الغلطة الروسية في لبنان.. بألف

د. ليلى نقولا الرحباني

انشغل الوسط السياسي والإعلامي خلال الأسبوع الماضي بزيارة نائب وزير الخارجية الروسي الموفد الرئاسي لمنطقة الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف إلى لبنان، من ضمن زيارته للشرق الأوسط.

وإن كان لا بد من قراءة موضوعية لزيارة بوغدانوف إلى الشرق الأوسط، فلا بد من قول إن أهداف الزيارة هي روسية بالدرجة الأولى؛ يريد الروس من خلالها التأكيد على موقعهم كلاعب فاعل في السياسات الشرق أوسطية، فما بعد الأزمة السورية ليس كما قبلها، واستفراد روسيا وتغييبها عن المشهد السياسي الشرق أوسطي لم يعد مقبولاً، أما في مرحلة ما بعد الحل في سورية، فلن يقبل الروس بفتات العقود النفطية وعقود إعادة الإعمار، بل باتوا يتحضّرون بقوة لتقاسم النفوذ السياسي والاقتصادي مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.

ولئن كان المشهد السوري بصدد فرز موازين قوى جديدة في الشرق الأوسط – إن لم يكن على الصعيد العالمي ككل – فقد بات الأطراف الفاعلون يتحضرون لملء الحيّز الاستراتيجي في المنطقة، وهكذا نجد روسيا والولايات المتحدة الأميركية كقوتين دوليتين تتحضران لبسط نفوذهما على المشهد السياسي السوري ودول الجوار، أما من ناحية القوى الإقليمية، فنجد النفوذ الإيراني قد استقرّ بصمود حليفه الرئيس بشار الأسد، في حين تتصارع كل من قطر والسعودية على مَن سيكون الوكيل الإقليمي للأميركيين في المنطقة العربية.

وهكذا، تأتي زيارة بوغدانوف تتويجاً لمسار روسي يحاول العودة إلى الساحة الدولية منذ مجيء بوتين إلى الحكم، ومع النمو الاقتصادي الذي شهدته روسيا مع ارتفاع أسعار النفط العالمية، واعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي، ثم أتت الأزمة السورية لتدخل الروس إلى قضايا الشرق الأوسط من بابها الواسع، وتحجز لهم مكاناً لا يستطيع أن ينافسهم أحد عليه.

ولعل الحرص الروسي على لقاء جميع الأفرقاء السياسيين اللبنانيين كان يهدف إلى تطمين الجميع بأن روسيا لن تدخل في محور تصادمي هدفه إلغاء طرف على حساب آخر، وهو أمر تعلّمه الروس من أخطاء السياسة الأميركية في المنطقة، التي وضعت أمن “إسرائيل” فوق كل اعتبار، ودخلت في زواريب السياسة اللبنانية الضيقة، ما جعلها تخسر بالنقاط كلما تقدم الخيار التصادمي، وتربح من خلال التسويات التي أتقنتها منذ رعاية “التحالف الرباعي”، وانتهاء بحكومة الرئيس ميقاتي.

لكن  الحرص الروسي على لقاء الجميع سياسياً، لم يقابله حرص مماثل في ما خص “التشبيك” الروسي مع المجتمع المدني اللبناني ومنظماته، فانفرد الأرثوذكس بهذا اللقاء، علماً أن في هذا الحق الحصري الذي انفرد به الأرثوذكس، وإعراب بوغدانوف عن «قلق روسيا حيال ما يمرّ به المسيحيون الأرثوذكس في الشرق الأوسط”، قد يُعتبر “سقطة” روسية، وذلك لأسباب عدة:

1) إن النافذة الأرثوذكسية التي شاءت روسيا أن تطل منها على المجتمع المدني اللبناني بشكل خاص، والمشرقي بشكل عام، هي نافذة ضيقة جداً، وليس باباً يمكن للروس الولوج منه إلى مستقبل أفضل للشرق الأوسط، فالطائفة الأرثوذكسية تُعتبر أقلية ضمن أقليات مسيحية أخرى، منها ما هو الأكثر فعالية وقدرة.

2) إشارة بوغدانوف إلى القلق على مستقبل ومصير أرثوذكس المشرق، كان يجب أن يتخذ الإطار المسيحي الأوسع، وليس الأرثوذكسي فحسب، فمسيحيو المشرق بمختلف طوائفهم ومذاهبهم يعتريهم نفس القلق على المصير والمستقبل، وهم في قارب واحد، خصوصاً في هذا الظرف التاريخي من حياتهم، لذا فإن المقاربة التي تعتمد الحرص على جميع مسيحيي المشرق ورفض تهجيرهم تبقى الإطار الأفضل لأي سياسة روسية تريد أن تفرض نفسها لاعباً جديداً فاعلاً في المنطقة.

إذاً، نجح الروس في السياسة وسقطوا في امتحان التشبيك المدني والاجتماعي، فقد استطاعوا أن يخرجوا من لقاءاتهم مع التركيبة السياسية اللبنانية المعقّدة بربح معقول، وأرسلوا الرسائل الإقليمية والمحلية المختلفة الأبعاد والاتجاهات، لكن الأمر لم يكن كذلك في إطار المجتمع المدني، خصوصاً المسيحي منه، الذي لم يشعر أن المقاربة الروسية الجديدة في الشرق الأوسط استطاعت أن تتخطى إرث روسيا القيصرية، فكان اللقاء بالأرثوذكس حصراً، وكأنه نوع من تجديد للسياسة التي استعملتها روسيا القيصرية خلال عهد السلطنة العثمانية، علماً أنه كان يُنتظر من روسيا – بوتين اليوم أن تشكّل الحاضنة لحماية مسيحيي المشرق عموماً وهم يتعرضون بشكل جماعي لخطر الاقتلاع والتهجير.

::::

“الثبات”