“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

الفصل الثاني

 

سياسة الحُكم:

الدستور والقضاء والجيش والديمقراطية التشاركية

 

يمكنُ تقسيمُ سياساتِ حكومةِ تشافيز المتعلقةِ بالحُكم، أي بكيفيةِ ممارسةِ السلطةِ في فنزولا، إلى أربعةِ مجالاتٍ رئيسية: الدستور، والقضاء، والجيش، والديمقراطية التشاركية. في كلٍّ من هذه المجالاتِ جاءت حكومةُ تشافيز بتغييراتٍ مهمةٍ، أرست الأرضيةَ لإيجادِ مجتمعٍ أكثرَ مشاركةً وعدلا. ولسوء الحظِّ، غالباً ما يُقوِّضُ تشافيز وأنصارُه السياساتِ الإيجابيةَ بأخرى تقوِّضها، كالمركزية، في حالِ سلطات الرئيس الجديدة، أو غياب المؤسسية، في حالِ واجباتِ الجيشِ المدنيةِ المتزايدة، أو البطءِ في تمريرِ القوانينِ الداعمةِ للديمقراطيةِ التشاركية.

دستور جمهورية فنزولا البوليفارية للعام 1999

كان تنقيحُ الدستور أولَ ما شرع تشافيز في فعلِه حين تولى منصبَه. وكما ذكرنا من قبل، كان باستطاعته فعلُ ذلك لأنه فاز بتخويلٍ قويٍّ عام 1998 لإصلاحِ النظام السياسيِّ إصلاحاً تامّا. وقد عُزِّز هذا التخويلُ في استفتاء نيسان 1999 حول ما إذا كانت تجب الدعوة لاجتماع دستوري، وفي انتخاب أعضاء الجمعية الدستورية من بين أنصار تشافيز، وفي الموافقة على الدستور الجديد في كانون الأول 1999.

في عملية وضع دستور جديد، لم يكتفِ تشافيز بإصلاح الدستور، بل حاول إصلاحَ نظام الحكم في فنزولا برمته، أي المؤسسات المتعلقة بممارسةِ سلطة الدولة، كالقضاء، والجيش، وتطبيق فكرة الديمقراطية التشاركية.

يجب الانتباهُ إلى أن مسعى إعادةِ كتابةِ الدستورِ الفنزوليِّ أو إصلاحِه لم يكن جديداً في تاريخ فنزولا. ففي الفترة ما بين 1811 و1961، كان لدى فنزولا 26 دستورا، وهو أكبر عدد دساتير في أمريكا اللاتينية. وقد دام دستور 1961 مدة معقولة، أي حوالي 40 عاما، حتى عام 1999. بيد أنه تعرَّضَ أيضاً لعدة محاولات إصلاح خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. وكان الرئيسُ جيم لوزِنْشي قام عام 1988 ببعض التغييرات التي أتاحت مشاركةً أكبرَ للمواطنين في النظامِ السياسيِّ الفنزوليّ، بالسماح بانتخاب حكام الولايات ورؤساء البلديات، وكانوا من قبل تُعيِّنُهم السلطة التنفيذية. كانت هذه الخطوةَ الأولى التي سمحت لاحقا لمزيدٍ من الأحزاب إلى جانب حزبَيْ العمل الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي بأن تُمثَّل على المستوى المحليّ ومستوى الدولة. كما خُطط لتغييراتٍ أخرى على الدستور، لكنها لم تنفَّذ. وبعد محاولة انقلاب تشافيز عام 1992، تجددت الدعواتُ لدستورٍ جديد، لكنها أيضا تأرجحت في بضعة أشهر. وخلال حملته في انتخابات الرئاسة، أثار رفائيل كَلْديرا القضيةَ مرة أخرى، لكنه أيضا لم يمضِ بها بعيدا.

بيد أن تشافيز، بجعله الدستورَ الجديدَ أحدَ عناصر برنامج حكومتِه، وبوضعِ يدِه على استياءِ الناسِ العظيمِ من النظامِ السياسيِّ السابقِ، استطاع أن يأتي بدستورٍ جديدٍ في وقتٍ قياسي. وبحلول كانون الأول 1999، كان لفنزولا دستورٌ جديد، وهو ما كان علامةً، بحسب تشافيز، على انسلاخٍ جذريٍّ عن ماضي البلاد وتدشينِ “الجمهورية الخامسة” في فنزولا. وبشكل ملموسٍ، جلب الدستورُ الجديدُ معه عدداً من التغييراتِ الرئيسيةِ، كتغيير اسم الدولة، وإضافة فرعين للحكومة، وإدخال الاستفتاءات الشعبية، وتقوية الرئاسة في بعض النواحي، وإدخال مجالس تخطيط شعبي.

تغيير اسم الدولة

غيَّر الدستورُ الجديدُ اسمَ الدولةِ من “جمهوريةِ فنزولا” إلى “جمهوريةِ فنزولا البوليفارية”، وهو تغييرٌ أصرَّ عليه تشافيز، حتى حين رفضه أنصارُه أنفسُهم في الجمعيةِ الدستورية، لأنه، أساساً، سيعني كلفةً مبالغاً بها لتغييرِ أوراقِ الدولةِ المُروَّسةِ وأختامِها، إلخ. غير أن تشافيز، أخيراً، أقنع الجمعيةَ فأُقرَّ تغييرُ الاسم، شرطَ استهلاكِ القرطاسيةِ القديمةِ والموادِّ الرسميةِ ذاتِ العلاقةِ قبل طلب الموادِّ الممهورةِ بالاسم الجديد.

يُفترَضُ بالاسمِ الجديدِ أنْ يُشيرَ إلى أنَّ فنزولا هي إحدى الدول التي حرَّرَها مؤسِّسُها، سيمون بوليفار، وقد تنضمُّ في المستقبل إلى اتحاد “جمهورياتٍ بوليفارية.”([i])وبالنظر إلى أهمية سيمون بوليفار الكبرى التي ينطوي عليها نظامُ عقيدة تشافيز السياسية، لا غرابةَ في أن يُصرَّ على هذا التغيير.

الشمول الجنسوي

على غير حال جميع الدساتير المكتوبة، يضمُّ دستور فنزولا صيغتي التذكير والتأنيث لكلِّ الممثلين السياسيين المذكورين. ذلك أن اللغةَ الإسبانية، ككلِّ اللغاتِ الأوربيةِ (باستثناء الإنكليزية)، تُفرِّق بين صيغتي التذكيرِ والتأنيثِ في أسماءِ الوظائف، مثل “الرئيس” و”الرئيسة”. ففي كلِّ مرةٍ يشيرُ الدستورُ إلي أي شخص، كالرئيس، والمواطن، والمحامي، والممثل، والوزير، إلخ.، تكون الإشارةُ بصيغتي التذكيرِ والتأنيثِ كلتيهما. وهذا ما يجعل الدستورَ الفنزوليَّ حصرياً دستوراً يمكن وصفُه بأنه “غير منحازٍ للذكورة”.([ii]) ذلك أن ما تُلمِّح إليه الدساتيرُ التي تستعملُ صيغةَ التذكير وحدها أن النساء إما لا يُعتبرن مشاركاتٍ جدياتٍ في الميدان السياسيِّ، أو أن عليهن، إن شاركن، أن يكنّ مسترجلات. وبإدخال صيغتي التذكيرِ والتأنيثِ كلتيهما في مختلفِ الأدوار التي يؤديها الممثلون السياسيون، يدعو الدستورُ النساءَ بوضوحٍ إلى المشاركةِ على قدم المساواةِ في السياسة، من غير الإشارة إلى تذكيرهن.

دولة القانون والعدل

تقول المادة الثانية من الدستور إنّ “فنزولا تؤسس نفسَها دولةَ قانونٍ وعدلٍ ديمقراطيةً اجتماعيةً ….” هذا يُغايرُ معظمَ دساتيرِ الدولِ الأخرى، التي تقولُ ببساطةٍ إنّ الدولةَ تخضعُ لحكم القانون.([iii]) بعبارةٍ أخرى، يؤكِّدُ الدستورُ الفنزوليّ على إمكانية ظهور خلافٍ بين القانون والعدل، مما يعني أنّ العدلَ في أهميةِ حكمِ القانون، الذي قد لا يُحقق العدلَ دائما.

يستفيضُ إعلانُ حوافزِ الدستور الذي يسبقُ النصَّ الدستوريَّ حول فكرة العدلِ بالقول، “تُؤكِّدُ الدولةُ على حسنِ حياةِ الفنزوليين بإيجادِ الظروفِ اللازمةِ لتطوُّرِهم الاجتماعيِّ والروحيِّ، وبالعمل على تساوي الفرص بحيث يتمكنُ جميعُ المواطنين من أن يُطوِّروا شخصياتِهم بحريةٍ، وأن يُوجِّهوا مصائرَهم، ويتمتعوا بحقوقِهم الإنسانية، ويسعَوْا لسعادتِهم.”([iv]) أما المنتقدون، فقالوا إن فكرةَ دولةِ العدلِ هذه، التي تُغايرُ دولةَ القانون، قد تؤدي إلى أوضاعٍ تسودُ فيها على القانونِ فكرةٌ للعدالةِ معرَّفةٌ تعريفاً غامضا، فتفتحُ بهذا الإمكانيةَ لاستبدادٍ يُفترض فيه الخير. بيد أنّه، بالنظر إلى أنّ تبعاتِ هذا المبدأ الملموسةَ مُبيَّنةٌ في أقسام الدستورِ حول العملِ الإيجابيِّ وفي غيرِها من الأقسام، يبدو غيرَ محتملٍ أن تُستخدمَ المادةُ الثانيةُ لتأويلاتٍ تذهب أبعد مما يريدُه الدستور.

حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية

قبل صعود تشافيز إلى السلطة، كانت فنزولا مُلتزمةً بمعاييرِ حقوقِ الإنسان، لكنَّها كانت عملياً تُنتهَك. فقد كان التعذيبُ، والرقابةُ، وانتهاكُ الحقِّ في التجمُّع، كلُّها منتشرةً تماما، خاصةً خلال رئاسة كارلُس أندريز بيرِز الثانية (1989-1993). وبانتخابِ تشافيز رئيساً، استلمَ السلطةَ مَن عانَوا إلى حدٍّ كبيرٍ جداً من انتهاكاتِ حقوقِ الإنسانِ. لذلك، شارك الكثرةُ من هؤلاء الناسِ، كأعضاءَ في الجمعيةِ الدستورية، في وضعِ الدستورِ الجديدِ، فأعطوا حقوقَ الإنسانِ، نتيجةً لذلك، أهميةً خاصةً في الدستور. غير أنّ حقوقَ الإنسانِ التي يذكرُها الدستور أوسعُ كثيراً من معظم ما في الدساتير الأخرى. فما ذُكر لا يقتصرُ على الحقوق المدنية وحدها، كحرية القول، والتجمع، والمشاركة السياسية، بل يزيد عليها حقوقَ الإنسانِ الاجتماعيةَ، كالحق في التوظيف، والمسكن، والعناية الصحية. من ذلك ما يقوله الدستور عن العنايةِ الصحية، “العنايةُ الصحيةُ حقٌّ اجتماعيٌّ أساسيٌّ، وهو واجبٌ على الدولة تضمنُه كجزءٍ من الحق في الحياة.” ومن الناحيةِ العملية، جعلَ هذا العنايةَ الصحيةَ متاحةً للكثير من الفنزوليين الذين لم يجدوا من قبل سبيلاً إليها.

هناك تجديدٌ آخرُ في الدستور الجديد، تضمينُه المعاهداتِ الدوليةَ على أنَّ لها المكانةَ ذاتَها مع الدستور، وهذا يعني وجوبَ تفعيلِها بالطريقةِ عينِها.

حقوق المرأة

يضمُّ الدستورُ بعضَ أكثرِ المبادئ تقدما في هذه القضية. مَثَلُ ذلك أن الدستورَ يتبنَّى تعريفَ التمييزِ الذي وضعه “مؤتمر إزالة جميع أشكال التفرقة ضد المرأة”.([1])وهذا التعريفُ يعدُّ القوانينَ تمييزيةً ليس إذا قُصد بها التمييزُ فقط، بل حين يكون لها أيضاً الأثرُ المؤدي إلى اللامساواة. لذلك تنصُّ المادة الحادية والعشرون على أن “جميع الأشخاص متساوون أمام القانون، وبناءً عليه لا يُسمحُ بأيِّ تمييزٍ قائمٍ على العرق، أو الجنس، أو العقيدة، أو الوضع الاجتماعي، كما لا يُسمحُ، عموماً، بأيِّ تمييزٍ يقصدُ أو يكونُ له الأثرُ المؤدي إلى إبطالِ أو إضعافِ الاعترافِ بحقوق وحريةِ كل فردٍ، أو بالتمتع بها، أو بممارستِها على قدم المساواة.” ويعني هذا عملياً وجوبَ إعادةِ فحصِ السياساتِ العامةِ بحثاً عن تأثيراتِها التمييزيةِ الممكنة، وليس عن التمييز الواضح فقط. مَثَلُ ذلك أنه إذا كان تمثيلُ النساءِ في الجامعاتِ الرسمية ناقصاً، وجبَ على الدولةِ أن تفحصَ أسبابَ هذا الأمرِ وتُزيلَ العقباتِ التي تُسبِّبُ حضورَ نساءٍ أقلَّ من الرجال.

هناك حقٌّ آخرُ مهمٌّ للمرأةِ ينصُّ عليه الدستورُ الجديدُ، هو حقُّ ربةِ البيتِ في الحصول على منافعِ الضمانِ الاجتماعيِّ عن العملِ التي تؤديه في البيت. يقول الدستور تحديداً، “تضمنُ الدولةُ المساواةَ والمعاملةَ المُنصفةَ للرجال والنساء في ممارسةِ الحقِّ في العمل. كما تعترفُ الدولةُ بالعمل في البيتِ نشاطاً اقتصاديّاً يخلقُ قيمةً مُضافةً ويُنتجُ إنعاشاً اجتماعياً وثروة. إن رباتِ البيوتِ مؤهَّلاتٌ للضمان الاجتماعيِّ بحسب القانون،” (المادة 88). بيد أن هذه المادةَ لم توضعْ موضعَ التنفيذِ تماماً بسبب التأخير في إقرار قانونِ الضمانِ الاجتماعيِّ في فنزولا. مع هذا، فإن روحَها جارٍ تطبيقها في راتبٍ جديدٍ يبلغ 80% من الأجر الأدنى الذي تحصل عليه 200 ألف أمٍّ فقيرةٍ منذ وقتٍ مبكر من العام 2006، عن طريق البرنامج الاجتماعيِّ المعروف باسم “بعثة أمهات الباريو” (Misión Madres del Barrio).

الحق في الحصول على المعلومات

كانت المادة 58، التي تضمنُ الحقَّ في الحصولِ على المعلومات، إحدى أكثرِ الموادِّ إثارةً للجدلِ في أثناءِ مناقشةِ الدستورِ في الجمعيةِ الدستورية. سببُ ذلك قولُها إن للمواطنين الحقَّ ليس في الحصول على المعلومات حسب، بل في الحصول على المعلومات “الصحيحة، وغير المنحازة، وفي حينها.” وقد قرأ أعضاءُ المعارضةِ هذه المادةَ على أنها تُمكِّنُ الدولةَ من مراقبة المعلوماتِ التي لا تعدُّها “صحيحة” أو “غير منحازة.” بيد أن الكلماتِ التاليةَ تنقضُ مثل هذا التأويل، حين تقول بوجوبِ إعطاءِ المعلومات “من غير مراقبةٍ، بحسبِ مبادئ هذا الدستور.” كذلك، حتى كتابة هذه السطور، لم تصدر آثارٌ لمراقبةٍ من جانبِ حكومة تشافيز، بالرغم من أنّ الحكوماتِ الفنزوليةَ السابقةَ قد فعلتها كثيراً بينما انتقدتها الصحافة كما انتقدت حكومة تشافيز.([v])

الأحزابُ السياسية

لقد أُلغي تمويلُ الدولةِ للأحزاب السياسية مع الدستور الجديد. ففي السابق، كانت الدولةُ تمنحُ تمويلا سخياً لحزبين رئيسيين، هما “العمل الديمقراطي” و”المسيحيُّ الاجتماعيّ”، وهو ما جعلهما يسيطران على الحياةِ السياسيةِ في فنزولا مدةً طويلة. غير أنّ الجمعيةَ الدستورية، بفقدان هذين الحزبين مصداقيتَهما تماماً وبما أُنيط بتمويل الدولة من فساد، قرَّرت إلغاءَ تمويل الدولة للأحزاب كليا. وبالنظر إلى الجدل الذي أثارته هذه القضية في الدول الشمالية، حيث تميل القوى التقدميةُ إلى تأييد تمويل الدولة للحملات الانتخابية، حتى لا تُسيطرَ مصالحُ الأغنياء على السياسة، يبدو غريباً أن تُجلَّ حركةٌ سياسيةٌ تقدميةٌ منعَ تمويل الدولة للحملات الانتخابية في الدستور. لكنّ هذا ليس غريباً حين يتمعّنُ المرءُ بكيف كان يُستخدَمُ تمويلُ الحملات الانتخابية لإقصاء كلِّ من يتحدى النظام السياسيَّ القديم.

الاستفتاءات العامة

بطريقةٍ أو بأخرى، تُمثِّلُ المادتان 71 و74، اللتان تُشرِّعان الإمكانيةَ لتشكيلةٍ من أنواعٍ مختلفةٍ من الاستفتاءاتِ العامة، بعضَ أهمِّ التجديداتِ في الدستور الجديد. هناك أربعةُ أنواعٍ ممكنةٍ من الاستفتاءات: إما للاستشارة، أو لخلع أحدِ المسؤولين، أو للموافقة، أو للنقض. ولكلِّ نوعٍ طريقةٌ لإجرائه ذاتُ متطلَّباتٍ مختلفةٍ قليلاً. وعموماً، يُمكن إجراءُ الاستفتاءاتِ بطلبٍ من الجمعيةِ الوطنية، أو من رئيسِ الجمهورية، أو بعريضةٍ من 10 إلى 20% من المصوِّتين المسجَّلين. يُقصَدُ بالاستفتاءِ لغايةِ الاستشارةِ طرحُ سؤالٍ على الناس غيرِ مُلزمٍ وذي طبيعةٍ “وطنيةٍ سامية”، مثل إن كان ينبغي للدولةِ أن تنضمَّ إلى اتفاقيةِ تجارةٍ حرةٍ، أو إلى اتحادٍ نقدي. هذا الاستفتاءُ الاستشاريُّ كان أيضاً ذلك الذي حاولت المعارضةُ استخدامَه في شباط 2003 لإجبار تشافيز على الاستقالة، بسؤالِ جمهورِ المصوِّتين إن كان عليه أن يفعل أو لا. غير أن المحكمةَ العليا قرَّرت عدم دستوريةِ السؤال، لأن استفتاءَ الخلعِ مُصمَّمٌ بوضوح لهذا الغرض، لكنّ متطلَّباتِه أصعبُ من الاستفتاءِ الاستشاريّ. أي أنّ استفتاءَ الخلعِ، الذي يُمكنُ تطبيقُه على أيِّ منصبٍ مُنتَخَبٍ، أكان رئيساً، أم حاكمَ ولايةٍ، أم نائباً في الجمعية الوطنية، أم رئيسَ بلديةٍ، يمكن تطبيقُه بعد إتمامِ نصفِ مدةِ الولايةِ في المنصب فقط. أما الاستفتاءُ لأجل الموافقةِ، كالاستفتاءِ لأجل الخَلع تماما، فمُلزمٌ ويُستَخدمُ لإقرارِ قوانينَ مهمةٍ أو لتطبيقِ معاهداتٍ من شأنِها أنْ تنتهكَ السيادةَ الوطنية. كذلك يُستَخدمُ هذا الاستفتاءُ للموافقةِ على تعديلاتٍ في الدستور. أخيراً، يُستَخدمُ الاستفتاءُ لأجل النقض لإلغاء قوانينَ معمولٍ بها.

الحقوق الاجتماعية والتعليمية والثقافية والاقتصادية

يُشرِّعُ الدستورُ الجديدُ لحقوقٍ كثيرةٍ أخرى إلى جانب حقوقِ الإنسانِ المعتادة. فالأمومةُ، مثلا، محميةٌ منذ ساعةِ الحمْلِ، مما يعني ضمانَ عنايةِ ما قبل الولادة، بالرغم من أن ذلك يجعلُ الإجهاضَ أكثر صعوبةً إلى حدٍّ ما. كذلك تُقدِّمُ الدولةُ وسائلَ التخطيط الأسري. أضفْ إلى ذلك أنّ السكنَ، والعنايةَ الصحيةَ، والتشغيلَ، قد نوقشتْ باستفاضةٍ وتضمنُها الدولة. وفيما يتعلَّق بالحقِّ في التشغيل، يقول الدستور، “لكلِّ عاملٍ الحقُّ في راتبٍ كافٍ يُتيحُ له العيشَ بكرامةٍ ويُغطِّي حاجتَه وحاجةَ أسرتِه من الموادِّ الأساسيةِ والضروراتِ الاجتماعيةِ والفكرية.”([vi]) وفيما يتعلقُ بالحقوقِ الاقتصادية، تلتزمُ الدولةُ بتعزيزِ الديمقراطيةِ الاقتصاديةِ وبحمايتِها، كالتعاونيات.([vii])

كما أشار النقادُ، إن كثيراً من هذه الحقوقِ أو واجباتِ الدولةِ، إن لم نقلْ معظمَها، يستحيلُ على الدولةِ الوفاءُ التامُّ بها إذا كانت مواردُ الدولةِ محدودة. كذلك يُعقِّدُ تطبيقَها أكثرَ إغفالُ ذكرِ كيفيةِ تنفيذِ هذه الحقوقِ أو ما يحدثُ إن لم يوفَ بها. غير أنّ مؤيِّدي الدستور، كما سيُناقشُ في نهايةِ هذا القسم، يرَوْن هذا الفصلَ من الدستورِ (المواد 75-129)، من بين أخرى، مُهمًّا في وضعِ أجندةٍ اشتراكيةٍ أو برنامجٍ سياسيٍّ لمستقبلِ فنزولا.

حقوق سكان البلاد الأصليين

حين حان وضعُ حقوقِ سكانِ فنزولا الأصليين، دفعت الجمعيةُ الدستوريةُ بالمهمة إلى ممثلي السكانِ الأصليين أنفسِهم. هؤلاء السكانُ الذين يبلغُ تعدادُهم زهاء 500 ألف نسمة، وهو عدد صغير نسبياً بالمقارنةِ مع بعض دول أمريكا اللاتينية الأخرى (حوالي 1% من سكان فنزولا)، مُنقسمون إلى 26 مجموعةً عرقيةً تقريبا. وفي أثناء انتخاب ممثلي الجمعية الدستورية، أكد تشافيز أن قوانين الجمعية سوف تضمن ثلاثة ممثلين لسكان البلاد الأصليين.

لأول مرةٍ في تاريخ فنزولا، يعترفُ الدستورُ الجديدُ قبل كلِّ شيءٍ بحقَّ السكانِ الأصليين في الوجود، وفي لغاتهم، وثقافاتهم، ومناطقهم. وهكذا تُلزم الدولةُ نفسَها أيضاً بمساعدةِ المجتمعات الأصلية في تحديد أراضيها. بعد ذلك، تضمنُ الدولةُ أنْ لنْ يضرَّ السكانَ الأصليين استغلالُ المواردِ الطبيعيةِ في أراضيهم.

من غير المعتادِ أيضاً في دولةٍ أمريكيةٍ لاتينيةٍ ألا تكتفي الدولةُ بحمايةِ الثقافةِ واللغاتِ الأصليةِ، بل بتعزيزها أيضاً، مما يعني، من بين أمورٍ أخرى، تمويلَ تعليمٍ ثنائيِّ اللغةِ للسكانِ الأصليين. وكجزءٍ آخرَ من حمايةِ السكانِ الأصليين، تلتزمُ الدولةُ بملكيتهم الفكرية، بل تمنع الأغرابَ من تسجيلِ براءاتٍ تستند إلى معرفةٍ محليةٍ أصلية.

أخيراً، كما هو الحال في الجمعيةِ الدستورية، يضمنُ الدستورُ للسكانِ الأصليين تمثيلاً سياسياً في الجمعيةِ الوطنيةِ وفي الهيئات المنتخبة أيضا. ولديهم حاليا ضمانةٌ بثلاثةِ مقاعدَ من 167 مقعداً في الجمعية الوطنية.

الحقوق البيئية

الحقوقُ البيئيةُ مجالٌ آخرُ يُرسِّخُ فيه الدستورُ معاييرَ تقدميةً جدا. من ذلك، مثلا، أنه يُلزمُ الدولةَ بحمايةِ البيئة، والتنوع الحيويّ، والموارد الوراثية، والعمليات البيئية، والحدائق الوطنية. كما أنه يُحرِّمُ أخذَ براءةٍ بجيناتِ الكائنات الحية. ومن غير المعتاد جداً لأي دستور أن يتضمّن الالتزامَ بإصدارِ تقاريرَ عن الأثر البيئيِّ والاجتماعيِّ-الثقافيِّ لأيِّ نشاطٍ قد يسببُ ضررا بيئيا.

خمسة فروع للحكومة بدل ثلاثة

لعلّ أحدَ التجديداتِ الأقلِّ اعتياداً في الدستور إيجادُ خمسةِ فروعٍ للحكومة بدل الثلاثة المعتادة. فبالإضافة إلى الثلاثة المعتادة، أي القضائيّ والتنفيذيّ والتشريعيّ، أضاف الدستور الجديد فرعاً انتخابيا وفرعاً مواطنيا، وفي هذا يستندُ إلى فكرة سيمون بوليفار.

يعني الفرعُ المواطنيُّ ضمانةَ التزام الفروع الأربعة الأخرى بمهماتها المنصوص عليها في الدستور. ويتألف هذا الفرع (كثيرا ما يُعرف أيضاً بـ”السلطة الأخلاقية”) من النائب العامِّ، والمدافع عن الشعب (أو المدافع عن حقوق الإنسان)، وأمين المال العام. وينصُّ الدستور، تحديداً، على أنّ واجبَ هذا الفرع أن “يمنع الأعمالَ المناقضةَ للأخلاقِ العامةِ وللفضيلةِ الإدارية، ويحقق فيها، ويعاقب عليها؛ وأن يراقب الإدارةَ الجيدةَ وشرعيةَ استخدام التراث العام، والإيفاءَ بمبدأ الشرعية وتطبيقَه في جميع نشاط الدولة الإداري….”([viii])

يُقسَّم العملُ ما بين هذه المكاتب الثلاثة بحيث يُفترَضُ بالمدافع عن الشعب أن يراقب التزام الدولة بحقوق الإنسان؛ ويُركِّزُ النائبُ العامُّ أكثر على مقاضاة انتهاك المواطنين للقانون؛ وأخيراً، يراقب أمينُ المالِ العامُّ الفسادَ وإدارةَ الماليةِ العامةِ إدارةً صحيحة.

أما ما يتعلق بالفرع الخامس، الفرع الانتخابيّ، فيتألَّفُ من المجلس الانتخابيِّ الوطنيِّ، الذي ينظم ويراقبُ حُسنَ إجراء الانتخابات. وهو مسؤولٌ مبدئياً عن انتخابات الدولة، لكنَّ في إمكانه أيضاً أن يراقبَ انتخاباتِ منظمات المجتمع المدني، كالنقابات، مثلا، إما بطلبٍ منها أو من المحكمة العليا.

تُعيِّن الجمعيةُ الوطنيةُ كبارَ أعضاء كلٍّ من الفرع القضائيِّ والمواطنيِّ والانتخابيِّ، عقب توظيفٍ عامٍّ ومقابلاتٍ وتصويتٍ في الجمعية الوطنية. أما قضاةُ المحكمة العليا، فتنتخبهم الجمعية الوطنية لاثني عشر عاماً، بحسب قانون المحكمة العليا الجديد والمثير للجدل، الذي ينصُّ على أنه إذا لم يُنتخَب القاضي بأغلبية الثلثين في الانتخابات الثلاثة الأولى، فالأغلبيةُ البسيطةُ تكفي. وفي حالة كبار الممثلين الثلاثة في السلطة المواطنية، تختارهم الجمعية الوطنية بأغلبية الثلثين لسبع سنين. فإن لم تُبلَغْ أغلبيةُ الثلثين خلال ثلاثين يوما، يُعرض انتخابهم للاستفتاء العام. ولا يستطيع القضاة ولا أعضاء السلطة المواطنية أن يخدموا مدةً تزيد على فترة واحدة.([ix])

الهيئة التشريعية

كان أكبرُ تغيير في الهيئة التشريعية تحويلَها من نظامٍ ذي مجلسين شبيهٍ بالكنغرس الأمريكي إلى مجلسٍ واحدٍ شبيهٍ بالجمعية الوطنية الفرنسية. أما الفكرةُ وراء هذا التغيير ففي أن فنزولا كانت تحتاج إلى هيئة تشريعية تكون أكثرَ تجاوباً مع حاجات البلاد بقدرتها على سنِّ القوانين بسرعة. غير أن النقادَ زعموا أن التغيير يمالئُ مركزيةَ الحكومة بإلغائه مجلسَ الشيوخ، الذي كان يضمُّ عددا متساويا من ممثلي كل ولاية، كما هو الحال في الولايات المتحدة تماما. ومن ناحية عملية، لم تكن الجمعية الوطنية بمجلسها الأوحد أسرعَ في إقرار القوانين من الهيئة التشريعية القديمة. ففي أثناء النزاع الشديد مع المعارضة، من عام 2001 إلى عام 2004، كان المجلسُ التشريعيُّ متأخراً جداً في برنامجه. غير أن السبب وراء هذا يكمنُ في ألاعيبِ المعارضةِ التعويقيةِ التي كانت تحولُ دون الانتهاء من مناقشة القوانين.

الرئاسة

لعلّ أحدَ أكثرِ المواضيعِ إثارةً للجدل في الدستور الجديد كان منصبَ الرئاسة. فقد أصرَّ تشافيز على زيادة فترة الرئاسة من خمس سنواتٍ إلى ستٍّ وعلى السماح للرئيس أو الرئيسة بإعادة الانتخاب فورا. ففي السابق، لم يكن يُسمحُ للرئيس بالترشح لإعادة انتخابه فورا، لكنه كان يستطيعُ ذلك بعد ما لا يقلُّ عن عشر سنوات. وكان هذا ما جعل رفائيل كَلْديرا وكارلس أندريز بيرِز يخدمان مرتين كرئيسيين، كل منهما في عقودٍ مختلفة من تاريخ فنزولا.([x]أما فكرة تشافيز حول تمديد ولاية الرئيس والسماح بإعادةِ انتخابه فوراً، فكانت أن مُهمَّةَ إعادة بناء فنزولا كبيرةٌ إلى درجةِ أنّ ولايةً واحدةً من خمس سنواتٍ غيرُ كافية. وغالبا ما كان تشافيز يقول إن المُهمَّةَ ستستمرُّ حتى سنة 2021 أو 2030، وهو ما قاد الكثرةَ من خصومه إلى اتهامه بالرغبة في البقاء في المنصب حتى ذلك الحين. وبينما أنكر تشافيز مثل هذه الاتهامات في البداية، فإنه منذ وقت مبكر من العام 2006 غيّر موقفَه واقترح تعديلا دستوريا يسمح بإعادةِ انتخاب الرئيس عددا غير محدودٍ من المرات. وبعد إعادة انتخابه في 3 كانون الأول 2006، أعلن تشافيز أنه ينوي الترشحَ للرئاسة مرة أخرى في كانون الأول 2012. وكما سوف يُناقَش في الفصل الأخير، إن مثل هذه الخطط تقوِّضُ مباشرةً مساعيَ إنشاءِ حركةٍ اجتماعيةٍ تقدميةٍ معتمدةٍ على نفسها وقادرةٍ على متابعة اشتراكية القرن الحادي والعشرين بفضل قوة أفكارها وليس بسبب قوة شخصية تشافيز.

دور الدولة في الاقتصاد

يرى بعضُ المحللين أنّ الدستورَ الجديدَ يمنحُ الحكومةَ دوراً أكبر بكثير من الدستور السابق.([xi]) والحقيقة أن الفصل السادس من الدستور، حول “النظام الاجتماعي الاقتصادي”، ينصُّ على أن الدولة مسؤولة عن تعزيز الصناعة الوطنية، والزراعة، والفروع الأخرى المختلفة، كصيد السمك، والتعاونيات، والسياحة، والأعمال الصغيرة، والحرف، إلخ. ويبدو أن تعزيز التنوع في النشاط الاقتصادي يُظهر إدراكاً لمشكلة فنزولا أن اقتصادَها يحتاجُ إلى التنويع حتى يبقى متماسكاً في المدى البعيد. مع هذا، فسوى التزام الدولة بتعزيز مجالات الاقتصاد المختلفة، لم يُذكَرْ نوع النظام الاجتماعي الاقتصادي أو حتى صفاته العامة، بالرغم من عنوان الفصل.

العصيان المدني

حين كُتب الدستور لأول مرة، لم يُعَرْ كبيرُ انتباهٍ للفصل المتعلِّقِ بالعصيان المدني. غير أنه، عقب محاولة انقلاب نيسان 2002، اعتمدت المعارضةُ كثيراً على المادتين 333 و350 لتبرير أعمالِها المثيرةِ للتساؤلِ أو المخالِفةِ للقانون، زاعمةً أن هاتين المادتين تمنحان المواطنين حقَّ العصيان المدني. كذلك، في أثناء إضراب الصناعةِ النفطيةِ في كانون الأول 2002، أشار مدراءُ الصناعةِ النفطيةِ إلى هاتين المادتين لتبرير إغلاقهم هذه الصناعةَ.

تنصُّ هاتان المادتان أساساً على أنّ المواطنين مُلزَمون بإعادة توكيدِ قابليةِ الدستورِ للتطبيق إذا خالفت الحكومةُ الحاليةُ الدستور. بيد أنه بينما جنحت المعارضةُ إلى استخدام تعبير العصيان المدني، الذي له معنىً مستقرٌّ طويلاً في سياق الكفاح لأجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وغيرها، فالدستور إنما يستخدمُ التعبيرين “الالتزام بإعادة تأكيد صلاحية الدستور” (المادة 333) و”شعب فنزولا … يتنصَّلُ من أيِّ نظام حكم، أو تشريع، أو سلطةٍ تُناقضُ القيم، أو المبادئ، أو الضمانات الديمقراطية، أو تُخلُّ بحقوق الإنسان” (المادة 350). وهكذا قال المحامي الدستوري المناصر لتشافيز، كارلُس إسْكاريا، إن أيا من هاتين المادتين لا تسمحُ بمخالفة القوانين وإن التنصُّلَ من “نظام الحكم” أو إعادةَ إنشاء النظام الديمقراطي يجب أن يبقيا ضمن الإطارِ الذي وضعه الدستور.

الانتقاد الشائع للدستور

إحدى الاتهاماتِ الشائعةِ والجديةِ لدستور العام 1999 أنه يُعزِّزُ دورَ الجيشِ في المجتمع الفنزولي. ولعلَّ أهمَّ ما في هذا الأمر أنه بدل أنْ توافقَ الهيئةُ التشريعيةُ على ترقيةِ العسكريين، أُنيطت المهمةُ مباشرةً بالقواتِ المسلحةِ وحدَها. يزعمُ النقاد أن من شأن هذا أنْ يضعَ الجيشَ مباشرةً في خدمةِ الرئيسِ وبرنامجِه السياسيِّ لأنَّ له نفوذاً كبيراً في الجيش.([xii] وهم يقولون تحديداً إنّ تشافيز مهتمٌّ بجيشٍ يدعمُ برنامجَه السياسيَّ وإنَّ من يفعلون ذلك [من العسكر] هم وحدَهم من يُمنحون الترقيات. كذلك منحَ الدستورُ الجديدُ مُنتسبي الجيشِ حقَّ التصويتِ، وهو ما كان في السابقِ محظوراً عليهم لإبقائهم بعيدين تماماً عن السياسة. وقد عزَّزت حكومةُ تشافيز هذه التغييراتِ الدستوريةَ ببعضِ تغييراتٍ إدارية، كوضع حوالي 200 ضابطٍ عاملٍ على مستوياتٍ متباينةٍ في مؤسساتٍ حكوميةٍ مختلفةٍ. كذلك أُمر الجيشُ بوضع خططٍ لمكافحةِ الفقرِ والقيامِ بتطبيقها، مثل “خطة بوليفار 2000”.

كثيراً ما يقول تشافيز إنَّ أحدَ العناصرِ الرئيسيةِ في برنامجِه السياسيِّ ينطوي على مراجعةِ العلاقةِ ما بين الشعبِ والجيش، بحيث يقومُ الجيشُ بعملٍ مفيدٍ في المجتمعِ يتجاوزُ الدفاعَ العسكريَّ المجرَّدَ، مستفيداً من مواردِه الضخمةِ للمساعدةِ في حلِّ المشاكلِ الاجتماعيةِ، على أساس أنَّ الدفاعَ عن البلدِ لا ينبغي أن يقتصرَ على هجومٍ عسكريٍّ، بل يجبُ أن يكونَ أيضاً ضدَّ الفقر والظلم. أما المنتقدون فيقولون إن المجتمعَ المدنيَّ، نتيجةً لسياسات تشافيز، قد أصبح “مُجيَّشا” أكثر. بل وصل الأمرُ ببعضِهم أن قال إنّ الحكامَ الحقيقيين في فنزولا هم العسكريون، وليس تشافيز. وعلى العكس من هذا، يقول تشافيز وأنصارُه إنّ الجيشَ قد غدا أكثرَ “مدنيةً” في مُهماته. وقد قال تشافيز إنَّ هذه العمليةَ تستند إلى مبدأ “الوحدة المدنية العسكرية” (unidad civico-militar).

لكنْ، كيف للمرءِ أن يرى أنّ المجتمعَ المدنيَّ أصبح مُجيَّشا أكثرَ أو أن الجيشَ غدا أكثرَ مدنيةً؟ من المؤكد، في كلا الحالين، أنّ الفصلَ الصارمَ بين القطاعاتِ العسكريةِ والمدنيةِ قد طُمس. وأحدُ الدلائلِ على أنّ الجيشَ لا يُهيمنُ على الحكومة، لذلك أصبحَ أكثرَ مدنيةً بدل العكس، أنّ تشافيز، لأول مرةٍ في تاريخ فنزولا، قد عيَّن أحد المدنيين وزيراً للدفاع، هو خوسيه فيسِنْتِه رانجِل. كذلك، بينما يوجدُ لدى تشافيز الكثيرون من الضباط العسكريين المتقاعدين يعملون بنشاطٍ في مهماتٍ تنطوي عليها برامجُ حكومتِه وعقيدتُها (مثل ديوسْدادو كابِلُّو، وهو نائب سابق لتشافيز والآن حاكم لولاية ميرَنْدا)، لا يزال معظمُ هذه المهمات خاضعاًً للمدنيين. أما الضباطُ العاملون، فمسؤولون على الأغلبِ عن أعمالٍ إداريةٍ لدى حكومة تشافيز.([xiii])

هناك مجالٌ آخرُ لانتقادِ دستور 1999 في أنّ السلطةَ الرئاسيةَ فيه مركزيةٌ حتى أكثرَ من دستور 1961 المتمحور حول الرئاسة. أما السلطاتُ الرئاسيةُ المتزايدة، فتشملُ صلاحيةَ حلِّ الجمعيةِ الوطنية، عقب التصويت بعدم الثقةِ ثلاثَ مراتٍ بثلثَيْ أعضاءِ الجمعيةِ الوطنية، وإعلانَ حالةِ الطوارئ، وحريةَ تسميةِ الوزراءِ ومجالاتِ مسؤولياتهم،([xiv]) وتمديدَ فترةِ ولايةِ الرئيسِ من خمسِ سنواتٍ إلى ستّ، والسماحَ بإعادة انتخابه فورا.([xv])

بينما زيد بعضُ الصلاحيات الرئاسيةِ بشكلٍ واضح، على المرء ألا ينسى أنّ الدستورَ يوازنُ بين هذه الصلاحياتِ بزيادةِ سلطةِ المواطنين عبر استطاعتِهم الدعوةَ إلى استفتاءٍ شعبيٍّ لتغيير الدستور، ونقضِ القوانين، وإلغاءِ ولايةِ الرئيس. أضف إلى ذلك وجودَ وسائلَ عديدةٍ أخرى لزيادةِ مشاركةِ المواطنين، كالقيامِ بها عبر مجالسِ التخطيطِ المحليِّ، وتسميةِ القضاة، وعبر ما يُسمَّى “أمانةَ المال الاجتماعية” (contraloria social). وعلى عكسِ الرئيسِ الأمريكيِّ، لا يستطيعُ الرئيسُ الفنزوليُّ أن ينقضَ القانونَ أو أنْ يُسمِّيَ قضاةَ المحكمةِ العليا.