“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

الفصل الأول

جدلية الثورة المضادة والأصولية([i])

من ماتوا لأجلِ الحياة

ليسوا أمواتا

ومنذ هذه اللحظة

يَحرُمُ البكاءُ عليهم([ii])

علي بريميرا

يبدو تاريخُ رئاسةِ تشافيز متميِّزاً، فوق كلِّ ما عداه، بجدليةٍ للثورةِ المضادةِ والأصولية، حيث حاولت قوى الدولةِ المحافظةُ منعَ الثورةِ حتى قبل بدئها، فاتَّجه تشافيز وصحبُه صوبَ الأصولية. تُشبهُ هذه الثورةُ المضادةُ تلك التي وصفها هيرْبِرْت مارْكْيوز (1972) وصفاً شهيراً، بالإشارة إلى التطوراتِ في ستينات القرن العشرين في الولايات المتحدة وأوربا، حيث أن الثورةَ المضادةَ جهدٌ مبذولٌ للحيلولةِ دون وقوعِ الثورة قبل بدئها، وليست جهداً لتقويضِ ثورة قائمة. أي أنَّ الصفوةَ القديمةَ في فنزوِلا، في السياسة، والاقتصاد، ووسائل الإعلام، والكنيسة، والحركة العمالية، حاولت تكراراً الإطاحةَ بشافيز، وفي كلِّ فشلٍ وقعت فيه استثارته وحكومتَه وأنصارَه بين الفقراءِ للاتجاه إلى الأصولية. لكننا نسأل: لماذا كان الكثيرون من الفنزوليين ولماذا كان تشافيز مفتوحين جميعاً على مثل هذه الأصولية؟ لمَ لمْ يستجيبوا بالطريقةِ العكسية، كما كان دارجاً في بلدان أخرى عبر التاريخ، بحيث يعتدلون في منحاهم؟

لعلَّ السببَ الأهمَّ في استعداد فنزوِلا للتحول الأصوليِّ، في البدء لصالح إحلال الديمقراطية التشاركية محلَّ الديمقراطية التمثيلية، وبعدها أحلال الاشتراكية محلَّ الرأسمالية، كان كامناً في تجربةِ فنزوِلا المُخيِّبةِ للآمالِ نوعا ما في الرأسمالية والديمقراطية التمثيلية كلتيهما في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. أي أنه، بينما كانت الفترةُ من نهاية الدكتاتورية الأخيرة في فنزولا عام 1958 إلى نهايةِ أيام الازدهارِ النفطيِّ عام 1978 قد جعلت الفنزوليين يؤمنون بأنّ بلدَهم سوف ينضم قريباً إلى العالم المتطور، أثبتت الفترةُ من 1979 إلى 1999 أنها عقدان من الخيبة المرّة، ليس اقتصادياً حسب، بل سياسياً أيضاً. ولكي نفهمَ من أين جاءت خيبةُ الأمل هذه، نحتاجُ إلى أنْ نفهمَ كيف صعدت توقعاتُ الفنزوليين للديمقراطيةِ التمثيليةِ والرأسماليةِ في فترة الاستقرار والازدهار بين العامين 1958 و1979، في وقتٍ كانت فيه معظمُ دول أمريكا اللاتينية الأخرى تحكمُها دكتاتورياتٌ متوحشة.

الشروط المسبقة لتحوُّل فنزولا

الاقتصادُ الفنزويليُّ، ونظامُ الحكم، والمجتمعُ، والثقافةُ، كلُّها مرتبطةٌ ارتباطاً مباشراً بتجربة البلاد مع النفط. وبطريقة أو بأخرى، يمكن المرءَ أنْ يُلاحظَ تذبذبَ البلادِ من تذبذبِ الاقتصادِ النفطيّ.

التوقعات البارزة

الازدهارُ النفطيُّ والديمقراطية “التحالفية” (1958-1978)

ما بين اكتشافِ النفطِ في فنزولا، في وقتٍ مبكِّرٍ من القرنِ العشرين، وثلاثيناتِ ذلك القرن، أصبح النفطُ الأهمَّ والوحيدَ كمُنتَجٍ وسلعةٍ مُصدَّرةٍ وكمَصدرٍِ للثروةِ الخاصةِ والعامة. وما إن حلَّ العام 1920 حتى كانت فنزولا أكبرَ دولةٍ مُصدِّرةٍ للنفط. وفي العام 1935 شكَّلت صادراتُ النفط 91.2%([iii]) من صادراتِ البلاد. وكان الاقتصادُ قبل ذلك زراعياً أمريكيا لاتينيا تقليديا يعتمدُ على إنتاج الكاكاو، والقهوة، والسكر، والتبغ.

حين ازدادت أهميةُ النفطِ، تغيَّر البلدُ اقتصادياً من زراعيٍّ إلى بلدٍ يسودُ فيه إنتاجُ النفطِ والتجارةُ والخدمات. وبينما شكَّل الإنتاجُ الزراعيُّ ثُلثَ الناتجِ المحليِّ في فنزولا في عشرينات القرن العشرين، انخفضَ بحلولِ خمسينات القرنِ العشرين إلى 10% ثم في العام 1998 لم يزد على 6% – وهي أقل نسبةٍ في أمريكا اللاتينية كلِّها.

نتيجةً لهذا الهبوطِ، فقدت نخبةُ الإقطاعيين في فنزولا قوتَها مبكِّراً جداً في القرن العشرين، وهي القويةُ تقليدياً في معظمِ بقيةِ دولِ أمريكا اللاتينية. كذلك، كان التركيزُ على النفطِ وعدمُ قدرةِ البلادِ على تطويرِ صناعةٍ محليةٍ قويةٍ يعني عدمَ بروزِ طبقةٍ مستثمرةٍ تحلُّ محلَّ النخبةِ الإقطاعية. بدل ذلك، لما كان معظمُ النشاطِ الاقتصاديِ بطريقةٍ أو بأخرى تحت مظلةِ الصناعةِ النفطيةِ، وهي الخاضعةُ لتنظيم الدولة، فقد استقرَّ مركزُ قوةِ فنزولا الحقيقيُّ في الدولةِ عينِها. مع هذا، لم يبرز كذلك شيوخُ نفطٍ محليون، لأن إنتاجَ النفط الفنزوليِّ كانت تُهيمنُ عليه شركاتُ النفطِ الأجنبيةُ منذ اكتشافِ النفط حتى العام 1974، حين تمَّ تأميمه.([iv])

يعود سببُ هبوط الإنتاجِ الزراعيِّ والصناعيِّ بهذه السرعةِ مع اتساعِ الصناعةِ النفطيةِ إلى أن هيمنةَ هذه الصناعةِ أدت إلى ما يُسميه الاقتصاديون “المرضَ الهولندي”.([1])يُشيرُ هذا المرضُ الاقتصاديّ، المنسوبُ إلى الأثرِ الذي أحدثه اكتشافُ غازِ بحرِ الشمالِ على الاقتصادِ الهولنديِّ، إلى المشاكلِ المرتبطةِ بالنموِّ السريعِ في قطاعٍ واحدٍ من الاقتصاد، مؤدياً إلى مشاكلَ في قطاعاتٍ أخرى. وإذ طُبِّق على صناعةِ النفطِ الفنزولية، فقد عنَى أنَّ الصناعةَ والزراعةَ المحليتين لم تستطيعا مواكبةَ التوسعِ السريعِ في الطلبِ على البضائع الاستهلاكية، لذلك كان لا بدَّ من استيرادِ البضائعِ الصناعيةِ والزراعيةِ جميعا.([v])

لتعقيد المشكلة، كانت فنزوِلا في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين تتبعُ معدلاً ثابتاً لقيمةِ عملتِها. فكان سعرُ عملتِها، نتيجةً لذلك، أعلى من حقيقتِه دائماً، وكان استيرادُ السلعِ أرخصَ كثيراً من إنتاجِها محليا. وهذا ما أفشل التصنيعَ في فنزوِلا وقتل الزراعة عمليا. بدل ذلك، نما قطاعُ الخدماتِ على نحو مثير لصعوبةِ استيراده، بينما انكمشت الصناعةُ والزراعةُ كلتاهما. وكنتيجةٍ لتهافتِ النشاطِ الزراعيِّ، هُجرت الأرضُ وتزايدَ التمدنُ على نطاقٍ واسع، بحيث غدت فنزوِلا بسرعةٍ الدولةَ الثانيةَ الأكثرَ تمدناً في أمريكا اللاتينية،([vi]) والوحيدةَ المستوردةَ للغذاءِ كليا.

بالرغمِ من هذه المشاكلِ المتمثلةِ في هجرانِ الأرضِ والتمدنِ السريع، ومعاناةِ الصناعةِ والزراعةِ، كان العقدان اللذان تبعا دكتاتوريةَ مارْكُس بيرِز جِمِنيز (1958-1978) مزدهرين ازدهاراً عظيماً في فنزوِلا، إذ ارتفعَ الناتجُ المحليُّ الكليُّ للفردِ الواحدِ وأصبح الأعلى في أمريكا اللاتينية كلِّها.([vii]أما سببُ هذا الازدهار، فيعودُ مباشرةً إلى ارتفاعِ سعرِ النفطِ وارتفاعِ عائداتِ الدولةِ معه. وأما تبعةُ هذا الازدهار، فكان الاستقرارَ السياسيَّ الذي لم يكنْ معتاداً في أمريكا اللاتينية، بالرغم من أنه كان مقابلَ مستوىً ما من الكبتِ والاعتمادِ على إنتاج النفط.

شكَّلَ هيكلُ الدولةِ الاقتصاديُّ – المعتمدُ على النفط – إذاً هيكلَها الاجتماعيَّ، مُنتِجاً طبقةً عاملةً ضعيفةً بسبب بطءِ عمليةِ التصنيعِ، ومُنتِجاً أيضاً نخبةً إقطاعيةً ضعيفةً، لسببٍ عائدٍ، جزئيّاً على الأقلَّ، إلى عمليةِ التمدينِ السريعةِ التي لم تُعطِ هذه النخبةَ وقتاً كافياً لتتطوَّر. وبدورِه، كان وجودُ طبقةٍ عاملةٍ ضعيفةٍ يعني مجتمعاً مدنياً مفرغاً من الحماسِ لامباليا، يستند دعمُه للديمقراطيةِ إلى المنافعِ الآتيةِ من ارتفاعٍ نسبيٍّ في مستوى المعيشة. كذلك كان وجودُ نخبةٍ إقطاعيةٍ ضعيفةٍ يعني أنه حتى لو استطاعت الانتخاباتُ تهديدَ مصالحِها، لم يكن لديها الكثيرُ مما تفعلُه لتُحوِّل فنزوِلا باتجاهِ الدكتاتورية، كما حدث في معظم دول أمريكا اللاتينية الأخرى يومئذ.

هناك نتيجةٌ أخرى للاقتصادِ المعتمدِ على النفطِ: أنّ من راكم الثروةَ وأدارها هي الدولة، لا نخبةٌ اقتصاديةٌ ما. يعني هذا أن الأحزابَ السياسيةَ هي التي كانت تُهيمنُ على الثروة النفطية، فأبعدت من يمكنُ أن ينافسوها بفعلِ ثقافةِ التحزّب والمحسوبية، التي بدورها عزّزت قوةَ الدولةِ والأحزاب. أضف إلى ذلك أن هذا الترتيبَ جعل الدولة، بسبب قوتها، تبدو “سحرية” (كورونِل، 1997)، وكأن في مقدورِها حلَّ جميع مشاكلِ المجتمع. كما أنّ هذه الثقافةَ السياسيةَ والهيكلَ الاقتصاديَّ ساهما أيضاً في إضعافِ المجتمعِ المدنيِّ (للطبقات) وفي إنشاءِ ثقافةِ ديمقراطيةٍ عملية.

على المستوى السياسيِّ، تماسكَ استقرارُ فنزوِلا عام 1958 بفضل “حلف بُنْتو فيجو”،([viii]) وهو حلفٌ وقَّعته الأحزابُ السياسيةُ الرئيسيةُ الثلاثةُ في ذلك الوقت، هي الحزبُ الاجتماعيُّ الديمقراطيُّ (العمل الديمقراطي)، والحزبُ المسيحيُّ الديمقراطيُّ (لجنة المنظمة السياسية المستقلة)، والحزبُ اليساريُّ الصغير (الاتحاد الجمهوري الديمقراطي).

كان جوهرُ الحلفِ اشتراكَ المُوقِّعين على الحلف في السلطةِ والمواردِ واستبعادَ منافسيهم. وكان جزءٌ من التفكير بالحلف ضمانةَ الاستقرارِ السياسيِّ، أولا، باستبعادِ المجموعات الأكثر أصولية؛ ثانيا، تبيّن لحزب العمل الديمقراطي، الذي كان متأكِّداً تقريباً من فوزه في انتخابات الرئاسة عام 1958، أنّ عليه أن يُشركَ في السلطة بعضَ الأحزابِ الأخرى على الأقل، إذا أراد تجنُّبَ تكرارِ انقلابِ 1948 الذي أطاح برئيسِه المنتخبِ ديمقراطياً، رومولو غاليغُس. ففي العام 1948، كان حزبُ العملِ الديمقراطيِّ يحكم وحده، مهيمناً على جميع دوائر الحكومة، ومستبعداً جميع المنافسين، مما جعلهم يؤيدون انقلاباً عسكريا ضدّ غاليغُس، وهو ما أوصل البلادَ لاحقاً إلى دكتاتورية مارْكُس بيرِز جِمِنيز. مع هذا، سريعا ما قاد ترتيب “بُنتو فيجو” المستقر إلى “التصلُّب” (كْرِسْب، 2000، 173)([ix]واللامبالاة السياسية. وكان لتشافيز لاحقاً أن يثور على ذلك الترتيب، ملقياً بالملامةِ على الحلفِ في كلِّ خطأ ارتُكب في فنزوِلا في تلك السنين.

ازدياد خيبةِ الأمل:

الأزمة النفطية وانهيار الديمقراطية التحالفية (1979-1998)

مع هذا، بدأ انزياحٌ رئيسيٌّ في المجتمع الفنزوليِّ ما إن بدأ الازدهارُ النفطيّ يتراجعُ ثم يتوقّف. وقد بدأت نهايةُ العصرِ الذهبيَّ في فنزولا عام 1979، حين دخلت فنزولا فترةَ انحدارِها الاقتصاديِّ التي استغرقت عشرين عاما. في هذه الفترةِ كان يحدثُ بعضُ ازدهارٍ نفطيٍّ، كما حدثَ خلالَ الثورةِ الإيرانيةِ (1980) وحربِ الخليجِ (1991)؛ لكنَّ تلك الازدهارات ما كان لها أن تعوِّضَ الأرضيةَ المفقودةَ التي سبَّبَها الدينُ الثقيلُ أصلاً، وازديادُ كلفةِ إنتاجِ النفط، وانخفاضُ سعره، والنموُّ السكاني. وقد كان الانخفاضُ في دخلِ النفط بالنسبة إلى الفرد الواحد، وبالتالي في الناتجِ المحليِّ الإجماليّ بالنسبة إلى الفرد، ثابتاً وغيرَ مسبوق في العالم خلال هذه الفترة.

عانى دخلُ الفردِ الحقيقيُّ انحداراً كبيراً بلغ 27% خلال عشرين عاماً، من 1979 إلى 1999. ولم يتعرّض اقتصادٌ آخرُ في أمريكا الجنوبية لمثلِ هذا السقوط المذهل.([x])ومع هذا السقوط، ارتفعت نسبةُ الفقر من 17% عام 1980 إلى 65% عام 1906.([xi]ولقد كان انزلاقُ هذه النسبةِ الكبيرةِ من السكانِ في مهاوي الفقر تجربةً صادمةً للطبقةِ المتوسطةِ في فنزوِلا، تلك التي توقعت أن ترى مستوى معيشتِها كما كان في العشرين سنةً السابقة، لا أن يقل.

أخيراً لم تعد هناك مصادرُ ماليةٌ متوافرةٌ لإدامةِ ثقافةِ التحزُّب والمحسوبية السياسية، وهو ما أوقع ضربةً قاتلةً في الحزبين السياسيين الرئيسيين ومنح غريباً على ميدانِ السياسةِ القدرةَ على أن يبرزَ ويُنتَخَب. كان الولاءُ للنظامِ مُشتَرىً بالمالِ النقديِّ لا بالإقناعِ السياسيِّ، وحين نضب المالُ تبخَّرَ الولاء. نتيجةً لذلك، فاز في انتخاباتِ الرئاسة عام 1993، لأول مرة في تاريخ فنزولا الديمقراطي، مُرشَّحٌ لا علاقةَ له بأحزاب حلف بُنْتو فيجو (مع أنَّ رفائيل كَلْديرا، الرئيسَ الجديدَ، كان أحدَ الموقِّعين الأصليين على الحلف). وكانت الأصوات  التي مُنحت لكلْديرا ولمرشَّح آخر رئيسيٍّ، هو أندريز فِلاسْكيز، من الحزبِ اليساري المسمَّى، لا كوزا راديكال، تعني أنّ الأحزابَ التي لا علاقةَ لها ببُنْتو فيجو قد فازت لأول مرةٍ بالأغلبية في تلك الانتخاباتِ.

هناك عاملٌ آخرُ في تهافتِ “الديمقراطيةِ التحالفية” الفنزولية ورفضِها هو الإدراكِ المتزايدِ للفساد. إنه لَطبيعيٌّ تماماً، خاصةً في حالِ تناقصِ المصادرِ الماليةِ، أنْ تتحوّلَ المحسوبيةُ إلى فساد، لأن المحسوبيةَ، بمعنى ما، ليست سوى شكلٍ مُخفَّفٍ من أشكالِ الفساد. والفسادُ، بطبيعةِ الحال، مشكلةٌ متفشيةٌ في معظمِ دولِ أمريكا اللاتينية؛ فهو لهذا لا يجعلُ الحالةَ الفنزوليةَ متميِّزةً، أو يفسِّرُ سببَ انهيارِ النظامِ السياسيِّ هناك وليس في مكانٍ آخرَ (مع هذا، لقد حدث الأمرُ أخيراً في بعض هذه الدول). والأصحُّ أنّه يجبُ أن يُنظَرَ إلى الفسادِ كعاملٍ كان نتيجةً للأزمةِ، فسارعها وعمَّقَها.

هناك عاملٌ ثالثٌ وراءَ سقوطِ نظامِ “بُنتو فيجو” السياسيِّ في فنزولا أنّه لم يكن لدى الأحزابِ شيءٌ من القدرة الإبداعية.([xii]) فبناؤها السياسيُّ المتكلِّس، وتركيزُها على الشخصنةِ لا على البرنامجِ السياسيِّ، والإجماعُ العَقَديُّ الحزبيُّ العامُّ، كلُّها جعلت العلاجَ الإبداعيَّ للأزمةِ السياسيةِ والاقتصاديةِ مُستحيلا عمليا. إزاء التغيّر السريع في المجتمعِ والظروفِ، تنامَى الضغطُ الداعي إلى التغييرِ، بينما غابت الاستجابةُ المناسبةُ لهذا الضغطِ. أما التغييراتُ التي قُدِّمت فكانت محدودةً نسبيا، كانتخابِ الحكامِ المحليين ورؤساءِ البلدياتِ عامَ 1989، وكانوا من قبلُ يُختارون بالتعيين. وبينما سمح هذا الأمرُ للأحزابِ خارجَ نطاقِ “بُنتو فيجو” بدخول الميدانِ السياسيِّ، مثل أندريز فِلاسْكيز، من حزبِ لا كوزا راديكال، حاكماً لولاية بوليفار، لم يُقدِّمْ تغييراً بسرعةٍ كافية تسمحُ لنظام “بُنتو فيجو” بالمحافظةِ على نفسه.

بالإضافةِ إلى التراجعِ الثابتِ في عائداتِ النفط، علينا أنْ نضيفَ أيضاً استجابةَ الحكومةِ النهائيةَ، التي تمثَّلَت عامَ 1989 بطلبِ الرئيس كارلُس أندريز بيرِز قروضاً من صندوقِ النقدِ الدوليِّ وبتقديمِ “تعديلٍ هيكليٍّ” كإصلاحاتٍ لبرالية جديدة. وقد سارعت هذه الإصلاحاتُ في تهافتِ “الديمقراطية التحالفية”، بتعزيزِ الهبوط في الإنفاقِ الاجتماعيِّ، وفي تهافتِ نظامِ التحزُّب والمحسوبية. كذلك، فإنّ حقيقةَ كونِ الرئيسين اللذين قدَّما هذه الإصلاحات، كارلُس أندريز بيرِز (ثمَّ، عام 1996، رفائيل كلْديرا)، قد مأسساها بتناقضٍ مباشرٍ مع وعودِهما في حملتيهما الانتخابيتين، عزَّزت فقدانَ مصداقيةِ السياسةِ والطبقةِ السياسيةِ في البلاد وزادت من الاشمئزازِ منهما.

 


[1] المرض الهولندي (Dutch Disease) تعبير ابتدعته مجلة ذي إكونُمِسْت (The Economist) عام 1977، لوصف هبوط القطاع الصناعي في هولندا بعد اكتشاف الغاز في بحر الشمال عام 1959. وقد أخذ هذا الوصف يُطلق على البلاد التي تقع في الحالة عينها بسبب ظهور موارد طبيعية، كالنفط، تضعف الصناعة والزراعة من جراء ارتفاع عملة البلد المعني، فتعجز صناعتها عن المنافسة في الأسواق لارتفاع ثمنها، وبسبب انصراف جزء كبير من الناس إلى الاستثمار في النفط والخدمات التي تظهر بسببه. [المترجم]


[i] من قرأ ما كتبتُه عن تاريخ رئاسة تشافيز (وِلبيرت 2007) يمكنه القفز عن هذا الفصل، لأنه محضُ تلخيص لمحتوى ذلك الكتاب.

[ii] منقوش على جسر لاغونو (Puente Llaguno) إحياءً لذكرى من قضوا نحبهم في 11 نيسان 2002.

[iii] تغْوِل (Tugwell)، 1975، ص. 182.

[iv] كارل (Karl) 1997.

[v] هِلِنْغر (Hellinger 2000) يُخالف مقولة إن “المرض الهولندي” قضية خطيرة لفنزولا، رافضاً إياها على أنها تحليل لبرالي جديد، مضيفاً أنه إذا كانت موجودة، فلا بد من أن تكون قابلة للتطبيق في مجتمعات العالم الثالث كلها، لأنها جميعاً تعاني من عدم التوازن في نشاطها الاقتصادي. وبينما قد يكون صحيحاً أن الكثرة من مجتمعات العالم الثالث تعاني من هذه المشكلة، فالدول تعاني أكثر كثيراً منها كلما زادت هيمنة قطاع واحد. ولما كانت فنزولا تعتمد بصورة استثنائية على النفط، فإن هذا المرض ينطبق على فنزولا بصورة خاصة. ويبين بشكل جيد تحليل كارل المقارن (1997) للدول المنتجة للنفط وللدول الأخرى التي يهيمن فيها النفط كيف أن “المرض الهولندي” يؤثر على جميع هذه الدول.

[vi] البنك الدولي (2000). أوروغواي متمدنة جدا، يعيش معظم سكانها في مُنتيفيديو.

[vii] تِري لِن كارل (Terry Lynn Kark) 1997، ص. 234: “في العشرين سنةً ما بين 1960 و1980، اللتين حدث فيهما ازدهاران اقتصاديان، تمتع الفنزوليون بضعف موارد الاستثمار تقريبا، وبنموٍّ أسرع كثيرا في الرواتب، وتوقع حياةٍ أطول، وانخفاضٍ أدنى في وفيات الأطفال، وزيادةٍ في التعليم، مقارنة بجيرانهم الأمريكيين اللاتينيين – وكان لهم ذلك من غير أن يدفعوا ضرائب قريبةٍ لما يدفعه هؤلاء (بابتِستا 1984، ص. 26، الجدول 3). وقد ساعدت هذه النتائج الاقتصادية على الاستقرار السياسي.”

[viii] سمي الحلف باسم المنزل الذي وقع فيه، كْوِنْتا بُنْتو فيجو، في كاراكاس.

[ix] أصبح اللاعبون الأساسيون للعام 1959 يشكلون وضعا راهنا مجمدا. وقد أتاحت لهم الترتيبات الدستورية التي وضعوها السيطرة على صنع السياسة، واستبعاد المجموعات الجديدة من الاشتراك، وأبقت القضايا الجديدة خارج الأجندة.” (كرِسب (Crisp) 2000، ص. 173).

[x] هبط الدخل الحقيقي للفرد الواحد من 11,869 دولارا عام 1979 إلى 8,675 دولاراً عام 1999، حسب مركز المقارنة العالمي التابع لجامعة بنسلفانيا (CICUP)، أيلول 2006. وحدها بيرو عانت من هبوط قدره 17%، بينما زاد في تلك الفترة الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وكولمبيا والإكوادور. أما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في فنزولا للفرد الواحد، فهبط أكثر بكثير، بنسبة 36% (مقارنةً بـ27% لبيرو)، مما يدل على أن عدم التساوي زاد أيضاً خلال هذه الفترة.

[xi] جامعة أندريس بِلُّو الكاثوليكية، “مشروع الفقر”. (http://www.ucab.edu.ve/investigacion/iies/pobreza.htm)

[xii] بَكْستُن (2001) وكْرِسْب (2000) أوردا المقولة ذاتها.