تأليف جون بيركنز وترجمة بسام ابو غزالة.
الفصلُ الثلاثون
الولاياتُ المتحدة تغزو بنما
مات توريجُس، لكنّ بنما بقيتْ تحتلُّ مكاناً خاصاً في قلبي. وإذ كنتُ أعيشُ في جنوب فلوردا، فقد توافرتْ لي مصادرُ عديدةٌ للمعلومات عن الأحداث الجارية في أمريكا الوسطى. بقيَ إرثُ توريجُس حيا من بعده، حتى وإن رشح من خلال أناس لم يوهبوا شخصيتَه الودودَ وحضورَه القويّ. وبقيتْ بعد موته أيضاً محاولاتُ تسوية الخلافات في أنحاء نصف الكرة؛ كذلك بقي تصميمُ بنما على إجبار الولايات المتحدة على احترام بنود معاهدة القناة.
في البدء، بدا خليفة توريجُس، مانوِل نُرييغا، ملتزما بالحذو حذوَ مُعلِّمه. لم أقابل نُرييغا شخصيا قط، لكنه، من كل ما قيل عنه، جهد بدايةً في دعم قضية الفقراء والمضطهدين في أمريكا اللاتينية. وكان أحدَ أهم مشاريعه الاستكشافُ المستمرُّ لإمكانيات نجاح بناء قناة جديدة يموِّلُها ويبنيها اليابانيون. وكما كان متوقعا، لقد واجه مقاومةً شديدةً من واشنطن ومن الشركات الأمريكية الخاصة. وقد كتب نُرييغا نفسُه:
كان وزيرُ الخارجية جورج شُلتز مديرا تنفيذيا سابقا لشركة البناء متعددة الجنسيات بِكتِل؛ وكان وزيرُ الدفاع كاسبر واينبيرغر نائبَ رئيس بِكتِل. ولن يكون لدى بِكتِل ما هو أحبُّ على نفسها من أن تجني مليارات الدولارات التي سيُولدها بناءُ القناة. … كانت إدارةُ ريغن وبوش تخشى إمكانية أن تستولي اليابانُ على مشروع بناء القناة القادم؛ ولم يكن هناك قلقٌ أمنيٌّ في غير محله حسب، بل ثمّة أيضاً مسألة التنافس التجاري. ذلك أنّ شركاتِ البناءِ الأمريكيةَ مقدّرٌ لها أن تخسر مليارات الدولارات.[i]
لكن نُرييغا لم يكن توريجُس. فلم تكن له جاذبيةُ رئيسه السابق ولا كمالُه. وعلى مرِّ الوقت، شاعت عنه سمعةُ فسادٍ وتعاملٍ بالمخدرات كريهة، بل ظُنّ فيه أنه رتَّب اغتيالَ منافسٍ سياسيٍّ له، هو هوغو سْبادافورا.
بنى نُرييغا سمعته كعقيد يقود الوحدة ج-2 من قوات الدفاع البنمية، وهي قيادةُ الاستخبارِ العسكريِّ التي كانت الصلةَ الوطنيةَ مع وكالةِ الاستخبارِ المركزية. وبهذه الصفة، كانت له علاقةٌ حميمة مع مدير هذه الوكالة، وليم ج. كاسي. وقد استخدمت الوكالةُ هذه العلاقةَ في دعم برنامجها في جميع أرجاء الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية. من ذلك أنه حين أرادت إدارةُ ريغن أنْ تُعطي كاسترو تحذيرا مسبقا بغزوها غرينادا عام 1983، طلب كاسي من نُرييغا أن يكون الرسول. كذلك ساعد العقيدُ وكالةَ الاستخبار في اختراق عصابات المخدرات الكولُمبية وغيرها.
بحلول العام 1984، رُفِّع نُرييغا إلى رتبة جنرال وسُمّي قائدا أعلى لقوات الدفاع البنمية. يُروى عن كاسي حين وصل مدينة بنما في تلك السنة واستقبله في المطار المديرُ المحليُّ للوكالة أنه سأل، “أين صبيِّي؟ أين نُرييغا؟” وحين زار الجنرالُ واشنطن، اجتمع الاثنان على حدة في منزل كاسي. بعد ذلك بعدة سنين، اعترف نُرييغا بأن ارتباطه الوطيد بكاسي جعله يشعر بأنه لا يُقهر. كان يعتقد أن وكالة الاستخبار المركزية، مثل ج-2، هي أقوى فرع لحكومة بلادها. وكان مقتنعا بأن كاسي سيحميه، بالرغم من موقف نُرييغا من معاهدة قناة بنما والقواعد العسكرية الأمريكية في منطقة القناة.[ii]
وهكذا، بينما كان توريجُس رمزا عالمياً للعدالة والمساواة، أصبح نُرييغا رمزاً للفساد والانحطاط. وقد أُكِّدتْ سمعتُه السيئة في هذا المجال حين كتبت نيويورك تايمز، يوم 2 حزيران 1986، في صفحتها الأولى مقالا بعنوان، “قال رجلُ بنما القويُّ إنه يتاجر بالمخدرات والمال المحظور”. ويزعم المقال، وقد كتبه صحفي نال جائزة بُلِتزر، أن الجنرال كان شريكا سريا وغيرَ شرعيٍّ في كثير من الأعمال التجارية في أمريكا اللاتينية، وأنه تجسس على الولايات المتحدة وكوبا ولهما كعميل مزدوج؛ وأن ج-2، بأوامر منه، قامت بجزِّ رأس هوغو سْبادافورا؛ وأن نُرييغا كان يُوجِّه شخصياً “أهم عمليات تهريب المخدرات في بنما.” ونُشرت مع المقال صورةٌ للجنرال لا تُطريه. وفي اليوم التالي صدرت تكملة بتفاصيل أكثر.[iii]
ولكي يُضاعف من مشاكله الأخرى، أُرهِق نُرييغا برئيس أمريكي يُعاني من مشكلة في صورته العامة، وهي ما أشار له الصحفيون بـ”عامل التردد”* لدى جورج بوش [الأب].[iv] وكان لهذا العامل أهمية خاصة حين رفض نُرييغا بعناد النظر في تمديدٍ لوجود مدرسة الأمريكيتين لخمسةَ عشرَ عاما. وفي مذكرات الجنرال نظرة عميقة ممتعة:
بقدر ما كنا مصممين وفخورين في اتباع إرث توريجُس، بقدر ما كانت الولايات المتحدة راغبةً عنه. كانوا يريدون تمديدا للمنشأة [مدرسة الأمريكيتين] أو إعادة التفاوض بشأنها، قائلين إنهم ما زالوا في حاجةٍ إليها بسبب التحضير المتزايد للحرب في أمريكا الوسطى. لكنّ تلك المدرسة كانت إحراجا لنا، لأننا لم نكن لنقبل بأرض تدريب لفرق الموت وللعسكريين اليمينيين القمعيين.[v]
لذلك ربما كان على العالم أن يتوقعها؛ لكن الحقيقة أن العالم صُدم حين هاجمت الولاياتُ المتحدةُ بنما، في 20 كانون الأول 1989، هجوماً وُصف بأنه أكبر اعتداء محمول جوا على مدينة منذ الحرب العالمية الثانية.[vi] لقد كان هجوما غير مُستفَزٍّ على سكانٍ مدنيين. ذلك أن بنما وأهلها لم يشكلا إطلاقاً أيَّ تهديد للولايات المتحدة أو أية دولة أخرى. وقد شجب السياسيون والحكومات والصحافة حول العالم العملَ الذي ارتكبته الولايات المتحدة من طرف واحد باعتباره خرقاً للقانون الدولي.
فلو أنّ هذه العملية العسكرية كانت موجهةً ضد دولةٍ ارتكبت قتلا جماعيا أو جرائم أخرى ضد حقوق الإنسان – مثل تشيلي تحت بنوشيه، أو براغواي تحت سْتْرُسْنَر، أو نيكاراغوا تحت ساموزا، أو السلفادور تحت دُبْويسون، أو العراق تحت صدام، مثلا – فقد يتفهمُ العالمُ الأمر. لكنّ بنما لم تفعل شيئا من هذا. كلُّ ما فعلته أنها تحدّتْ حفنةً من السياسيين ومدراء الشركات ذوي السلطة. لقد أصرّتْ على احترام معاهدة القناة، وعقدتْ مناقشاتٍ مع إصلاحيين اجتماعيين، واستكشفت إمكانية بناء قناة جديدة بالتعاون مع شركات يابانية للتمويل والبناء. ونتيجة لذلك عانت من عواقب مدمرة. وكما وصفها نُرييغا:
أريد أن أُبيِّنَ الأمر بوضوح تام: إن حملة زعزعة الاستقرار التي شنتها الولايات المتحدة عام 1986، والتي انتهتْ بغزو بنما عام 1989، كانت نتيجةً لرفض الولايات المتحدة أيَّ مشهد قد يكون فيه مستقبل السيطرة على قناة بنما في يد بنما المستقلة ذات السيادة – تدعمها اليابان … في الوقت ذاته، نرى شُلتز وواينبيرغر، وهما مُقنَّعَان بقناع المسؤولين العاملين للمصلحة العامة ومتنعمَيْن بالجهل العام بالمصالح الاقتصادية القوية التي يمثلونها، يشنون حملة دعاية للتخلص مني.[vii]
أما تبرير واشنطن المعلن للهجوم، فقد بُني على رجل واحد. كان منطقُ الولايات المتحدة في إرسالِ شبابها وشاباتها للمخاطرة بحياتهم وضمائرهم في قتل الأبرياء من الناس، بمن فيهم عددٌ غير معروف من الأطفال، وإشعالِ النار في قطاعات ضخمة من مدينة بنما، هو نُرييغا. لقد وُصف بأنه شريرٌ، وعدوٌّ للبشرية، ووحشٌ يُهرِّب المخدرات، وبهذا أعطى الإدارةَ حُجةً لغزوٍ ضخمٍ لدولةٍ تعدادُها مليونا نسمة – وكان من قبيل الصدفة أنها تقع على أكثر عقارات العالم قيمة.
أزعجني هذا الغزو إلى درجة أنّ اكتئاباً أصابني واستمر يلازمني عدة أيام. كنتُ أعلم أن لنُرييغا حرساً شخصيين، لكنني لم أستطع إلا أن أظن أن في إمكان الواوياتِ أن يأخذوه، كما فعلوا برُلْدُس وتوريجُس. كان معظم حراسه قد تدربوا على أيدي عسكريين أمريكيين، وربما كان يُمكنُ رشوتُهم إما ليغضّوا الطرْفَ أو ليقوموا بعملية الاغتيال بأنفسهم.
لذلك، كلما فكّرتُ بالغزو وقرأتُ عنه، كلما ازددتُ قناعةً بأنه مؤشر على ارتدادٍ سياسيٍّ لدى الولايات المتحدة إلى الوسائل القديمة لبناء الإمبراطوريات، وبأن إدارة بوش كانت مصممةً على أن تسبق ريغن وتُظهِرَ للعالم أنها لن تتردد في استعمال القوة المفرطة لكي تُحقق أهدافها. كذلك بدا أن الهدف في بنما، بالإضافة إلى إحلال إدارةٍ أُلعوبةٍ مؤيدةٍ للولايات المتحدة محل إرث توريجُس، كان إرعابَ دول كالعراق لكي تخضع.
لديفِد هارِس، المحرّر في مجلة نيويورك تايمز والمؤلف لكتبٍ كثيرة، ملاحظةٌ ممتعة. يقول في كتابه، رميُ القمر:
إن الجنرال مانول أنطونيو نُرييغا، من بين آلاف الحكام، والملوك، والرجال الأقوياء، والطُّغَم، وأمراء الحرب الذين تعاملت معهم الولاياتُ المتحدةُ في كل زاويةٍ من زوايا العالم، هو الوحيدُ الذي لاحقه الأمريكيون هكذا. مرةً واحدةً فقط خلال 225 عاماً من وجودها القومي الرسمي، غزت الولاياتُ المتحدةُ دولة أخرى وحَمَلتْ رئيسها إلى الولايات المتحدة ليُحاكَمَ ويُسجَنَ لإخلاله بالقانون الأمريكي على أرض بلادِ ذلك الحاكم الأجنبية.[viii]
بعد القصف، وجدت الولاياتُ المتحدة نفسها في موقف حساس. فلوهلة، بدا وكأن كل شيء سيرتد عليها. قد تكون إدارةُ بوش أنهت الشائعات عن تردده، لكنها الآن واجهت مشكلة الشرعية بظهورها مظهر الثور الهائج المرتكب عملا إرهابيا. وقد كُشف عن أن الجيش الأمريكيّ منع الصحافة، والصليب الأحمر، ومراقبين خارجيين آخرين من دخول المناطق التي قُصفت قصفاً عنيفا لثلاثة أيام، بينما كان الجنود الأمريكيون يُحرقون القتلى ويدفنونهم. وقد سألتْ الصحافةُ أسئلةً عن كمية الأدلة الجنائية وغيرها من سوء التصرف، وعن عدد الذين ماتوا لأنهم حُرموا من العناية الطبية في الوقت الصحيح. بيد أن هذه الأسئلة لم تجد جوابا.
لن نعرف الكثير من الحقائق حول ذلك الغزو أبدا، ولن نعرف أيضاً مدى تلك المجزرة. وقد زعم وزير الدفاع رِتشرد تشيني أن عدد القتلى هو ما بين خمسمئة وستمئة، لكن جماعات حقوق الإنسان المستقلة قدّرت العدد بثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف، بالإضافة إلى خمسة وعشرين ألفا تُركوا بلا مأوى.[ix] وقد اعتُقِل نُرييغا، وطُيِّرَ إلى ميامي، وحُكم عليه بالحبس أربعين سنة. وفي ذلك الوقت، كان الوحيد في الولايات المتحدة الذي صُنِّف رسميا أسيرَ حرب.[x]
لقد غَضِبَ العالمُ لهذا الخرق للقانون الدولي ولتدمير شعب أعزل بدون داعٍ على يد أقوى قوةٍ عسكرية على وجه الأرض؛ لكن قلةً قليلةً فقط في الولايات المتحدة كانت على علم بالغضب أو بالجرائم التي اقترفتها واشنطن. فالتغطية الصحفية كانت قليلة جدا بسبب عدد من العوامل، منها سياسةُ الحكومة، والمكالماتُ الهاتفية من البيت الأبيض للناشرين ومديري محطات التلفزة، وأعضاءُ الكنغرس الذين لم يجرُؤوا على الاعتراض، خشية أن يُصبح عاملُ التردد مشكلة لهم، وأن الصحفيين ظنوا أن الشعب يحتاج إلى أبطال لا إلى موضوعية.
كان هناك استثناء، هو بيتر آيزْنَر، المحرر في نيوزداي، والمراسل لدى الأسوشييتد برس، الذي غطى غزو بنما واستمرّ لسنوات في تحليله. في مذكرات مانول نُرييغا: أسير أمريكا، المنشورة عام 1997، كتب آيزنر يقول:
كان القتل، والتدمير والظلمُ المُرتكب باسم محاربة نُرييغا – والأكاذيبُ حول هذا الحدث – تهديداً لأبسط مبادئ الديمقراطية الأمريكية. … أُمِر الجنودُ أنْ يرتكبوا القتلَ في بنما، ففعلوا ذلك حين قيل لهم إن عليهم أنْ يُخلِّصوا بلداً من قبضة مستبدٍّ متوحشٍ فاسق. وحين فعلوا ما فعلوا، كان الناسُ في بلادهم (الولايات المتحدة) يمشون من ورائهم قدماً على قدم.[xi]
وبعد بحث مطوّل، بما في ذلك مقابلات مع نُرييغا في زنزانة حبسه في ميامي، كتب آيزنر يقول:
في النقاط الرئيسية، لا أظن أن الدليل يُثبتُ أنّ نُرييغا مذنبٌ أمام الاتهامات الموجَّهة له. ولا أعتقد أنّ أعماله كقائد عسكريٍّ أجنبيٍّ أو كرئيس دولة ذات سيادةٍ تُبرر غزو بنما أو أنها تُمثل تهديداً لأمن الولايات المتحدة القومي.[xii]
ويخرج آيزنر بالنتيجة التالية:
إن تحليلي للوضع السياسي وتقاريري [الصحفية] عن بنما قبل الغزو، وفي أثنائه، وبعده جعلتني أستنتج أن غزو الولايات المتحدة لبنما كان سوء استخدام بغيضاً للقوة. وقد خدم هذا الغزوُ أهداف السياسيين الأمريكيين وحلفائهم البنميين، على حساب دم مسفوكٍ بلا ضمير.[xiii]
أعيدت إلى حكم بنما أسرة آرياس، وهي القلة الحاكمة قبل توريجُس، والتي كانت ألعوبةً بيد الولايات المتحدة منذ اقتُطعت بنما من كولُمبيا حتى استلم توريجُس الحكم. أما معاهدةُ القناة الجديدة، فأصبحت موضع نقاش. وجوهر المسألة أن واشنطن عادت مرة أخرى لتسيطر على ذلك الممر المائي، بالرغم مما تقوله الوثائق الرسمية.
تأملتُ تلك الأحداث وكلّ ما خبرتُه في أثناء عملي مع شركة مين، فوجدتُني أسألُ الأسئلةَ ذاتها مرةً بعد أخرى: كم من القرارات – ومنها قراراتٌ ذات أهميةٍ تاريخية تؤثّرُ في ملايين الناس – يأخذُها رجالٌ ونساءٌ تحفزهم دوافعُ شخصيةٌ لا رغبةٌ في عمل الشيء الصحيح؟ كم من مسؤولي حكومتنا الأعلين يحفزهم الجشعُ الشخصيُّ بدل الولاء الوطني؟ كم من الحروب تُخاض لأن رئيساً ما لا يريد أن يعتبره منتخِبوه مترددا؟
بالرغم من وعودي لرئيس شركة ستون آند وبستر، كانت خيبةُ أملي وشعوري بالعجز بسبب غزو بنما تحثُّني على العودة إلى العمل على كتابي، باستثناء أنني الآن قررتُ أنْ أُركِّز على توريجُس. فقد وجدتُ في قصته وسيلةً لكشف الكثير من المظالم التي تُفسد عالمنا، وبها أتخلص من شعوري بالذنب. بيد أنني في هذه المرة قررتُ السكوت عما أفعل بدل طلب النصح من أصدقائي وزملائي.
وإذ شرعت في العمل على الكتاب، أذهلني مقدارُ ما حققناه نحن القتلةَ الاقتصاديين في أماكن كثيرة. حاولتُ التركيز على دول قليلة بارزة، لكنّ لائحة الأماكن حيث كنتُ أعمل، والتي أصبحت أسوأ بعد ذلك، كانت مذهلة. كذلك ارتعبتُ من مدى فسادي أنا. لقد قمتُ بالكثير من مراقبة النفس، لكنْ تبيّن لي أنني في لجة العمل كنتُ أركز على أنشطتي اليومية إلى حدٍّ لا أرى فيه المنظور الأوسع. لذلك، حين كنتُ في إندونيسيا، كنتُ أغتاظُ من أشياء أناقشها مع هِوَرد باركر، أو من مواضيع يثيرها الشبابُ الإندونيسيون أصدقاءُ راسي. وحين كنتُ أعمل في بنما، تأثرتُ في أعماقي من دلالات ما كنت أرى حين عرّفني فِدِل على أحياء الفقراء الرثة، ومنطقة القناة، والملهى. وفي إيران، أزعجتني مناقشاتي مع يامين و(دك). والآن، أعطتني كتابةُ هذا الكتاب نظرة شاملة. أدركتُ كم سهلا كان ألا أرى الصورة الكبرى وأن أفتقد بذلك الدلالة الصحيحة لأعمالي.
ما أسهلَ هذا وما أوضحَه. مع ذلك، ما أخبثَ طبيعةَ هذه التجارب. بالنسبة إليّ، إنها تستحضرُ لي صورةَ جنديّ. في البداية يكون ساذجا. قد يسأل عن أخلاقية قتل الآخرين؛ لكنّ عليه في الأغلب أنْ يتعاملَ مع خوفه، ويُركزَ على بقائه حيا. وبعد أنْ يقتل أول أعدائه تستولي عليه العواطف. قد يتساءل عن أسرة القتيل فيشعر بالندم. لكنه بمرور الوقت، وبمشاركته في معاركَ أكثر، وبقتله مزيدا من الناس، يتحجّر قلبه، فيتحوّل إلى جنديٍّ محترف.
أصبحتُ أنا جنديا محترفا. والاعتراف بهذه الحقيقة فتح الباب لفهم أفضل للعملية التي تُرتكب بموجبها الجرائمُ وتُبنى الإمبراطوريات. أصبحتُ الآن أفهم لماذا ارتَكبتْ الكثرةُ من الناس الفظائع – كيف، على سبيل المثال، استطاع إيرانيون طيبون، يُحبُّون أُسرهم، أن يعملوا في صفوفِ شرطة الشاه السرية المتوحشة؛ وكيف استطاع ألمانٌ طيبون أن يخضعوا لأوامر هتلر، وكيف استطاع رجال ونساء أمريكيون طيبون أن يقصفوا مدينة بنما.
لم أتقاض، كقاتل اقتصادي، فلساً واحداً بشكل مباشر من وكالة الأمن القومي أو من أية وكالةٍ حكومية أخرى؛ فقد كانت شركة مين هي التي تدفع راتبي. كنت مواطنا يعمل في القطاع الخاص، وتستخدمه شركة خاصة. وقد ساعدني فهمُ هذا الأمر في أنْ أرى بوضوحٍ أكبرَ الدورَ الناشئ لمديرٍ تنفيذيٍّ لدى شركةٍ في ثوب قاتلٍ اقتصادي. إنه صنف جديد تماما من الجنود يظهر على مسرح العالم. كتبتُ ما يلي:
اليوم يذهب رجال ونساء إلى تايلند، والفلبين، وبُتسوانا، وبوليفيا، وإلى كل دولة أخرى، حيث يأملون في العثور على أناس في أشد الحاجة إلى العمل. يذهبون إلى تلك البقاع وغايتهم الصريحة استغلالُ أناسٍ مساكين – أناسٍ يُعاني أطفالهم من نقص حاد في التغذية، بل من المجاعة، أناسٍ يعيشون في مدن الصفيح وقد فقدوا كل أمل في حياة أفضل، أناسٍ كَفُّوا حتى عن أنْ يحلموا بيوم آخر. أما هؤلاء الرجال والنساء فلهم مكاتبهم الفخمة في منهاتن أو سان فرانسسكو أو شيكاغو، ويعبرون القارات والمحيطات في طائرات نفاثة مترفة، وينزلون في فنادق الدرجة الأولى، ويتناولون وجباتهم في أفخم مطاعم البلد. ثم بعد ذلك يذهبون للبحث عن اليائسين.
لا يزال لدينا اليوم نخّاسون. وهؤلاء لم يعودوا يجدون ضرورةً في الذهاب إلى غابات أفريقيا للبحث عن عيناتٍ ممتازةٍ تُدفع فيها أعلى الدولارات في مواقع المزاد في شارلستُن، وقرطاجنة، وهافانا. فهم ببساطة يُوظفون الناس اليائسين، ويبنون مصنعاً لإنتاج المعاطف والجينز الأزرق وأحذية التنس وقطع غيار السيارات ومكونات الحاسوب وآلافا من بنود أخرى يستطيعون بيعها في الأسواق التي يختارون. أو قد يختارون حتى ألا يمتلكوا المصنع بأنفسهم، بل يستخدمون رجل أعمال محليا ليقوم بالعمل القذر بدلا منهم.
هؤلاء الرجال والنساء يرون سلوكهم مستقيما. يعودون إلى بيوتهم يحملون صورا لمواقع غريبة وآثار قديمة ليراها أطفالهم. يحضرون منتدياتِ الدراسةِ حيث يُربِّتون على ظهور بعضهم بعضا، ويتبادلون الأنباء السارة للتعامل مع تصرفات الجمارك الغريبة في البلاد القصية. ويستخدم رؤساؤهم المحامين الذين يؤكدون لهم أن ما يفعلونه شرعيٌّ تماما. وتحت تصرفهم إطار من معالجين نفسانيين وخبراء آخرين في الموارد البشرية لإقناعهم بأنهم إنما يساعدون أولئك اليائسين.
كان النخّاسُ ذو النمط القديم يقول لنفسه إنه يتعامل مع صنف ليس بشرا سويا، ويمنحه فرصةَ أن يتنصّر. وكان يُدرك أيضاً أن العبيد مُهمون لبقاء مجتمعه، وأنهم أساس اقتصاده. أما النخّاسُ الحديث، فيؤكد لنفسه (أو نفسها) أنه أفضل لليائسين أن يكسبوا دولارا واحدا في اليوم من ألا يكسبوا شيئا، وأنهم يُمنحون فرصة الاندماج في المجتمع العالمي الأكبر. وهو يُدرك أيضاً أن هؤلاء اليائسين مهمُّون لبقاء شركته، وأنهم أساس أسلوب حياته. ولا يتوقف ليفكر بالدلالات الكبرى لما يفعله هو للعالم، وأسلوب حياته، والنظام الاقتصاديّ وراءها – أو للأثر الذي قد يتركه على مستقبل أطفاله.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.