وسيم ابو فاشا
خلال سني عملي باحثا في عدد من المؤسسات جوبهت بموقفين مهمين أعادا تشكيل مفهوم الموضوعية العلمية لدي، لتصبح الموضوعية ما هي إلا لعبة الانحياز الموقفي المستبطن داخل النص، فليس ثمة موضوعية بالمعنىالذي تعرفه العلوم التجريبية، الطبيعية منها على وجه الخصوص.
الموقف الأول، عندما طلبت بشكل شخصي من د. عادل سمارة التقديم لكتيب، لا يلتقي د. سمارة مع محتوياته كثيرا، لكنه لم يخرج في مقدمته عن إطار النقد التقويمي، إحتراما منه للمؤسسة المصدرة للعمل، وللاجتهاد الكاتبين بغض النظر عن صواب تحليلهم ونتائجهم أم خطأه، كانت مقدمة د. سمارة من صفحة ونصف، بثماني فقرات… موقف المؤسسة المصدرة للكتيب كان الرفض قبل قراءة نص د. سمارة، لمجرد رؤية الاسم، تحت ذريعة أن سياسة المؤسسة لا تلتقي فكريا ولا سياسيا مع طروحات د. سمارة، وأفكاره، وأن الكاتبين نفسهما لن يروق لهما تقديم مخالف لهم في الرأي للكتيب الذي يحوي مقالتهما…
الغريب في الأمر، أن رأس المؤسسة لم يضع من وقته ثلاثة دقائق لقراءة المقدمة، او سؤال مؤلفي المقالتين عن رأيهما، فالرفض جاء لمجرد اسم صاحب المقدمة، أي أن هناك انحيازا مسبقا لوجهة نظره، ودوغمائية لوجهة النظر التي ينتمي لها رأس المؤسسة، ومن يستكتبهم، هذا رغم أن رأس المؤسسة، ممن يملؤون الفضاء زعيقا بمفهوم التعددية، وتلاحق الخبرات والآراء والمعارف، حد نقد الآخر والذوبان فيه بلا وعي…
ولذا طلب مني، أن أكتب المقدمة بنفسي، وكموظف –كعامل مأجور على حد التعبير الماركسي- ما كان بإمكاني المضي بعيدا في نقاش رأس المؤسسة، والدفاع عن المقدمة التي بين يدي، فقمت بحيلة ساذجة جدا، حيث وضعت مقدمة د. سمارة أمامي، والتي اشتملت على ثماني أفكار كل منها في فقرة، أخضعتها لما يشبه تحليل المضمون، فوقفت عند كل فكرة، وأعدت التعبير عنها بلغتي، أي باختصار أعدت كتابة المقدمة دون الخروج عن أي من أفكارها قيد أنملة، وهنا قبلت المقدمة ونشرت مع الكتيب… كان هذا الموقف الأول، والذي لا دلالة له تخرج عن أن هناك تيارا “ثقافيا” يحكتر لنفسه المؤسسات الفلسطينية، ويمارس القمع ضد كل من لا يؤدي فروض الطاعة والولاء، التي تبدأ بنبذ كلمة الكفاح المسلح من الأدبيات، وتنتهي بلعن ماركس، وأي روح ثورية…
أما الموقف الثاني، فقد كان في المؤسسة ذاتها، ويتلخص بمشروعين، يتناولان نفس الموضوع، وتشترك أوراقهما في معظم المحاور، إذ لا بأس أن يتم العمل في مشروعين مع ممولين مختلفين لتأمين ما تيسر من مال لاستدامة المؤسسة، ما دام كل من المشروعين يحمل عنوانا مختلفا… قدمت أحدى الباحثات مقترح ورقتها في المشروع الأول، باللغة الإنجليزية، وقد حظي مقترحها بكل عبارات الإطراء من رأس المؤسسة، حتى خلت أن رأس المؤسسة يعتبر هذا المقترح السورة رقم 115 من القرآن الكريم، وكأن المقترح سيطرق أبوابا معرفية جديدة، تقوض كل النظريات في العلوم الاجتماعية من أفلاطون إلى هابرماس، على أي حال كانت النتيجة بعد اكتمال الورقة “فأرا”…
في المشروع الثاني، كلفت بإعداد مقترح، لا يختلف إطلاقا موضوع مقترحي عن مقترح زميلتي، فالمشروعين، لا يختلفان إلى في الشكل الإجرائي لتقديم “البربوزل” التي يضعها الممول، كجزء من تقاليده المؤسسية… وقد كنت حين كلفت بإعداد المقترح قد وصلت مع هذه المؤسسة إلى باب مسدود، فأي فكرة تطرح خارج ما يدور في أذهانهم مرفوضة ومعابة.
هنا عملت على إعداد نسختين، الأولى احتفظت بها لنفسي، وهي أصلانية المحتوى والعمل، وتتسم بالجدة، والجدية، والثانية، باللجوء لحيلة قراءة عمل موجود كتابة، فأعدت صياغة أفكار الباحثة، للتطابق بين الموضوعين، وعندما سلمت هذه النسخة، هاجمني رأس المؤسسة بأكثر مما قال مالك في الخمر، لدرجة عرفت معها أنه لم يقرأ لا النص باللغة الإنجليزية في المشروع الأول، ولا النص باللغة العربية في النص الثاني، فكيف تكون نفس الأفكار، مرة معبرة وفريدة وفائقة في علميتها، ومرة أخرى تهاجم، إذن لا يعدو الأمر إلا أحكاما مسبقة ومشخصنة… فعندما يكون الكاتب/ الباحث قريب على المستوى الشخصي أو الموقفي من رأس المؤسسة، فإن عمله مقبول بل يشرع أبوابا معرفية مغلقة، وعندما لا تكون ثمة هذه العلاقة بين الباحث ورأس المؤسسة، فإن جهده “طحن ماء” لا أكثر…
وبين هذين الموقفين، نادرة تستحق التوقف، فرأس المؤسسة أيضا لديه إدعاء لفظي بأنه يسعى لتعبيد طريق الأصالة البحثية، ورصف رؤية محلية تصبح البوصلة والموجه للعمل والبحث، وفي الوقت ذاته، يعتمد على خبرات أجنبية، من كل حدب وصوب… فالخبرات المحلية بالنسبة لرأس المؤسسة لا تليق بالتوجه الجديد، أمر يستحق السخرية فعلا، فما دمنا لا نثق بثمار أرضنا، فلماذا نزرع… سؤال برسم الإجابة…