المفكر الفلسطيني د.عادل سمارة في حوار مع “النهضة”: تحيا سورية ونحيا بها
- استهداف سورية يرمي إلى تفكيكها حتى لا تكون هناك دولة عربية مركزية..
- الأزمة هي حرب على سورية ولا علاقة لها بالحريات ولا بالديموقراطية
الحوار مع المفكر الفلسطيني د.عادل سمارة يجعلك تستحضر أسئلة وأسئلة… مضمونها الكثير من المسائل والهموم، وكلها تتمحور حول قضية واحدة… الأمة وما تواجهه من تحديات، وما يحاك ضدها من مؤامرات تستهدف حاضرها ومستقبلها… وتأتيك الإجابة الواثقة بالغد الآتي، رغم ما يعتري الحاضر من تعب وآلام: المشروع المقاوم الموحد لكل الطاقات هو ما نحتاجه… إجابات، رغم رصانتها وموضوعيتها، سرّها أنها تفتح أمامك المجال لأسئلة أخرى في جدلية لبناء الوعي في خدمة الأوطان، وفيما يلي نص الحوار:
برأيكم في ظل ما شهده النصف الثاني من العقد الأول في القرن الثاني من أزمة اقتصادية واجتماعية عالمية أصابت حتى المراكز الإمبريالية هل ما زالت آليات النهب والهيمنة الاستعمارية هي ذاتها أم أنها تأثرت بالأزمة سلباً أو إيجاباً؟
ـ ـ لعل المسألة الأساس هي الرأسمالية نفسها، أي النظام الرأسمالي على المستوى القومي وهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية في أي بلد. يقوم نمط الإنتاج الرأسمالي على:
• وجوب التوسع إلى أقصى مدى جغرافي ممكن سعياً وراء الربح اللامحدود، وهذا ما ولّد ظاهرة الاستعمار فالإمبريالية وصولاً إلى العولمة، وهي حقب وليست مجرد ظواهر. وبالمناسبة كانت تسمية الرجل المريض (لتركيا) متعلقة بأن مناطق الاستعمار العثماني لم يتم اقتسامها بين الإمبرياليات رغم اختراق الكثير منها اقتصادياً وحتىاحتلال البعض منها غربياً، أي لم يكن الخلاف مع العثمانية حول حماية ديار الإسلام كما يزعمون، بل تنازع استعماري يتخذ اليوم شكل تصالح وتحالف بين الاستعمار التركي السابق والغربي الحالي.
• ولتحقيق النقطة أعلاه تستخدم الطبقة البرجوازية المالكة/ الحاكمة كافة الأساليب لتحقيق هذا/ه الأهداف، وعلى رأسها الحرب والثقافة الليبرالية (ومنها بالطبع الإعلام) ويكتنف هذه جميعاً الخطاب الليبرالي الغربي (المركزانية الأوروبية والفرانكفونية)…. أي الحرب بالعسكر وبالثقافة وصولاً إلى أو تمهيداً إلى توسع رأس المال Capital expansion. وإذا كان توسع رأس المال “مشروعاً” في فترات الازدهار (إن وجدت حقاً)، فهي مبررة أكثر في فترات الأزمات. لذا، فإن الأزمة المالية/ الاقتصادية الجارية هي حافز حرب للأنظمة/ الطبقات الحاكمة/ المالكة في الغرب، بغض النظر عن كونها حرباً بالإنابة يقوم بها توابع وعملاء كما يحصل ضد سورية أو شبه مباشرة كما يحصل ضد مالي أو مباشرة كما هي في أفغانستان. إن الحماسة الفرنسية البريطانية ضد سورية مؤشر مهم في هذا السياق بما هما مأزومتان أكثر من ألمانيا التي تحاول بعض التعقل (وبالطبع تتفق مع كيان الإمارات لوضع على المستوى المالي في سورية فيما لو انتصرت الثورة المضادة). أما إيطاليا فبعد أن خسرت الكثير من مصالحها في ليبيا تنحت نسبياً. بيت القصيد أن الإمبريالية لن تتوانى خلال الأزمة في نهب المحيط وإشعال حروب بينية في المحيط، فهي على الأقل تربح من بيع الأسلحة وتشغيل الخبراء… الخ. ولن يقلّم أظافرها سوى صعود قوى قطبية عالمية أو إقليمية أو وجود أنظمة تفك الارتباط بالمركز وتحكمها قوى وأنظمة استقلالية تركز على التنمية والدفاع الوطني معاً. أو أنظمة أكثر جذرية مثل كوبا وكوريا الديمقراطية. باختصار، فإن احتمالات شن حروب إضافية واردة في ظل الأزمة، إنما قد تختلف أشكالها. هذا ما أسميه الهيمنة الثالثة. فأطروحة غرامشي تتحدث عن هيمنة أولى (أي الطبقة البرجوازية الحاكمة) تقابلها الهيمنة الثانية أي رد الطبقات الشعبية. وما أقصده بالهيمنة الثالثة هو قيام الإمبريالية بتحريك قوى داخل كل بلد أو بين بلد وآخر لإدارة حرب لصالح الإمبريالية بحيث تهيمن هذه القوى في الداخل وتغطى بسيطرة الإمبريالية التي تتحكم طبعاً باقتصاد هذا البلد. وهذا يخفف الأزمة الداخلية في البلد الإمبريالي أي يُضعف الهيمنة الثانية كمقاومة. هنا نلاحظ أن الإمبريالية لم تحتل ليبيا بل حركت ليبيين محليين لاحتلالها، واكتفت بالقصف الجوي، وما يجري ضد سورية مثال أوضح.
أوسلو ستان هي النموذج المطلوب غربياً لحالة اللاسيادة
ـ ما نصيب البلاد العربية من التآمر الغربي في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين؟
ـ ـ الوطن العربي هو الرجل المريض حالياً. هذا لا يعني أنه ليس تابعاً، ولكن هو مستهدف بمعنى الإنهاء التام حتى للدولة القُطرية، بمعنى أن المطروح العديد من الدول الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية. فلا يمكن لتوسع رأس المال من إنجاز سيطرته على السوق إلا في حالة وجود أسواق استهلاكية وليس دولة قومية مستقلة ذات توجه إنتاجي وتنموي توحد السوق القومي. فالمركز عملياً بحاجة للسوق وللسيولة المالية، والسيطرة على السوق تتطلب دويلات تابعة وصغيرة. كلما صغُرت الدولة فرطت بالسيادة، ولذا تواكب مع العولمة حديث وخطاب تبهيت السيادة، وأفضل نموذج على قبول اللاسيادة هو (أوسلو-ستان والتقليد العراقي له قبل الانسحاب الجزئي لجيش العدو الأميركي، ناهيك عن قطريات الخليج التي تُحكم حقاً وتماماً من خبراء وعساكر أميركيين مقيمين هناك، وخذ كذلك لبنان اليوم، حيث يقرر الغربيون استقالة أو تعيين رئيس وزراء). وبالطبع تركز الإمبريالية على وضع اليد على السيولة المالية في كيانات النفط. والدولة الوحيدة التي هي قومية وذات قدرة إنتاجية هي إيران ومن هنا خطورتها كقوة إقليمية، ولذا ليست المسألة هي السلاح النووي. وهذا يفتح على خطورة تركيا التي تشكل بوابة المركز على الوطن العربي عسكرياً واقتصادياً. وهي بالطبع ذات رأسمال متشارك مع استثمارات أوروبية واسعة ومن هنا قلقها من إيران. وهذا يفتح على تفكيك سورية لكي لا تكون هناك فرصة لأي قطر عربي يمكن أن يتحول إلى دولة عربية مركزية بعد ذبح العراق وتهالك مصر. وهذا يفتح كذلك على تهديد الغرب (وكيانات النفط) للجزائر كي لا تبقى أية دولة عربية قادرة على البقاء ومن ثم تلعب دوراً مركزياً في الجوار أو على مستوى الوطن بأسره. من الواضح أن الوطن العربي هو تحت استهداف مباشر وهذا يطرح السؤال.. كيف يمكن إنقاذ اللحظة بحراك سياسي لقوى ذات رؤية تقدمةوعروبية وبالعلاقة مع البريكس؟..
إن إعادة تجديد سايكس بيكو قيد التنفيذ لأن إنجاز مصالح شركات المركز لا يتم دون تفكيك القطريات
– هناك مواقف تصدر في بعض بلدان الغرب، وفي الكيان الصهيوني حول تقسيم في بلدان عربية بعينيها، فهل هذا التقسيم، أو إعادة تجديد سايكس بيكو حاضر علىالطاولة الاستعمارية راهناً؟
— هذا راهن وقيد التنفيذ. ولا أعتقد أنه لم يكن راهناً في أية فترة سابقة. أعتقد أن المحللين العرب الذين يغيبون هذه المسألة هم متفائلون وغارقون في الطيبة، وهذا تفسير حُسن النية. إن إنجاز مصالح شركات المركز لا يتم دون تفكيك القطريات، أو لنقل الانتقال من “فرّق- تسد إلى تذرير/ تفكيك المحيط وتركيز المركز” ومسرح التطبيق المباشر هو الوطن العربي.. إن العامل الأقوى لصالح هذه الاستراتيجية هو غياب حركة تحرر عربية قومية البُعد، وهذا يجعل من السهل تعمية الطبقات الشعبية عن وجوب تحركها ضد الهيمنة الثالثة، فبعد الإتيان على المشروع القومي بالتجزئة صار لا بد من تفكيك المشترك الوعيوي والثقافي القومي. وهذا قد أعطى نتائجه في حالتي سورية وليبيا. فالشارع العربي إما ضد سورية أو لا مبالٍ! ولا شك أن غفلة كثير من القوميين والماركسيين العروبيين عن الوهابية والسلفية في العقود الأربعة المنصرمة قد لعب دوراً في تضميخ الوعي بثقافة قوى الدين السياسي المضادة للقومية العربية، والمتصالحة تماماً مع الإمبريالية على أرضية الإيمان برأس المال والبحث عن سلطة لا عن وطن، والهذيان (والأخطر الزعم المقصود) بأمة إسلامية وهم طوائف تذبح بعضها بعضاً على الهواء!!! وهذا ما نلاحظه في العدوان على سورية.
– هناك اختلاف بين الباحثين والمفكرين والمثقفين والسياسيين في النظر إلى ما سمي “الربيع العربي”، فما رأيكم في تداعيات “الربيع العربي” وخلفياته وآثاره؟
— لقد عالجت هذا في كتابي الذي صدر في عمان نهاية 2012 عن دار فضاءات: “ثورة مضادة إرهاصات أم ثورة” وملخص القول فإن هناك انتفاضات وانفجارات قد حصلت في أكثر من قطر عربي، ولكن الثورة المضادة كانت قد احتاطت للأمر، فالثورة المضادة موجودة في الوطن العربي وقوية ومتجذرة ولها توقعاتها ودارساتها، ولذا لم تفاجأ كثيراً بالحراك الشعبي فتمكنت قواها من القفز إلى العربة وقيادتها ولاسيما أن الانفجارات (مصر وتونس وإلى حد ما اليمن) لم تكن بقيادات ولا برؤية محددة وواضحة. وعليه تحولت هذه الانتفاضات إلى المستوى الديمقراطي الشكلاني، مسيرات وصراخ وإعلام…الخ أي تفريغ شحنة ليجد الشباب نفسه في النهاية بلا عمل وبجيوب فارغة كما كان، ولكن بوسعه الصراخ والاحتجاج. ناهيك عن اندساس من تربوا وتدربوا في الولايات المتحدة بين الجماهير (أسميهم أولاد هيلاري) طبعاً ليبيا وسورية كان الأمر مختلفاً، بمعنى أنهما كانتا مستهدفتين كدول أمنية وقومية التوجه معاً. ولذا، تمت عسكرة الحراك سريعاً لأن هدف الثورة المضادة هناك مختلف عنه في مصر وتونس. في مصر وتونس كان المطلوب كشط الرأس، أما في ليبيا وسورية فالمطلوب اجتثاث الدولة وتفكيك الوطن. وهذا لا يعني احتمال تفكيك مصر، ولكن لم يكن التفكيك هو الخطوة الأولى. وإذا تحدثنا عن مصر، فأعتقد أن المطلوب هو السير باتجاه الثورتين، الثانية أي العمل باتجاه القطاع العام ومواجهة البطالة وحماية الاقتصاد ووضع برنامج وسياسة تنموية تتجه نحو فك الارتباط (وهذا أقرب إلى موديل: التنمية بالحماية الشعبية)، ومن ثم الثورة الثالثة مواجهة كامب ديفيد والسيطرة الإمبريالية ضمن المشروع القومي. لكنالقوة التي عليها حمل هذا العبء غير موجودة بعد أو لا تظهر على السطح. لأن المعارضة هي منافس للإخوان على السلطة وهي جليس ثالث في حضن الإمبريالية إلى جانب الإخوان وقيادة الجيش. لذا، يبقى المطلوب فرزه حركة سياسية عروبية الانتماء طبقية المبنى بالمضمون الاشتراكي ولا بد أن يكون ضمن مشروع خطابها مواجهة ودحض الخطاب الإمبريالي الغربي وما بعد الحداثي.
الأزمة في سورية هي حرب على سورية لا علاقة لها بالحريات والديمقراطية
– كيف تنظرون إلى الأزمة في سورية، وما مدى تأثركم في فلسطين بهذه الأزمة؟
ـ ـ الأزمة في سورية هي حرب على سورية، لا علاقة لها بالحريات والديمقراطية. بداية، فإن الحراك في سورية من أجل الديمقراطية وضد الليبرالية الجديدة هو طبيعيوشرعي وضروري. وقد ثبت أن الدولة الأمنية يمكن أن تضبط البلد مع وجود قطبية تحميها من العدوان الإمبريالي كما كان في فترة السوفييت. ولكن حقبة العولمة جلبت معها تجديد الاستعمار الغربي المباشر بالاحتلال كما حصل في العراق وليبيا. صحيح أن الحرب على سورية ليست بعساكر الأبيض مباشرة، ولكنها أخطر لأنها تخدم المركز وتُربحه كشريك مضارب بل الشريك الرئيسي. وبعيداً عن التفاصيل، هل أخطأ النظام في عدم تقديم مرونة مبكرة، أم قدم ولكن العدو لا يسأل عن مرونات بل عن تقويض سورية، هذا متروك للتاريخ. وبعيداً عن سلبية قوى الحراك الوطني السلمي، وعن فذلكات أيتام اليسار التروتسكي، وعن التحول الليبرالي لدى قيادات شيوعية سابقة وانخراطها تحت راية الوهابية ومن ثم الإمبريالية، وهذا تراث صدمة الهزيمة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبعيداً كذلك عن المسألة الطبقية المختلطة في سورية: بمعنى أن الفقراء والمهمشين شكلوا بيئة حاضنة للإرهاب، وهم طبقياً متضررون من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية ولكنهم لم يكونوا ضدها بوعي طبقي بحيث يشكل ذلك دافعهمللتحرك. هذا يستدعي صراع فتح وحماس في غزة، قواعد الفقراء تتذابح لصالح الكمبرادور والتجار والبازار، أي القاعدة من طبقة واحدة والقيادة من طبقة واحدة، وهذا كذلك شأن طوائف لبنان وحتى الصراع في العراق. هنا لا بد من قراءة هذه القابلية للسيولة الطبقية وخاصة في سورية، ما الذي وراءها؟.
ولذا فإن كثيراً من أحفاد تروتسكي قد أخذوا هذه الحالة ونفخوا منها “حراكاً طبقياً واعياً”! وما أقصده أن تحرك الفقراء ليس بالضرورة أن يكون تحركاً بوعي سياسي طبقي ومن أجل مشروع سياسي طبقي. بل إن ما حصل هو تحريك الفقراء مما جعلهم مادة قتال لصالح أعتى الطبقات والقوى رجعية ضد هؤلاء الفقراء. فأي تحالف هذا؟ فقوى الدين السياسي والقوى الإثنية والمذهبية.. الخ لا تحمل هموم الفقراء، ليس لها برنامج اجتماعي، ناهيك عن مسألة مساواة المرأة فما بالك بتحرر المرأة. لعل ما يجدر دراسته في حالة سورية، تلك “الأممية” الإرهابية باسم الدين والتي تجمع فقراء على مستوى أممي ليقاتلوا من أجل نظام جديد في سورية هو تابع للإمبريالية والصهيونية ورأس المال الكمبرادوري المحلي وحامل لعقيدة الوهابية. هذا وكأن الفقراء ينتحرون لصالح عدوهم الحقيقي.
على أية حال، الحرب على سورية هي حرب حياة أو موت. إما تفكيك سورية إلى دويلات تابعة يحكمها أمراء طوائف، وإما انتصار سورية التي لن تعود إلى الماضي، والتي لا خيار أمامها سوى بناء جذري للوطن محلياً وتوجه عروبي مشتبك مع بقايا المرحلة ومع الثورة المضادة.
استطعنا ومعنا القوميون والقوميون العرب تبديل الصورة عما يجري في سورية
– لكم نشاط واسع في فعاليات الوقوف إلى جانب سورية، هل لنا أن نسلط الضوء على هذا النشاط؟
ـ ـ لم يكن الموقف مع سورية في الأرض المحتلة أمراً سهلاً منذ بدء منظمة التحرير الفلسطينية. فاليمين قُطري بطبيعته وتناقضه مع سورية البعث تحديداً لأن هذا اليمين يرفض أطروحة البعث بأن فلسطين هي جنوب سورية بمعنى أن هذا يعني عدم أحقية اليمين في دولة في المحتل 1967. وهذا اليمين لم ينحصر في قيادة حركة فتح بل يضم إلى جانبه شرائح طبقية: رأس المال الكمبرادوري ورأسمال التعاقد من الباطن، وحتى قطاعات واسعة من الرأسمالية المحلية “الإنتاجية” بالمعنى النسبي، إضافة إلى المرتد من مثقفي اليسار السوفييتي والليبراليين، أي إن اليمين بتمفصلاته الطبقية والثقافية هو ضد سورية على أرضية ضد-قومية. كما أن اليسار الفلسطيني سواء في المنظمة أم الشيوعيين خارجها قد انطلقوا من الجمع ما بين القُطرية الفلسطينية وأممية ما! وكاد هذا التوجه أن يطيح بالأسس القومية للجبهة الشعبية التي لم تفقد ذلك ولم تحافظ عليه. أو بقول آخر، هناك تحريض إقليمي قُطري في الأرض المحتلة ضد سورية منذ أربعة عقود على الأقل. لذا، حينما بدأ العدوان المدولن/ المعولم ضد سورية، كانت الأكثرية الساحقة (ممن يتحدثون في السياسة والثقافة) ضد النظام السوري. وبقي هذا التورط ليصبح تواطؤاً بعد أن اتضح أن الأمر ليس النظام بل البلد.
كان من الصعب أن تحرث في تربة خصبة في باطنها لكن سطحها قشرة صخرية يكاد ينزلق المحراث على سطحها الزلِق. كانت حتى الناس العادية جداً ضد سورية. أذكر في بداية الأزمة، ذات صباح وبيتي مقابل مسجد القرية على الرصيف الآخر، سمعت ابن عمي وعمره 82 عاماً وهو أُمّي بالمطلق وهو من أسرة لم تمارس العمل السياسي ولا الوطني إطلاقاً، أسرة بل عائلة ممتدة عادية بكل بساطة، رغم الاحتلال، كان يمشي في الشارع: “ويدعو الله ضد بشار الأسد”. دفعني هذا فوراً إلى المقولة التي يرددها الكثير من الشيوعيين عن “صدق حس الجماهير” وهو الأمر الذي يستدعي السؤال الآخر بأن ما يحدد الحس هو عمق الوعي.
كان يجب، بل لا سبيل للوقوف مع سورية سوى المدخل الثقافي الفكري سواء الكتابة أم في وسائل الإعلام بالقول والصورة. وهذه كانت معركة لنا جميعاً ليس فقط لقلة العدد ولكن أيضاً نظراً لعدة عقود من حقن المجتمع بالثقافة الوهابية والسلفية وبإسلام جوهره صهيوني حتى دون وعي، وبعض التمويل وصولاً إلى قطاعات شعبية فقيرة وهو حشو مضاد للمسألة القومية حتى لو لم يذكرها بالتحديد. أذكر في بداية الأزمة أننا قمنا بوقفة دعم لسورية في وسط مدينة رام الله وكنا ربما بضع عشرات فاندفعت بيننا مجموعات قامت بالتشويش والصراخ وحتى محاولات الضرب ووجهت إهانات للأب عطا الله حنا والأب عبد الله. وهي برأينا مرتبطة بأجهزة الأمن. وبعدها قمنا بوقفتين في الخليل، ولكن التدخل ضدنا كان ضعيفاً ولكن بعض الصحف المحلية كتبت بأننا كنا نهتف للرئيس الأسد مع أن هتافنا كان لسورية، فنحن نراعي عدم تزويدهم بمادة لاتهامنا بالهتاف لأشخاص. وطبعاً أثرنا الاحتجاج وكتبت الصحيفة تعديلاً.
لسنا وحدنا الذين أثرنا على مزاج الشارع، فهناك الإعلام السوري والكثير من القوميين والقوميين العرب وحتى الإعلام الروسي وكثير من الكتاب اليساريين غير العربوتطورات الأحداث وكشف تزييف الجزيرة والقنوات العدوة، وممارسات الإرهابيين، كل هذا لعب دوراً في اتضاح الصورة. ولذا، بدأنا نجد أعداداً أكبر من الناس تتحول لصالح تحليلنا. وحتى الذين كانوا يناقشوننا بشراسة البعض توقف. كتبت جملة لصديق وقف ضد سورية في البداية، وكتب ضدي، كتبت له جملة قبل فترة بما هو ضد سورية، فكتب لي: لا يا عادل تغير موقفي.
يمكننا تصنيف الذين يقفون منهجياً ضد سورية، هم جميع من يؤيدون تسوية الحكم الذاتي والجهاز السياسي والأمني لسلطة الحكم الذاتي، ومنظمات الأنجزة، وقيادات القوىالسياسية والفصائلية والليبراليين، أي هذه الأطراف ومثقفيها العضويين.
ورغم تغير كبير في الصورة إلا أن هذا لا يعني أننا نجحنا في إعادة فهم الشعب للمسألة ليقف على قدميه بعد أن كان على رأسه.
العسف الصهيوني يعيد الوعي لحقيقة أن الحياة مقاومة لا مفاوضات
– تدور أحاديث عن إمكانية اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة على خلفية ما يسمى انسداد أفق “الحلول السلمية”، أو على خلفية حراك الأسرى، فأين الواقع من هذه الأحاديث، وما هي عوامل الدفع أو الإعاقة؟
— نعم هناك أحاديث ومؤشرات وربما بدايات لانتفاضة جديدة. أو لنقل ارتفاع وتوسع نضال النخبة إلى نضال الجماهير. أذكر أن هذا كان تقييمي للانتفاضة الأولى حينماطلبني مسؤول صهيوني بزعم نقاش وليس تحقيقاً (كانوا وقتها يختبرون من هم المثقفون الذين سوف يشاركون في مفاوضات مدريد- أوسلو)، فقال: لقد حللت لي اللغز لفهم الانتفاضة، نعم هو نضال الجماهير بعد نضال النخبة.
بالطبع، لا يمكن التنبؤ بمسار حراك شعبي هو قوة دفع داخلية فيها قسط روحي كبير، أو شحنة، ولكنه يتعرض لقوى شد إلى الوراء ومنها من هي من داخله.
إن هجمة العدو سواء على الأرض أو الأسرى يشكل عامل رد جماهيري، هذا ناهيك عن أن وجود الاستعمار الاستيطاني هو دافع مقاومة. هذا العسف الصهيوني يعيد الوعيلحقيقة أن الحياة مقاومة لا مفاوضات. ولكن شغل الثورة المضادة سواء بتجلياتها في سيولة الوضع العربي وتحييد القطريات الثلاث المؤثرة في فلسطين وهي العراق بتدميره ومصر بانشغالها الداخلي وصراع القوى على السياسة والمواقع لا أكثر، وسورية بالحرب عليها، كل هذا يُدخل في روع الكيان بأن اللحظة جاهزة للإجهاز على قوى المقاومة بخطة والتي ملامحها الرئيسية هي: يهودية الدولة، الكنفدرالية الثلاثية و/أو التقاسم الوظيفي.
ما يخطئ فيه الكيان بما أنه يعتمد ثلاثة مرتكزات تم تكذيبها في الانتفاضة الأولى وهي: الرؤية الأنثروبولوجية للفلسطينيين، والرؤية الاستشراقية للصراع واعتماد القوة والعسف. والقوة هنا بالمفهوم النسبي على الأقل، بمعنى أن غياب الظهير العربي يُشعر الفلسطيني باليُتم. لكن هذا المناخ كان هو نفسه الذي سبق الانتفاضة الأولى. لذا ليس شرطاً أن يصح تحليل العدو، بل إن خطأ تحليله قد يلعب دوراً في تفجير الانتفاضة.
ويبقى السؤال: كيف يمكن للشارع العربي أن يمارس دور محفز الانتفاضة أو رديفاً لها وهي تشتعل، مثلاً مقاطعة منتجات الأعداء من الكيان عبوراً إلى الولايات المتحدة وصولاً إلى النرويج، كيف يمكن مقاطعة مراكزهم الثقافية والإصرار على طردها، والأهم كيف يمكن فضح الدور الخطير لإمارات النفط وخاصة قطر والإمارات والسعودية بما هي تعمل تماماً ضمن استراتيجية الصهيونية ولكن بخبث بدوي عتيق. (الفصل الثاني من كتابي ثورة مضادة يتحدث عن الشركات والاستثمارات الخليجية في الكيانوالثالث عن التطبيع الاقتصادي للرأسمالية الفلسطينية في الكيان سواء المحلية أو المتحدة من السعودية وقطر إلى تل أبيب).
ليس أمامنا إلا المشروع القومي التقدمي لمواجهة الهجمة المعادية
– أخيراً هل من كلمة توجهها من خلال جريدة النهضة؟
ـ ـ ربما هي كلمة واحدة: ليس أمامنا سوى المشروع القومي التقدمي لمواجهة هذه الهجمة انطلاقاً بعدها إلى تحقيق المشروع العروبي الوحدوي والاشتراكي. وربما أخالف جميع اليائسين الذين يتوهمون بأننا انتهينا. فلو كنا جثة هامدة لما كانت هذه الهجمة. كما أنني أعتب على بعض السوريين الذين يقولون لننحصر في “سوريانا” بعيداً عن العرب. وهذا أقصى ما يحلم به الكيان الصهيوني الإشكنازي والغرب الرأسمالي والحكام العرب ومثقفوهم العضويون. أرجو أن يتذكر الجميع، أن شعار “يمين المقاومة- يا وحدْنا” و”القرار المستقل” هو الذي ولَّد أوسلو. أما في سورية بالانحصار القطري سيولد دولة لكل قرية في سورية. وأخيراً كما تقولون في القومي الاجتماعي: تحيى سورية ونحيى بها.
:::::
المصدر: “النهضة”، من رام الله المحتلة بتاريخ 15/4/2013
” النهضة” مجلة أسبوعية تصدر صباح كل اثنين / يصدرها في الشام الحزب السوري القومي الاجتماعي