“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

تتمة الفصل الأول

جدلية الثورة المضادة والأصولية([i])

تسييسُ هوغو رفائيل تشافيز فْرِياس([ii])

كان في سياقِ التراجعِ الاقتصاديِّ وتدهورِ المؤسساتِ العامةِ أنْ أصبح جنديٌّ شابٌّ يُسمَّى هوغو رفائيل تشافيز فْرِياس مُسيَّساً. وُلد تشافيز عام 1954، في أثناء دكتاتوريةِ مارْكُس بيرِز جِمِنيز، وترعرعَ في أفقر ولايةٍ فنزوليةٍ، لأسرةٍ من الطبقةِ الوسطى الدنيا، خلال سنواتِ الازدهارِ في البلد. وقد التحقَ بالجيشِ لكونِه أساساً أحدَ السبلِ القليلةِ للصعودِ الاجتماعيِّ، فسمح له ذلك بالحصولِ على تعليمٍ عال. وقد كان الجيشُ الفنزوليُّ غيرَ عاديٍّ في هذا المجال، لأنه، على غير حالِ جيوشٍ كثيرةٍ في أمريكا اللاتينية، يسمحُ للجنودِ العاديين من خلفيات فقيرةٍ بالصعودِ في المناصبِ إلى أعلى المستويات، وكان يمنحُهم تعليماً جامعياً كثيراً ما كان خارجَ الأكاديميات العسكرية. وهكذا تعرَّض تشافيز وأندادُه للفكرِ اليساريِّ في الجامعاتِ العامة.

بالإضافةِ إلى تعليمِه العسكريِّ التقدميِّ نوعاً ما، واجه تشافيز الحرب الأهلية الكولُمبيةَ، والتقى بالمغاويرِ اليساريين، فخبر مباشرةً وحشيةَ هذه الحربِ الأهليةِ حينما كان يُعسكِرُ بالقربِ من التخومِ الكولُمبية. وإذ آلمته هذه التجربة، وكان في الثالثةِ والعشرين من عمره، قرَّرَ تشافيز أن يشكِّلَ منظمةً تآمريةً خاصةً به عام 1977، أطلق عليها اسم “جيش تحرير الشعب الفنزولي”،([1]) الذي لم يكن يضمُّ في البدايةِ سوى ستة أعضاء. أما حافزُه لتشكيلِ هذه المجموعة، فكان ذا علاقةٍ مباشرةٍ بتجربتِه على الحدود. وقد روى تشافيز القصة كما يلي:

“… التأمُّلُ بالتعذيب، الضرباتُ التي كانت تُكال للفلاحين، التأمُّلُ بفسادِ الجيش، فنزولا العظيمة – بلى هناك شيءٌ يحدث…. بجنودٍ ثلاثة… ورقيبين… شكَّلنا مجموعةً وقرَّرنا أنْ نُطلقَ عليها اسمَ جيش تحرير الشعب الفنزولي…. ما الذي كنا ننوي فعله؟ في تلك اللحظة لم تكن لدينا أدنى فكرة.”([iii])

غير أن تشافيز أمضى عدةَ سنواتٍ أخرى في الجيش قبل أن ينصرفَ إلى التنظيمِ التآمريِّ بكلِّ ما أوتي من حماس. في ذلك الوقت، من 1977 إلى 1982، بينما كان تشافيز يخدمُ في مَراكاي، إحدى القواعد الجوية الرئيسية في فنزولا، ازداد احتدامُ التناقض بين مسعى الحكومة لخلق “فنزولا العظمى” وبين الانحطاط الاقتصادي والمؤسسي الحقيقي. في العام 1980، نُقل تشافيز إلى الكلية العسكرية في كاراكاس، حيث أصبح مدرباً رياضيا. أخيراً، في العام 1982، وجد تشافيز في الكلية عدداً من المدربين الذين كانوا يوافقونه الرأي، والذين تعاطفوا مع رفضِه النظامَ الفنزويليَّ الاجتماعيَّ والسياسيَّ الذي كان يزداد فسادا، وأسسوا ما أسموه (EBR-200). وقد قال تشافيز إن هذه الأحرف تشير إلى الجذور العَقَدية الثلاثة للمجموعة، إِزِكويِل زامورا (Ezequiel Zamora)، وسيمون بوليفار (Simon Bolivar)، وسيمون رُدريغِز (Simon Rodriquez). كذلك تشير إلى الجيش البوليفاري الثوري (Ejército Revolucionario Bolivariano)، أما الرقم 200 فيُشير إلى الذكرى المئتين لمولد سيمون بوليفار عام 1783.

كانت عضويةُ الجيشِ البوليفاريِّ الثوريّ-200 تشترط ترديدَ قَسَم سيمون بوليفار على “مُنتي ساكرو” [الجبل المقدَّس] في إيطاليا حين كرَّس نفسه للقتال لأجل استقلال أمريكا اللاتينية: “أقسمُ أمامكَ وأقسمُ أمام إلهِ آبائي بأنْ لن أتركَ ذراعيَ تسترخي، ولا روحيَ ترتاحُ، حتى أكسرَ القيودَ التي تضطهدُنا.” كانوا مقتنعين بأن الديمقراطية الفنزولية ليست ديمقراطيةً حقيقيةً، بل محضُ شكلٍ أكثرَ تطوُّراً من الهيمنة. بعد ذلك، حين بدأ تشافيز التنسيق مع المدنيين، أعاد تسمية مجموعته من الجيش البوليفاري الثوري-200 (EBR-200) إلى الحركة البوليفارية الثورية-200 (MBR-200).

يُمكنُ تلخيصُ مكوِّناتِ بوليفاريةِ تشافيز الثوريةِ الرئيسيةَ كما يلي: التركيزُ على أهميةِ التعليم، وإيجادُ وحدةٍ مدنيةٍ-عسكريةٍ، والتكاملُ الأمريكيُّ اللاتينيُّ، والعدالةُ الاجتماعيةُ، والسيادةُ الوطنية.([iv]) من جوانبَ عديدةٍ، ليست هذه مجموعةَ مبادئَ وأفكارٍ مختلفةٍ بشكلٍ خاصٍّ عن تلك المتعلقةِ بأيِّ مفكِّرٍ نهضويٍّ أو تحرريٍّ وطنيّ. كان بوليفار، كمؤيدٍ لجان جاك روسو، تحررياً تقليدياً، باستثناءِ أنه حاول تطبيقَ هذه الأفكار على البيئةِ الأمريكية-اللاتينية المختلفةِ كليا، حيث أنَّ وجودَ الاستعمارِ والعبوديةِ والسكانِ الأصليين جعلَ تطبيقَها أصعبَ وأكثرَ جذريةً، وبهذا أكثرَ ثوريةً من أوربا. كذلك، مقارنةً بنظريات الثورة الأمريكيةِ في الولاياتِ المتحدة، كان بوليفار أكثرَ جذريةً بسبب معارضته العبوديةَ ودعمِه حقوقَ السكانِ الأصليين.

صعود هوغو تشافيز إلى السلطة

في شباط 1989، حدث أولُ تشقُّقٍ حقيقيٍّ في النظام، فكان دافعَ تشافيز الأولَ لتحدي النظام، حين اجتاحت أعمالُ الشغبِ البلادَ كلَّها من جرّاءِ العلاجِ بالصدمةِ الذي قام به كارلُس أندريز بيرِز على الطريقةِ اللبراليةِ الجديدة. وقد كانت ردةُ فعلِ بيرز على أعمالِ الشغبِ أنه لم يجعل الشرطةَ والجيشَ يسحقانها حسبُ، بل عاقبَ الفقراءَ أيضاً لعدةِ أيامٍ حتى بعد انتهاء الشغب. وفي النهاية، كان عددُ القتلى في ما سُمِّي “كَاراكاسو” (Caracazo) ([2]) [هبة كاراكاس] ما بين 300 وثلاثة آلاف قتيل.([v])

لم يكن تشافيز ورفاقُه المتآمرون مستعدين عندئذٍ للاستفادةِ من هذا الحدثِ بالإطاحة بالحكومة. بدل ذلك، استخدموها لمضاعفةِ جهودهم التنظيمية وليجدوا زيادةً من المجندين لمحاولةٍ لاحقةٍ للإطاحةِ بالحكومة التي فقدت آخر أثر لشرعيتها تقريباً. وفي الرابعِ من شباط 1992 كانوا مستعدين وبذلوا جهداً للإطاحةِ بالرئيس بيرز بمحاولتهم الاستيلاء على المنشآتِ العسكريةِ الرئيسيةِ والقصرِ الرئاسيّ. غير أنّ المحاولةَ فشلت لتسرُّبِ خبرِ التمرُّدِ العسكري. حوصر تشافيز في مُتحف كراكاس التاريخيّ الذي احتله، لكنه لم يستطع التواصلَ مع رفاقه. ثم استسلم أخيراً على شرطِ أن تُتاحَ له مخاطبةُ الشعبِ وأن يطلبَ من رفاقه إلقاءَ السلاح حقناً للدماء. وكان خطابُ تشافيز المتلفز، الذي استغرق دقيقةً واحدةً، وعبَّر فيه عن احترامِه لتمرُّدٍ عسكريٍّ لقي دعماً شعبياً واسعا، قد حوّله إلى بطلٍ شعبيٍّ لتحمُّلِه مسؤوليةَ التمرُّد الفاشل – وهو ما لم يفعله سياسيٌّ من قبل قط – وكذلك لإيحائه بأنه سيقومُ بمحاولةٍ ثانيةً في وقتٍ آخرَ لأن أهدافَ مجموعتِه لم تتحقق “الآن”.

كانت محاولةُ انقلابِ تشافيز والدعمُ الشعبيُّ الذي حظي به بين فقراءِ البلادِ واليساريين نتيجةً مباشرةً لمجزرة 1989 الوحشيةِ (هبّة كاراكاس) الناجمةِ عن اثنتي عشرة سنةً من الانحطاطِ الاقتصاديِّ وخمسٍ وعشرين سنةً من الكبتِ السياسيِّ الذي استهدف يِساريي البلاد. أما حقيقةُ افتراضِ أن تكونَ فنزولا ذاتَ ديمقراطيةٍ لبراليةٍ وإحدى أغنى دولِ القارة، فقد جعلت التناقضَ بين المطمحِ والواقعِ أشدَّ قسوة، وهو ما شرعن أعمالَ تشافيز في عيونِ ملايين الفنزوليين. وبالرغم من فشل محاولة الانقلاب الثانية في تشرين الثاني من السنة نفسها، فقد طبعت مصيرَ بيرِز بطابع الرئيس الفاشل وأدت من ثَمَّ إلى تجريحِه لفضيحةِ فسادٍ في السنة التالية.

بينما كانت فنزوِلا تتخبَّطُ اقتصادياً وسياسياً، غيرَ قادرةٍ على الخروجِ من تقهقرِها الاقتصاديِّ والسياسيِّ، كان تشافيز يستقبلُ زائريه من اليِسار الفنزوِلي في أثناء مكوثِه عامين في السجن. وفي العام 1994، أوفى الرئيسُ المنتخبُ رفائيل كَلْديرا بوعدِه الذي قطعه على نفسه في حملته الانتخابية أنْ يمنح عفواً لتشافيز ولجميع المشتركين الآخرين في الانقلاب. عندئذٍ طاف تشافيز في البلادِ، ليتبيّنَ له أنَّ الكثيرَ قد تغيّر منذ بدأ أولَ مرةٍ تنظيمَ حركةٍ تآمريةٍ لإسقاطِ الحكومةِ، وقد تكونُ الطريقُ الانتخابيةُ إلى السلطةِ وإلى التحوُّلِ الثوريِّ ممكنةً الآن. وبإلحاحٍ من مختلفِ قادةِ اليِسارِ وبمساعدةٍ خاصةٍ من لويس مِكْوِلينا، الناشطِ اليساريِّ القديمِ في فنزولا،([vi]) بدأ تشافيز ينظمُ حزباً سياسياً يُساعدُه في الترشّح للرئاسة في انتخابات 1998. ولم يفعل سوى أن حوّل حركته من الحركة البوليفارية الثورية-200 إلى الحركة لأجل الجمهورية الخامسة (MVR). أما اسم “الجمهورية الخامسة” فكان يُفترَضُ فيه أن يُشير إلى الانسلاخِ التامِّ عن “حلف بُنتو فيجو” الفاسدِ القمعيّ، الذي كان يمثل الجمهورية الفنزولية الرابعة. تحالفَ تشافيز مع حزب “الوطن للجميع” (PPT)، و”الحركة لأجل الاشتراكية” (MAS)، والحزب الشيوعي الفنزولي (PCV)، وتشكيلة من أحزاب أخرى أصغر، ففاز في انتخابات الرئاسة في 6 كانون الأول 1998، بنسبة 56.2% من الأصوات.

بنزع الشرعية نزعاً تاماً عن نظام فنزولا السياسيِّ وعن طبقتها السياسية، لم يكن مفاجئاً أنْ يُنتخَبَ دخيلٌ سياسيٌّ، حاول يوما ما أن يستولي على الحكومة بالقوة، بناءً على وعدٍ انتخابيٍّ بتثوير فنزولا. وهكذا، من وجوهٍ عديدةٍ، كان انتخابُ هوغو تشافيز للرئاسة عام 1998 نتيجةً منطقيةً لما جاء من قبل. وبالرغم من أن تشافيز لم يُقدِّم وعوداً مُحدَّدةً، فقد وعد بإصلاحٍ شاملٍ لنظامِ فنزولا السياسيّ، ابتداءً بدستورٍ جديدٍ تماما. وقد فاز بأصواتٍ جاءته من جميع طبقات المجتمع تقريبا، خاصةً من فقراء البلاد ومن الطبقة المتوسطة المحرَّرة من الأوهام، التي كانت تنزلق ببطءٍ إلى هاوية الفقر خلال العشرين عاما المنصرمة.

ثورةٌ مضادة بلا ثورة ([vii])

أسبابُ معارضة تشافيز

بالرغم من أن تشافيز وعد بثورةٍ بوليفاريةٍ، فقد اجتذبَ برنامجُه السياسيُّ وخطاباتُه الطبقةَ المتوسطةَ، التي كانت تتطلَّعُ يائسةً إلى من يُصلِحُ كلياً نظامَ فنزولا السياسيَّ الفاسدَ وغيرَ الكفء بما لا يعِدُ بالأمل، ذلك النظام الذي حُمِّل مسؤولية عشرين عاما من الانحدار صوب الفقر. وهكذا في نهاية المَطاف، انتُخبَ تشافيز إلى حدٍّ بعيدٍ من قبل الطبقةُ الوسطى.([viii]) ولا نعني أن الفقراء لم ينتخبوا أو لم يكونوا مهمين – كلا؛ لكن الفقراء في فنزولا، كحالهم في كلِّ مكانٍ في العالم، كانت نسبةُ مشاركتهم في الانتخاباتِ أقلَّ كثيراً من الطبقةِ الوسطى والعليا. بتعبيرٍ آخر، ما كان لتشافيز عام 1998 أن ينجحَ بأصواتِ الفقراءِ وحدهم، نظراً إلى انخفاضِ معدَّل مشاركتهم وتسجيلهم. لكنَّ مصدرَ دعم تشافيز تغيّر كليا يوم الاقتراع على شرعيةِ رئاسته عام 2004. في ذلك الحين كانت الطبقةُ الوسطى قد تخلت عنه – وكان قد توجَّه صوب اليسار بثباتٍ خلال السنوات الخمس ونصف السنة – فثبتته في منصبه كليا أصواتُ الفقراء تقريبا.([ix])

أما كيف حدث هذا بالضبطِ، فكان نتيجةً لجدليةِ الثورةِ المضادةِ والنزعةِ الأصوليةِ المذكورةِ من قبلُ خلال رئاسة تشافيز. وكلُّ جهدٍ من لدن صفوةِ النظامِ القديمِ للتشكيكِ في مصداقيةِ تشافيز قد جعل الطبقةَ الوسطى ترفضُ تشافيز أكثرَ وتؤيدُ مساعيَ الإطاحةِ به. مع هذا، فكلُّ جهدٍ لإسقاط تشافيز قد جعله وحركتَه ينزعان أكثرَ إلى الأصولية، وهو ما كان يزيد من تصلُّبِ معارضيه، خالقاً حلقةً مفرغةً من الثورةِ المضادةِ والنزعة الأصولية. نتساءل: لماذا تُعارضُ المعارضةُ تشافيز أصلاً؟ ما الذي فعله حتى جعلها تتورّطُ في ثورةٍ مضادةٍ بينما كان يتمتعُ بدعمِ مثلِ هذا القطاعِ العريضِ من الطبقةِ الوسطى حين انتُخب لأول مرة؟

هناك أسبابٌ لا حصرَ لها لوجودِ مثلِ هذه المعارضةِ الحماسيةِ لتشافيز. إنها، عموماً، تقعُ في واحدٍ من ثلاثِ فئات: أولاها أسبابٌ منطقيةٌ لكنّ أغلبَها ملفَّق، والثانيةُ أسبابٌ منطقيةٌ وحقيقيةٌ، والثالثةُ أسبابٌ غيرُ منطقيةٍ وقد تكونُ غيرَ واعية. أما أسبابُ معارضةِ تشافيز التي نقرأها في وسائلِ الإعلام، فتلك المنطقيةُ ولكنْ الملفَّقةُ في أغلبِها، كافتراضِ أنّ تشافيز زوَّرَ الاستفتاءَ العامَّ على إلغاءِ رئاستِه عام 2004، أو أنه يدعمُ الإرهابَ العالميَّ، أو أنه يقودُ البلادَ إلى الدكتاتورية، أو أنه نفسَه قد دبَّر محاولةَ انقلابِ نيسان 2002 كحيلةٍ لكسبِ مزيدٍ من السلطة. وإذ لسنا هنا معنيين ببحثِ هذه الأسبابِ الملفَّقةِ ودحضِها، يمكننا ردُّها، عموما، إلى الارتيابِ في تشافيز (الذي يرجع عموماً إلى الأسبابِ غير الواعية)، مُضافاً إليه حملةُ تضليلٍ مخططٌ لها لنزعِ المصداقيةِ عنه داخلَ فنزولا وعالميا.([x])

الأهمُّ، لغايةِ التحليلِ الذي نعرضُه هنا، هي الأسبابُ غيرُ المنطقيةِ وغيرُ الواعيةِ وراءَ رغبةِ المعارضةِ في التخلُّصِ من تشافيز، لأن هذه هي الأسبابُ التي تمنحُ المعارضةَ قوتَها، وتُعزِّزُ تلفيقَ أسبابِ معارضةِ تشافيز كما ذُكِرَ أعلاه. أما الاتهاماتُ المنطقيةُ لكنْ الحقيقيةُ ضدَّ تشافيز، كاتهامِه بالفسادِ، أو بسوء استخدامِ السلطةِ من قِبَل مسؤولين أفرادٍ في الحكومة، أو بوجودِ عبادةٍ لشخصيةِ تشافيز، فهي اتهاماتٌ خطيرةٌ، لكنّها ليست ذاتَ علاقةٍ بأهمِّ اتهاماتِ المعارضة له. ولما كانت هذه الأسبابُ أكثرَ علاقةً بمدى قابلية المشروع البوليفاري للتطبيق، فسوف نُحلَِّلُها بالتفصيلِ في نهايةِ هذا الكتاب.

للأسبابِ غيرِ المنطقيةِ وغيرِ الواعيةِ التي دعمت جهودَ المعارضةِ في الخلاصِ من تشافيز جذورٌ في النزعةِ العرقيةِ/الطبقيةِ في فنزولا وفي خسارةِ النخبةِ القديمةِ القوةَ الطبقية. وبينما لا يوجدُ سوى القليلِ من الأبحاثِ الجادةِ حول العرقيةِ والطبقيةِ في فنزولا عموماً، وحول النزعةِ العرقيةِ/الطبقيةِ الموجَّهةِ ضدَّ تشافيز وأنصارِه خاصّةً،([xi]) فإن هذه الأبحاثَ القليلةَ والدليلَ المرويَّ عنها لكافيةٌ جدا. والغريبُ، بالرغم من هذا، أنْ كان تشافيز يوم تبوّأ منصبَه يتمتَّعُ بنسبةِ تأييدٍ بلغت 90%، وهو ما يدلُّ على أنّ العرقيةَ والطبقيةَ في معارضةِ الطبقةِ الوسطى لتشافيز لاحقاً ما كان لها أن تكون عاملاً مهما.

مع هذا، فإنّ السببَ في أنّ مثلَ هذه النزعةِ العرقيةِ-الطبقيةِ لم تكنْ مؤثِّرةً في وقتٍ مبكرٍ من رئاسةِ تشافيز أنّه لم يكن يُعَدُّ في البدايةِ منتمياً لمجموعةٍ أو طبقةٍ عرقيةٍ “دنيا”. بل إنّ العرقيةَ والطبقيةَ التي كانت تعمل ضدّه إنما “أقحمت نفسَها” حين استُهدف كمستحقٍّ لهذه المعاملة. فكيف ولماذا، إذاً، تمَّ هذا الهجوم؟ الجوابُ على هذا من شِقَّيْن اثنين. أولا، كان تشافيز نفسُه، من خطابِه وتصرفاتِه، يأخذُ بوضوحٍ متزايدٍ جانبَ الفقراءِ والمُهمَّشين في فنزولا، وهذا بدورِه جعله يُرى منتمياً لهذه الفئة. ثانياً وأكثرَ أهميةً، أنّ تشافيز أزاحَ تدريجياً من السلطةِ الطبقةَ الحاكمةَ القديمةَ في البلاد – في السياسةِ والاقتصادِ والثقافة. إنها خسارةُ السلطةِ الطبقيةِ المؤسسيةِ هذه، فوق كل شيءٍ آخر، هي التي جعلت النخبةَ القديمةَ تعارضُ تشافيز، لا سياساتُ حكومتِه الفعليةُ، كما يُقال عادة. فاستخدمت النخبةُ القديمةُ سيطرتَها على وسائلِ الإعلامِ في البلاد لتقلبَ الطبقةَ الوسطى ضدَّ تشافيز، مُختلقةً حملةً استفادت من النزعةِ العرقيةِ والطبقيةِ الكامنةِ في الثقافةِ الفنزولية. بعبارةٍ أخرى، إن خسارةَ السلطةِ السياسيةِ الكبيرةَ هي التي أعطت الطبقةَ الحاكمةَ القديمةَ في البلادِ كلَّ الأسبابِ التي تحتاجُ إليها لكي تُعارضَ تشافيز وتنبذَه كرئيسٍ منتخبٍ شرعياً لفنزولا.

إزاحةُ النخبةِ القديمةِ من السلطة:

شباط 1999 إلى تشرين الأول 2001

خطوةً فخطوةً كانت خسارةُ السلطةِ وما تبعها من رفضِ شرعيةِ تشافيز. وكانت أولى هذه الخطواتِ تسميةَ تشافيز مجلسَ وزراءَ لا تربطُه بنخبةِ البلاد روابطُ إلا أقلَّها. وحسبَ التقليدِ السابق، كان الوزراء الأساسيون يأتون دائماً من القطاعات المفترض أنها ذاتُ علاقة. مَثَلُ ذلك أنَّ وزيرَ الاقتصادِ كان يأتي من الأعمالِ التجارية الكبرى، ووزيرَ الثقافةِ من إحدى وسائل الإعلام، ووزيرَ الدفاعِ من الجيش، إلى آخره. بيد أن تشافيز كسرَ هذا التقليدَ فوراً حين سمَّى مجلسَ وزرائه الأولَ في شباط 1999 بحيث كان جميعُ أعضائه تقريباً من اليِسارِ الفنزوليّ.

كانت الخطوةُ التاليةُ لتقليصِ سلطةِ الطبقةِ الحاكمةِ وضعَ دستورٍ جديد. دعا تشافيز في البدايةِ إلى استفتاءٍ حول ما إذا يجبُ تنظيمُ اجتماعٍ دستوريٍّ في 25 نيسان 1999، ثم دعا إلى انتخابِ أعضاء الجمعيةِ الدستوريةِ في 25 تموز. وفي كلا التصويتين فاز تشافيز وأنصارُه بنسبةٍ كاسحةٍ، إذ أيَّد 92% اجتماعَ الجمعيةِ الدستورية، وفاز الأنصارُ بـ125 مقعداً في الجمعيةِ من أصل 131 مقعدا. وقد سيطر أنصارُ تشافيز على الجمعيةِ بسهولةٍ بالغةٍ لأن القواعد التي صُوِّتَ عليها وفازت بـ86% من الأصوات اقتضت من أعضاءِ الجمعيةِ أن يُنتَخَبوا كأفرادٍ، لا ضمنَ قوائمَ حزبية. وبعد أربعةِ أشهرٍ من المناقشات، عُرَض الدستورُ للتصويت في 15 كانون الأول 1999، ووفق عليه بنسبة 72% من الأصوات.

في عملٍ آخرَ أثار سخطَ المعارضةِ، عيَّنت الجمعيةُ الدستوريةُ هيئةً تشريعيةً انتقاليةً، قُبيل حلِّها، عُرفت باسم “كُنغْرِسِلُّو” (Congresillo). وقد مضت هذه الهيئةُ وعيَّنت على الفور النائبَ العامَّ، والمدافعَ عن حقوقِ الإنسان، وأمينَ المالِ العامَّ، والمجلسَ الانتخابيَّ الوطنيَّ، والمحكمةَ العليا. وقد افتُرِضَ في جميعِ هذه التعييناتِ أن تكونَ انتقاليةً، إلى أنْ تكون هناك جمعيةٌ وطنيةٌ جديدةٌ تستطيعُ إلغاءها أو المصادقةَ عليها. لكنَّ انتقاليةَ هذه الخطوةِ لم تُغيِّرْ من حقيقةِ أنها كانت تعني بالنسبةِ إلى المعارضةِ إزالةً دائمةً لمحكمةٍ عليا ومجلسٍ انتخابيٍّ كانا جزءاً من النخبةِ الحاكمةِ القديمةِ في البلاد.

كانت أهمُّ تبعاتِ الدستورِ الجديدِ الذي قلَّصَ سلطةَ النخبةِ القديمةِ أنه تطلَّبَ لإقامةِ “الانتخاباتِ الكبرى” “إعادةَ تشريعِ” جميع المسؤولين المُنتَخَبين، بمن فيهم الرئيسُ، وحكامُ الولايات، ورؤساءُ البلديات، ونوابُ الجمعيةِ الوطنية، وأعضاءُ مجلس المدينة. كذلك حدَّد الدستورُ الجديدُ الحقوقَ الاجتماعيةَ التي أكَّدت على اشتراكِ الدولةِ اشتراكاً كبيراً في الاقتصاد، كالحقِّ في التشغيل، والطعامِ، والمسكنِ، والعناية الصحية. كما نصّت بنودٌ مهمةٌ أخرى حدّت من دورِ نخبةِ البلادِ الاقتصاديةِ على التزامِ الدولةِ بإبطالِ الإقطاعياتِ الكبيرةِ المُعطَّلةِ (Latifundios)، وبحظرِ خصخصةِ شركةِ النفطِ الوطنية.

بيد أنّ “الانتخاباتِ الكبرى” في 30 تموز 2000 هي التي أزاحت النخبةَ السياسيةَ القديمةَ في البلادِ كلياً تقريباً عن المستوياتِ العليا في مؤسساتِ فنزولا العامةِ، كما كانت السببَ الأكبرَ في فقدان تلك النخبة تأثيرَها في شؤون البلاد. وقد تقدَّمَ 33 ألفَ مرشَّحٍ لنيِّفٍ وستةِ آلافِ منصبٍ في ذلك اليوم. وفي النهايةِ أُعيد تثبيتُ تشافيز في منصبِه بنسبة 59.8% من الأصوات. وقد فاز أنصارُ تشافيز بـ104 مقاعد في الجمعية الوطنية من أصل 165 مقعداً وكان منهم 17 حاكمَ ولايةٍ من 23 ولاية. أما على المستوى المحليِّ، فقد كان مرشَّحو تشافيز أقلَّ نجاحا، إذ فازوا بحوالي نصف مناصب رؤساء البلديات فقط.

لما حظيَ أنصارُ تشافيز بأكثريةٍ متينةٍ بلغت ثلثي أعضاءِ الجمعيةِ الوطنية، تيسَّر لهم أن يُعيدوا تعيينَ رؤساءِ فروعِ الحكومةِ الثلاثةِ الأخرى: “السلطة الأخلاقية” (النائب العام، وأمين المال العام، والمدافع عن حقوقِ الإنسان)، والقضاء، والسلطة الانتخابية.([xii]) وهكذا تمَّ بنهاية عام 2000 تحويلُ السياسةِ الفنزوليةِ من ميدانٍ كان يحكمُه أعضاءُ ائتلافِ حزبِ العملِ الديمقراطيِّ والحزبِ المسيحيِّ الاجتماعيِّ إلى آخرَ يحكمه أتباعُ الثورة البوليفارية.

هذا التحوُّلِ السياسيُّ في فنزولا – إزاحةُ النخبةِ الحاكمةِ السابقةِ في البلادِ من جميعِ مراكزِ السلطةِ السياسيةِ – هو ما جعلَ هذه النخبةَ ترفضُ تشافيز كليا، لا السياساتُ بعينِها التي اتّبعها تشافيز خلال السنتين الأوليين في منصبِه. والواقعُ أنّ سياساتِه الاقتصاديةَ والاجتماعيةَ في هذا الوقتِ لم تكن مختلفةً بشكلٍ خاصٍّ عن سياساتِ أسلافِه. فحتى حينه لم يحدثْ تجريدٌ للملكيات، ولا تحديدٌ للربح، ولا إعادةُ توزيعٍ للثروة. كذلك كان الاقتصادُ عام 2000 يتمتَّعُ باستعادةِ عافيتِه، بفضلِ جهودِ تشافيز على نحوٍ كبيرٍ في تعزيزِ منظمةِ الدولِ المصدرةِ للنفط (أوبك) ورفعِ سعرِ النفط.

مع هذا، هناك حادثتان هددتا بتجريفِ سلطةِ النخبةِ القديمةِ، هما التصويتُ المفروضُ بالقوةِ على قيادةِ اتحاد عمال فنزولا وتمريرُ 49 مرسوماً قانونيا أقرَّتْها الجمعيةُ الوطنية. وإذ بدا أن مرشَّحي تشافيز قد خسروا انتخاباتِ اتحادِ عمالِ فنزولا في تشرينَ الأول 2001،([xiii]) أثبتت ثلاثةٌ من الـ49 مرسوماً قانونياً، كانت قُدِّمت في تشرين الثاني 2001، أنها تنتهكُ مراكزَ السلطةِ الاقتصادية. هذا هو ما هيّأ المسرحَ لـ”الثورة المضادة من غير ثورة” التي تلت ذلك.

 


[1] ELPV (Ejército de Liberación del Pueblo de Venezuela)

[2] كَاراكاسو (Caracazo أو Sacudón أي هبّة كاراكاس أو الزلزلة) هو الاسم الذي أُطلق على موجات الاحتجاج وأعمال الشغب والنهب وما تبعها من مجزرة في 28 شباط 1989 في العاصمة كاراكاس والبلدات المحيطة بها. وقد انتهى هذا الشغب، الذي كان الأسوأ في تاريخ فنزولا، بمقتل أعداد كبيرة من المواطنين على يد قوات الأمن. أما سبب هذه الاحتجاجات فكانت “الإصلاحات” اللبرالية الجديدة المؤيدة لحرية الأسواق التي فرضتها حكومة الرئيس كارلس أندريز بيرز بتوصية من صندوق النقد الدولي. وكانت الحكومة خصخصت شركات الدولة، ورفعت الضرائب، وخفضت الجمارك، وقلصت دور الدولة في الاقتصاد. لكن الأسوأ كان إلغاء الدعم المالي على المحروقات، مما رفع أسعار المشتقات النفطية 100%، فارتفعت معه كلفة المواصلات العامة 30%. [المترجم]


[i] من قرأ ما كتبتُه عن تاريخ رئاسة تشافيز (وِلبيرت 2007) يمكنه القفز عن هذا الفصل، لأنه محضُ تلخيص لمحتوى ذلك الكتاب.

[ii] لمزيد من وصف قصة حياة تشافيز، راجع: (Munoz, 1998; Harnicker, 2002; Gott, 2000; Chavez and Guevara, 2005; and Eloizalde and Baez, 2004 )

[iii] برنكو مونيوز (1998)، ص. 56-7.

[iv] هذا الإيجاز قدمه سامويل مُنكادا (2003).

[v] يقول لوبيز-مايا (1999) إن أكثر الأرقام مصداقيةً، الذي قدمته مجموعة حقوق الإنسان (COVAFEC)، يبلغ 396 وفاة.

[vi] راجع غُت (2005) لنظرة موجزة لميكيلينا وآخرين حول تشافيز في ذلك الوقت.

[vii] نحتت مارتا هارنِكر هذا التعبير حول الأحداث في فنزولا في المقابلة التي استغرقت كتابها كله مع تشافيز (هارنكر 2003).

[viii] في بعض أفقر ولايات فنزولا، هُزم تشافيزُ من قبل مرشح المؤسسة هٍِنريك سالاس رومر، كما في دِلتا أماكورو بـ52 إلى 46، وفي أمازوناس، هزم تشافيز بـ54 إلى 44، وفي أبورِه بـ60 إلى 39. مع هذا، هزم تشافيزُ سالاس رومر في الولايات الغنية، مثل كارابوبو (ولاية سالاس الأم) بـ53 إلى 44، وفي مِرندا بـ51 إلى 43، وفي زوليا بـ55 إلى 41.

[ix] مثل ذلك أن تشافيز نال أغلبية كاسحةً في استفتاء نزع الثقة في الولايات الفقيرة التي فاز فيها سالاس رومر عام 1998. ففي أبور نال 68% من الأصوات (مقارنة بـ39% عام 1998)، وفي أمازوناس 70%، وفي دلتا أماكورو 70%. كما نال تشافيز نسبة أقل في الولايات الغنية التي فاز فيها عام 1998، مثل كارابوبو (57%)، وميرندا (51%)، وزوليا (53%). والافتراض بأن تشافيز انتخبته الطبقة الوسطى عام 1998 ورسخته الفقيرة عام 2004 يحتاج إلى بحث، لكن الاستقصاء الأولي للبيانات الانتخابية يقول إن هناك سببا جيداً للاعتقاد بصحته.

[x] لمزيدٍ في تفاصيل دحض الأسباب المختلقة لمعارضة تشافيز، راجع التقرير الخاص بفنزولا في مجلة إكسترا! (Extra!)، عدد تشرين الثاني/كانون الأول 2006.

[xi] كانت الدراسات التي أجراها دونو (2004) وهاريرا سالاس (2004) أبرز الاستثناءات التي أوضحت العرقية والطبقية اللتين مورستا ضد تشافيز.

[xii] قدم دستور فنزولا الجديد خمسة فروع للحكومة بدل الثلاثة المعتادة، مضيفاً فرعا انتخابيا مستقلا وفرعاً قضائياً مستقلا (السلطة الأخلاقية).

[xiii] تقول القائمة الانتخابية المؤيدة لتشافيز إن القائمة التي يهيمن عليها حزب العمل الديمقراطي قد ارتكبت التزوير، فرفض تشافيز على أثر ذلك الاعتراف بالانتخابات. ولم تُحلَّ المسألة قط.