لهم وجوههم المستعارة ولنا الأرض

يحيى أبو الرب

وأصرخ

يا حقلي

يا خابية حنطتي

وتجيب

– خذ من حنطتي

ما شئت

خذ قوت حولين كاملين

وبذاراً لجسدك القاحل

وما يزيد

فلجياع الحي

وحذارِ

حذارِ …. حذارِ من التبذير

هذا زمان القحط

هذا زمان القحط يا حبيبي

ما عاد يوسف حارساً

على خزائن الأرض

ما عادت الأرض هي الأرض

صغيرتي  .. صغيرتي

الأرض هي الأرض

لو أنك رأيتهم

كيف استلوا أقلامهم

كما خناجر تستعد للخيانة

من الخلف

بجرة قلم

فقط بجرة قلم

بدلوا الأختام

والوجوه

و الشعار

كمرات بثت حياً

كرمى لعيون الحاضرين

وأخرى

كرمى لعيون الأجيال القادمة

ثبتت المشهد

الأرض ما زالت هي الأرض

“فإن كان لا بد من خوفٍ”

فخافي على السماء

نجومها ونسورها تتناوب

نزلا وصعودا

– حبيبي…

أنا أخاف أخاف أخاف

عليك وعليها أخاف

علي أخاف

بالأمس فقط

دخل علينا الدار نسر

أكل سبابة أبي

شرب حليب أخوَّي

سرق منديل أمي

راودني عن صدري

وفخذي

فإذا تمنعتُ

تهدد وتوعد

ثم طار منخفضاً

وتكاثر

تكاثر

تكاثر

حبيبي أنا أخاف عليك

وعليها

وعلي

من أين أتى؟

وكيف سد علينا أبوابها؟

حبيبي

أشتاق ضوء الأفق

وعليه أخاف

أشتاق نجوم ليلاتنا التي لا أراها

وأخاف

هل تراها اندثرت؟

كلا صغيرتي

بل سقطت غباراً

على الرؤوس والأكتاف

وما بقي منها

أزرقٌ يأكله أزرق

صغيرتي

خافي أي شيء

خافي كل شيء

إلا الأرض

خافي من وجوهٍ كالحة

خافي من نسور تتهدد وتتوعد

نسور ملء الساحات والطرق

تتباهى بغبار نجوم سقطت

من السماء

خافي على البلد

أضحت بلا ضوءٍ

ولا أفقْ

بلد كل ما فيه يختنق

إلا الأمن

الأمن فيه مستتب

لقد زرعوا شرطياً على كل مفرق

صغيرتي .. صغيرتي

الأرض ما زالت هي الأرض

خافي من الواقع الرخو

ومن التاريخ المشوه

إذا بقي طي النسيان

وإذ تجدد

– فإذا غاب الجند؟

دوسي على الأرض

بكل ما أوتيت من قوة

لئلا تنبت روابط قرى

بزيٍ موحد

الأرض ما زالت هي الأرض

– أو تهذي أنت؟

افتح عينيك على الخريطة واقرأ

سقطت غزة وأريحا أولا

وآخر ما سقط عن الخريطة

كانت صفد

وما شأني بالخرائط

التاريخ هو ذاكرة جدتي

ومازال معلقاً على حائط بيتها

بين خشبات أربع

كانت تجلس على “المسطبة”

عند عتبة الباب

بعيونٍ دامعة

وصوتٍ شاحب

وأجلس أنا

كلي آذان صاغية

كلي ابتسامة ماكرة

أيها الشقي

لا تكف تسأل وتسأل

ألم تشبع من تمرين الذاكرة

بتقليب المواجع

كف عن هذا

هذي اللعبة جد خطيرة

ثم تضع كرة الصوف في حجرها

تمسك الصنارة برجفة

وببطء تبدأ الغزل

وبذات البطء

تدير دولاب الذاكرة

” من اليمين:

هذه أنا : وهكذا كنا نلبس في ” شَعَبْ “

وهذا جدك : عابر سبيل يحمل أقمشته

عائداً من صور

ولكن في الأصل

هو من صحراء النقب

بات في مضافة أبي

ليلتها …

أراد حراس “الكبانية ” شراً ببقراتنا

إمتشق خنجره وتأهب

فكانت الحصيلة

أن سقطت بقرة

جرح هو

قتل منهم أربع

وهرب من هرب

بعد يومين

دفعني أبي أليه

“خذها بما عليها”

وعد إلى أهلك

ولما مد يده إلى جيبه

ردها : قال أبي

يكفي ما دفعته من شر

يكفي ما دفعت من دمك

فقط أريد حفيدا في أول زيارة

بعدي شهرين

نصب الجنود كميناً

أبدا ما كان هناك غارة

احترق البيت

سقط هو

وسيقت كل مواشيه إلى المستعمرة

وهذه أمك : طيبة القلب

كانت تعمل حكيمة

في مشفى الناصرة

ذات يوم ذهب أبوك هناك

كان يشكو من جرح في يده

عاد يشكو من الحب

جلس أمامي على سجادة الصلاة

أموت أو أخطِب

وهي كذلك

قبلت أن يكون مهرها

أغنيتين

وتسكن معي في مغارة

بعد أول حصاد تزوجا

وما عاد يشكو من أي خطب

كان عرسهما حديث الساحل

وما زال

حتى هنا في المخيم

“حكيمة نصراوية أحب صياداً !!”

وحضرت إلى العرس

كل نساء الصحراء

وكل رجال الساحل

غنت البدويات كل ما لديهن

وكذلك فعل رفاقه البحارة

وهذا الصغير : هو أنت أيها الشقي

تركض خلفها ممسكا طرف الثوب

وفي أقصى اليسار : يقف أبوك

خلف الدفة

كان قبطان المركب

كنا نزور البحر

أمك سبب الزيارة

هيا بنا إلى البحر

زوجي غاب طويلا

هذه المرة

كما إني أحس بالبحر يهرب

وبعد شهرين

سقطوا جميعا

في أول غارة على يافا “

تغرورق عيناها بالدمع

وتكف عن العزل

وعن الكلام

هذا هو تاريخي

شريط الذاكرة

والصور

أحفظه عن ظهر قلب

وأسألها دائما

لا لشيء إلا لأتشربه أكثر فأكثر

هذا هو تاريخي

فاطوي كل الخرائط

وتأملي في شريط ذاكرة

تأملي الصورة على الحائط

أما الجغرافيا

فأتتبع رحلة جدي، لبيع القماش

من أقصى صحراء النقب

من أم الرشراش

إلى بئر السبع فالخليل

ثم إلى كل مدن الوسط

و الكرمل

والجليل

ثم إلى صور

وكل المدن الواقعة بين وبيروت حلب

أتتبعها وأفهمهما

وأفهم الجغرافيا

أكثر من أصوب صائب فيهم

أعرف أن الجغرافيا ترسم بالدم

لا بالحبر على طاولة المفاوضات

أعرف أن حدود الجغرافيا

لا ترسم بالسلم

ولا بالخطابات ولا بالشعارات

وأعرف أن ألف باء جيم

صك لبيع البلد

الأرض ما زالت هي الأرض

وخزائن الأرض ما زالت

هي خزائن الأرض

كان ينهبها لصوص التاريخ

وقطاع الطرق

– قف هنا لحظة

  أتقول كان؟

نعم .. كان

– من أين كل هذه الجوع إذن؟

بجرة قلم

فقط بجرة قلم

سقطت مفاتيحها بيد التجار

والسلطويين

المصرفيين

والليبراليين الجدد

وفي نهاية المشهد

آتى دعاة السلام

فاض علينا السلام

وكان دم كثير

وجوعٌ

ودموعٌ

وبنوكٌ

ومؤسسات

وقذارات

وغرقنا جميعاً

فعلا فاض علينا السلام

لكم كان هذا السلام فياض

ولن يطول

قريبا سينحسر

الطواغيت؛ زوابع تاريخ

كما زوابع الأرض

في لحظة تقيم الدنيا

رأسا على عقب

وعند أول سد تنكسر

– فإذا طالت وزاغ بصري

  ما العمل؟

إفعلي كما أفعل

أداوي جراحي بالأمل

“وفي الرياح السيئة أعتمد القلب”

– حقا داء الأمل فيك يعدي

إذن فاعتمدي

ولا تنسي بأن الأرض ما زالت هي الأرض