“كنعان” تنشر كتاب “إعترافات قاتل إقتصادي”

 تأليف جون بيركنز وترجمة بسام ابو غزالة.

 

الفصلُ الرابع والثلاثون

 

زيارة الإكوادور مرة أخرى

كانت فنزويلا حالة تقليدية. غير أني حين راقبتُ تكشُّفَ الأحداث هناك، استثارتني حقيقةٌ مفادُها أنّ الخطوطَ المهمةَ للمعركة كانت تُرسمُ في بلدٍ آخر. لم تكنْ أهميتُها لكونها تمثلُ حجماً أكبر، من حيث المالُ أو الحياةُ البشريةُ، بل لانطوائها على قضايا أبعدَ من الأهداف المادية التي تُحدِّدُ الإمبراطوريات عموما. تمتدُّ خطوطُ المعركةِ هذه أبعدَ من نطاق جيوش المصرفيين ورجال الأعمال والسياسيين لتغوص عميقاً في روح الحضارة الحديثة. وقد أُسِّسَ لها في بلد عرفتُه وأحببتُه؛ ألا وهو الإكوادور، حيث عملتُ في البداية متطوعاً في فرقة السلام.

في السنوات التالية لذهابي إلى هناك عام 1968، أصبح هذا البلدُ ضحيةً حقيقيةً لسلطة الشركات. فقد استطعتُ أنا والقتلةُ الاقتصاديون الآخرون في أيامي، وكذلك المُحْدَثون الذين يعادلوننا في الشركات، أن ندفع هذا البلد عمليا إلى الإفلاس. فقد أقرضناه ملياراتِ الدولاراتِ لكي يستطيعَ استخدام شركاتنا الهندسية والإنشائية لبناء مشاريعَ من شأنها مساعدةُ الأسر الثرية. وفي تلك العقود الثلاثة، نتيجةً لذلك، ارتفع مستوى الفقر المعلنُ رسميا من 50 إلى 70 في المئة، وارتفعت البطالةُ الكلية والجزئية من 15 إلى 70 في المئة، وازداد الدينُ العامُّ من 240 مليون دولار إلى 16 ملياراً، وانخفضت حصةُ الموارد الطبيعية الممنوحة للمواطنين الأشدِّ فقراً من 20 إلى 6 في المئة. واليوم، على الإكوادور أن تُخصِّصَ حوالي 50 في المئة من ميزانيتها الوطنية لأقساط ديونها – بدل مساعدة الملايين من مواطنيها المصنفين رسميا فقراء فقراً مُدقعا.[i]

 يكشفُ الوضعُ في الإكوادور بصورة واضحةٍ أنّه لم يكن نتيجة مؤامرة؛ بل كان نتيجةَ عمليةٍ حدثت خلال إدارات الديمقراطيين والجمهوريين جميعاً، عمليةٍ تورطت فيها مصارفُ دولية رئيسية، وكثيرٌ من الشركات، وبعثاتُ المساعدات الأجنبية من العديد من الدول. وإذ أخذت الولايات المتحدة دور القيادة، فإننا لم نعمل وحدنا.

خلال هذه العقود الثلاثة، اشترك آلافٌ من الرجال والنساء لدفع الإكوادور إلى وضع هشٍّ وجدتْ نفسها فيه عند بداية الألفية. كان بعضُهم، مثلي، على علم بما يفعل، لكنّ الأغلبيةَ الساحقة كان تؤدي المهمة التي تعلمتها في مدارس إدارة الأعمال، والهندسة، والحقوق، أو أنها كانت خاضعةً لقيادةِ رؤساءَ على شاكلتي شرحوا النظام على مثالهم الجشع وأداموه بعمليةٍ محسوبةٍ من ثوابٍ وعقاب. وفي أسوأ الأحوال، كان هؤلاء المشاركون يرون الجزء المناط بهم غيرَ ضار؛ وحسب الرأي المتفائل، إنهم كانوا يُساعدون دولة فقيرة.

بالرغم من عدم وعيهم وانخداعهم، وفي حالاتٍ كثيرةٍ من تضليلهم أنفسَهم، لم يكنْ هؤلاء اللاعبون أعضاء في أية مؤامرة سرية؛ بل كانوا إنتاجاً لنظامٍ يُعزِّزُ أكثر أشكال الإمبريالية التي شهدها العالم براعةً وتأثيراً. فلم يكنْ أحدٌ مضطراً للبحث عن رجال ونساء يُمكن رشوتُهم أو تهديدُهم – فقد سبق للشركات والبنوك والوكالات الحكومية أن وظّفتهم. وما الرشاوى إلا الرواتبُ، والمكافآتُ، ومعاشاتُ التقاعد، ووثائقُ التأمين. أما التهديداتُ فكانت ما تفرضُه الأعرافُ الاجتماعيةُ، وضغطُ الزملاء، والأسئلةُ المسكوتُ عنها حول مستقبل تعليم أطفالهم.

لقد نجح النظامُ بشكل مثير. فما إن دخلتْ الألفيةُ الجديدةُ، حتى كانت الإكوادور قد وقعت في الفخ تماما. لقد امتلكناها، تماماً كزعيم المافيا الذي يمتلك رجلا موّل له عرسَ ابنته وتجارتَه الصغيرة، ثم كرَّر التمويل. وكأيِّ زعيم مافيويٍّ طيب، ما كنا لنتعجّل أمرنا. كانت لدينا القدرةُ على الصبر لعلمنا بأن تحت غابات الإكوادور المطيرة بحراً من النفط، ولعلمنا أن اليوم المناسب آتٍ لا محالة.

كان اليومُ قد جاء حين أخذتُ طريقي بسيارتي السوبارو، عام 2003، من كويتو إلى بلدة شِل داخل الغابة. كان تشافيز قد استعاد منصبه في فنزويلا، بعد أنْ تحدّى جورج بوش [الابن] وانتصر عليه. أما صدام، فكان على موقفه ينتظرُ الغزو الآتي. وكانت وارداتُ النفط قد غاصت إلى أدنى مستوى خلال العقود الثلاثة تقريبا، وإمكانياتُ أخذِ المزيد من مصادرنا الرئيسية بدت سيئة – وهكذا أيضاً بدت صحةُ ميزانيات سلطة الشركات. لقد كنا بحاجةٍ إلى ورقةٍٍ رابحة. لذلك حان الوقتُ لانتزاع حصتنا من لحم الإكوادور.

حين مررتُ بالسدِّ الضخم على نهر بَسْتَزا، تبيّن لي أنّ المعركةَ هنا في الإكوادور لم تكنْ ببساطةِ ذلك الصراعِ بين أغنياء العالم وفقرائه، بين المُستغِلِّين والمستغَلِّين. فخطوطُ المعركة هذه سوف تُحدِّدُ في نهاية المطاف من نحن كحضارة. كنا جاهزين لإرغام هذا البلد على فتح غاباته المطيرة لشركاتنا النفطية. أما التخريبُ الناتج، فحدِّثْ ولا حرج.

لو أننا أصرَرْنا على استرداد الدَّيْن، فلن نستطيع قياس أصداء ما نفعل. لم يكن الأمر مقتصراً على تدمير الثقافات المحلية، والأرواح البشرية، ومئات آلاف الأنواع من الحيوانات، والزواحف، والأسماك، والحشرات، والنباتات، التي قد يكون في بعضها علاجاتٌ غيرُ مُكتشفة لعدد من الأمراض. لم يكن الأمر مقتصراً على كون الغابات المطيرة تمتصُّ الغازاتِ القاتلةَ المنبعثةَ من صناعاتنا، وتنتجُ الأكسجين اللازم لحياتنا، وتستمطرُ الغيوم التي تُولِّدُ نسبة عالية من الماء العذب في العالم. لقد جاز الأمر كلَّ المناقشات التي يوردها علماء البيئة لإنقاذ هذه الأماكن، وغاص عميقاً في نفوسنا.

لئنْ تابعنا هذا المخطط، فسوف نُواصلُ نمطاً إمبرياليّاً بدأ قبل الإمبراطورية الرومانية بزمن طويل. نشجبُ العبودية، لكنّ إمبراطوريتنا العالمية تستعبد من الشعوب أكثر مما فعل الرومانُ وكلُّ القوى الاستعمارية قبلنا. تساءلتُ كيف يُمكننا أنْ نقوم بهذه السياسة قصيرة النظر في الإكوادور ولا نزال نتعايش مع ضميرنا الجمعي.

إذ كنتُ أحدِّقُ من نافذة سيارتي السوبارو إلى منحدرات الأنديز التي ذاب ثلجها، وهي بقعةٌ كانت غنية بالنباتات الاستوائية في الأيام التي قضيتُها مع فرقة السلام، أدهشني فجأة شيءٌ آخرُ تحققتُ منه. لمع ببالي أنّ هذا المنظر من الإكوادور باعتباره خطاً قتاليا مُهما كان محضَ شخصيّ، وأن كل بلد عملت فيه، حقيقةً، كلَّ بلد ذي موارد تشتهيها الإمبراطورية، مساوٍ له في الأهمية. أما أنا، فقد كانت لي صلة عاطفية بهذا البلد تولّدت من تلك الأيام في أواخر ستينات القرن العشرين حين فقدتُ براءتي فيه. غير أنها مسألةٌ ذاتية وميلٌ شخصي.

بالرغم من أن غابات الإكوادور المطيرة مكانٌ نفيس، وكذلك أهلُها المحليون وكلُّ أشكال الحياة التي تقطنها، فإنها ليست أكثر نفاسةً من صحارى إيران ومن البدو في تراث يامين. ليست أكثر نفاسةً من جبال جاوة، أو البحار المطلة على شواطئ الفلبين، أو فلوات آسيا، أو سهول أفريقيا المعشوشبة، أو غابات أمريكا الشمالية، أو ثلوج القطب الشمالي، أو مئات الأماكن المهددة الأخرى. كلُّ مكان من هذه يمثل خط معركة، وكلُّ واحد منها يجبرنا على البحث في أعماق نفوسنا الفردية والجمعية.

تذكّرتُ إحصاءً يُجملُ كلَّ هذا مفاده أنّ نسبة دخل خُمس سكان العالم في أغنى الدول إلى خُمس سكان العالم في أفقرها تغيّر من 30 إلى واحد عام 1960، ليُصبح 74 إلى واحد عام 1995.[ii] أما البنكُ الدوليُّ، والوكالةُ الأمريكيةُ للتنمية الدولية، وصندوقُ النقد الدوليُّ، وبقيةُ البنوك والشركات والحكومات ذات العلاقة بـ”المساعدات”، فلا تزال تقول لنا إنها تُنجزُ مهماتِها وتُحققُ تقدما.

هاأنذا في الأكوادور مرة أخرى، في البلد الذي كان واحداً من خطوط قتالية كثيرة، ولكنه كان يحتلُّ مكانا خاصاً في قلبي. كان الزمنُ سنةَ 2003، بعد خمس وثلاثين سنةً من وصولي لأول مرة كعضو في منظمة أمريكية يحمل اسمُها كلمة “السلام”. وفي هذه المرة جئتُ لكي أُحاول منع نشوبِ حربٍ ساعدتُ أنا على مدى ثلاثة عقود في إثارتها.

لعل الأحداثَ في أفغانستان، والعراق، وفنزويلا كافيةٌ لصدِّنا عن نزاع آخر؛ مع ذلك، فالوضعُ في الإكوادور كان مختلفا جدا. فهذه الحربُ لنْ تحتاجَ إلى جيش الولايات المتحدة، لأن القتال فيها سيقوم به بضعةُ آلاف من مقاتلين محليين مُسلَّحين بالرماح، والمناجل، والبنادق ذات الطلقة الواحدة المحشوة من فوهتها. وسوف يقفون في وجه جيش إكوادوريٍّ حديث، وحفنةٍ من مستشارين من القوات الخاصة الأمريكية، ومرتزقة مُدربة على غرار “بنات آوى” تعمل لصالح شركات النفط. ستكون هذه حرباً، كالنزاع بين الإكوادور وبيرو عام 1995؛ لن يسمع بها معظمُ الناس في الولايات المتحدة، وقد صعّدت الأحداثُ الحديثة احتمالَ نشوبها.

في كانون الأول 2002، اتهم ممثلو إحدى شركات النفط جماعةً محليةً بأخذ فريق من عامليها رهائن؛ وزعموا أنّ المقاتلين المتورطين في العملية كانوا أعضاء في مجموعة إرهابية، مُلمِّحين إلى احتمال وجود روابط بينها وبين القاعدة. وقد كانت قضيةً مُعقدةً بصورةٍ خاصة لأنّ شركةَ النفط لم تكن قد استلمت إذنا حكوميا بالشروع في الحفر. غير أنّ الشركة زعمت أنّ من حق عامليها أن يقوموا بكشفٍ أوليٍّ لا يشمل الحفر – وهو زعم رفضته المجموعات المحلية بشدة بعد ذلك ببضعة أيام حين روتْ جانبها من القصة.

أصرّ ممثلو القبائل على أن عمال النفط قد وطئوا أرضاً ممنوعةً عليهم؛ كذلك لم يكن المقاتلون يحملون سلاحاً، ولم يُهدِّدوا عمال النفط بأي نوع من العنف. بل الحقيقة أنهم اصطحبوا العمال إلى قريتهم، حيث قدّموا لهم طعاماً و”تشيتشا”، وهي جعةٌ محلية. وبينما كان العمالُ يستمتعون بوقتهم، أقنع المقاتلون أدلتهم بالعودة من حيث أتوا. بيد أن القبيلة زعمت أن العمال لم يُحتَجَزوا بالرغم منهم، بل كانوا أحراراً في الذهاب إلى حيث أرادوا.[iii]

إذ كنتُ أسوقُ سيارتي على تلك الطريق، تذكّرتُ ما قاله لي الشوار حين عدت عام 1990، بعد بيعي شركة أنظمة الطاقة المستقلة، لأقدم مساعدتي لهم بالحفاظ على غاباتهم. قالوا، “إن العالم كما تحلمُ به.” ثم أشاروا إلى أننا في الشمال قد حلمنا بصناعةٍ ضخمةٍ، وبكثرةٍ من السيارات، وبناطحاتِ سحابٍ عملاقة. واليوم اكتشفنا أن رؤيتنا كانت في الواقع كابوساً سيُدمِّرُنا في النهاية جميعا.

نصحني الشوار بتغيير ذلك الحلم. مع ذلك، هاهو ذا الواقعُ بعد أكثرَ من عقد؛ فبالرغم من عمل الكثرة من الناس ومن المنظمات غير الربحية، بما فيها تلك التي عملت فيها، فقد بلغَ الكابوسُ أبعاداً جديدةً ومُرعبة.

حين دخلتْ سيارتي بلدة شل داخل الغابة، طُلِبَ مني الإسراعُ إلى اجتماع. كان الرجالُ والنساءُ الحاضرون يُمثلون قبائل كثيرة: كِتشوا، شوار، أتشوار، شيوِيار، زابارو. كان بعضُهم مشى لأيام عبر الأدغال، وبعضُهم الآخر جاء على متن طائرات صغيرة مولتها منظماتٌ غيرُ ربحية. وكان القليلون منهم يلبسون تنانيرهم التقليدية، بوجوههم الملوّنة، وعصائب رؤوسهم المُرَيَّشة، بينما كان معظمهم يُحاولون تقليد أهل المدن بلبس السراويل والقمصان على حرف تي، والأحذية.

بدأ الحديثَ ممثلو القبيلة التي اتُّهمت بأخذ الرهائن. أخبرونا أنه بعد عودة العمال إلى شركة النفط بقليل، وصل أكثرُ من مئة جنديٍّ إكوادوريٍّ إلى مضاربهم. كذلك ذكَّرونا بأنّ هذا حدث في بداية موسم خاصٍّ في الغابات المطيرة، موسم إثمار شجرة التشُنتا، وهي شجرةٌ مقدَّسةٌ في الثقافات المحلية، لا تُثمرُ إلا مرة واحدةً في السنة، مؤذنةً ببداية التزاوج للكثرة من طيور المنطقة، منها أنواعٌ نادرةٌ ومهددةٌ بالخطر. وحين تتجمع عليها الطيور، تُصبحُ مُعرضةً جداً للاصطياد. لذلك تفرضُ القبائلُ حظرا حازما على صيد هذه الطيور في موسم التشُنتا.

قالت امرأة، “كان وقتُ وصول الجنود سيئاً جدا.” شعرتُ أنا بالألم يعتصرُ أحشاءها وأحشاءَ صحبها وهي تروي قصصهم المفجعة عن تجاهل الجنود للحظر. فقد قتلوا الطيور للمتعة وللأكل، وعاثوا في حدائق البيوت، وبساتين الموز، وحقول المانيهوت، حيث غالبا ما كانوا يُخَرِّبون سطح التربة الرقيق تخريباً لا يُمكنُ من بعدُ إصلاحُه. واستخدموا المتفجرات لصيد سمك الأنهار، وأكلوا حيوانات الناس، وصادروا من الصيادين بنادقهم وقاذفات أسهمهم، وحفروا مراحيض بطريقة سيئة، ولوّثوا الأنهار بزيت الوقود والمحاليل، وعاكسوا النساء معاكساتٍ جنسية، ولم يهتموا بالتخلص من القمامة بشكل صحيح، وهو ما جذب الحشراتِ والديدان.

قال أحد الرجال، “كان لدينا خياران: أن نقاتل، أو أن نبتلع ذُلّنا ونفعل ما بوسعنا لإصلاح الخراب. وقد قرَّرْنا أنّ الوقت لم يحنْ بعدُ للقتال.” وشرح كيف حاولوا التعويض عن سوء تصرف العسكر بتشجيع أهلهم على تحمُّل الجوع. سمَّى ذلك صياما، لكنه كان أقرب إلى مجاعة طوعية. أما الشيوخُ والأطفالُ فقد أُصيبوا بسوء التغذية والمرض.

تكلّموا عن تهديدات ورشاوى. قالت امرأة، “يتكلم ابني الإنكليزية والإسبانية وعدة لغات محلية. وقد عمل دليلا وترجماناً لشركة بيئية لقاء راتب معقول. فعرضت عليه شركةُ النفط عشرة أضعاف راتبه. فما الذي يستطيع فعله؟ والآن يكتبُ رسائل يشجب فيها شركته القديمة والآخرين الذين يأتون لمساعدتنا، وفي رسائله يصفُ شركاتِ النفط بالصديقة.” ثم ارتجفَ بدنُها كالكلب إذ يهزُّ جسده للتخلص من الماء. “ولدي لم يعد واحداً منا….”

وقف رجلٌ كهلٌ يلبس عصابة الرأس المزينة بريش طائر الطوقان التي يلبسها العرّافون. “أجاءك نبأُ أولئك الثلاثة الذين اخترناهم ليمثلونا أمام شركات النفط، والذين قُتلوا في تحطم طائرتهم؟ لن أقف هنا لأخبرك بما يقوله الكثيرون من أن شركات النفط هي التي سببت سقوط الطائرة. لكنني أستطيع القول إن هؤلاء القتلى الثلاثة حفروا حفرةً كبيرة في تنظيمنا، وسارعت شركاتُ النفط إلى ملئها برجالها.”

أخرج رجلٌ آخرُ عقداً وقرأه. مقابل ثلاثمئة ألف دولار، تخلى العقدُ عن منطقةٍ واسعةٍ لإحدى شركات الخشب. وكان موقَّعاً من قِبَل ثلاثةِ مسؤولين قَبَليين.

 قال، “ليست هذه تواقيعاتِهم الصحيحة. أنا أعرف ذلك لأن أحدهم أخي. إنه نوعٌ آخرُ من الاغتيال هدفُه وصمُ قادتنا.”

بدا ساخراً وغريباً أنْ يحدث هذا في منطقة من الإكوادور حيث لم تُمنحْ شركاتُ النفط بعدُ إذناً في الحفر. لقد حفروا في مناطق كثيرةٍ حول هذا المكان، ورأى أهلُ البلاد النتائج، وشاهدوا دمار جيرانهم. فساءلت نفسي، إذ كنتُ أجلس هناك أستمع، ما الذي سيقوله مواطنو بلادي لو أن هذا الاجتماع بثته بعضُ محطات التلفزة عندنا.

كانت الاجتماعاتُ رائعةً، وكان مؤلماً ما صدر فيها من بوح. لكن شيئاً آخر حدث خارج التحضيرات الرسمية لهذه الجلسات. ففي أثناء الاستراحات، ووقت الغداء، وفي المساء، حينما كنتُ أتحدّث مع الناس على حدة، كنتُ كثيرا ما أُسألُ عن سبب تهديد الولايات المتحدة للعراق. فالحربُ المتوقعة كانت تُبحَثُ على الصفحات الأولى للجرائد الإكوادورية التي كانت تصل إلى هذه البلدة في الغابة، وما يقال عنها كان مختلفا عما يُقال في الولايات المتحدة. كذلك كانت فيها إشاراتٌ إلى مُلكية أسرة بوش لشركات نفطية، وإلى دور نائب الرئيس تشيني كمدير عام تنفيذي سابق لشركة هًَلِبيرتُن.

كانت هذه الجرائدُ تُقرأ للرجال والنساء الذين لم يدخلوا المدرسة قط، فكلهم كانوا مهتمين بهذه القضية. بلى، كنتُ هناك في غابة الأمازون المطيرة، بين أناس أُميين يعتبرهم الكثرة في شمال أمريكا “متخلفين”، بل “متوحشين”، ومع هذا يسألون أسئلة ثاقبة تنفذ إلى قلب الإمبراطورية العالمية.

حين كنتُ أسوق سيارتي خارجا من بلدة شِل، ماراً بالسد الكهرومائي، صاعدا جبال الأنديز، فكَّرتُ بالفرق بين ما رأيتُ وسمعتُ خلال زيارتي للإكوادور وما اعتدتُ عليه في الولايات المتحدة. يبدو لي أن لدى قبائل الأمازون الكثيرَ مما يُمكنهم أن يُعلمونا، وأننا، بالرغم من كلِّ ما تعلمنا في المدارس ومن الساعات الكثيرة التي نقضيها في قراءة المجلات ومشاهدة أخبار التلفاز، ينقصنا الوعيُ الذي امتلكوه هم بطريقة ما. جعلني هذا الخطُّ من التفكير أفكر بـ”نبوءة الكَنْدور والنسر” التي سمعتها كثيرا في أمريكا اللاتينية، وبنبوءاتٍ شبيهةٍ عرفتُها في أنحاء العالم.

تكادُ كلُّ ثقافةٍ أعرفها تتنبّأُ بأنّنا دخلنا في تسعينات القرن العشرين حقبةً من الانتقال الرائع. ففي أدْيِرةِ الهملايا، ومواقع الاحتفالات في إندونيسيا، والمحميات المحلية في أمريكا الشمالية، من أعماق الأمازون إلى قمم الأنديز فإلى مدن المايا في أمريكا الوسطى، سمعتُ أنّ حقبتنا حقبةٌ خاصةٌ في التاريخ البشري، وأنّ كلا منا وُلِد في هذا الوقت لأن لنا مهمةً علينا إنجازُها.

تختلف قليلا عناوينُ النبوءات وكلماتُها. لكنها تتنبأ بطرق مختلفةٍ عن عصر جديد، أو عن الألفية الثالثة، أو عن عصر الدلو، أو عن بداية الشمس الخامسة، أو عن نهاية التقويم القديم وبداية الجديد. غير أنه بالرغم من التسميات المختلفة، فإن لديها الكثيرَ مما تشترك به. و”نبوءة الكَنْدور والنسر” نموذجية. تقول إنه في غياهب التاريخ، انقسمت المجتمعات البشرية وأخذت سبيلَيْن مختلفَيْن: سبيلَ الكَنْدور (ممثِّلا للقلب، في حدسه وغموضه)، وسبيلَ النسر (ممثِّلا للعقل، في منطقه وماديته). في تسعينات القرن الخامس عشر، كما تقول النبوءة، يلتقي السبيلان فيدفع النسرُ الكَنْدورَ إلى شفا الفناء. بعد ذلك بخمسمئة حول، في تسعينات القرن العشرين، يبدأ عصرٌ جديدٌ تتهيّأ فيه الفرصة للكَنْدور والنسر ليتحدا ويطيرا معا في السماء ذاتها وعلى السبيل ذاته. فإن قبل الكَنْدورُ والنسرُ هذه الفرصة، أنجبا خلفاً رائعاً، ليس كمثله شيء.

يُمكن أخذُ “نبوءة الكَنْدور والنسر” على مستويات كثيرة – فالتأويلُ التقليديّ أنها تتنبأ بتشارك المعرفة المحلية والعمل التقاني، وتوازن اليِن واليَاَنْغ،[iv] والتجسير ما بين ثقافات الشمال والجنوب. غير أن الأقوى هي الرسالة التي تعرضها حول الوعي؛ تقول إننا دخلنا عصرا نستطيع فيه أن نستفيد من مختلف الطرق المتعددة لرؤية أنفسنا والعالم، وإننا نستطيع استخدامها روافعَ إلى مستويات من الوعي أعلى. وكجنسٍ بشريٍّ، في وسعنا حقاً أنْ أن نُفيق ونتطوّر إلى نوع أكثر وعيا.

أما أهل الأمازون الكَنْدوريون، فيجعلون الأمر يبدو من الوضوح بحيث إن سألنا عن طبيعة ما يجعلُ الشيءَ إنسانيا في الألفية الجديدة، وعن التزامنا بتقييم نوايانا في العقود المتعددة القادمة، فإن علينا أن نفتح أعيننا ونرى عواقبَ أعمالنا – أعمال النسر – في بلاد كالعراق والإكوادور. علينا أن نهزّ أنفسنا لكي نستيقظ. نحن الذين نعيش في أقوى دولة عرفها التاريخ، يجب أن نكفَّ عن القلق العظيم على المسلسلات الإذاعية، ومباريات كرة القدم، وميزانيات ربع السنة، والمعدلات اليومية لأسعار داو جونز؛ علينا بدل ذلك أنْ نُعيد تقييم أنفسنا وما نريده لمستقبل أطفالنا. فالبديل المتمثل بالتوقف عن طرح الأسئلة المهمة على أنفسنا إنما هو خطر ماحق.