عبداللطيف مهنا
خمس وستون ذكرى نكبوية آخرها غشتنا هذه الأيام . وهاهم المنكوبون يلاقون آخرها كما لاقوا سابقاتها … من الجد ، الذي عاش بدايتهن ، إلى الحفيد ، الذي تغشاه الأخيرة ، مروراً بالأب ، الذي كابدهن … هنا شعب عصي على الإنكسار ، لم ولن يستسلم . أهوال المعاناة المديدة وصروف العذابات العديدة والت صناعة أجيالٍ يتخطى لاحقها بتضحياته وابتكاراته النضالية سابقه . لما قارب الثلثا قرن ومسلسل هذه الذكرى الزائرة بما تحمله معها من مذاقٍ نكبويٍ يلاقيها المنكوبون بصمودهم العنيد الذي غدا من تفاصيل ما حوته أسفار تلكم الملحمة الفلسطينية جداً …
خمس وستون ذكرى نكبوية مرت حتى الآن ، ومخيمات الإنتكاب الحزينة حتى العظم ، والمتناثرة على تخوم الوطن المسلوب المنكوب ، وديارالشتات القريب والبعيد ، ومغتربات المنافي والمهاجر ، ظلت الحصن المنيع والرحاب الأنفس الأقدس للذاكرة الفلسطينية الحية ، المسطرة حروفها النورانية الدامعة بالدم على ألواح الزمن الظالم … ظلت حاضنةً رؤوماً يفيض مددها الثر باعثاً هذه الملحمة النضالية المستمرة بمحطاتها الكفاحية المسترسلة المتتالية …
خمس وستون ذكرى نكبوية تتخطى في قدومها الأخير إنكسارات وقيامات ، ثورة وانحرافات ، هبات وانتفاضات ، محارق ومواجهات … ومفتاح البيت معلق على شواهد بؤس مخيمات اللجوء . إذ ليعلم القاصي والداني ، العدو والصديق ، والشقيق المضيف والغريب المتفرِّج ، أن لا بديل لفلسطين إلا فلسطين ، وحتام حتام العودة لها ، من بحرها إلى نهرها … وحق العودة ، المسطَّرة آياته غير القابلة للتصرف بدماء الأجيال ، والمنقوش هدفه في الروح ، والكامن توقه في الوجدان ، قاهر للزمن ، صامد في حقب الإنحدار والإنحطاط ، عصي على التفريط والمساومات والتنازل … أبديته أقضت مضاجع الطارئين الغاصبين ، هو فوبياهم القاتلة الناهشة لدغل كيانهم المفتعل والمدجج الهش … والأم الفلسطينية ولاَّدة … كانت الذكرى النكبوية الطازجة الأولى قد مرت على ما ينوف على المليون منهم بقليلٍ ، وها هى اليوم تمر وقد تعتقت سنونها الرهيبة وقد بات شعب الشهادة ماناف على الأحدعشر مليوناً بكثيرٍ …
خمس وستون ذكرى من نكبةٍ عربيةٍ في فلسطين العرب حوَّلت أثقالها وأوزارها وابتلاءاتها الفلسطنة إلى هويةٍ نضاليةٍ وليست زمرة دمٍ ، وقالت إنما لايواجه قدومها إلا بإما فلسطين أو فلسطين … وهي إذ تقرع أجراسها الدورية الحزينة المنذرة ، تذكِّر من غشت أبصارهم وماتت كرامتهم فوهنت عزائمهم ، واستمرأوا ذل الدونية فساقتهم إلى درك الخنوع والتبعية ، بأن النكبة كانت ولازالت ليست الفلسطينية فحسب ، وإنما هى عربية عربية عربية من المحيط إلى الخليج ، كما لامهرب من مسؤلية استمرارها ، ولامنجاة لأحدٍ من تداعياتها ، وأولهم من دفن رأسه تحت أردية الأعداء أو تدثربها ، وثانيهم من توسلهم حلولاً تخلصه من عبئها … يقول التاريخ الذي لا يرحم ، وتؤكد الجغرافيا التي تقرر إن للخلاص بوصلة واحدة فحسب هى فلسطين …
خمس وستون ذكرى نكبوية عربية في فلسطين ، مرت آخرها فلاقاها سواد الأمة بإما فلسطينها أو فلسطينها … ولاقاها عرب جامعة الزمن الرديء وأحقاب العار والإنحدارات بتنازلات “بلير هاوس” المهينة ، و الغزاة الصهاينة يردون على مكرمة المتنازلين التفريطية المشينة ، وعلى المناسبة الحزينة ، بهوجةٍ تهويديةٍ غير مسبوقة الزخم ، واستباحات كرنفالية لأولى كعبتيهم وثالث حُرمهم الشريفة ، بعد أن التهمت غوائل التهويد الزاحف أكناف بيت مقدسهم ، وصموا آذانهم عن وامعتصماه شقيقةٍ ظلت تقرع أبوابهم لخمسٍ وستين ذكرى نكبوية مرت … ثبَّتوا في رحاب ” بليرهاوس” تحت الجناح الأميركي التهويد ، فرد المهوِّدون المزدرون لهم ، وعلى طريقتهم المعتادة ، ردوا على تحيتهم التنازلية هذه بماهو بالنسبة للصهاينة أحسن منها … ردوا عليها إهمالاً وتهويداً !
خمس وستون عاماً نكبوياً ، وذكريات نكبوية معتَّقة تترى تسوطنا دورياً بسوطها. تذكِّر كل من غشت ابصارهم وفقدوا بوصلتهم وتاهوا في أوهام التسويات التي يستدرونها كلما فطمتهم أو لطمتهم .غاصوأ حتى العنق في أوحال مخططات التصفيات الجهنمية … تذكِّرهم أن جميع نكبات الأمة في مشارقها ومغاربها ، ولثلثي قرن أوما يقارب ، إنما تناسلت وستتناسل من نكبة فلسطين … قالت وتقول لهم ، إنه لامن منجاةٍ من عقودكم النكبوية المضطردة ، ولا من نهوضٍ أوقيامةٍ للأمة المقهورة ، بدون استعادتها لفلسطينها … وقالت :
إنما العجز والدونية ، فالخنوع والتبعية ، فالتواطوء ، وإدارة الظهر للقضية ، التي كانت وستظل ، وشاء من شاء وأبى من أبى ، القضية المركزية للأمة ، كل هذه المصائب ، فرادى ومجتمعة ، هى النكبة المستدامة وتعادلها … أجل تعادل نكبة فلسطين ، التي هى أم النكبات العربية جميعاً ومفتاح خلاص ألأمة وانعتاقها منها … فلسطين هى البوصلة ولا من سبيلٍ لفلسطين سوى المقاومة ، وإما فلسطين أو فلسطين …