فَعَلها العظم …بعد أن “وهن منه العظم”

عادل سمارة

سيكون من قبيل خداع الذات تجاهل أن كثيراً من المثقفين العرب مخروقو الوعي ومنهم من هو مخروق الموقف بوعي. وكثير منهم مخروق بالفردانية إلى درجة تحول ذاته إلى وطن بديلا للوطن. أما هذه جميعا فتقود إلى مهالك تضع المرء في معسكر الثورة المضادة. وتكون الورطة حين يفعل ذلك بوعي ويمنعه كبريائه الفردي عن نقد الذات، أو على الأقل الانزواء. ألم يقولوا فيما مضى : “مكانك تُحمدي أو تستريحي”؟ ولكن من له وعيه ويصر على السقوط، فهو على الأغلب يدفع ثمناً لعلاقة ما!

لم يشهد الوضع العربي فوضى المواقف كما يشهده تجاه سوريا، وضع يسمح لكل فرد بأن يُمسك بقطعة من الأزمة معتقداً أو زاعماً أنها تسمح له بفهم الصورة وتفهيم الآخرين! ولعل هؤلاء الهروبيون هم الأشد خطراً اليوم.

أورد أدناه مجادلتين، لكاتبة غير عربية، وأخرى لكاتب عربي سوري هو صادق جلال العظم لأن المقارنة تسهل الكشف.

كتبت الكاتبة سورايا سيفابوور أولريش عن الأزمة السورية في Global Research  26 نيسان 2013 انظر الرابط (http://www.globalresearch.ca/the-fuelling-of-unrest-in-syria-israels-territorial-ambitions/5333075  )

تقول الكاتبة: ” تذهب  الرواية الحالية عن سوريا  بشكل عام إلى حرف الأنظار عن السبب الحقيقي للهجوم على سوريا، وهو إسرائيل”. وبالطبع، فإن مثقفي الثورة المضادة العرب، لا يذكرون الكيان الصهيوني قطعياً في تحليلاتهم  عن سوريا، وكأن الكيان غير موجود او غير مستفيد أو غير مشارك في الأزمة، او كأنه دولة جارة على أرضها! (انظرأدناه حديث العظم في 23 نيسان 2013)

ثم تقتطف الكاتبة:“في مذكراته، فإن موشيه شاريت قال بأن القرارات السياسية فيما يخص احتلال بقية ارض إسرائيل قد تم اتخاذها باكرا منذ عام 1954، رغم أن الاحتلال تم عام 1967” (Livia Rokach,  Israeli State Terrorism: An Analysis of the Sharett Diaries,” Journal of Palestine Studies 9, no. 3 (Spring, 1980), 3-28.(

 أي احتلال الضفة وغزة. وفي هذا الصدد اذكر أنه في حديث لي، قبل عام 1967، وأنا فتىً مع ضباط اردنيين (ناصريين وقوميين وبعثيين) كانوا يجادلون بأن ما يمنعهم من القيام بانقلاب هو مخافة أن تحتل “إسرائيل” الضفة الغربية! وسواء صح التحليل أم لا، فالضفة وقد غدت محتلة منذ 1967 وتبع ذلك اعترافات عديدة بالكيان في المغتصب 1948، ولكن الأهم هو: لو حصل في لبنان مليون انقلاب اليوم، هل يجرؤ الكيان على احتلال جنوب لبنان!!! فلماذا يتورط  الكاتب صادق جلال العظم بحصر موقف حزب الله وإيران من سوريا بأنهم يتدخلون لحماية المقدسات الشيعية (انظر ادناه)! ويتورط في إغفال دور سوريا في دعم حزب الله وتحرير جنوب لبنان! هل يُعقل اختزال دور حزب الله وتقزيم تحرير الأرض  في حماية بعض المعابد.

تواصل الكاتبة: “  كشفت صحيفة هآرتس بأن دراسة من مركز جافي للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل ابيب قد وضعت خطوطا عريضة “لمنطقة الأمن المائي” والتي تقضي بوضع المصادر المائية السورية واللبنانية تحت سيطرة إسرائيل. ([ii] Zeev Shiff, “The Censored Report Revealed,” Ha’aretz, 8 October 1993 )

وسؤالنا، حينما تتقسم سوريا إلى خمس مشيخات، من الذي سوف يمنع الكيان من السيطرة على مصادر المياه وحتى الأرحام؟ هل من شك أن كل مشيخة ستبيعها الماء كي تعيش كما يبيع أهل ريع النفط؟ أما العظم، فيزعم ان التقسيم لن يحصل. (انظر ادناه)

وتنقل الكاتبة عن المعارض الإسرائيلي الراحل  اسرائيل شاحاك الرافض بشدة للصهيونية الذي : “ أكد أن هدف إسرائيل الرئيسي عام 1982 كان تدمير الجيش السوري ولكن صمود الجيش السوري أفشل الخطة. واليوم تحولت الخطة ليكون التدمير من الداخل”.( [iii] Sahak , Israel .  Israel Considers War With Syria as It Ponders 1982 Invasion of Lebanon ,The Washington Report on Middle East Affairs (September 30, 1992). )

هل يخفى على كل ذي عقل بأن ما يحصل هو تدمير سوريا من الداخل؟

ينقلنا هذا إلى حديث صادق جلال العظم (مقابلة مع علياء الأتاسي مراسلة جريدة الحياة في بون 23 نيسان 2013) ، و الذي يبدو انه تورط في الاعتقاد بسقوط سوريا سريعا فحسم في معسكر الثورة المضادة. وربما يعود الفضل في هذا لمبعوث الكنيست في الدوحة عزمي بشارة مُله هذا المعسكر الذي لا يُخفي بعض رموزه تلبيته لاستدعاء بشارة لهم إلى الدوحة. لقد شاهدت هيثم مناع يتحدث لشاشة المنار عن ذهاب المعارضة السورية (غير المسلحة) عن تلبية المعارضة لطلب  بشارة. وبدا على وجه مناع فرح طفولي كالذي يعلو وجه صبي وقد صافح بطلا ثوريا!!! أما المذيعة فأخفت تقززها وشماتتها أدباً.

يبين العظم انحيازه وربما انتظامه في معسكر الثورة المضادة فيقول:

“التقدّم يقع على الأرض، إذ تحوّل الأسد من رئيس لسورية إلى محافظ دمشق الصغرى. المعارضة في الخارج لا تستطيع فعل الكثير لتسريع سقوط النظام في الداخل، فهي بمثابة بنية فوقية موازية لبنية تحتية تنقذ الثورة. إن المعارضة في الخارج هي التي تتبع معارضة الداخل، لذا فهي غير قادرة على تحريكها أو توجهيها. ومن واجبها خدمة البنية التحتية، لذلك أنا أؤيد تشكيل حكومة موقتة في الداخل تقوم بهذا الواجب”.

ليس اللافت أكثر هذا التفاؤل لدى العظم بمعارضة الداخل المسلحة. مثلا “الديمقراطية الشعبية لجبهة النصرة” ولا شك اغتباطه  ب “جهاد النكاح” وربما يتمنى الشيخ هنا أن يعود إلى صباه، لا سيما أن الشيخ من منابت يسارية تقارب الأنارخية وليس اللينينية!  بل اللافت أن لا يرى قط طبيعة هذه المعارضة، لا يرى ارتباطاتها، ولا يرى أن فيها مكون قيادي خارجي  كبير”أممية وهابية”. هل هذه الفرق المستجلبة كالاستيطان الصهيوني من أربعة أرجاء الأرض هي معارضة داخلية؟ أم عدواناً. الكاتبة الأميركية تدرك ذلك، والمواطن الوطني لا يراه قط. ترى هل سمع العظم بعد مقابلته بايام  ماذا يجري على الأرض؟ وهل الأسد محافظ دمشق؟ يبدو أن العظم مأخوذ بالحكم الذاتي في الأرض المحتلة، ويبدو أن الوضع محبب له! والطريف أنه لم يفقد تماماً بعض ماركسيته، فيشبه مسلحي الداخل ب “البنية التحتية”. يبدو أنها بنية تحتية لأنها قاعدة ممتطاة من معظم حكومات ومخابرات العالم، هي جهاز يستخدمه نفر من بشر أو من شياطين. مسكينة النظرية، فهي تخدم أحياناً من يمتطيها!!!

ثم يقول: “دخول حزب الله اللبناني وإيران وعناصر من العراق للقتال في سورية على أساس طائفي شيعي باسم حماية المقدسات الشيعية في سورية من شأنه تعزيز الصراعات المذهبية في المنطقة كلّها وتأجيجها، ممّا يؤدي إلى استنفار مماثل في العالم السنّي، وهذا منحى خطير لا نريده لأوطاننا”.

يبدو أن العظم استُنفر سُنياً ليس من دور حزب الله وإيران والعراق، بل من أجهزة الإعماء/الإعلام الذي حينما كان يحمل راية الماركسية كان يسميه إعلاماً برجوازياَ، كانت سابقاً السمات الطبقية هي الطاغية. وإذا كان حزب الله وإيران يحاولان حماية بعض المعابد ، كما يزعم أنهما تدخلا، ويزعم انهما برررا ذلك طائفياً، فماذا عن مليار وربع المليار سُني لا يحمون الأقصى، ولا الحرمين في الحجاز حيث يدنسهما الجيش الأمريكي رغم انف  وربما برغبة “خادم الحرمين” وخادم الحرمين، ويا للهول هو الذي يقرر من يحكم لبنان! أليس وطنا سوريالياً هذا.

 (ليسمح لي القارىء بملاحظة فجة، أتت في حينها كبذاءة مظفر النواب. كانت لي مزرعة دواجن صغيرة أحرقها المستوطنون الصهاينة في الانتفاضة الثانية، وكانت مكونة من بركسين، جاء صديق طويل اللسان فرأى حمارا مربوطا بينهما فاستوحى ىشاعرية من خادم الحرمين فقال: هذا خادم البركسين) ؟؟؟؟

 لماذا يستفنذ العظم مخزونه اللغوي والفلسفي لتصغير دور حزب الله وإيران، هذا إذا كان دورهما داخل سوريا! وإن حصل، فهناك مئة واربع وسبعون دولة من بينها خمسون دولة مسلمة سنية يغتصب السلطة فيها حكام من السنة وليسوا من المسلمين، كل هؤلاء يعتدون على سوريا! هل تنحط الثقافة والفلسفة إلى هذا الحد اللاوطني، بل الطائفي بامتياز.

إلى أن يقول:

:”لبنان عانى من حرب أهلية مريرة ولم يتعرض للتقسيم. كلّ ما حدث أن اللبنانيين تخلصوا مما يسمى بالمارونية السياسية، والثورة السورية ستقضي على العلوية السياسية. في العراق مثلاً هناك انقسام وليس تقسيم”.

ما حصل أن المارونية الأصيلة هي التي انتصرت على المارونية التابعة،. ببساطة العماد عون وطني لبناني. كانت حرب لبنان حربا أهلية، أما في سوريا فهي حرب بالوكالة عن الكيان والإمبريالية والعثمانيين والخلايجة. هي عدوان أممي  وهابي معولم. لكن العظم لا يرى سوى أن النظام “برأيه علوي” ويجب تقويضه! فإلى جنة الخلد ايها الديالكتيك العتيق! ولا يهتم العظم، إن كان من سيأتي قد رتب أوراقه علانية مع تل ابيب ومع الولايات المتحدة وتركيا وقطر. والمشكلة أن معارضة الخارج-مثقفي/ات المعارضة يعلنون علاقاتهم بمعسكر الأعداء بلا مواربة!!!. هل يعقل أنه لم يسمع بكل هؤلاء الأجانب، ولم يشاهد المقابلات التي عرضت على الشاشات؟ ربما كان مشغولا في إعادة قراءة فوكوياما ليؤكد قناعته بخلود الراسمالية وبسطوة العولمة، ولا شك أنه لم يُعد قراءة مارتن هايدجر الفيلسوف الذي ربطته وطنيته وقوميته بالنازية ولم يتراجع، بينما فقد العظم قوميته غير النازية ولا الشوفينية (كما يزعم بعض عباقرة آخر زمن في عمان)!!!

لم يتجزأ لبنان لأن صراعه أهلي، أما العراق فهو مقسم عملياً بموجب سايكس-بيكو تدريجياً ولن يتوحد سوى بحجاج جديد لا طائفي بالطبع.  ربما لم يقرأ للعظم بعض أسرته أن جيش البشمركة الكردي قد احتل كركوك ليس بهدف التقسيم بل احتلال بغداد. فكل من لم يبك سقوط بغداد، كان مخروقاً بفعل ما من أفعال (استفعال) الولايات المتحدة والكيان.

طبيعي أن يهاجم العظم أدونيس. ولعل الفارق الفالق بينهما (في الشأن السوري) هو الوطني واللاوطني. فالوطني هو الذي يلاحق رائحة الياسمين والنعناع والبنفسج في الوطن فينقد النظام حين يطأها، ولا يخون غدراً أو ثأرا بدويا من النظام أو ليُمنح “الاعتراف” من الأكاديميا الغربية التي توجهها دوما المخابرات. لا بأس اكاديميا وطنية في بلدانها وإن كانت لا إنسانية عالمياً. هناك…بعيداً في وطن النازية التي فرخت لنا نازية أخطر،  يعيش العظم مأساة دفع فواتير أن يعترفوا به، فهو هناك… تورط في الأنجزة وتعظيم العولمة والاصطفاف مع من اسموا أنفسهم “العقلانيين العرب”، وهناك مثقفون صهاينة يلاحقون أمثال العظم ويبتزونهم على الدوام حتى كبا الرجل لينتهي طائفيا ضد “العلويين”. أليس السجن في دمشق أفضل من هذه النهاية. حبذا لو يتذكر الصاحب بن عباد الذي ارتضى سجن المرابطين (او الموحدين آسف لعدم التأكد) على أن يحميه فرديناند وإيزابيللا في الأندلس. لقد رفض أدونيس، بحس الشاعر، التورط في التغطية على المؤامرة. ربما لأن الشاعر دليل قومه، فوقف مع سوريا بعد أن نقد النظام ولا يزال ينقد النظام، ولكن ليس إلى حد الانضواء في قنوات الخيانة. ما اكثر المثقفين، بقامات كبيرة او صغيرة، الذين اصروا على التورط في الخيانة كي لا يظهروا في موضع من أخطأ. فكيف لمن يزعم العبقرية أن يخطى!!!!

أما وقد “وهن العظمُ” من  العظمِ، فحبذا لو ظل في دفاتر الفلسفة، كما حبذا لو ظل إدوار سعيد في الأدب المقارن، ولم يدخل عالم الكتابة السياسية! أما وقد اختار هذا وذاك، فما على الناس إلا أن تتعظ.