عبداللطيف مهنا
“لقد سقط ميسرة ضحيةً لقهر السجَّان الإسرائيلي، وفداءً لمعركة العزة والكرامة التي سطَّر حروفها الآلاف من أبناء شعبنا الفلسطيني الصامد”. هذه الكلمات هي مقتطف من رسالة تعزية باستشهاد الأسير ميسرة أبو حمدية وجهها لأسرته ولشعبه رفيقه الأسير المشرف على الإستشهاد والمضرب عن الطعام لليوم الخامس والعشرين بعد المئتين سامر العيساوي. المُعزِّي والمُعَزَّى به والكلمات المقتطفة هذه تلخيص كافٍ لملحمةً الأسرى الفلسطينيين النضالية الفريدة، التي هى في حد ذاتها إضافة أصيلة وجزء لا يتجزأ من الملحمة الكفاحية الأشمل لشعبٍ مناضلٍ، هو أسطوري في صموده، وفريد في تضحياته، ومعطاء بلا حدود فيما بذله ويبذله وماهو جاهز لأن يبذله في سبيل قضيته العادلة كالشعب العربي الفلسطيني… كلمات سامر تختصر عذابات ومعاناة هذا الشعب التي تعدت كل المعهود من الحدود، وأشَّرت، وعلى إمتداد ماينوف عن الستة عقودٍ، على مدى غير مسبوقٍ، من حيث كونه الموغل في همجيته ووحشيته وفجوره، هذا الذي قطعه المستعمرون الصهاينة منذ اغتصابهم لفلسطين، مستندين إلى غربٍ إستعماريٍ هم، كما هو معروف، صنيعته ومدللوه، وحيث يتيح لهم مايرتكبونه واقع لعالمٍ هو، إما متواطىء معهم، أوصامت ازاء جرائمهم، أومتستَّر على فظائعهم، أو هو إجمالاً باتً المنقسم موضوعياً إلى داعم لهم فمشارك فيها، أومتجاهل لها فمتستِّرعليها، أو عاجز أو لامبالٍ، كغالب العرب، يشيح الوجه فيغدو كشاهد الزور، بل الأقرب عملياً الى المتواطىء.
لم يكن الشهيد ميسرة أبو حمدية ولا سامر العيساوي، الذي هو، ووفق حالته الصحية المتدهورة، قاب قوسين أو أدنى من الإستشهاد، بالمختلفين كثيراً عن الألاف من رفاقهما في معتقلات الإحتلال… تاريخ نضالي مشرِّف وسجِّل فدائي ناصع مضحي، ومرات إعتقالٍ تعددت وتوالت إفراجاً واعتقالاً، وانتهت إلى عقودٍ خلف القضبان، ومؤبدات من أحكامٍ، مع ما رافقها من تعذيبٍ وأمراضٍ وصمودٍ حتى الشهادة. ولاحالهم، بالمعنى الأشمل، يختلف عن حال شعبٍ بأسره، هو إما رهن معتقلاته الكبرى المجزأة المسوَّرة داخل وطنه المغتصب أو في منافيه البعيدة والقريبة الشبيهة البائسة… لكنما ميسرةً تفرَّد بأن أرسله سجَّانوه القتلة إلى الموت بمنع علاجه من مرض السرطان إلابعد تفشيه واستحالة علاجه أو عدم جدواه وقبل أيامٍ قليلةٍ من وفاته… كانوا قبلها يكتفون بإعطائه دواء إنفلونزا أو يجرون عليه كباقي رفاقه المرضى تجاربهم الدوائية، وأخيراً، عندما قرروا معالجته الصورية اخضعوه لجلسات علاجهم مكبلاً بالأغلال. أما سامر العيساوي فقد غدا رمزاً لما يعرف بمعركة “العزة والكرامة”، التي يخوضها الأسرى الفلسطينيون، وبات أيقونةً من أيقونات صمودهم الإسطوري في نضالهم المعروف بمعركة ” الأمعاء الخاوية”… هناك في المعتقلات الصهيونية العديدة، التي تكتظ بهؤلاء الأبطال الأسرى، الالاف من ميسرة وسامر، وحديثهم، حديث هؤلاء القادة الميامين، تاريخ لاينقطع، ومشاعلهم النضالية التي جسَّدوها تتلقفها معهم أو من بعدهم الأيدي المكبلة يد بعد يدٍ فلا تخبو ولا تنطفىء.
مثل ميسرة، خمسة وعشرون من الأسرى مصابون بالسرطان، تشير بعض الدلائل إلى أن أمر التسبب في أصابتهم بهذا المرض الخبيث مُتعمَّد لايمكن تبرأة الصهاينة منه، وهؤلاء حالهم لايختلف عما كان هو حال الشهيد ميسرة، أي يعالجون بحبوب مكافحة الإنفلونزا، أو يعطونهم أدويةً غامضةً تخدم برامج التجارب الصهيونية الدوائية المتبعة التي تجرى على الأسرى، وأن هم إضطروا أخيراً لإخضاعهم لجلسات علاجٍ فهى تتم وهم يرسفون في الأصفاد. ومن حيث مدى التدهور الصحي للأسرى في سجون الإحتلال، فهى تضم الفاً وخمسمئة من الحالات المتردية والعديد منها في أوضاعٍ حرجةٍ، ومنها حالة سامر العيساوي مثلاً، وثمانية عشر من هؤلاء هم الآن يقيمون في سجن الرملة العسكري بسببٍ من حلاتهم المزمنة والخطرة. ومما يجدر ذكره، أن عدد من استشهد حتى الأن من الأسرى هو مئتان وسبعة وخمسون أسيراً، واحد وسبعون منهم جراء التعذيب وأربعة وخمسون نتيجةً للإهمال الطبي المُتعمَّد، وأربعة وستون قتلاً، أوتصفيةً متعمدةً، أثناء عمليات الإعتقال أو برصاص حرَّاسهم…
عاد ميسرة مسجىً الى الخليل. غادر معتقلهم وبقيت فلسطين خلف قضبانهم. شيَّعته مدينته كما يليق بفرسانها. سارت فلسطينه كلها خلف نعشه… عمت غضبتها واتسعت وطناً ومنافٍ. سقط شهداء وكان كثير الجرحى وعديد المعتقلين… هل هى الإنتفاضة الثالثة ؟!
ربما من التسرُّع قول مثل هذا الآن على الأقل، فالموانع عديدة، ذكرنا بعضها في مقالٍ سابقٍ، ومنها أن السلطة الأوسلوية تستميت لأن تحول دون تطور هذه الغضبة الشعبية إلى إنتفاضة لايمكن السيطرة عليها ومواصلة إلتزاماماتها الأمنية تجاه الإحتلال في ظلها. هذا إذا بقيت سلطة إن هى اندلعت… تريدها أن تبقى مادونها، بمعنى القابلة للصرف في بازارات جولات كيري التفاوضية الإيهامية المقتربة.