عادل سمارة
كان رشيد باشا هو الصدر الأعظم في إمبراطورية الاستعمار العثماني في ثلاثينات القرن التاسع عشر. حينها قرر السلطان اخذ قرض من النمسا، فكان راي رشيد باشا: إن هذا الدولة إذا ما تورطت في المديونية، فإنها لن تنهض ابداً”. وهكذا كان، لم تنهض تلك الدولة رغم أنها كانت تمتص دماء الأمة العربية بأجمعها ربما باستناء سكان جبال اليمن الشاهقة وجزء من مراكش.
ولست هنا بصدد مقارنة سلطة الحكم الذاتي بامبراطورية الاستعمار العثماني باي حال، وكل ما أود الإشارة، أن هذه السلطة بدأت كمشروع سياسي بدون دراسة جدوى اقتصادية للمشروع مع أن كثيرا من الإقتصاديين كتبوا بأن هكذا “سلطة، دولة، كيان…الخ” لن تكون قابلة للحياة. وبالطبع، لا أقول الجدوى السياسية لأنها مشروع تسوية ومساومة بلا مواربة.
هنا تتعدد المواقف، البعض يقول هذا وطننا ومن حقنا إقامة دولة…الخ، وهذا أمر نختلف عليه كثيراً لأن الوطن هو كل فلسطين، مع ان من حقنا إقامة سلطة على اي شبر محرر حقاً، وهذا لم يحصل، ولو حصل فلا شك أننا سوف نقبل الاشتراك في الفقر والقناعة والشغل. وهنا أتذكر فصائل اليسار التي طالما تحدثت عن شرطها بوجود شبر محرر، لم يتحرر الشبر ولم تتورع عن التورط في ورطة أوسلو. هذا حديث مزعج للكثيرين،ولكنني لن أخون عقلي أمام اي فتى أو فتاة تتوسم من أي امرىءٍ خيراً أي صدقاً.
منذ جلسات مفاوضات مدريد العشرة والتي جرى تقديس شخوصها بأنهم أفضل من ياسر عرفات الذي رتَّب أوسلو من وراء فريق مدريد كما يزعمون، مع ان هذا الفريق كان ضمن موقف الاعتراف بالكيان، فلا فرق إذن، لا بل إن هذا الفريق بلا تراث كفاحي اصلا، ولذا تم اختياره والإضاءة عليه. منذ تلك المفاوضات واتفاق أوسلو، انقسمنا إلى أكثرية تغرد لأوسلو وأقلية ترفضه، ولاحقا تورطت الأكثرية الساحقة في أوسلو بالمشاركة في الانتخابات والصراع على السلطة. وكنت ممن يغضون الطرف عن تورط حماس في تلك الانتخابات لأنها كانت تعتمد المقاومة، ولكن حين انتهت حماس في دوحة قطر، فقد ذاب الثلج، ولن تحافظ عليه محركات بقوة طاقة الشمس. وهكذا، اتضح أن حماس قد وظفت الشهداء والجرحى والوطن من أجل سلطة الصدر الأعظم في غزة، والآتي “أعظم”. واذا كانت سلطة فتح في رام الله مأخوذة باللبرالية الجديدة، فإن سلطة غزة مأخوذة باموال الريع النفطي التي تنفق على الحجاب أكثر مما تنفق على الرصاص والدواء! ذلك أن من يدفع هو حاكم قطر.
ما يهمني هنا هو أن الولايات المتحدة والكيان كانتا حريصتين على تطوير وضع فريق سياسي “بريىء” من تاريخ الكفاح المسلح. لذا كان التركيز على د. حيدر عبد الشافي و د. حنان عشراوي، والكثير من محاضري جامعة بير زيت ولاحقا د. مصطفى البرغوثي ومن ثم مدراء الأنجزة وصولا إلى د. سلام فياض. ولكن كل هذا التركيز لم يخلق لهؤلاء قاعدة شعبية أو سيقان حديدية للوقوف عليها. ويبدو أن هذا بفضل الروح الشعبي الفلسطيني التي هي حتى في مناخ الهزيمة تتلمس الطريق الصحيح. لكن المثير أن أكثر هؤلاء طالما نقدوا اوسلو في السنوات الأخيرة إلى درجة صار أمثالنا يتسائلون: ترى أليس هؤلاء هم مواليدها!!!! لسنا نحن على الأقل.
تولدت سلطة أوسلو والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي: سلطة سياسية تعترف بالكيان فتحصل على تمويل أو ريع مالي مقابل هذا التنازل السياسي/الوطني والقومي. وهذا يعني أن كل من شارك في تثبيت دعائم اوسلو سواء الوزارات او الأمن أو ما يسمى تشريعي هو مستفيد ومؤيد لمشروع أوسلو الذي يقوم على الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي. ولا يغرنَّ أحد مزاعم البعض بأنه ضد أوسلو وهو في معدة أوسلو!
توليدرئاسة الوزراء
في محاولات الولايات المتحدة تقوية المعسكر ال “بريء” من ماضي الكفاح المسلح أو الرافض له، وللضغط على ياسر عرفات فرضت على الأخير منصب رئيس الوزراء، والذي شغله السيد ابو مازن حينها، وبالطبع كانت تلك فترة صراع بين الرجلين. بعدها أغتيل عرفات وحل محله عباس وتسلم د. فياض وزارة المالية ثم استقال ليصبح رئيس الوزراء. وبعد الانشقاق احتفظ اسماعيل هنية برئاسة وزراء في غزة. فصار الصدر الأعظم مرفوعا إلى قوة (أس)2.
لم تتوقف حركة فتح عن الضغط لإزاحة فياض والحلول محله،. كما لم تتوقف الولايات المتحدة عن دعم فياض وحصر مصدر الريع النقودي بيده لتقوية مركزه طالما لا حوامل شعبية له. وهكذا، حل فياض في مناكفة عباس محل عباس في مناكفة عرفات، وبقي هنية بلا منازع في غزة.
بدورها ترى قيادات في فتح بأن هذا المنصب يجب ان يكون بيدها طالما هي الحركة التي مرَّرت أوسلو وتحملت سلبياته. أما رفض ومن ثم مماطلة ألولايات المتحدة في هذا الأمر فيعود إلى خشيتها أن يأتي رئيس وزراء أو وزير مالية له جذورا كفاحية (وبالطبع لم يكن وزير المالية الأخير من هذا الاتجاه، أقصد د. نبيل قسيس) فيقوم بتسريب تمويل لبعض الخلايا المسلحة كما كان يفعل ياسر عرفات قبل اغتياله. كيف لا، والولايات المتحدة تطلب من البنك العربي إغلاق حساب جمعية خيرية (جمعية إنعاش الأسرة). لاحظوا كيف يطاردوننا إلى هذا الحد!!! وقام البنك بذلك.
يُؤخذ على فياض من ناحية تقنية بأنه لم يُفلح في تحسين الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية المحتلة. ويرى كثيرون أن لا إصلاح في ظل احتلال. وهذا صحيح من جهة ولكن التمترس خلف استحالة الإصلاح وحده ليس منطقياً لأن المطلوب إصلاح وليس تنمية. أما ااتنمية فقد جرى الفتك بها على يد كثير من الاقتصاديين من اليمين واليسار لأن مجرد ذكرها في مناطق محتلة فيه تجنٍ كبير(انظر دراسة عادل سمارة، استلاب التمول واغتراب التنمية في مجلة كنعان، العدد 149، لعام 2012).
ولكن د. فياض، لم يتمكن بمفهوم الإصلاح على الأقل ، لم يتمكن من لجم الفساد، وهو متهم بإحلال فساد محل آخر كان هو قد ورثه عن فساد مُعلن ومعترف به من السلطة والأنجزة والممولين الأجانب. علماً بأنه لم يكن موقفا صحيحاً لمن يريد إصلاحا ان يقبل بمنصب تحت رحمة مانحين هم أعداء للشعب الفلسطيني نفسه. ومن جهة ثانية، فإن فياض كمعتنق لإيديولوجيا السوق وراس المال والنيولبرالية، ليس مؤهلا بناء على ذلك للإصلاح. وهذا مختلف عن انه ليس قديراً.
وربما كان خطأ فياض الفني الكبير في إعلانه منذ عامين بأن النمو 8-9 بالمئة ، وهو إعلان ابدعه خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهذا يطرح سؤالا: خبراء في ماذا؟ (والطريف ان الجامعات المحلية تستضيف هؤلاء الخبراء في محاضرات عامة للطلبة!!!!!) وتصريحات فياض بأن البلد جاهز كمؤسسات للدولة، هذا ناهيك عن صور الرجل وهو يحضر احتفالات ب أكبر سدر كنافة ومسخن دجاج…الخ، بينما مثلا ألثلاثي Triad اي الولايات المتحدة وأوربا الغربية واليابان تصرخ من أزمة مالية اقتصادية مما هيأ لنا بأن أوسلو-ستان هي من مجموعة ال بريكس!!! والغريب ان د. فياض لم يستقيل إثر انكشاف كل هذه المثالب!
هذا الوضع المتردي لأداء حكومة د. فياض جرَّأ قيادات في حركة فتح على التركيز على وجوب استقالته. وهذا ما كان.
وعلى هذا تترتب تساؤلات: هل كان التدخل الأمريكي العلني لصالح فياض والطلب من أبو مازن حل الأمر بسهولة هو تدخل مقصود به إحراج الإثنين بمعنى: أن فياض هو رجل الولايات المتحدة وأن هذه الدولة حين تطلب ذلك كأنما تقول بأن بوسعها ايضا الضغط على رئيس السلطة حين تريد؟ وهل بقاء د. فياض في تسيير الأعمال مقصود به بقائه لفترة طويلة، ليس شرطا بطول فترته منذ 2007؟ أي بقائه إلى أن يتضح وضع ونتيجة العدوان على سوريا! كيف لا وكل ما يحصل في المنطقة مرهون بالحرب على سوريا.
وإلى أن تتضح نتيجة العدوان، ونأمل انتصار سوريا على اممية الإرهاب، ما هي احتمالات الصراع على المنصب ومن ثم تشغيل الناس في تغيير لا يطال جوهر الأشياء.
قد يبقى د. فياض لمدة مقبولة
وقد يتسلم المنصب احد رجال السلطة والذين لا يختلفون كثيرا عن فياض ما خلا كون البعض من خلفية الكفاح المسلح، ولكن سياسيا واقتصاديا لا فرق. فقد تم تدجين الكثيرين.
لعل مما تطرحه مشكلة او الخلاف على منصب الصدر الأعظم، مسألة في غاية الأهمية، مرتكزها: أن الولايات المتحدة لن تفرط في سلطة الحكم الذاتي. فهي سلطة شكلت معبرا لتطورات سياسية جديدة ملخصها، مغادرة الكفاح المسلح، وتمييع حق العودة وشكلت مرحلة انتقالية باتجاه لا دولة فلسطينية في حدود 1967 بل مبدئيا لا دولة فلسطينية.
والذي يبدو أن الولايات المتحدة والكيان باتجاه الإجهاز على القضية الفلسطينية وعلى حل الدولتين وعلى حل الدولة الواحدة باتجاه دولة يهودية في المحتل 1948، ولها حصة في التقاسم الوظيفي على المحتل 1967 مستغلة انهيار الوضع العربي وخاصة في الدول الثلاث التي لها تاثيرها على فلسطين وهي مصر المفككة والمفخخة بالإخوان، والعراق في فوضى عارمة مهددة بالتقسيم وسويا في مذبحة على رؤوس الأشهاد.
ولذا، يبدو ان الولايات المتحدة قد مرَّرت إقالة فياض مقابل:
· عودة للمفاوضات دون شروط بل بتقديم تسهيلات فلسطينية (إن صدق تقرير صحيفة هآرتس 4 نيسان بأن السلطة الفلسطينية قد جمدت شكاواها ضد االكيان الصهيوني الإشكنازي المقدمة إلى محكمة الجرائم الدولية).
· القبول الأولي بيهودية الدولة، وهذا يؤكد أن ما صرح به اوباما في زيارته الأخيرة ليس زلة لسان وليس حديثا مجاياً.
· بدء التاسيس التنفيذي للكونفدرالية و/أو التقاسم الوظيفي.
· قد يتم توكيل تمويل الضفة للسعودية فيحصل تقاسم سعودي قطري للفلسطينيين؟
· وكما يبدو، فإن غزة لم تعد مشكلة فقد تم تدويخها بأموال قطر، وربما يتم عدوان إسرائيلي جديد عليها بحيث يُطرد قسم من السكان إلى سيناء وهناك يقوم الكيان بتثبيتهم في ذلك الجزء وحصول هدنة امر واقع بحيث تتوسع غزة بموجب أطروحة الجنرال الصهيوني المتقاعد غيئورا إيلاند، وتقوم قطر بتمويل الإمارة وتحويلها إلى محطة غاز.
· وليس واضحا بالطبع، إن كانت قطر سوف تدخل على خط الضفة الغربية وربما السعودية لتصبح الضفة وغزة في عهدة بلدان النفط وحينها إما أن تنفصل هذه المناطق إلى دولتين، وإما ان يتم تطبيق سيناريو حل إقليمي كما يطرح أيلاند كذلك بحيث تتنازل مصر عن جزء من سيناء، وتأخذ طريقا إلى الأردن ويتم تركيب الكونفدرالية بتعاون مصري اردني سعودي.
· من هنا، قد تبدأ مسيرة المصالحة بين حكومتي الضفة وغزة، وهي مصالحة الانقسام منها أفضل!!!!
بيت القصيد، هو أن تفريط الولايات المتحدة ب د. فياض لن يكون بلا ثمن.
بقي أن نقول، بانه إذا ما تمت مشاكسة من بعض الفلسطينيين في الضفة على هذه الأمور، فقد تلجأ الولايات المتحدة إلى جيش دايتون ومن ثم إجراء انقلاب على يد يعض الجنرالات حيث تُفرض أحكاما عرفية وتقوم الزمرة العسكرية بترتيب الأمور مجدداً. وفي كافة هذه السناريوهات، لن تتغير سياسة السلطتين، ولن تتوقف الأموال الريعية، ولكن سيتم استخدامها سياسيا حسب الظرف. لا تخافوا…فلن تجوعوا طالما ثمن الوطن مالاً