العميد الدكتور امين حطيط
في عمل مسرحي يكاد يشبه ما تقوم به هوليود في الانتاج السينمائي، قطعت محطات الاعلام الغربية او المسيرة بتوجيهات غربية قطعت برامجها بخبر عاجل فوق العادة لتنقل موقفا اميركيا مفاده بان “سورية تخطت الخطوط الحمر باستعمالها الاسلحة الكيماوية ” و ان في ذلك انتاج لبيئة تفرض على اميركا التدخل لمنع هذا التجاوز و من اجل استكمال المشهد، فتح المجال امام المعلقين و المحللين كل يدلي بدلوه، هذا يناقش و ذاك ينفي و الاخر يؤكد بان الحرب الاميركية او الهجوم العسكري الغربي على سورية بات وشيكا و المسألة مسألة وقت فقط على حد قول بعضهم فهل ان الصخب هذا هو من مقدمات الحرب ام ان في الامر شأن اخر؟
قبل ان نناقش الاسباب و الدوافع حول المسرحية الغربية الصهيونية هذه نرى ان من الضروري البحث في اصل الموضوع و مدى الحق الاميركي في التهديد او التدخل. بحث يبدأ بالسؤال عمن اعطى اميركا الحق بان تكون القيمة على امر العالم و شرطيه؟ و هل ان الامم المتحدة عبر مجلس الامن فيها لزمت اميركا مهمة المحافظة على الامن و السلم الدوليين و هي المهمة المنوطة بها اصلا؟
هنا لا بد من التأكيد على مسالة اساسية تنبثق من مفهوم السيادة التي تمارسها الدول المستقلة حيث انها تتنافى مع اي تدخل اجنبي فيها، ولا يمكن للدولة السيدة المستقلة ان تقر او تعترف لاحد بسيادة على اراضيها حتى و لو كان هذا الاحد بحجم اميركا موقعا و اهمية دولية، و عليه فليس من حق اميركا ان تنبري لتطالب هذا بسلوك او تصرف فليست هي الوصية على العالم وان زمن اغتصابها و سيطرتها على القرار الدولي ولى ولن يعود، واذا كانت تستطيع عبر قرارات تلزم بها نفسها ان تمتنع عن التعامل مع هذه الدولة او تلك في سياق ما تسميه “تدابير عقابية” فان تلك التدابير لا تلزم الاخرين وليس من حقها ان تلزم احد بقرار هي اتخذته والا كان في المسألة اعتداء يستوجب الرد.
وعلى هذا يناقش الموقف الاميركي المستجيب للمطالب الاسرائيلية و المتضمن زعما بان سورية استعملت السلاح الكيماوي ما يشكل سببا للتدخل الاميركي المباشر في ازمتها، يناقش الموقف كونه يشكل تدخلا في شؤون دولة مستقلة و اذا وصل الى حد استعمال القوة العسكرية فانه سيشكل عداونا اكيداً يستوجب طبعاً ممارسة الدفاع المشروع عن النفس، حيث يكون للمعتدي عليه ان يلجأ الى كل السبل و الوسائل و العلاقات التي تمكنه من دفع العدوان هذا بما في ذلك قوته الذاتية و قوته التحالفية و يكون له ان يستهدف مصالح المعتدي في اي مكان يصل اليه كما و مصالح حلفائه ايضا.
ان اميركا تعلم هذه الحقيقة و تعلم ان اليوم لا يشبه الامس و اذا كانت قد تمكنت قبل عقد من الزمن ان تلفق للعراق تهمة – اكذوبة استندت اليها لتبرر احتلاله و تدميره فانها لا تستطيع اليوم تكرار التجربة في سورية فسورية غير العراق قوة و تحالفات و علاقات ومحاور، سورية التي اكدت بصدق و شفافية انها لم و لن تستعمل السلاح الكيماوي – هذا اذا توفر لديها – لن تستعمله على ارضها خشية ان تلحق اضراراً بشعبها وهي ترفض استعماله ايضاً لانها ترى في هذا الاستعمال انتهاكاً للقواعد الاخلاقية و الدينية و القانونية التي تلتزمها، ولم يكن النفي السوري هذا بدافع الخشية من اميركا بل كان للتأكيد على اخلاقية العمل الدفاعي الذي تمارسه وتمسكاً بمبادئ تلتزمها طوعاً في ادارتها لعملها العسكري الدفاعي.
ومع هذه الحقائق لا نعتقد بان اميركا تجهل الاثار التي قد تترتب على اي عدوان تشنه على سورية فهي و لا شك تعلم ان شن حرب هناك يعني و بكل وضوح اشعال منطقة الشرق الاوسط برمتها اقله من ايران شرقا الى تركيا شمالا الى سيناء غربا و اليمن في الجنوب، ما يعني اندلاع النار في قلب المسرح الاستراتيجي الاميركي المسمى المنطقة الوسطى و التي تشتمل على معظم احتياط النفط العالمي و على الممرات المائية الاساسية في العالم. حربا يمكن لاميركا ان تشعل نارها لكنها و بالتأكيد لن تستطيع اطفائها بمشيئتها، لان شعوب المنطقة لن تهدأ عندها الا بعد ان تحرق المصالح الاميركية كلها و تخرج الغرب من الشرق مهما كلف الثمن و تجعله “شرق اوسط لاهله “..
ان اميركا التي تعلم كل ذلك و التي قررت ان تطوي صفحة “استراتيجية القوة الصلبة” لتعمل ب”استراتجية القوة الناعمة ” تعلم ان عودتها الى الاولى و اعادة فتح الجبهات بعد اغلاقها امر لن يكون في صالحها و هي اصلا ليست بحاجة اليه اليوم طالما ان لديها من العملاء و التابعين “الاعراب و الاسلادمويين” من يقوم مقامها في تدمير البلدان العربية و الاسلامية و قتل العرب والمسلمين، ولذلك نرى و بدون تردد ان اميركا لن تغامر في حرب على سورية و لن ترسل جيوشا اليها و ستكتفي من التدخل باستعمال تلك الادوات من ذوي شهوات السلطة و الاحلام الخيالية و التصورات الحجرية المنافية لمنطق العصر و الحضارة و الدين. لذا لن يكون تدخل عسكري من قبلها يمكن ان يفسر عدواناً يستوجب الرد الدفاعي و يقود الى الحرب بما في ذلك التلويح بالحظر الجوي او الممرات الامنة كما حاول جون كيري ان يوحي مؤخرا. فكل استعمال للقوة بيد عسكرية اجنبية على الارض السورية و فوقها سيشكل سببا لحرب شاملة في المنطقة، و لا نرى ان اميركا سترتكب هذه الحماقة في هذا الظرف بالذات.
ولكن و بما ان هذه هي حقيقة الموقف الاميركي كما نراه فاننا نسأل عن سبب هذا الصخب والتهويل انطلاقا من ادعاء لا مستند له ولا دليل حتى ولا يقوم على بينة او بدء بينة او قرينة تثبت صوابه؟
للاجابة هنا وفي عودة الى الوقائع نجد ان اميركا انساقت الى هذا الموقف لان لديها اهداف رمت الى تحقيقها اثر تطورات فاجأتها فارادت ان تمارس:
1) الضغط على القيادة السورية لوقف هجومها الدفاعي المعاكس الذي بدأ منذ شهر وحقق ما يفوق التوقعات ما اصاب اميركا بالذهول من الانجازات التي صنعها الجيش العربي السوري خاصة في المنطقة السورية الوسطى و في معظم محاور المواجهة مع الارهابيين و المسلحين على مساحة سورية عامة، و تهول اميركا بالتدخل المباشر من اجل وقف العمليات العسكرية تلك او ابطائها و لمنع التطهير المرتقب لمدينة القصير لان في تطهيرها انقلاب للموقف الاستراتيجي سيؤدي الى شل او تعطيل دور الجانب اللبناني في دعم الارهابيين.
2) الضغط على القيادة السورية من اجل استقبال لجنة التحقيق الدولية التي شكلها بان كي مون وفقا للرغبة الاميركية و بما يتعدى المطلب السوري بالتحقيق حول استعمال المجموعات المسلحة للسلاح الكيماوي في خان العسل. و ترغب اميركا ان تتخذ من هذه اللجنة اداة تدخل باسم الشرعية الدولية للعبث بالشؤون السورية و هو ما اخفقت فيه حتى الان بدءا من لجنة الدابي العربية وصولا الى لجنة المحققين الدوليين.
3) تأكيد و جود الحاضنة الخارجية الثابتة للارهابيين و تقديم الدعم المعنوي لهم بعد الهزائم التي لحقت بهم مؤخراً و منحهم الامل بتدخل قريب و بمدد خارجي مباشر لمنع انهيارهم. كما وتثبيت الاردن في موقعه بعد افتضاح دوره في العدوان على سورية و خشية اميركية من تراجعه عن هذا الدور.
4) احتواء الدفع الاسرائيلي الداعي الى تدخل عسكري اميركي و غربي في سورية وايران واظهار اميركا بانها حاضرة ومتابعة وجاهزة لاي احتمال بما في ذلك العمل العسكري المباشر.
5) و اخيرا لا ننسى الحرص الاميركي على المحافظة على قوة موقعها التفاوضي وابقائه في وضع يمكنها من حفظ مصالحها اذا حان وقت الحل السلمي للازمة السورية، ولهذا فهي ترفض الحسم العسكري لصالح الدولة السورية لان فيه هدر لكل تلك المصالح و لذلك نسمعها تردد مقولة ” حفظ التوزان بين الدولة والارهابيين”.
هذا ما توخته اميركا من الصخب حول الاسلحة الكيماوية اما القول بالحرب او التدخل باي شكل او صورة فلا يعدو كونه تهويلاً غير قابل للتنفيذ السهل لان الغرب و على راسه اميركا ومعه اسرائيل لا يملكون القدرة على التدخل العسكري المباشر دون الاكتواء بناره، وهم يدركون جيدا واقع الخريطة الاستراتيجية الاقليمية و الدولية. لذا نرى ان الجهد الاميركي الان سيبقى مركزاً على السعي لانتاج توازن في الداخل السوري بين الدولة والجماعات المسلحة من اجل ابقاء النار مشتعلة لاستمرار التآكل في القدرات السورية وهذا ما عنته اميركا عن نيتها بتسليح المعارضة ( و في الاعلان نفاق لان التسليح جار على قدم و ساق و لم ينتظر اعلانا ليبدأ )، لكن سورية تعرف كيف تجهض هذا السعي و قد بدأت، كما انها تعرف كيف تتفلت من الافخاخ الاميركية و ترفض كما رفضت دائما الاقرار لاميركا باي حق او وصاية او ولاية على ما يجري فيها.
:::::
جريدة “الثورة”، دمشق في 2942013