“كنعان” تنشر كتاب “إعترافات قاتل إقتصادي”

 تأليف جون بيركنز وترجمة بسام ابو غزالة.

 

الفصل الأخير

خاتمـة

مرّتْ سنةٌ ونصفُ السنة منذ انتهيتُ من كتابة اعترافات قاتل اقتصادي. وقد نال الكتابُ نجاحاً باهراً وسريعا، وتربّعَ على موقعه في قائمة أكثر الكتب مبيعا، ونُشر بسبعَ عشْرةَ لغة. وخلال الشهور الثمانيةَ عشَرَ الماضيةِ تجوّلتُ في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، وتكلمتُ مع أناس من جميع مناحي الحياة والمعتقدات السياسية، واستلمتُ مئاتِ الرسائل العادية والإلكترونية.

يُمكنُ وصفُ الاستجابةِ الأعمِّ للكتابِ بهذه الكلمات: “كنتُ أعلمُ في داخل قلبي أنّ بناء الإمبراطورية كان قائما، لكنّ الناسَ ظنوا بي مساً من جنون الريبة. بيد أنّ كتابكَ أكد علمي. لذلك سأتحوّلُ الآن إلى الفعل.”

كذلك أخبرني عددٌ من الناس أن ردة فعلهم الأولى كانت غضبا عليّ. “لقد عشتَ حياةً ممتازةً كقاتل اقتصادي. والآن تعترفُ ولديكَ كتابٌ بلغَ الأكثر بيعا. أتتوقع مني أن أغفر لك؟” كذلك أخبروني أنهم حين واجهوا مشاعرهم العميقة، تبيّن لهم أن الكثير من غضبهم إنما كان على أنفسهم. “أنا أتسوّق في وولمارت. وأشتري أحذية نايْك، وأُسرف في استهلاك النفط. ومن السهل عليّ أنْ ألومَكَ، وألومَ السياسيين وسلطةَ الشركات. والآن، أعلمُ أن عليّ أنْ أفعل شيئاً إيجابيا. ولسوف أفعل.”

مُفعَمٌ تاريخُ أمتنا بأمثلةٍ من مواطنين تضامنوا جميعاً لإجراء تغيير ما. في كتابٍ قرأتُه حديثاً، مرّت بي دعوةٌ مذهلةٌ تعكسُ روحَ هذا التصميم:

ما كانت قضيةٌ قطُّ أكثرَ أهميةً ومجداً مما أنتم مشاركون فيه؛ ليس أزواجكم، ولا أولادكم، ولا ذريتكم البعيدة حسب، بل إنّ الإنسانيةَ كلَّها، عالمَ البشر جميعا، كلهم مهتمون بها. ذلك أنه إذا عمَّ الاستبدادُ في هذه البلاد العظيمة، فلنا أنْ نتوقعَ موتَ الحريةِ في جميع أرجاءِ العالم. لذلك، لعلّ مجدَ الإنسانيةِ وسعادتَها يعتمدان على جهودكم أكثرَ مما اعتمدا على أيٍّ من بني آدم.[i]

لعلّ هذه الرسالةَ التي وُقِّعَتْ ببساطةٍ باسم “رجل حرّ” جاءت في وقتها المناسب. مع هذا، فقد ظهرت أول مرة في صحيفة نيو إنكلند كرُنِكِل عام 1775، في وقتٍ كان فيه الأمريكيون منقسمين انقساما مؤسفاً حول كيفية التعامل مع إمبراطورية قامعة. وقد استثارتني وجوهُ الشبه بين تلك الفترة من التاريخ وهذه التي نحنُ فيها. كانت أقوى إمبراطورية في العالم، بريطانيا العظمي، قد تجاوزت الحدود، فرفضت الاستماع إلى الشكاوى الشرعية لدى الشعوب المظلومة، وردّتْ على أعمال التمرُّد اليائسة، مثل مذبحة بوسطن، بتدخل عسكريٍّ وحشيّ. أما الأمريكيون فكانوا مرتبكين. ذلك أنّ كثرةً منهم كانت تؤمنُ بأن عليها واجبَ الطاعة لملكها مهما كانت عنيفةً أعمالُه. وكانت كثرةٌ ترى أنْ لا فرصةَ لديها في تغيير النظام – وهو نظام لُقِّنوا بأنه الأعدلُ في التاريخ. وكان من يُعارضُ الإمبراطورية يوصمُ بالخيانة، ويُهُدَّدَ بحبل المشنقة.

حين قرأتُ مذكراتِ الجنود البريطانيين الذين اشتركوا في حرب الثورة [الأمريكية]، اكتشفتُ أنهم أُعجبوا بغنى أمريكا الوافر. فالأرضُ كانت جميلة، والمزارعُ مزدهرة، والمدنُ كأنها الفردوسُ مقارنة بالمدن الأوربية في القرن الثامن عشر. وقد صُعق هؤلاء الجنود إذ رأوا أن الناس الذين كانوا يعيشون تلك الحياةَ المنعمةَ يُخاطرون بكل شيء في تحدّيهم حكومةً وجيشاً لا يُقهَران – وهما، في الحقيقة، حكومتُهم وجيشُهم.

كانت الدعوات لدعم [الثورة]، كتلك التي وقعها “رجل حرّ”، ذاتَ أثر كبير في جعل الأمريكيين يُدركون أن باستطاعتهم أنْ يكونوا أحسنَ حالا، وفي الإيحاءِ لهم بأنْ يأتوا فعلا.

كانت السنةُ التاليةُ، 1776، صعبةً مضطربة. فقد ترك القتالَ آلافُ الجنودِ الأمريكيين لافتقارهم إلى الملبس، والمطعم، والمأوى، والذخيرة، والقيادة، والمال. وقد ارتكب الجنرال واشنطن وأركانُه أخطاءَ قاتلةً وخسروا معاركَ رئيسيةً في مدينة نيويورك وما حولها. فتصاعدت حملةٌ لإنهاء خدمته، وباتت الثورةُ على شفا حفرةٍ من الانهيار. كان طومس بين، بمنشوره المسمَّى “ البديهة“،* قد استثار الوطنية الأمريكية. فتناولَ قلمَه مرة أخرى وكتب الأزمة الأمريكية،** وقد وُزِّعت في الشوارع قبل يومين من عيد الميلاد، 1776. فكان لها أثرٌ فوريٌّ وعميق. أما مُقدِّمتُها المثيرة، فيُدوِّي رَجْعُها عبرَ الأجيال إلى يومنا هذا:

هذه هي الأيامُ التي تُمتَحَنُ فيها نفوسُ الرجال. فأما جنودُ الصيف ووطنيو الشمس المشرقة، فإنهم، في هذه الأزمة، يتقاعسون عن خدمة وطنهم؛ وأما من يصمدون الآن، فلهم من كلِّ رجل فينا وامرأة ما يستحقونه من حمد ومحبة. وكمثل الجحيم، ليس بالأمر السهل قهرُ الاستبداد؛ مع هذا، فإن ما يُعزّينا أنّه كلما اشتدّ الصراعُ قسوةً، ازداد النصرُ مجدا.[ii]

واليوم، ها قد وصلنا إلى لحظةٍ شبيهةٍ في التاريخ. ذلك أن حكومتنا نحن، بالتحالف مع الشركات والبنوك الكبرى، قد خلقت إمبراطوريةً تفرضُ العبوديةَ والبؤسَ والموتَ على ملايين الناس. والنتيجةُ أننا، نحن الذين نسكنُ داخلَ أسوار هذه الإمبراطورية، نجد أنفسنا مسكونين بالخوف الدائم من أولئك الذين يأخذون حقَّهم في الدفاع عن أنفسهم ضد ما يرونه استبدادا؛ مرعوبين من الانتحاريين، وخاطفي الطائرات، وحتى من جيراننا من ذوي الخلفيات العرقية المختلفة؛ قلقين من نتائج إرسال شبابنا وشاباتنا إلى أماكن كالعراق وأفغانستان، حيث تتعرّض للخطر أرواحُهم ويجازفون في قتل المدنيين الأبرياء. نسأل عن أخلاقية معسكرات الاعتقال التي يُقيمُها عسكريونا في البلاد القصية. تنتابُنا الريبةُ في أن جنودنا متورطون في التعذيب، والاغتصاب، والنهب. يعتصرُنا الغيظُ حول ما لهذه الحرب من آثار على نفوسهم، وعلى الرأي العالمي.

الكثيرون منا مذنبون لأنهم وطنيو الشمس المشرقة. نعلم أن خدمتنا لبلادنا ليست بمجرد انضمامنا للجيش، أو بتأييدنا الأعمى لسياسة التدخل في شؤون البلاد الأجنبية ولغيرها من سياساتٍ تُحابي سلطةَ الشركات. نفهمُ أنّ الوطنيةَ الحقيقيةَ تتطلبُ منا العملَ على حماية المبادئ التي عبَّرتْ عنها ببلاغةٍ عاليةٍ وثائقُنا المقدسةُ التي خطها آباؤنا المؤسسون. والولاءُ يتطلّبُ أنْ نقفَ لنقاومَ استبدادَ الإمبراطورية، كما وقف الرجالُ والنساءُ الأمريكيون في أثناء الثورة؛ وخدمةُ بلادنا تستوجبُ منا أن نقومَ بأعمالٍ تستحقُّ “الحمدَ والمحبةَ من كل رجل وامرأة” لأجل الأجيال الآتية، أعمالٍ تؤدي إلى عالم عادل، وبالتالي، مسالم. مع ذلك لا نزالُ نخضع، مستمتعين ببهاءِ منافعَ وهميةٍ جلبتها الإمبراطورية إلى سواحلنا.

حين تجولتُ في أنحاء الولايات المتحدة بعد طبع هذا الكتاب، وجدتُ أناساً يتأرجحون على شفا ما أصبحتُ أعتبرُها ثورة حديثة. سمعتُهم يعبِّرون عن غضبهم من قادتنا. فقد استوعبوا حقيقةً يصرُّ على تجاهلها السياسيون، ومدراءُ الشركات، والصحافةُ السائدة: أنّ العراق وأفغانستان – وإيران وفنزويلا وجميعَ أعضاءِ “محور الشر” – ليست المشكلة الحقيقية؛ فالأحداثُ فيها وفي غيرها من بلاد إنما هي أعراضٌ لنظام أصابه السعار، كما كان حالُ الإمبراطورية البريطانية في سبعينات القرن الثامن عشر. فالناس في أرجاء البلاد يُدركون أنّ المشكلة الحقيقية تكمنُ في سلطة الشركات التي أصبحت من الأنانية والجشع والتخندق بحيث تهدد أمن الولايات المتحدة، بل تُهدد أيضا حياة الجنس البشري وغيره من أشكال الحياة.

في منتدى بعد منتدى، وفي رسائل عادية وإلكترونية، كنتُ أسمع أسئلةً مزعجةً جدا، بسبب ما يقولونه عن الولايات المتحدة ومواقفهم منها. وإذ أظنُّ أن لدى الكثرة من القراء أسئلةً مشابهة، أقدّمُ فيما يلي عيِّنةً من بعض أكثر الأسئلة ترديدا وإجاباتي عليها.

أليس غريباً أنك لا تزالُ حيا؟ ألا تخاف أن يُسكتَِك أحد الواويات؟

أنصِتْ بعناية لهذا السؤال. ليس في الكتاب ما هو تحريضي. أنا أمريكيٌّ مخلصٌ حارب أجدادُه في معظم حروبنا الرئيسية، ومنها الثورة. وقد كتبتُ هذا الكتابَ لأنني أومنُ بأننا أمةٌ عظيمةٌ وأننا نستطيعُ أن نكون أفضل بكثير من الاستمرار في بناء الإمبراطورية التي يكرهُها الملايين. كنتُ آملُ أن أُلهم شعبنا لكي نُحسِّن أنفسنا والعالم الذي سيرثه أطفالنا. أيدفع هذا ابنَ آوى إلى ملاحقتي؟ إن كنتَ تؤمن بذلك، فعليك مسؤوليةُ أن تفعل شيئا. واجبُك أن تعمل. وبالرغم من أنني استلمتُ بعضَ الرسائل الغاضبة، فإنني لا أخاف انتقام الواويات. أعلم أنّ عليّ أنْ أُركز على خلق عالم أفضل لابنتي ولإخوانها وأخواتها حول العالم. وخوفي من ألا نستطيعَ خلق مثل هذا العالم يفوق كثيرا خوفي أحيانا من الانتقام. كذلك آمل أن الواويات من الفطنة بحيث تعلم أن الكتاب قد تمّ نشره، وأن قتلي سوف يجعله يبيع ملايين النسخ الأخرى.

هل تحرّك القتلةُ الاقتصاديون؟

نعم. اتصل بي عدد من القتلة الاقتصاديين وبنات آوى منذ نشر الكتاب. واخبروني عن قصصهم الاستثنائية حول الأحداث الحديثة في الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا. لا يزال كثيرٌ منهم مرتبطين بهاتين المهنتين – إما كموظفين عاملين أو متقاعدين أو مستشارين – وهم يرغبون عن ذكر اسمهم. كان واحدٌ منهم على الأقل مستعداً لأن يكتب كتاباً عن تجربته وتحت اسمه.

 ما ردةُ الفعل التي واجهتَها، إن وُجدت، من زملائك السابقين في شركة مين؟

سمعتُ من عدد لا بأس به منهم. كان معظمُهم موظفين تحت إدارتي أو آخرين لم يكونوا يعلمون، كما ذكرتُ في الفصلين 9 و23، بجوانب القتل الاقتصادي في عملنا. وقد أسرّوا لي أنّ قراءتهم قصتي ساعدتهم على فهمٍ أفضلَ لما كان يجري في شركة مين، وهو ما كان يبدو لهم غريبا وغير قابل للتفسير في حينه. وقد لاحق الصحفيون بعضَ من ذكرتُ أسماءهم في الكتاب وغيرَهم ممن كانوا في مواقع الاطلاع، لكنهم، كما توقعت، رفضوا التعليق. لكن آينر غريف، الرجل الذي وظّفني، كان استثناء. فبعد أنْ ترك مين، أصبح رئيس شركة تَكسُن للطاقة الكهربائية، وبعدها تقاعد. وحديثا أعطى مقابلة لصحيفة تَكسُن سِتِزِن؛ وقد ورد في المقالة ما يلي:

قصته، أساسا، صحيحة. يقولُ كتابُ جون إنه كانت هناك مؤامرةٌ لاصطياد هذه الدول، وهو ما حدث. … والكثرةُ من هذه الدول لا تزالُ عاجزةً ولم تكن قط قادرةً على سداد ديونها.[iii]

هذا شبيهٌ بما كتبه لي آينر في رسالةٍ وصلتني منه. كذلك كشف لي أنه كان يُفكر في كتابة تجربته حول الموضوع. وقد أخبرني عدةُ صحفيين أنه بعد ظهور تلك المقالة صرّح آينر عدة مرات بما يناقض تعليقاته الأولى حول كتابي. وهذا أثار لديّ سؤالا: ما الذي حدث لآينر بعد نشر مقابلته في تَكسُن سِتِزِن ؟

ماذا عن أناس آخرين في مراكز عليا؟ هل يكشف أيٌّ منهم أمر القتلة الاقتصاديين؟

نعم. لقد كتبَ الكثيرون ممن كانوا في الداخل حول ما كشفتُ في كتابي. في الواقع، إن كل حدثٍ رئيسيٍّ تناولتُه في كتابي قد تم توكيده من مصادر أخرى – من اغتيال توريجُس إلى مسألة غسيل الأموال السعودية. الفرقُ الرئيسيُّ أنه بينما كان معظمُ المؤلفين الآخرين مدراءَ تنفيذيين يتربعون على قمم مؤسساتهم، وكتبوا تحليلاتٍ أكاديميةً حول موضوعاتهم، كنتُ أنا جنديا في الخنادق؛ كتابتي شخصية، وتجربتي الشخصية هي ما رويت. هاكم عدة أمثلةٍ لـ”اعترافاتٍ” نُشرت منذ التاسع من أيلول من قبل أناس كانوا على رأس الهرم:

  • كتب جوزِف سْتِغْلِتْز، كبيرُ اقتصاديي البنك الدولي والحائزُ على جائزة نوبل في الاقتصاد يقول: “العولمة، كما دوفع عنها، غالبا ما تبدو أنها أحلَّتْ محلَّ الدكتاتوريات القديمة للنخب الوطنية دكتاتورياتٍ جديدةً من المال الدولي. … ولكي تجعل برامجَها [أي برامج صندوق النقد الدولي] تبدو أنها تعمل، ولتجعل الأرقام “تتزايد”، كان لا بد من تعديل التنبؤات الاقتصادية. … فتنبؤاتُ الناتجِ المحليِّ الكليِّ لا تستندُ إلى نموذجٍ إحصائيٍّ معقَّد، أو حتى إلى أفضل تقديرات من يعرفون الاقتصاد جيدا، بل إن الأرقام وحدها هي التي نوقشت باعتبارها جزءاً من برنامج صندوق النقد الدولي.” (التوكيد موجودٌ في الأصل.) [iv]
  • كتب جيمس هنري، اقتصاديٌّ سابق لدى مَكَّنزي وشركاه ونائبُ رئيس لدى آي.بي.إم./لوتس يقول: “كانت سبعيناتُ القرن العشرين ذروة نموذج “المشاريع الكبيرة” للتنمية الاقتصادية. وقد قام المسؤولون في مؤسسات كالبنك الدولي، وبنك التنمية الأمريكي، وبنك التنمية الآسيوي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في التجوُّل حول العالم، يُقدِّمون قروضاً ضخمةً للمشاريع، مُبَشِّرين بفضائل تقنيات التخطيط التنموي المعقدة. … وما إن حلّ عام 1990، حتى كانت الدول النامية قد راكمت نيِّفاً و1.3 تريليون دولار من الديون الخارجية. … وفي عام 2000، كانت 86 في المئة من ائتمانات الصادرات الخارجية الجديدة البالغة 7.7 مليار دولار لدى البنك الأمريكي للتصدير والاستيراد من نصيب ما لا يزيدُ عن عشر شركاتٍ أمريكيةٍ ذاتِ نفوذٍ سياسيّ، ومنها إنرُن، وهلِبيرتُن، وجنرال إلكترك، وبُوِنْغ، وبكتل، ويُنايتِد تكنولُجِز، وشلَمبيرغر، ورايثِيُن.”[v]
  • كتب جفري د. زاكس، مديرُ معهد الأرض في جامعة كولُمبيا ومستشارٌ خاصٌّ لدى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان يقول: “أكثرُ من ثمانية آلاف نسمة حول العالم يموتون كلَّ سنةٍ لأنهم أفقرُ من أن يبقَوْا على قيد الحياة. … إن مبلغ 450 مليار دولار الذي تُنفقُه الولاياتُ المتحدةُ على الجيش لن يُحققَ السلامَ إذا استمرت في إنفاق زهاء واحد من ثلاثين من هذا المبلغ، أي 1.5 مليار دولار فقط، لمعالجة مشاكل أفقر فقراء العالم، الذين يؤدي فقرُهم المدقعُ إلى خلخلة استقرار مجتمعاتهم، فتصبح بالتالي ملاذاتٍ للاضطراب، والعنف، وحتى للإرهاب العالمي.”[vi]

لمَ لمْ تذكر إدارةَ كلنتون في كتابك؟

خلال تسعينات القرن العشرين، كنتُ أدير منظمةً غير ربحية، تأخذ مجموعاتٍ [سياحيةً] إلى الأمازون، وكنتُ أتقاضى راتباً باعتباري “مستشاراً” لم يكن يفعل إلا السكوت. بالنسبة إلي، كان ذلك الزمنُ مختلفاً جداً عن ثمانينات القرن العشرين حين كنتُ، كمدير عام لشركةٍ تتعامل بالطاقة، على علم كبير بما كان يحدث في إدارة بوش الأولى وبمصالح جورج بوش (الابن) النفطية. أما كلنتون، فلم تكنْ لي علاقةٌ به. وقد كنتُ أراقبُ باهتمام كبير طريقةَ ملاحقة سلطة الشركات له ولهِلَري [زوجته] في أثناء ولايته الأولى؛ وقد بدت كأنها طلقاتٌ تحذيرية. والحقيقةُ أنّ هذه الطلقاتِ التحذيريةَ أوقفتْ الكثير من البرامج التي كان كلنتون وعد بتحقيقها. ثم تساءلتُ لاحقاً عما فعله لكي يفضحوا حكايته مع مُونيِكا – ذلك أنّ هناك الكثير من “سلبيات” القادة مما يمكنُ فضحُه، لكنها لا تُكشفُ إلا عند الحاجة. وإذ كنتُ خارج الحلقة، ولم تكن لديَّ معلوماتٌ من الداخل، وليس عندي، كأي واحدٍ غيري، سوى التأويل، لم يكن هناك ما أعترفُ به – أو ما يُمكنُ أن أُعْلِم به الآخرين – عن كلنتون.

هل التوجهُ الحاليُّ لإعفاء العالم الثالث من ديونه دليلٌ على أنّ القتلةَ الاقتصاديين خسروا المعركة؟

على العكس. يؤسفني القولُ إنّ ذلك يدلُّ على مستوىً جديدٍ من البراعة لدى القتلةِ الاقتصاديين. من المؤكدِ أني أُساندُ فكرةَ الإعفاءِ من هذه الديون – وهي ما يجب أن نتذكر أنها تراكمتْ بدون موافقة أغلبية الشعب في كلٍّ من تلك الدول، وساعدتْ في زيادة ثروة سلطة الشركات وقلةٍ من الأسر الغنية في العالم الثالث – لكنّ الإعفاءَ من الديون ليس المسألةَ كلها. ذلك أنّ الدولَ الصناعيةَ الثماني (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وروسيا)، ومعها البنكُ الدولي، وصندوقُ النقد الدولي مرة أخرى تستغلُّ هذه الشعوبَ وتسمِّي ذلك “إعفاءً من الدين.” إنها تُصرُّ على “شروطٍ” تُلبسُها لبوسَ عباراتٍٍ مثل “الحكم الرشيد”، و”الاقتصاد الحكيم”، و”تحرير التجارة”. وبينما تبدو هذه اللغةُ مُغرية، فإنها خادعةٌ بشكل بغيض. فهذه السياساتُ “رشيدةٌ” و”حكيمةٌ” فقط إذا نظرتَ إليها من خلال نوافذ الشركات. أما الدولُ التي توافقُ على هذه الشروط، فتُطالَبُ بخصخصة الصحة، والتعليم، والكهرباء، والماء، وغيرها من الخدمات – بتعبير آخر، أن تُباعَ لسلطة الشركات.* ويُفتَرَضُ في هذه الدول أن توقِفَ دعمَها [لتلك الخدمات] وقيودَها المفروضة على التجارة لدعم الأعمال المحلية، بينما تقبلُ بأن تستمرَّ الولاياتُ المتحدةُ والدولُ الصناعيةُ الثماني في دعم بعض أعمالها وفي وضع قيود تجارية على الواردات التي تُهدد صناعاتها.

حين أذعنت بوليفيا لسياسات “الحكم الرشيد”، فتحت البابَ للشركات متعددة الجنسية لأن تُخصخص نظام تزويد المياه لديها؛ فاستشاطت أسعارُ المياه، وزعم البوليفيون أن الآلاف قد حُجبت عنهم الخدمة.[vii] وفي ساحل العاج قامت الشركةُ الفرنسيةُ التي اشترت أصولَ شركة الهاتف المُخصخَصة برفع الأسعار إلى درجة اضطرار كثيرٍ من الناس إلى إيقافِ اشتراكاتهم في هذه الخدمة، ومنهم طلابٌ جامعيون لم يعد في مقدورهم الاتصالُ بالشبكة الدولية (الإنترنت) الضرورية لدراساتهم.[viii] وفي تنزانيا، أدت هذه السياساتُ إلى وضع مخيف أصبح على الأطفال بموجبه أنْ يدفعوا أقساطاً لدخول المدرسة، والكثرةُ منهم، ببساطة، أفقرُ من أنْ يستطيعوا ذلك.[ix] وهناك قصصٌ كثيرةٌ مشابهةٌ في الدول التي قبلت بالشروط المسبقة للإعفاء من الديون.

من المثير للاشمئزاز في هذه الخدعة الجديدة أنّ كثيراً من الناس مستعدون لقبولها، بدل أن يرَوْها على حقيقتها – لعبةَ قتلٍ اقتصاديٍّ وآخرَ خطوة على طريق الإمبراطورية العالمية، أو ربما أبرعَها.

بيد أن العالم الثالث مدركٌ لما يجري – وهو حقيقةً غاضب. فالمقاومة التي برزت لاجتماع الدول الثماني، في تموز 2005 في اسكتلندا، كانت، إلى حدٍّ كبير، تعبيراً عن الغضب على ذلك الخداع. فالكثيرون من الناس يعتقدون أن بلير وبوش يلعبان لعبة “الرجل الطيب والرجل الخبيث” محاولَيْن شرعنةَ نظامٍ شديدِ الاستغلال، منحازٍ بشدةٍ لصالح الشركات متعددة الجنسية على حساب الفقراء، والمسحوقين، والجياع حول العالم.

متى نطالب قادتنا في الولايات المتحدة – وهي المُدرِّبةُ والقائدةُ لفريق سلطة الشركات في الدول الثماني – بالاعتراف بأكاذيبهم؟ متى نعترف بالحقيقة الأعمق وراء الحادي عشر من أيلول، وتفجيرات مدريد ولندن، والكثير جدا من أعمال العنف – التي قد تكون أعمالا يقوم بها مجرمون متطرفون ولكنها سوف تستمرُّ لأنّ ملايينَ الناسِ يائسةٌ وتستحسنُ تلك الأفعالَ بصمت؟ متى يشير أحد الناس بإصبعه ويقول: “انظروا، إنّ الإمبراطور عارٍ من ملابسه؟”

هل لك أن تُعلّق على تعيين بول وُلْفُفِتز رئيساً للبنك الدولي؟

لم يتركْ تعيينُ بول وُلْفُفِتز أيَّ شكٍّ – إنْ كان ثمة من شكّ – في أنّ هذا البنك ليس دوليا. إنه بنكٌ أمريكيّ. ذلك أنّ رئيس الولايات المتحدة هو من يختار رئيسَه ويُسيطرُ على قراراته الأساسية. ورأيي في وُلْفُفِتز كشخص أو كمدير ليس مُهما حقيقةً. فالسؤالُ المهمُّ يجبُ أن يكون: ما رأيُ البرازيليين، والنيجيريين، والإندونيسيين، وغيرهم حول العالم فيه؟ فلو كان بنكا دولياً، لأُنيط اختيارُ رئيسه وإقرارُ جميع قراراته الأساسية بمجلسٍ يتألف من ممثلين من جميع القارّات.

بمَ تنصحُني؟ وما الذي أستطيعُ فعلَه لتغيير هذا الوضع؟

في الفصل الأخير عرضتُ عددا من الاقتراحات. فأنْ أقترحَ أكثر – أن أقول لك تحديداً ما عليك أنتَ أنْ تفعل – يعني أن أحذو حذو سلطة الشركات وأقول، “هاهو مُنتَجي؛ خذ ترياقي هذا.” ليس هذا جواباً عمليا – والواقعُ أنْ ليس ثمة جوابٌ واحد.

لكلٍّ منا اهتماماتُه، وقدراتُه، ومهاراته. أنا كاتب. لهذا، هناك الكثير مما أستطيعُ فعلَه. ولكنه مختلف عما لدى مُدرِّس، أو محامي شركات، أو مُدلِّكٍ، أو ميكانيكيّ سيارات. عليك أنْ تسألَ نفسك: ما الذي يهمني أن أفعله؟ أين تكمنُ نقاط قوتي وضعفي؟ ما الذي يُحرِّكُ قلبي؟

كانت إحدى نقاط القوة في الثورة الأمريكية أنها استخدمت المهاراتِ الفرديةَ للكثيرين من الناس على اختلاف مشاربهم. كان توم بين يكتب، لكنه لم يُحاولْ قيادةَ الجيوش. وكان جورج واشنطن يقودُ الجيوش، لكنه لم يكن يكتب المنشورات. أما بنيامين فرانكلن، الذي كان في السبعين من عمره، فقد كان مبعوثاً ناجحا جدا لدى حلفائنا الناطقين بالفرنسية. وأصبح صيادو الحدود رماةً بارعين. وكان صيادو السمك يُبحرون بسفن أنهكت الأسطول البريطاني. وكانت النساءُ يُرسلن الملابس والطعام إلى جبهات القتال. أما الأطفالُ فكانوا يُحضِّرون مقذوفات البنادق.

إنْ كنتَ مُعلِّماً، فحثَّ تلاميذَك على قراءة ما بين السطور في التاريخ وفي ما تكتبه جرائدُ اليوم. وإن كنتَ محامي شركات، فدُلَّ موكليك على أن يكونوا أكثرَ مسؤوليةً بيئياً واجتماعيا. وإنْ كنتَ مُدلِّكاً أو ميكانيكيّ سيارات، فاسألْ عملاءك عن شعورهم تجاه حدثٍ جارٍ نقلتْه الأنباء. ذلك أنّ بدءَ الحوار أحدُ أكثر الطرق تأثيراً لنشر أفكار التغيير.

هناك شيءٌ واحدٌ نستطيعُ – ويجبُ – أنْ نفعلَه لتثقيفِ أنفسِنا ومن هم حولنا. فالديمقراطيةُ تعتمدُ على وجودِ مجتمعٍ مثقف – ليس قادراً على القراءة والكتابة حسب، بل يطرحُ أيضاً أسئلةً مُهمة على الدوام. علينا أن نشكَّ بقادتنا، وبمدراء شركاتنا، وبصحافتنا؛ علينا أن نُصرّ عليهم أن يُزوِّدونا بالمعلومات. كلنا نحتاجُ إلى قراءة ما بين السطور.

هذه الأسئلةُ والحواراتُ التي غالباً ما تَتْبَعُها خلال لقاءاتي العامة أو خلال البرامج الإذاعية المفتوحة قد أقنعتني بأن ملايين الناس في الولايات المتحدة مهتمون اهتماما كبيرا بما نفعلُ، وبأن أسلوب حياتنا له أثرٌ على العالم. إنهم مُهتمون – وكمئات الملايين حول كوكبنا – إنهم كذلك غاضبون.

منذ نشر النسخة الأولى من هذا الكتاب، أصبح دورُ سلطة الشركات – وجشعُها واستعدادُها لقتل شعبها ومن تسميهم “أعداء” – أكثرَ وضوحاً لعددٍ أكبرَ من الناس في كلِّ قارة، ومنها أمريكا الشمالية. ومع هذا الوعي المتغير تقعُ علينا جميعاً مسؤوليةٌ أكبرُ لنتكلّمَ ولنقومَ بأيِّ عمل مناسب لكل منا كفرد وكعضوٍ في المجتمع الدولي.

هذه هي الأيامُ التي تُمتَحَنُ فيها نفوسُ الرجال. لسوف نواجهُ مزيداً من اليأس لدى من خدعتهم سلطةُ الشركات واضطهدتهم. وسواءٌ وقع الإرهابُ في منهاتن، أو في مدريد، أو في لندن، أو في الرياض، أو في لاباز، فمن الضروري لنا أنْ نُدركَ أن هذه الأعمالَ الكريهة لن توقفها الجيوشُ أو حرسُ الأمن في المطارات وعلى التُخوم؛ لن تتوقفَ ما لم نُطالبْ جميعا بأنْ تتوقفَ شركاتُنا، ومصارفُنا، وحكوماتُنا عن استغلال أغلبية سكان العالم وموارده؛ وما لم نُصرَّ على أنْ نتعاملَ مع العالم من منطلق المحبة – من المنطلق ذاته الذي تصوره آباؤنا المؤسسون يوم كتبوا:

إننا نتمسّكُ بهذه الحقائق الواضحة التي تقول: لقد خُلقَ الناسُ سواسية، وقد وهبهم خالقُهم حقوقاً ثابتة، منها الحياةُ، والحريةُ، والسعيُ نحو السعادة. … وحين يُصبحُ أيُّ شكل من أشكال الحكومة مدمِّراً لهذه الأهداف، فمن حق الشعب أنْ يُغيّره أو يُلغيه، وأن يُقيم حكومةً جديدة، مؤسساً إياها على هذه المبادئ ومنظماً سلطاتِها على شكل يراه حافظاً لهم أمنَهم وسعادتَهم.

 


* Thomas Paine, Common Sense.

** Thomas Paine, The American Crisis.

* أي تُباعُ لمن يُسمى “الشريك الاستراتيجي” في بعض الدول العربية. وهو شريك غالباً ما أضاف عبئاً ماليا جديدا على المواطن ولم يُثبت دائما النجاح الباهر المتوقع منه في الخدمة المعنية! [المترجم]


[i] Frank Moore, Diary of the American Revolution, I (New York: Scribner, 1860), p 172.

[ii] David McCullouch, 1776, (New York: Simon & Schuster, 2005), p 41.

[iii] C.T.Revere, “Author: Tsunnami aid may line U.S. pockets,” Tucson Citizen, January 17, 2005, pp 1-3A.

[iv] Joseph E. Stiglitz, globalization and Its Discontents (New York: WW Norton & Company, 2002), pp 232, 247, 248.

[v] James S. Henry, The Blood Bankers: Tales from the Global Underground Economy (New York: Four Walls Eight Windows, 2003), pp xiii, xiv, 40.

[vi] Jeffery D. Sachs, The End of Poverty: Economic Possibilities for Our Time (New York: The Penguin Press, 2005), p 1.

[vii] See “Bolivia President’s Resignation Rejected,” http://cnn.worldnews.com, 3/10/2005.

[viii] See Joseph E. Stiglitz, ibid, p 56.

[ix] See “Nelson Mandela on G8 Summit: Overcoming Poverty is Not a Gesture of Charity, It Is an Act of Justice,” www.democracynow.org. 7/6/2005.