحة الكيميائية، مكوناتها واطرافها، وكشف الغطاء عن مغزى ما تسميه الادارة الاميركية “الخطوط الحمراء” التي رسمتها لعدم تخطيها من قبل سورية الدولة والمؤسسات، وتعمدها اغفال دور المجموعات المسلحة في سيطرتها على معمل تجاري ينتج مادة الكلور في مدينة حلب.
ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث
توسعت دائرة المواضيع التي تناولتها مراكز الفكر والابحاث الاميركية، وشملت: جدل الاغتيالات بطائرات الدرونز، وزيارة اوباما لفلسطين المحتلة والاردن، سورية، مصر وصعود الاسلام السياسي للسلطة، العراق، السودان، وايران.
سعى معهد بروكينغز Brookings Institute الى تفنيد الانتقادات المتنامية لاغتيالات طائرات الدرونز، التي يفترض بانها وراء اذكاء نيران التطرف في المنطقة ردا على تنامي اعداد الضحايا من المدنيين. وزعم ان بوسعه الاسترشاد بارقام الاحصائيات “التي تشير الى تدني عدد الضحايا من المدنيين عبر السنوات الماضية لا سيما وان القوات المسلحة الاميركية تسلك خطوات من شأنها تخفيض عدد الضحايا” الناجم عن الغارات.
المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي JINSA اعرب عن عظيم ارتياحه لنتائج زيارة اوباما “لاسرائيل” وما تمخض عنها من تطوير العلاقات الأمنية بين الطرفين سيما “… تفهمه العالي لحاجة اسرائيل اتخاذ مبادرة عسكرية احادية الجانب.. واطرائه الضمني لقيام اسرائيل بقصف منشأة نووية سورية عام 2007 ودعمه للاجراءات الاسرائيلية الاخيرة داخل الاراضي السورية.. وثبات دعمه القوي لاغراض الأمن القومي لاسرائيل في ظل مناخ التقشف المالي لوزارة الدفاع الاميركية..”
في الشأن السوري، حث المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي JINSA الادارة الاميركية على تقديم الدعم التسليحي لقوى المعارضة “شريطة التحقق والتدقيق في انتماءاتها لدرء تسرب الاسلحة الاميركية للقاعدة او اي من منظماتها.” كما طالب الادارة بدعم اقطاب معسكر الحرب “للقيام بغارات جوية ضد سلاح الجو السوري.. الذي لا يتطلب نشر قوات اميركية في الميدان.”
مركز الدرسات الاستراتيجية والدولية CSIS اعرب عن اعتقاده ان الازمة “السورية اليوم تشكل دليلا على تنامي مستوى العنف في سياق الصراع الاشمل حول مستقبل الاسلام الذي بات صراع داخل الحضارة” عينها. وكما اثبتت تجربتي العراق وافغانستان بعقم فرضية “اسقاط النظم الاستبدادية.. مما سيؤدي بشكل ما الى انشاء نظام ديموقراطي مستقر يدير عجلة تنمية اقتصادية.” وحذر من دعم الولايات المتحدة “لفصائل مسلحة تبلورت من خلفية تآمرية فاقدة لاي نوع من التجربة السياسية.. ومن ثم ستجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة عالم مليء بالخيارات “الاقل سوءا” التي ستبرز على الساحة لفترة طويلة بعد السقوط النهائي (للرئيس) الاسد.”
توافد مقاتلين اجانب من بلدان اوروبية الى سورية كان موضع اهتمام معهد واشنطن Washington Institute مؤكدا صحة التقارير التي اشارت الى “سفر اوروبيين وجهتهم سورية بغية الانخراط في القتال ضد (الرئيس) الاسد.” واستدرك بالقول ان حجم المقاتلين الاجانب لا يتعدى 10% من المجموع العام “وربما اقل من ذلك.”
معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War لفت النظر الى فوضى التخطيط لدى “المتمردين السوريين.. الذين سرعان ما يثبتون اقدامهم في منطقة معينة والانطلاق لمناطق اخرى يتبين مدى فشلهم في تنسيق فعال لخطواتهم مع السكان المحليين.. كما برز في الرقة حين تم سحب كامل الصلاحيات من المجلس المدني المحلي من قبل مجموعات من المتمردين من خارج المنطقة..”
اثنى معهد بروكينغز Brookings Institute على جهود دولة الامارات في تقديم “مساعدات انسانية لما ينوف عن 90 بلدا، وخاصة اللاجئين السوريين،” حاثا الحكومة الاماراتية على “تخصيص دعم لانشاء نظام تعليمي في سورية.. اسوة بالمساعدات التربوية المتواضعة المقدمة من لبنان والاردن وتركيا..”
تناقض الاداء الرئاسي ومؤسساته التابعة في مصر كانت من نصيب معهد واشنطن Washington Institute الذي حث الرئيس الاميركي “الرد على السلوك القمعي (للرئيس) مرسي.. والقيام بمعارضة اسلوبه علنا.. لابعاد الشبهات عن دعم الولايات المتحدة لسياسة الاخوان المسلمين،” فيما يخص نية الحكومة المصرية تقديم النجم الفكاهي باسم يوسف الى المحاكمة. ونبه ايضا الى تعيين الرئيس مرسي لوزير للاعلام ينتمي للاخوان المسلمين “مهمته اقالة اي من رؤساء التحرير يقدم على انتقاد الاداء الحكومي..”
معهد كاتو Cato Institute سعى لتناول مسالة “بروز الاسلام السياسي” لتسلم زمام الحكم، معربا عن اعتقاده انه جاء ثمرة للخدمات الاجتماعية الواسعة التي يقدمها الاخوان المسلمون، مما اسهم في تعزيز مصداقيتهم بعيدا عن الفساد السياسي “سيما حين يثبت تنظيم عمره 70 عاما مصداقيته ولديه سجل واضح في تقديم الخدمات الاجتماعية، حينها ينصت اليه الشعب.”
اعادة انتخاب خالد مشعل على رأس الهرم السياسي لحركة حماس جاء من ضمن اهتمامات مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies، لافتة النظر الى قربه من القطريين الذين استخدموا نفوذهم لتجديد البيعة له بين صفوف الحركة. وقالت ان “اختيار مشعل يدل على تنامي أهمية قطر، التي برزت كمموّل اساسي لحماس بعد جفاف التمويل الايراني لها نظرا للعقوبات الاقتصادية عليها بقيادة الولايات المتحدة..” في سياق متصل، اعربت المؤسسة عن اعتقادها “بحتمية حالة الانقسام السائدة بين المجموعات الاسلامية المختلفة التي تقاتل بعضعا البعض على امتداد رقعة الشرق الاوسط،” مما يستوجب “دعما خارجيا.. لاعلاء كلمة الاطراف المعتدلة..”
معهد هدسون Hudson Institute تناول مسألة الاسلام السياسي من زاوية “الاضطهاد الديني المستشري، مما يضعه ضمن الاهتمامات الدولية لحقوق الانسان.. خاصة اضطهاد الاقليات في ايران والسعودية ومصر وكوريا الشمالية.”
تصدت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies للقوى المناهضة للحرب على العراق نظرا “لتناولها الدائم لمثالبها.. ونسيان الانجازات التي حققناها” هناك. واكدت بالقول ان “البعض منا ممن ايدوا (الحرب على العراق) يقع على عاتقه مهمة تقييم كلفتها الحقيقية. اذ ومع دخول كابوس الازمة السورية عامه الثالث، يصبح من المناسب ايضا مسائلة اولئك المنادين بالنأي عن النفس من التدخل القيام بتقييم الكلفة الاجمالية لمواقفهم.”
دافع معهد كاتو Cato Institute عن الاتهامات الموجهة للرئيس اوباما “لخسارة العراق” التي شنها اقطاب معسكر الحرب من الحزبين الرئيسيين. وقال “ان مسؤولية الهزيمة في العراق، منذ بداياتها والى نهاياتها، تقع حصرا على اكتاف ادارة الرئيس بوش (الابن).. التي قررت شن حرب لا لزوم لها.. وتلاعبت بالمعلومات الاستخبارية وخفضت عن وعي وادراك الكلفة الاجمالية للحرب بغية تسويقها لدى الرأي العام.. حال العراق اليوم هو بسبب سياسات الر ئيس بوش الابن.”
تقارب كندا مع السودان اثار حنق مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies متهمة السياسة الكندية “بالنفاق.. اذ ان السودان لا يزال مدرجا على قائمة الدول الداعمة للارهاب.. ونظرا لعلاقات الخرطوم الوثيقة مع كل من (حركة) حماس وايران، يتعين على الغرب مراجعة سياسية لمواقفه قريبا.”
واكب معهد كارنيغي Carnegie Endowment التحول البطيء في الرأي العام الاميركي نحو ايران، واقلاعه عن دعم مغامرة عسكرية اخرى غير مضمونة النتائج، معولا على ضرورة ايجاد وسيلة فعالة للتواصل الاميركي مع الشعب الايراني “يستثني الوسيطة المعهودة في شبكة صوت اميركا” الناطقة بالفارسية، نظرا للشبهات المتجددة حول فساد اداراتها المتعاقبة، وضرورة عدم اهمال “جمهور مستمعيها الذي يقدر بنحو 20 مليونا في ايران.” في الشان النووي، اعرب المعهد عن خيبته من قرب توصل الطرفين الى تسوية مرضية لهما في المدى المنظور، “ويتعين عليهما سويا اتخاذ خطوة الى الوراء.. ومراجعة مواقفهما.. وتبني اسلوبا مبتكرا جديدا للتعامل بينهما، وادراك الطرفين ان اشتعال حرب عسكرية بينهما ستجلب الدمار والويلات على كافة الاطراف.”
معهد المشروع الاميركي American Enterprise Institute اطلق صرخات التحذير من سعي ايران لانتاج “طائرات درونز انتحارية (محملة بالمتفجرات).. والتي لا تتطلب قدرة تقنية عالية كما هو الامر في طائرات الدرونز المسلحة التي اعلنت ايران عن اعتراضها واسقاطها من طراز بريداتور.” وقال “عند التيقن من جدية تبني ايران استخدام طائرات درونز انتحارية… قد يكون بوسع المحللين الاستراتيجيين في ايران فتح صفحة جديدة في استراتيجيتهم العسكرية غير المتماثلة.”
التحليل:
حول احاديث الحظر الجوي والسلاح الكيميائي في سورية
احياء الجدل حول جدوى الغزو العسكري الخارجي لسورية لا يعني بالضرورة ان وقود الغزو سيكون جيش اجنبي، وبالذات من القوى الغربية، فالقوى المحلية والمتطرفة التي يستمر تجنيدها باعداد كبيرة من كافة الدول التي تهيمن عليها الولايات المتحدة جارية على قدم وساق. وينبغي النظر الى القصف بمادة كيميائية سامة بالقرب من مدينة حلب، قبل نحو اسبوعين، في هذا السياق وضمن سقف “الخطوط الحمراء” التي تحدث بشأنها الرئيس اوباما في زيارته لفلسطين المحتلة والاردن. الدعوة لانشاء منطقة حظر جوي في شمالي الاراضي السورية تواكب التصعيد ثنائي الاركان: غزو عسكري واقامة حظر جوي.
سيستعرض قسم التحليل هذا الثنائي وسبر اغواره.
انشاء منطقة حظر الطيران فوق الاجواء السورية
الفرضية المركزية في محور دعاة حظر الطيران هي التجربة الليبية مما حفز اصحابها لدعوة الاقتداء بها. الفوارق بين الحالتين لا يمكن مقاربتها، ليس لنوعية حجم التسليح والتدريب والاستعداد فحسب، بل لطبيعة الاصطفافات الدولية وعدم استطاعة دول حلف الناتو القفز او تجاوز دول البريكس ودول اخرى داعمة لسوريا الدولة والمؤسسات والوطن.
فيما يخص التجربة الليبية، توفر آنذاك شبه اجماع دولي لانشائها وتطبيقها دون ان يشذ احد من الاطراف الكبرى، فضلا عن ان ايطاليا بحكم قربها الجغرافي من ليبيا استخدمت كمنصة انطلاق للعمليات الحربية جوا وبحرا؛ ولم يعترض المقاتلات العائدة بعد نفث سمومها اي منغصات، بل حافظت على جدولة اعادة التزود بالوقود واعمال الصيانة المكثفة المتوفرة بيسر كبير في عدد من القواعد العسكرية القريبة. لوجستيا، لم يشكو احدا من نقص في كل ما يلزم من وقود وتسليح وقطع غيار لوفرتها ومن ثم المضي بشن الهجمات الجوية.
القوات والاساطيل البحرية ايضا رابطت بالقرب من المياه الليبية الاقليمية، بل داخلها احيانا، دون الخشية من وصول الدفاعات الليبية اليها. فالاسطول البحري الاميركي رابط على بعد ابحار يوم كامل من قاعدة حلف الناتو الضخمة في مدينة نابولي، مما يعني ضمان استمرار وصول الامداد المطلوبة.
هذين العاملين لا يتوفرا لحلف الناتو في الحالة السورية، فضلا عن ان تسهيلات القواعد الاميركية في تركيا تصغر عن نظيراتها المتطورة في نابولي، بالاضافة الى تباين الشبكة اللوجستية التركية عن نظيراتها المتطورة ايضا في اوروبا. قطع الاسطول الاميركي والتعزيزات البحرية الاخرى تبعد مسافة بضعة ايام عن موانئها مما يتطلب ادخال تعديل على الجدول الزمني وما يخلفه من تداعيات وتعقيدات اضافية. جدير بالذكر ما طرأ من تخفيضات على حجم ونوعية قطع الاسطول الاميركي بعد نهاية الحرب الباردة، اذ احتفظت اميركا آنذاك بوجود كبير لقطعها الحربية في المياه الشرقية للبحر المتوسط.
كما لا يجوز اغفال اصرار روسيا على تواجد قطعها البحرية في وبالقرب من الشواطيء السورية، وما تشكله من رادع لقوى العدوان.
يتسلح مروجو حظر الطيران بحقيقة اعتقادهم للدور المركزي الذي يمكن ان تنجزه بطاريات صواريخ الباتريوت المركزة في تركيا للدفاع عن المناطق الحساسة وذات الكثافة السكانية ان استخدم السوريون سلاح صواريخ سكود. بل تعزز تفاؤل المعارضة السورية بالباتريوت للتعويل عليها لحمايتهم في انشاء ملاذات آمنة لهم داخل الاراضي السورية. من ابرز المروجين لصواريخ الباتريوت نذكر، وزير الخارجية جون كيري، والسيناتور جون ماكين، والجنرال النرويجي المكلف ببعثة الامم المتحدة العسكرية لسورية، روبرت مود.
تم تركيز 6 بطاريات لصواريخ الباتريوت في اماكن مختلفة من الاراضي التركية، يقوم بالاشراف عليها بالتساوي كل من المانيا وهولندا والولايات المتحدة، والذين وضعوا قيودا صارمة على استخدام تلك الصواريخ تستثني استخدامها لاغراض انشاء منطقة حظر جوي في الوقت الحالي. البطاريتين اللتين تشرف عليهما هولندا اقيمتا في منطقة بعيدة عن الحدود السورية وابعد ايضا من مجال تحليق الصواريخ. اما الطاقم الالماني فهو ليس اسعد حالا، ولا يتسنى له الوصول الا الى جزء ضئيل من الاراضي السورية بعد الاطلاق. هذا فضلا عن القيود السياسية التي تكبل البلدين، اذ يتطلب تفويض برلمانات البلدين لقواتهما العسكرية المضي في انشاء منطقة حظر جوي، اضافة لموافقة كافة الدول الاعضاء في حلف الناتو على تنفيذ تلك المهمة.
البطاريتين الخاضعتين لاشراف الولايات المتحدة في مدينة غازيانتب هما كل ما يتبقى من الترسانة الدفاعية بالتعويل على قدرتها انشاء مظلة حظر جوي فعالة بالقرب من اجواء مدينة حلب. بالنظر الى القدرات المحدودة في تصميم بطاريات وصواريخ باتريوت، تنشأ الريبة من فعاليتها في انشاء منطقة حظر جوي. فصواريخ باتريوت من طراز PAC-3 مصممة كجزء مكون من نظام الدفاع في ميدان الصواريخ الباليستية، وكلفة كل صاروخ منها تفوق كلفة الاسلحة الاخرى المضادة للطيران مثل هوك، التي يقصر مداها عن الباتريوت لكنها وفيرة لدى الترسانة العسكرية. استخدام صواريخ الباتريوت، في المشهد الذي نحن بصدده، للتصدي للمقاتلات السورية يحول دون استخدامها لاغراض التصدي لوابل من صواريخ سكود السورية.
احد الخيارات الاخرى المتاحة هو تزويد المعارضة المسلحة بانظمة دفاع جوي فردية مزودة بقذائف ارض – جو محمولة على الكتف، والتي تخشى الولايات المتحدة وقوعها في ايدي القوى الاكثر تطرفا وعنفا بين المعارضة.
ليس بوسع احد تقديم اجابة دقيقة لمسألة ان كان بوسع منطقة حظر الطيران ستسهم في دعم المسلحين السوريين، سيما لطبيعة تشكيلاتهم المتعددة والميليشيات المستقلة والجيش الحر. فالميليشيات المستقلة قد تستخدم في عمليات للسيطرة على مناطق محددة، لكنها لا تشكل مكونا من الهيكلية القيادية، زد على ان مستوى ما تلقته من تدريب واسلحة لا يتجاوز الحدود الدنيا المطلوبة.
اما “الجيش الحر” فطبيعته تستند الى خفة التسليح، واثبت مرارا انه عاجز عن شن عمليات في المدن كبيرة الحجم في مواجهة الجيش العربي السوري.
مصدر القلق الغربي من الترسانة السورية لا يقتصر على سلاحها الجوي او صواريخ سكود فحسب، بل نوعية سلاح المدفعية والاسلحة الثقيلة التقليدية. حينها، لا ينفع المسلحين انشاء منطقة حظر الطيران الا ان شهدنا تدخلا فاعلا من سلاح الجو التابع لحلف الناتو، كما سبق في الحالة الليبية. كما اشد ما يخشاه اعضاء الناتو الصدام مع مظلة الدفاعات الجوية الكثيفة بحكم موقعها كدولة مواجهة في الحرب مع “الكيان الاسرائيلي،” مما يحرم سلاح طيران الناتو حرية الحركة فوق الاجواء السورية.
وكما هو الامر في الحلول السياسية المتعددة، فان التلويح بانشاء منطقة حظر للطيران يندرج تحت خانة الرغبات السياسية كحل سريع وليس كحل ناتج عن خطة عسكرية محكمة.
الاسلحة الكيميائية في سورية
انتشرت الشائعات والاتهامات مؤخرا حول دخول الاسلحة الكيميائية ميدان المعارك في سورية بالتزامن مع قرب زيارة اوباما لفلسطين المحتلة. اذ اوضح اوباما بما لا يدع مجالا للشك ان استخدام الاسلحة الكيميائية سيشكل “خطا احمرا” بالنسبة لاعتبارات الولايات المتحدة مما يقتضي ضمنا انه سيعد شرارة لتصعيد الدعم الاميركي لقوى المعارضة السورية.
التحقيق في الهجمات التي يعتقد ان سلاحا كيميائيا تم استخدامه فيها لم يسفر عن كشف المستور من القوى التي تقف وراءه، اذ تبين لاطقم الرعاية الطبية في المستشفيات القريبة من مسرح الهجوم ان علاج الضحايا لم يكن بسبب تعرضهم لمكونات او غازات كيميائية. بل ان الامم المتحدة التي سارعت لتشكيل فريق للتحقيق لم تنشر اية تفاصيل ذات أهمية؛ مما حفز البعض الاستناد الى فرضية ان الهجوم تم باستخدام غاز الكلور من مخزون مصنع الكلور في حلب المملوك لمصطفى الصباغ أمين عام الائتلاف السوري المعارض والذي يقع مصنعه تحت سيطرة جبهة النصرة. يذكر ان صباغ صرح لصحيفة “التايمز” اللندنية مؤخرا انه عقد اتفاقا مع جبهة النصرة يقوم بموجبه بتوريد 200 لتر من الوقود يوميا للحفاظ على تشغيل الصمامات في المصنع الذي تبلغ قيمته حوالي 25 مليون دولار.
بالرغم من الابهام وعدم اليقين لوقوع الحادث المتورطة فيه دول اقليمية، من المفيد القاء نظرة على تداعيات هجوم بالمواد الكيميائية السامة خلال الازمة السورية. من الثابت، اولا، ان سورية الدولة والمؤسسات لديها مخزون من غازات الاعصاب والحارقة قد تستخدم في اسلحة كيميائية. ثانيا، اخطرت عدد من الدول ان استخدام اسلحة كيميائية من احد جانبي الصراع سيعزز فرص التدخل العسكري الاجنبي. ثالثا، من واقع الحقائق العلمية فان الاسلحة الكيميائية لا تشكل حدا فاصلا جليا لما يسمى “بالخط الاحمر” في سياق حرب جارية. اذ هناك عدد من المكونات الكيميائية وانماط حربية لو استخدمت يصبح من العسير التحقق والتيقن مما جرى او تحديد هوية الطرف الجاني. وعليه، بوسع الرئيس اوباما اطلاق تصريحاته وتحذيره بحتمية التدخل ان تم تجاوز “الخط الاحمر،” لكن حقيقة الامر ان من يدري حقا ما جرى يبقى في دائرة محصورة على بعض الافراد مما يهيء للسياسيين مجالا للمناورة وفرصة للتنصل من اتخاذ اجراءات ردعية تواكب حجم التهديد اللفظي.
سنحصر دائرة استعراض مكونات الاسلحة الكيميائية في اربعة اقسام: مكونات كيميائية غير قانونية؛ مكونات كيميائية قانونية؛ مكونات كيميائية شبه قانونية؛ ومكونات كيميائية سامة اطلقت في سياق الاستخدام الفعلي للاسلحة المصنفة قانونية.
يندرج تحت تصنيف القسم الاول، مكونات غير قانونية، ثلاثة انواع من المكونات والتي تم تعريفها بانها غير قانونية من قبل الموقعين على المعاهدة الددولية لاستخدام الاسلحة الكيميائية، والتي لم توقع عليها سورية. وتشمل الغازات التي تسبب الحروق مثل غاز الخردل وغازات الاعصاب مثل غاز السارين وغاز “في اكس.” ترجح التقارير الصادرة عن هيئات دولية ان سورية تملك مخزونا من تلك الغازات مما حدى ببعض الدول الغربية الى اطلاق صيحاتها التحذيرية من امكانية استخدامها في مسرح المعارك الدائرة وتعريض المدنيين لسمومها.
التعرض لتلك الغازات وآثارها باتت معروفة، سيما وان الغازات الحارقة تحرق الطبقة الخارجية للجلد وتنتقل بسهولة كبيرة الى اي فرد يمسها خاصة اثناء تقديم مساعدة للمصاب. غازات الاعصاب عادة تسبب الوفاة المؤكدة خلال دقائق معدودة، ومن عوارضها احداث تشنجات في الجسد المصاب والتي تتطلب ارتداء بدلات واقية من قبل طواقم الاغاثة الطبية قبل تقديمهم المساعدة للضحايا.
تشكل تلك الغازات بمجملها ما اطلق عليه “الخطوط الحمراء،” التي تتكرر باستمرار في التصريحات والتحذيرات العلنية. من الثابت حتى اللحظة ان اي طرف من قطبي الصراع لم يثبت تورطه في استخدامها او ادخالها لميدان المعارك، سيما وان خواصها الكيميائية تترك آثارها لفترة زمنية ليست قصيرة مما يسهل اجراءات الحصول على عينات وتحليلها للتحقق منها.
المكونات “القانونية” المسموح استخدامها وفق تصنيف المعاهدة المذكورة تشمل الغازات المسيلة للدموع، والتي يثير احدها الشكوك باستخدامه خلال موجة الهجمات الاخيرة في سورية وراح ضحيتها عدد من المدنيين السوريين بضمنهم بعض الجنود – الا وهو غاز الكلور. وقد تم استخدام غاز الكلور بوفرة خلال الحرب العالمية الاولى، بيد انه لم يصنف ضمن الاسلحة الكيميائية من قبل اطراف المعاهدة الدولية.
في ذروة الحرب العالمية الاولى، 22 نيسان 1915، استخدم الجيش الالماني نحو 168 طنا من مادة الكلور مخزنة في 5،730 اسطوانة في احدى المعارك الثلاث الشرسة في مدينة ايبره، غربي بلجيكا، مما حفز الجيش الفرنسي اخلاء تحصيناته وترك مواقعه هربا من هلاك محقق، اسفر عن حدوث فجوة بعرض 730 مترا في الخطوط الدفاعية للحلفاء. ولسبب ما لم يستطع الجيش الالماني استثمار الثغرة قبل وصول امدادات الفرقة الاولى الكندية برفقة قوات فرنسية اخرى استجمعت على عجل.
من ميزات غاز الكلور سهولة استحضاره لمن يتوفر لديه معرفة بديهية بمباديء الكيمياء ونية الخوض في تجربة انتاجه. من خصائصه التسبب بحساسيات جلدية مفرطة والحاق الاذى بالعينين والانف والحنجرة والرئتين، فضلا عن سهولة استخدامه.
وكما استفادت القوات الكندية الفرنسية المشتركة آنذاك يصبح التغلب على عوارضه امرا يسيرا، منها تجنب الارتطام او الالتقاء على الارض او استمرار القيام في اعمال تسبب الاجهاد البدني. وبما ان الكلور سريع الذوبان في الماء، يمكن استخدام قطعة قماش مبللة بالماء لتغطية الفم والانف والعينين لتحييد المفعول. ويحتاج الكلور لدرجة تركيز عالية كي يصبح فتاكا.
وعلى الرغم من خطورته كمادة سامة فتاكة، الا ان معاهدة الاسلحة الكيميائية الدولية لم تصنفه كذلك، وقد لا يتم ادراجه ضمن “الخط الاحمر” الاميركي للتدخل في سورية بالاتساق مع ذلك.
المجموعة الاخرى من التصنيف، المواد شبه القانونية، والتي يعتبر استخدامها قانوني في بعض الاستخدامات. واهمها مادة الفوسفور الابيض، التي ينتج عن اطلاقها سحبا من الدخان على مواقع يراد تمويهها في ميدان المعركة، اذ ان سرعة احتراقه الشديدة بامكانها التهام القماش والوقود وذخائر الاسلحة والمواد القابلة للاشتعال في دائرة تأثيره الفتاكة، ويسبب حروقات جلدية كبيرة وربما الهلاك. من خصائصه القدرة على التسبب في حرائق جلدية عميقة وواسعة النطاق من طراز حروق الدرجة الثانية والثالثة، نظرا لخاصيته للالتصاق بالجلد. حروق الفوسفور الابيض ينطوي عليها معدلات كبيرة لوفاة المصاب، مقارنة بالمواد الاخرى، نظرا لخاصية الجسم في امتصاصه عبر بقع الاصابة، مما يسفر عن التسبب باضرار في اداء وظائف الكلى والكبد والقلب، وفي بعض الحالات تعطيل وظائف متعددة للجسم البشري. وقد استخدمت “اسرائيل” الفوسفور الابيض بكثافة في عدوانها على قطاع غزة 2008/2009، وعملية الرصاص المصبوب 2010، وشهد العالم آثاره البالغة وتأكيد اطقم الرعاية الطبية في معالجة المصابين عن استمرار احتراق خلايا الجسم بعد اصابتها بالفوسفور الابيض نظرا لتغذيته على مادة الاكسجين المتوفرة بالهواء مما يؤدي الى حروقات جلدية عميقة لحين حرمانه من الاكسجين.
نظرا للخطورة البالغة لاستخدامات الفوسفور الابيض، فقد وضعت الدول الموقعة على المعاهدة قيودا صارمة على استخداماته، منها عدم جواز استخدامه ضد السكان المدنيين. اما فيما يتعلق بظروف ميدان المعارك، فالغموض هو سيد الموقف، اذ يسمح باستخدامه لانتاج سحب دخانية، لكنه من غير المسموح به استعماله كاحد الاسلحة نظرا لاضراره السامة التي تشوه او تفتك بالجندي المصاب. وعليه، يصبح استخدام عبوة محشوة بالفوسفور الابيض لانتاج سحابة دخانية ضد تحصينات ارضية مسموح به، لكن يحرّم استخدامها بهدف الفتك بالافراد البشرية المحصنين داخلها.
وكما هي الحال في استخدامات غاز الكلور، فان استخدام المكونات الكيميائية شبه القانونية على ارض المعركة او ضد المناطق الآهلة بالسكان المدنيين يندرج تحت خانة مبهمة وملتبسة للحصول على رد محدد من دول معنية بانتاجه واستخدامه كالولايات المتحدة وحليفتها “اسرائيل.”
القسم الرابع والاخير من تصنيفات الاسلحة الكيميائية يضم المواد السامة الناتجة عن استخدام عدد من انواع الذخيرة المختلفة وما تنثره من سموم في الهواء. من المسلم به ان عددا من المتفجرات ينتج غاز اكسيد حامض النيتريك المصنف ضمن المواد السامة والفتاكة في الاستخدامات المنزلية، ويتطلب اقصاء العمال عن دخول مناطق حدوث التفجير حتى انقشاع وتبدد السحب الدخانية.
اطلاق الصواريخ ايضا ينتج عنها كميات كبيرة من الغازات السامة، وتستخدم بعض الجيوش الوقود الصاروخي الصلب واكسدته بمادة حامض بيركلور الامونيا، الذي عند تعرضه لمصدر حرارة خفيفة ينفث عدد من الغازات من ضمنها غاز الكلور. ينتج عن اطلاق الصواريخ غاز كلور الهيدروجين الذي يتحلل بسهولة الى عنصري الماء وحامض الهيدروكلور، ويتسبب بالضرر في وظائف الرئتين والعينين وجلد المصاب وتلويث مصادر المياه المحلية.
من السخرية ان هذ المكونات تندرج تحت التطبيقات القانونية مع العلم بالاضرار التي تسببها اضرارها الجانبية او حتى الفتك بالمدنيين في محيط ميدان المعارك. كما من شأن الرياح القوية تبديد الدخان والمواد المتبخرة في اجواء المناطق الآهلة المفتوحة، بيد ان خطر الغازات السامة وتأثيرها يبقى قائما، سيما في المناطق المنخفضة التي يتحصن فيها المدنيون اتقاء للمجازر الجارية فوق سطح الارض.
في المحصلة العامة، تتواجد المواد ومكونات الاسلحة الكيميائية بوفرة عالية في ساحات المعارك، والقليل جدا منها يدخل في تصنيف “الخطوط الحمراء” عند استخدامه وتطبيقه.
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
مدير المركز: د. منذر سليمان
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com