العميد الدكتور امين محمد حطيط
عندما اعلنت المنظمة الصهيونية العالمية قيام “دولة اسرائيل” على مساحة تزيد عن نصف فلسطين التاريخية في 15 ايار من العام 1948 و اسمته يوم الاستقلال ، اعتبر العرب ان هذا اليوم يوم نكبة ، نكبة تمثلت بضياع ارض عربية و تهجير اهلها و تهدد الامة بجسم غريب زرع في قلبها ، لكن النكبة تلك كانت براي الموضوعيين من المتابعين بحجم يمكن استيعابها واحتوائها و العمل على التفلت منها و استعادة الارض و اعادة الاهل الى الديار ، و كانت من العلامات الايجابية في هذا السعي ما قام به العرب يومها و رغم انها لم تؤد الى نتائج ايجابية ملموسة و مؤثرة ، كانت المقاطعة و المحاصرة و اعتبار قضية فلسطين قضية الامة العربية كلها و ان الصراع هو صراع وجود بين هذه الامة و اجنبي يعتدي عليها و يسعى الى اذلالها وتركيعها و مصادرة ثروتها .
و عندما احتلت اسرائيل في العام 1967 ما تبقى من ارض فلسطين التاريخية من البحر الى النهر بما في ذلك قطاع غزة الذي كان تحت ادارة مصرية و الضفة الغربية لنهر الاردن التي كانت قد الحقت بامارة الهاشميين شرقي النهر من اجل تكوين مملكتهم الاردنية ، احتلال تسبب بتهجير المزيد من الفلسطينين و تحويلهم كاسلافهم الى لاجئين في مخيمات اقيمت في العام 1948 على عجل و” بشكل مؤقت” باعتبار ان العرب يومها انطلقوا في حرب الانقاذ ، لكنها لم تنقذ يومها حبة تراب واحدة و لم ترجع الى بيته فلسطني واحد ، وهكذا كان العام 1967 بعد ذلك عام تراكم الفاجعة و النكبات و مزيد من الانهيار العربي ، و توسع صهيوني على حساب الكرامة و الحق العربي .
نكبة تلت نكبة حتى باتت النكبة – الهزيمة مرادفا للسلوك العربي في مواجهة الحركة الصهيونية التي انتجت مع الغرب الاستعماري اسرائيل ، و التي تستمر في خطها الصاعد على حساب العرب عامة و الفلسطنيين خاصة . و في ظلمة هذه الاحداث و بعد ان كان جمع من الفلسطنيين اتجه الى الاعتماد على الذات بتكوين خلايا مسلحة لخوض حرب تحرير شعبية ، اعتبارا من العام 1965 ، و جد هذا الجمع بعد ان انضم اليه اخرون ، ان الطريق الى فلسطين لن تكون عبر قصور الملوك العرب و مكاتب رؤسائهم ، كما انها لن تسلك بنجاح عبر الجيوش العربية و الانظمة العربية بشتى عناوينها ، و ان الطريق الفاعل الموصل الى الهدف حتى و لو طال المسير ، لا تكون الا عبر المقاومة الشعبية التي تتوجه لضرب العدو في اماكن اغتصابه ، ضربا متصاعدا يفسد عليه عليه امنه فيوقف الهجرة الى فلسطين ، و يفسد عليه اقتصاده فيحمل على الهجرة المعاكسة ، و يفسد عليه الحياة في كل مكان وجد عليه في فلسطين فيحمله على الرحيل و اعادة الارض الى اصحابها .
كانت المقاومة الفلسطنية التي بدأت تحت عنوان الفدائيين و عنوان العمل الفدائي – اختير الاسم هذا للتدليل على صعوبة المهمة والاستعداد للتضحية بالنفس من اجلها – كانت هذه المقاومة وشكلت بصيص نور في النفق العربي المظلم ، و لاجل ذلك صفقت جماهير الامة العربية لها وايدتها و امدتها بكل ممكن و متاح و الزمت الانظمة العربية الرسمية بان تؤازرها حتى و لو لم تكن مقتنعة بها او مقتنعة بجدواها او حتى مع خشيتها منها … لكنها قدمت لها الدعم و المؤازرة كل على صعيده حتى تطور الموقف الى حد ان بعض الانظمة العربية غالات في الدعم الى ان اسست فصائل مقاومة ترتبط بها مباشرة و تستند اليها في كل ما تحتاجه في العمل المقاوم …
لكن عهد الامل و العنفوان هذا لم يدم طويلا ، و كانت الاخطاء المشتركة بين المنظمات الفدائية الفلسطنية و بعض الانظمة العربية سببا لتحويل وجهة البندقية ، و قبل ان تمضي 5 سنوات على انطلاق المقاومة اندلعت شرارة المواجهة بين السلاح الفلسطيني و الجيش الاردني وكان ايلول الاسود 1970 في الاردن الذي جاء للفلسطنيين بالنكبة الثالثة ، حيث اخرجوا من الاردن و قيدت حركة من تبقى منهم هناك الى ان بات و كانه تحت الاقامة الجبرية ، و انتقل السلاح الفلسطني الى لبنان و لم يطل العهد به حتى كان احتكاك فانفجار بينه و بين الجيش اللبناني ، ثم بينه و بين جزء من الشعب اللبناني – اليمين المسيحي – و كانت مواجهة طالت و طالت حتى مهدت الطريق لاسرائيل للدخول الى لبنان و انزال النكبة الرابعة بالفلسطنيين بطرد مقاومته وابعادها الى تونس حتى لا يكون لهم الى فلسطين طريق فاعل و آمن .
نعم مع العام 1982 كانت النكبة الاكبر حتى حينه التي تحل بالقضية الفلسطنية ، نكبة كانت ذات وجوه سياسية و استراتيجية و عسكرية ميدانية ، تمثلت بصلح مصر- السادات واستسلامها امام اسرائيل و خروجها من الصراع العربي الاسرائيلي خروج يسجل علانية لاول مرة من قبل دولة عربية ، و خروج المقاومة من ميدان القتال و التأثير على اسرائيل التي انقلبت بعد قلق و خوف الى حال من الطمأنينة و الثقة بمستقبلها و دورها المتنامي في المنطقة .
و لكن النبض الشعبي العربي و الفلسطني لم يستسلم انذاك و بعد سنوات قليلة كانت الانتفاضة الفلسطنية و كان انطلاق حركات مقاومة فلسطنية في الداخل الفلسطني تحت عناوين اسلامية هذه المرة ( الجهاد الاسلامي و حركة المقاومة الاسلامية “حماس”) و كما شكلت انطلاقة المقاومة الاولى في العام 1965 رافعة معنوية للقضية الفلسطنية ، جددت انطلاقة مقاومة الداخل هذه الرافعة و الامل العربي و الفلسطني و الاسلامي بالقدرة على استعادة فلسطين واقامة العدل على ارضها …خاصة و ان دولة مؤثرة اقليميا دخلت على خط الصراع ووسعت دائرة الرافضين لوجود اسرائيل في المنطقة ، حيث كانت الجمهورية الاسلامية في ايران مكونا هاما من مكونات الدعم و الاسناد للمقاومة ضد اسرائيل .
استطاعت مقاومة الداخل ان تحتل سريعا مركزا مؤثرا على الصعيد الاستراتيجي في المنطقة ، و تنامت الى القدر الذي فرضت فيه على اسرائيل الخروج من قطاع غزة و تسليمه للسلطة التي كانت انشأتها اتفاقات اوسلو المعقودة في العام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطنية و اسرائيل و هي الاتفاقات التي نظرت اليها اسرائيل على انها الطريق الى تصفية القضية الفلسطنية بما يناسب الحركة الصهيونية ، و حولتها المقاومة الفلسطنية ذات الطابع الاسلامي الى طريق تقلب فيه التهديد و الخطر الى فرصة و امل .
لقد كان الانسحاب من غزة عاملا مشجعا للسير في طريق المقاومة ، و محفزا للقوى الداعمة لتلك المقاومة من اجل مواصلة العمل و تصعيد المواجهة ، و لكن الفرح لم يطل و كانت النكبة الخامسة الجديدة الخطرة و التي تمثلت بصراع فلسطني فلسطني بين تيار السلطة التي تخلت عن المقاومة و تيار المقاومة التي نظرت الى مسألة السلطة بانها اداة لتفعيل المقاومة . خلاف استراتيجي بين الفريقين الفلسطنيين الاساسيين ادى الى مواجهة و قطيعة لم تفلح كل محاولات رأب الصدع التي دارت على ما يقارب العقد من الزمن ، لم تنجح في ردمها و باتت ” عبارة المصالحة الفلسطنية ” هدفا من الاهداف الاستراتيجية التي يؤكد عليها و تتكرر في كل محفل وعلى كل شفة و لسان و لكنها تبقى كلاما لا يجد طريقه الى الميدان .
اما النكبة الكارثة و التي تعتبر الاخطر من كل ما ذكر من نكبات وويلات و هزائم ، فقد كانت في السنتين الاخيرتين ، نكبة تمثلت بانشقاق بعض مقاومة الداخل عن ذاتها و الالتحاق بمحور عربي عميل للصهيونية و الغرب ، يسعى الى تصفية القضية الفلسطنية كما تريد الصهيونية ، ويريد اعتبار اسرائيل جزء رئيسي من بلاد الشام يتكل عليه في مواجهة خطر مزعوم “يتهدد العرب من بوابتهم الشرقية” – على حد ما اقنعهم و زرع في ذهنهم الاستعمار المتجدد – هو ” الخطر الفارسي و الخطر الشيعي ايضا” ..
نعم ان النكبة- الكارثة التي حلت بفلسطين هي النكبة السادسة التي نعيش نعيش فصولها اليوم والتي هي من طبيعة استراتيجية تكاد تقضي على الحلم و الامل ، خلافا لكل النكبات السابقة التي كان فيه ضياع للحق و استمرا للامل انها نكبة اليوم ، ذات طبيعة اخرى بدأت ملامحها تتجلى في تبرع عربي بمبادلة الاراضي من اجل تشريع المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية ، كما سيتجلى بما هو ادهى عبر ما يحضر له من اعتراف بيهودية الدولة – “دولة اسرائيل”- ما يعني الترخيص و منح الحق لاسرائيل بان تطرد مليون و نصف المليون عربي من الذين استمروا في ديارهم منذ العام 1948 …
ان النكبة الاخطر تجري فصولها الان ، بعد ان حضرت بيئتها عبر ما نسميه الحريق العربي ويسميه الصهاينة الربيع العربي لانه ربيع لهم سيوصلهم الى ما يريدون كما خططوا وتوقعوا ، ولا مخرج من هذه النكبة القاتلة الا في وقف النار العربية و بشكل خاص في سورية وهي النار التي اضرمها عرب ومتطرفون باوامر صهيونية و غربية واميركية ، و عبر العودة الى ميدان المقاومة و قد فتحت لها جبهة جديدة الان في الجولان – و التخلي عن كل ما يعرض من اغراء وترغيب على طريق التصفية و الاستسلام . و من غير مقاومة حقيقة لا انقاذ لحق مغتصب و لا محافظة على حق مهدد بالاغتصاب .
فهل يستقيظ من يعنيه الامر و يعود الى ساح المقاومة و يعود محورها الذي لن يترك السلاح ولن يستقر له قرار قبل استعادة كامل الحقوق في فلسطين ؟
:::::
جريدة البناء بتاريخ 1652013