“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

تتمة الفصل الثاني

 

سياسة الحُكم:

الدستور والقضاء والجيش والديمقراطية التشاركية

فذلكة القول

هناك إجماعٌ في فنزولا وبين المراقبين الأجانبِ على أنّ لدى فنزولا الآن أحدَ أكثرِ دساتيرِ العالمِ “تقدما”. لكنْ، ما الذي يعنيه هذا؟ إنه يعني، لمن يمتدحون الدستورَ عموماً، أنه يُهيِّئُ الفرصةَ لمشاركةٍ شعبيةٍ واسعة، جاعلا فنزولا ذاتَ “ديمقراطيةٍ تشاركية”، بدل محضِ ديمقراطيةٍ تمثيلية. كذلك يُقدِّمُ الدستورُ أشمل حمايةٍ لحقوقِ الإنسانِ من أيِّ دستورٍ آخرَ في العالم. كما أن انطواءه على حمايةٍ خاصةٍ للمهمَّشين تقليدياً، كالنساء والسكان الأصليين، وعلى حماية البيئة يجعله أحدَ أشملِ الدساتير وأكثرها استجابةً لحاجات الضعفاء. كذلك فإن وضع العدالة على قدم المساواة مع حكم القانون يُمهِّدُ الأرضية لعدالة اجتماعية أكبر. أخيراً، إن إيجاد فرعين للحكومة جديدين مستقلين، فرعِ الموطن وفرعِ الانتخابات، يوقفُ حمايةَ حقوق الإنسان والانتخاباتِ الحرةَ النزيهةَ على أرض أصلب.

يُسرعُ المُتشككون في مدى أهميةِ دستورِ فنزولا الجديدِ في تحوُّلِ البلادِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ فيُثيرون مسألةَ أنّ معظمَ البلادِ التي تبنَّت اشتراكيةَ الدولةَ كان عندها دساتيرُ “متقدمة” تنطوي على حمايةٍ واسعةٍ لحقوقِ الإنسانِ والرفاهِ الاجتماعيِّ، لكنَّ هذا لم يكنْ ليعنيَ عملياً إلا القليلَ لرفاه مواطني هذه الدول و/أو لتوافرِ فرصِهم السياسية. وفي نهاية المَطاف، يكمنُ في ثقافةِ البلدِ السياسيةِ الفرقُ بين دستورٍ مطبَّق حقيقةً وآخرَ ليس سوى محضِ شكلياتٍ على ورقٍ. فلو أن المؤسسات، والمواطنين، والزعماءَ السياسيين، ومسؤولي الدولة، يلتزمون بروح الدستور، كجزء من نظرةِ الناس للعالم ومن ثقافتهم السياسية، فسيكون الدستور مهما جدا، لأن انتهاكَ القانونِ سيُضبَطُ ويحالُ للمحكمة. وهذا الأمرُ مناسبٌ خاصةً وبالطبعِ لأداء القضاء. لكنْ، إن كانت ثمة ثقافةٌ سياسيةٌ يُعتدَى فيها بانتظامٍ على القانون، ويؤوَّلُ القانون بما يُجرِّدُه من روحِه، كما كان حالُ اشتراكيةِ الدولة، يصبح الدستورُ على الأغلبِ بلا معنى.

بالنظر إلى ما ورد أعلاه، ما نوع الثقافةِ السياسيةِ والقضاءِ في فنزولا؟ كمعيارٍ للثقافةِ السياسيةِ والالتزامِ بحكمِ القانونِ، يُمكنُ المرءَ أن يأخذَ “مؤشّرَ إدراكِ الفسادِ” في فنزولا، كما قاسته منظمةُ “الشفافية الدولية”،([i]) حيث تقع فنزولا في الدرجة الـ114 منها، أي أنها إحدى أكثرِ دول العالمِ فسادا، أي في المنزلة عينِها التي تتبوّأُها الكنغو، وهندوراس، وأوزبكستان، وزمبابوي. وهذه، بالطبع، محضُ ملاحظاتٍ بين قادة الأعمال، الذين يتأثَّرون كثيراً بوسائل الإعلام الخاصة المعارضة.

هناك معيارٌ آخرُ للفسادِ وحكمِ القانونِ في فنزولا يتجلَّى في المسحِ الذي أجرته مؤسسة “لاتينوبارومِترو”،([2]) والذي وَجد عام 2005 أن الفنزوليين يمنحون بلدَهم علاماتٍ أعلى مما يفعلُ زملاؤهم الأمريكيون اللاتينيون إزاء بلدانهم. ففي مقياسٍ من 1 إلى 10، حيث يكون الرقم 1 استخفافا كاملا بالقانون والرقم 10 التزاما كاملا بحكم القانون، صنّف الفنزوليون بلدَهم بدرجة 5.8، وهو أعلى من معدل البلدان الأمريكية-اللاتينية البالغ 5.1. وقد كانت أورُغواي الأعلى بترتيبٍ بلغ 6.3، تلتها كوستاريكا، فكولمبيا، فتشيلي، ففنزولا. أما في المؤخرة، فكانت البرازيل (4.4)، وبيرو، وبارَغواي، والإكوادور (3.9).([ii])

مع ذلك، لعلَّ من العدلِ القولَ إنّ الفسادَ وعدمَ احترامِ حكمِ القانونِ منتشران جدا في فنزولا، مما لا يبشِّرُ بالخير للدستور الجديد. فمحاولةُ انقلابِ نيسان 2002، وما تلاها من تعليق العمل بالدستور، وقبولُ طائفةٍ كبيرةٍ من الناسِ هذه الأعمالَ إنما يزيدُ من تعزيز الانطباع بأن الثقافةَ السياسيةَ في فنزولا متقلبةٌ في الغالب ولا يُعتمدُ عليها فيما يتصل بحكم القانون.

بالرغم من المشاكلِ التي تتأتَّى عن الثقافةِ السياسيةِ في فنزولا وما تتضمنُّها من معانٍ حول فعاليةِ الدستور، لم يكنْ دستور 1999 عبثا. وهناك جانبٌ آخرُ مهمٌّ لثقافةِ فنزولا السياسيةِ يتمثلُ في الاحترام الشديدِ الذي يكنُّه فقراءُ البلاد للدستور. كما يستطيعُ من يزورُ فنزولا أن يلاحظ أن الدستورَ يباعُ في كُتيِّبٍ (5سم×10سم تقريباً) في كلِّ زاويةٍ من زوايا الشوارع تقريبا. وفي التظاهرات المؤيدةِ للحكومةِ، يُلوِّح به المتظاهرون كأنه رايةُ حزبِهم. كذلك، في مجموعاتِ الدراساتِ السياسيةِ المؤيدةِ للحكومةِ (كالحلقات البوليفارية)، يقرأ الناسُ الدستورَ ويدرسونه. لكننا لا نستطيع قولَ هذا الشيءِ عن دستور 1961، الذي لم يقرأه قطُّ سوى قلةٍ قليلةٍ من الناس. بتعبير آخر، أصبح دستورُ 1999 أكثرَ من “محض” دستور. إنه مشروعٌ سياسيٌّ يرغبُ أنصارُ تشافيز في أنْ يحملوا المجتمعَ إلى الأخذ به. في الكلماتِ التاليةِ يعبِّر عن هذا الأمر رولَنْد دِنِس، أحدُ قدماءِ المنظمين السياسيين في أحياء فقراء كاراكاس ومساعدٌ سابق لوزير التخطيط المحلي:

لم يكن عندنا منظمةٌ ثوريةٌ مركزيةٌ حقيقيةٌ، بل حركةُ تمردٍ واسعةٌ – أولا تمردُ الجماهيرِ [عام 1989] ثم تمردا الجيش [اثنان عام 1992]، وقد كانت هذه متغايرةً جدا ومشتتةً ومتشظية. والذي وحَّدها كان مشروعَ تطويرِ قاعدةٍ جديدةٍ، دستورٍ جديد. وما من أحدٍ ، حتى تشافيز، كان قادراً على مركزةِ برنامجِ هذه الحركة. كانت قيادتُه ولا تزالُ غيرَ متنازَعٍ عليها، لكنّ أفكارَه لم تكن كافيةً لتجميعِ أشتاتِ الحركة. لكنَّ الدستورَ يسدُّ هذه الفجوة. إنه برنامجٌ سياسيٌ، وفي الوقتِ عينِه يؤدِّي غرضَ الإتيانِ بإطارٍ للعملية. ما كان هذا الدستورُ مجردَ نصٍّ ميت. بل إنه يعكس قيماً ومبادئ. لعله ليس كافيا، وقد ينبغي إصلاحُه، وقد لا نكونُ في حاجة إليه للعمليةِ الثوريةِ لاحقاً. لكنه حالياً يحملُ وظيفةَ “كُتيِّبِ ماو الأحمر”. إنه يمثِّلُ مطالبَ الحركةِ الشعبيةِ الواسعةِ وأهدافَها.([iii])

من وجهةٍ مثالية، طبعاً، لا ينبغي للدستورِ أنْ يكونَ برنامجاً سياسياً، بل يجبُ أن تكونَ مطالبُه وشروطُه حقيقةً اجتماعيةً، لا شيئاً يُكافَحُ من أجله. لكنْ، بالنظرِ إلى أنّ الدساتيرَ وحكمَ القانونِ أنظمةُ حكمٍ علاقةُ الفنزويليين بها رخوةٌ نسبيا، ومثلُهم الكثرةُ من شعوبِ أمريكا اللاتينية عموما، فالأفضلُ أن يوجَدَ دستورٌ يهدفُ الناسُ إلى جعلِه حقيقةً من وجودِ واحدٍ يتجاهلُه الناسُ في تطبيقِه الحاليِّ والمستقبليِّ على السواء. وإذ يبدو عديمَ القيمةِ دستورٌ لا يكونُ حقيقةً عمليةً واقعيةً، تماماً كما كان الحالُ في الاتحادِ السوفييتيِّ، فليس الأمرُ عديمَ القيمةِ إذا كانت عامّةُ الناسِ تكافحُ جادَّةً لجعلِه حقيقة. ففي فنزولا، نجدُ أن تلك الطائفةَ من الناس النشيطةَ سياسياً، أكانت من المعارضة أم من مناصري الحكومة، تستعملُ الدستور حقاً، كما قال رولند دِنِس، كشيءٍ ينبغي جعلُه حقيقة.

الإصلاح القضائي

من كلِّ المؤسساتِ العامةِ في فنزولا، لعلَّ السمعةَ الأسوأ تاريخياً تنحصرُ في نظامِها القضائيِّ. تقولُ دراسةٌ أجرتها “لجنةُ المحامين لأجل حقوق الإنسان”:

في كثيرٍ من الوجوه، كان القضاءُ يرمزُ إلى كلِّ ما أصبحَ سيئاً في نظامِ فنزولا السياسي. ذلك أن جذورَ الأزمة في القضاءِ تتشابكُ مع عدة مجالات: التدخلِ السياسيِّ، والفسادِ، وإهمالِ الدستور، وحرمانِ القطاعِ الواسعِ من الشعب الفنزولي من الوصولِ إلى العدالة.([iv])

في بواكير تسعينات القرن العشرين، عرض البنك الدولي أن يساعدَ النظامَ العدليَّ في فنزولا، مانحاً بهذا أولَ قرضٍ يُقدِّمُه البنكُ لهذا النوع من العمل. بيد أنه، بسبب الاضطرابِ السياسيِّ في تسعينات القرن العشرين، ومحاولاتِ الانقلاب عام 1992، وتوجيهِ اتهامات تُجرِّحُ الرئيس كارلُس أندريز بيرِز، ورفضِ الرئيس رفائيل كَلْديرا التعاملَ مع البنك الدولي، لم يأتِ شيء قطُّ من خططِ الإصلاح لدى البنك.

حين انتُخب تشافيز، بدأت الحكومةُ برنامجَ إصلاحٍ كبيراً، مُصلحةً به النظامَ القضائيَّ، مع الدستور الجديد، إصلاحاً جذريا. من المنظور الشرعيِّ، أصابَ التغييرُ القضاءَ بحيث جعلَه الدستورُ الجديدُ أكثرَ استقلالاً من فروع الحكومة الأخرى. أي أنّ النظامَ القضائيَّ برمتِه أصبح تحت سيطرةِ محكمةِ العدلِ العليا. كذلك وُضعت في المقام الأول متطلباتٌ أصعبُ لمرشحي القضاء، كالاستماع لرأيِ الشعبِ وتحديدِ حدِّ أدنَى من سني الخدمةِ في مهنةٍ شرعية. أخيراً، ولكي لا تُستعملَ قوةُ الموازنةِ لدى السلطةِ التشريعيةِ للضغطِ على القضاء، أصبح القانونُ الجديدُ الذي يُنظِّمُ عملَ القضاءِ (Ley Organica del Poder Judicial) يفرضُ تخصيصَ نسبةٍ ثابتةٍ من موازنةِ الحكومةِ الكليةِ تلقائياً للقضاء.

للتغلُّبِ على الأُطرِ والقُضاةِ الحالييين، وأغلبُهم فاسدون، شكَّل تشافيز، بتوجيهٍ رئيسيٍّ من أحدِ مستشاريهِ الأقربين، لويس مِقْْوِلينا، “لجنةَ إعادةِ بناءِ القضاء”، كان عليها مراجعةُ جميعِ مناصبِ القضاءِ في البلادِ وتبديلُ القُضاةِ حيث تقتضي الضرورة. وقد رحّبت الأغلبيةُ الواسعةُ من السكانِ بحركةِ تشافيز لإصلاحِ القضاءِ. غير أن عبءَ عملِ هذه اللجنةِ وقلةَ أعضائها بما يصعبُ ضبطُه، حال عملياً دون مراجعةِ مستوى جميعِ القُضاةِ مراجعةً دقيقة. فاتُّفِقَ، بدلَ ذلك، على مبدأ عمليٍّ، كأن يُستغنَى تلقائياً عن خدمةِ كلِّ قاضٍ لا تزالُ في ملفِّه ثماني اتهاماتٍ بالفسادِ أو أكثر. والنتيجةُ أنّ زهاءَ 80% من القُضاةِ صُرفوا من الخدمة خلال وقتٍ قصيرٍ جدا، أغلبُهم خلال سنة 2000.

لاستبدالِ القُضاةِ المصروفين من الخدمة، عيَّنت لجنةُ إعادةِ البناءِ قُضاةً مؤقتين، لعدم توافرِ الوقتِ الكافي لمراجعةِ التعييناتِ الجديدةِ مراجعةً شاملة. وعند نهاية العام 2000، كان حوالي 70% من قُضاةِ منطقةِ العاصمة (ولايات كاراكاس، وميرندا، وفارغَس)([v]) مؤقتين. وقد قاد هذا، بالطبع، إلى اتهامٍ ذي مصداقيةٍ كبيرةٍ أن القُضاةَ الجددَ سيكونون مدينين أكثرَ للساسةِ المحسنين لهم، أي تشافيز ومِقْْوِلينا، من القُضاةِ السابقين، لأن القُضاةَ المؤقتين يمكن صرفُهم بقرارٍ إراديٍّ إلى حدٍّ ما. من ذلك أن “لجنةَ المُحكَّمين الأنديزية” قالت في تقريرها السنويِّ حول النظامِ القضائيِّ الفنزولي، “من المبكِّرِ الاستنتاجُ بأن المؤسساتِ التي تشكِّلُ جزءاً من النظامِ القضائيِّ في فنزولا مستقلةٌ ذاتيا.”([vi]) بعبارةٍ أخرى، يكمنُ الشكَّ في أنّه بدل إصلاحِ النظامِ القضائيِّ إصلاحاُ حقيقياً لتحسينِه، اقتصر الإصلاحُ على تبديل قضاةِ الحزبِ الحاكمِ السابقِ بقضاةٍ موالين للحزبِ الحاكم الجديد.

يبدو أنّ السببَ الرئيسيَّ في عدم تقدُّم المسعى الإصلاحيَّ في البداية أن المحكمةَ العليا كانت منقسمةً سياسياً بالتساوي (10 مع تشافيز و10 معارضين)، بحيث أنها لم تتخذ قراراتٍ واضحةً لإعادة هيكلة القضاء. وحتى حين ردّت المحكمةُ الاتهاماتِ ضدَّ ضباطِ الانقلابِ في آب 2002، شعر أنصارُ تشافيز بأنَّ المحكمةَ العليا كانت في جوهرها مع محاكمة الانقلاب، بالرغم من انقسامِها حول الوسط. وقد كانت الأحداث في البلاد خلال هاتين السنتين، من آب 2002 حتى آب 2004، مليئة بالنشاط وبجمودٍ كبير في الجمعيةِ الوطنية، وبذلك لم يكن في الإمكانِ عملُ شيءٍ إزاء المحكمة. مع هذا، استطاعت الجمعية الوطنية، في وقت مبكر من عام 2004، أن تُغيّر بعضَ قواعدها، بحيث استطاعت بسهولة أكبر أن تنهي النقاش في الجمعية وتمرِّر مزيدا من القوانين. وقد كان قانونُ المحكمةِ العليا الذي استحقت مناقشتُه منذ زمنٍ طويلٍ أحدَ القوانين الموجودة على رأسِ قائمةِ الأغلبيةِ المؤيدةِ لتشافيز في الجمعية الوطنية،([vii]) وقد مُرِّر أخيراً في أيار 2004، بعد سنة ونصف السنة من قراءته الأولى.

أخيراً، بعد نيفٍ وأربعِ سنواتٍ من مساعي الإصلاحِ الأولى، وفي وقتٍ مبكر من عام 2005، وتحت نفوذِ محكمةٍ عليا موسعةٍ حديثاً، ولهذا غير مشلولة، أعلن رئيسُها، عمر مورا، أنه سيُبدَأُ بمساعي إصلاحٍ جديدة. أما الهدفُ الأوليُّ من هذه المساعي الجديدة، فسيكون تحويلَ القضاة المؤقتين إلى دائمين. وبالرغم من الاتهامات الجارية بالتسييس،([viii])أحرز مسعى مورا الإصلاحيُّ بعضَ التقدم عام 2005، بحيث قُلِّص عددُ القضاةِ المؤقتين مع نهاية العام إلى 40%، وعُيِّن الآخرون تعييناً دائما. ومع نهاية العام 2006، قُلِّصت نسبةُ القضاة المؤقتين إلى 20%.

غير أن قانونَ المحكمةِ العليا للعام 2004 ربما أصبح أحدَ أكثرِ القوانينِ إثارةً للجدل منذ تمرير الـ49 مرسوماً قانونيا سنة 2001. فقد انتقدته بشدة كلٌّ من المعارضةِ، ومراقبةِ حقوقِ الإنسانِ، والحكومةِ الأمريكية، قائلين إنه كان “قانون رصّ المحكمة”. والسببُ الرئيسيُّ في وصفِ هذا القانون هكذا أنه زاد عددَ قضاةِ المحكمةِ العليا من 20 قاضياً إلى 32. وبإضافة 12 قاضيا للمحكمة، كانت الأغلبيةُ المناصرةُ لتشافيز في الجمعيةِ الوطنيةِ قادرةً على ترسيخِ أغلبيةٍ صلبةٍ مؤيدةٍ له في المحكمة. أما الردُّ على توسيعِ المحكمةِ بهذه الطريقة، فكان أن المحكمةَ كانت مرهقةً بأكثرَ مما تتحمل، لهذا كانت في حاجةٍ إلى مزيدٍ من القضاة لتولي بعضَ أعباءِ العمل.([ix])

كان أحدُ أسبابِ قدرةِ الأغلبيةِ الضئيلةِ المؤيدةِ لتشافيز تعيينَ قضاةٍ جددٍ من دون تقديمِ تنازلاتٍ للمعارضةِ ذاتِ علاقةٍ بشرطٍ آخرَ مثيرٍ للجدلِ في قانونِ المحكمةِ الجديد يقضي بأن أغلبيةَ الثلثين للموافقة على القضاة الجدد مطلوبةٌ فقط في الدورات الثلاث من التصويت. فإن لم تُبلَغْ أغلبيةُ الثلثين في التصويت الثالث، يُوافقْ على القضاةِ الجددِ بتصويتٍ رابعٍ بالأغلبيةِ البسيطة (50%+1). والمتوقَّعُ أن الاثني عشر قاضياً جديداً قد ووفقَ عليهم بالأغلبيةِ البسيطةِ، وقد سُمُّوا جميعاً من قبل الائتلاف المناصر لتشافيز في الجمعية الوطنية.

هناك إجراءٌ ثالثٌ للقانونِ الجديدِ يقضي بأنّ في إمكانِ الجمعيةِ الوطنيةِ أنْ تُنهي عملَ القضاةِ بأغلبيةٍ بسيطةٍ في بعض الظروف. وفي العادة أنّ تجريحَ القاضي، كاتهامه بارتكاب جريمة، كان يتطلبُ أغلبيةَ الثلثين. غير أن القانون الجديد يقول إنه تحت ظروفٍ معينةٍ، كأنْ يكذبَ القاضي فيما يتعلق بمؤهلاتِه لمنصبِ القضاء أو أنْ يُهاجِمَ “هيبةَ” المحكمة العليا، يمكنُ الجمعيةَ الوطنيةَ أن تُلغي تعيينَ القاضي. وحدها المحكمةُ العليا تستطيع، عندئذٍ، إبطالَ مثلِ هذا القرار.([x])

ردَّ النقاد بالقول إنّ قانونَ المحكمةِ العليا الجديدَ لم يقتصرْ على “رصِّ” المحكمةِ، بل إن الشرط الأخيرَ المذكورَ أعلاه سوف يؤثرُ بشكل خطير على استقلالِ المحكمة. فبالنظر إلى أن الدستورَ يُحدِّد عدمَ إمكان صرفِ القاضي من الخدمة إلا إذا اتُّهم من قبل الفرع المواطني (النائب العام، والمدافع عن حقوق الإنسان، وأمين المال العام) ثم أُتبع ذلك بتصويتٍ بأغلبية الثلثين في الجمعية الوطنية، يبدو أن شرط القانون لصرف القاضي من الخدمة مخالفٌ للدستور. وحسبَ إجراءاتِ تمريرِ القوانين “العضوية” (القوانين المستندة إلى الدستور)، ينبغي على الدائرة الدستورية في المحكمة العليا أن تُعلنَ أنّ هذا الشرطَ لإلغاء منصبِ القضاء مخالفٌ للدستور، لكنّ ذلك لم يحدث حتى كتابةِ هذه السطور. على كلِّ حال، هذه مشكلةٌ خطيرةٌ لاستقلالِ المحكمةِ العليا في فنزولا، إذا كان في الإمكان صرفُ القضاةِ بالأغلبيةِ البسيطةِ من قبل الجمعية الوطنية.

فيما يتعلق بإضافة اثنيْ عشرَ قاضياً بالأغلبية البسيطة أيضاً، يُعدُّ ذلك تأسيساً لسابقةٍ خطيرة، لكنه، فنياً، ضمنَ إطار فنزولا الشرعي. أي أن السابقةَ المُحدَثَةَ تُلخَّصُ في أنه كلما وُجدت محكمةٌ تعارضُها الهيئةُ التشريعية، استطاعت نظرياً أن تُضيفَ إليها قضاةً لكسبِ أغلبية مؤيدة. على المرءِ أن يذكرَ أن الرئيسَ الأمريكيَّ فرانكلن روزفلت حاول ذات مرةٍ أنْ يفعلَ الشيءَ عينَه بالمحكمةِ العليا، لكنه قوبل بالصدِّ من عامة الناس. ومنذ ذلك الحين، لم يعد الأمرُ عمليا قابلاً للتفكيرِ به في الولاياتِ المتحدةِ لغايةِ زيادةِ العددِ في المحكمةِ بغيةَ تغييرِ ميزانِ القوة فيها. على الجانب الآخر، إذا حاول الضباطُ العسكريون الأمريكيون القيامَ بانقلابٍ ضدّ الرئيسِ الأمريكيِّ وأطلقت المحكمة العليا سراحهم، فمن المحتمل تماماً أن تحاول أغلبيةٌ في الكنغرس مضادةٌ للانقلابِ أنْ تغيِّر ميزانَ القوى في تلك المحكمة.

لهذا يمكنُ المرءَ أن يقولَ، كما يفعلُ أنصارُ تشافيز عموما، إن محكمةَ فنزولا العليا جاءت بسابقةٍ خطيرةٍ حين ردّت القضيةَ ضدَّ منظمي انقلابٍ واضحِ المعالم، خاصةً في وصفِه بأنه لم يكن انقلاباً. فقد شرَّع حكمُها هذا الحصانةَ لتمردٍ يبتغي قلبَ حكومةٍ منتخبةٍ دستوريا. لهذا أصبح السؤالُ حول السابقةِ الأشدِّ خطورة، أتلك التي تسمحُ بحدوثِ انقلابٍ من غير عقابٍ أم التي تُصلحُ محكمةً متعثرةً “برصِّها”.([xi])

كانت النتيجةُ الفوريةُ لدى المحكمةِ العليا أنْ قررت الدائرةُ الدستوريةُ الموسعةُ حديثاً في تلك المحكمة إعادةَ النظرِ في القضيةِ المرفوعةِ على كبارِ الضباطِ المتورطين بالانقلاب. ففي 11 آذار 2005، قرّرت الدائرةُ الدستوريةُ إبطالَ القرارِ الصادر في 14 آب 2002، معلنةً أن المحكمةَ برمتها قد خالفت الدستورَ حين ردّت القضية لأن اثنين من قضاة المحكمة قد أُعفيا من الاشتراك في القضية، وما كان ينبغي إعفاؤهما. وعلى الفور أعلن النائبُ العام، إسياس رُدْريغِز، أن قضية جديدةً سوف تُفتح ضدَّ أولئك الضباط، غير أن الأمرَ هذه المرة لن يتطلَّب محاكمةً أولية أمام كاملِ أعضاءِ المحكمةِ العليا لأن المتهمين لم يعودوا ضباطاً عاملين في الخدمة. كذلك، بحسب رُدْريغِز، فإن إجراءَ محاكمةٍ جديدةٍ لا يُخالفُ القوانين المانعة للخطورة المزدوجة، لأن المحاكمة الأولى كانت محاكمةً أوليةً لا عادية.

الجيش

دور الجيش في حكومة تشافيز

منذ تولَّى تشافيز منصبَه عام 1999، أصبح الضباطُ العسكريون يقومون بدورٍ رئيسيٍّ في شغل المناصبِ المهمةِ في حكومته. ففي جميع مرافق حكومة تشافيز ضباطٌ لا يزالون في الخدمة، وكذلك متقاعدون، يخدمون كوزراءَ، ومساعدي وزراء، ورؤساء شركات تملكها الدولة. فمن بين 61 وزيراً خدموا في حكومة تشافيز من 1999 إلى 2004، كان 16 وزيراً (أي 26%) ضباطاً عسكريين.([xii]) كذلك دعم تشافيز انتخابَ الضباطِ المتقاعدين للعديدِ من مناصبِ الحكامِ الإداريين أو رؤساء البلديات. وبعد الانتخاباتِ المحليةِ للعام 2004، كان اثنان وعشرون من بين أربعةٍ وعشرين حاكما إدارياً ينتمون لمعسكر تشافيز. من هؤلاء تسعة (41%) لهم خلفيةٌ عسكرية.

حين سُئل تشافيز عن هذا الوجودِ الكبيرِ من الضباطِ العسكريين في حكومته، أجاب بأن السببَ الرئيسيَّ عدمُ وجودِ مدنيين مؤهَّلين يدعمون مشروعه. أي أن هناك كثيراً من المدنيين المؤهَّلين وكثيراً من المدنيين الذين يؤيدون تشافيز، لكنَّ الأغلبَ الأعمَّ أن لا خبرةَ لمعظمِ المدنيين الذين يؤيدونه في إدارةِ مؤسساتِ الدولةِ الكبيرةِ المعقدة. نتيجةً لذلك، أخذ تشافيز يستفيدُ من العسكريين لأنهم، نظرياً على الأقل، على مستوىً من التدريبِ والخبرةِ في إدارةِ المؤسساتِ الكبيرةِ بكفاءةٍ، كما أن لشافيز فكرةً معقولةً عمَّن يمكنه الوثوقُ بهم من العسكريين.

استثار وجودُ هذا العددِ الكبيرِ من العسكريين في كل مستوياتِ الحكومةِ كثيراً من الانتقادِ من قبل المعارضة، حتى أن بعضَها قال إن حكومةَ تشافيز حقيقةً ليست سوى حكومةٍ عسكريةٍ مُقنَّعة. بيد أن تشافيز قال إن على نظامِ التعليم العالي في فنزولا أن يُعِدّ مزيداً من المدنيين القادرين على العمل في الإداراتِ العامة، وحين يكون الحالُ هكذا، سوف يُوظَّفُ المزيدُ منهم. ويُفتَرَضُ عموماً أن تقومَ جامعةُ فنزولا البوليفارية بدور مهمٍّ في هذا الإعداد، خاصةً أنها تُعَدُّ جامعةً مناصرةً لتشافيز.

العلاقة المدنية-العسكرية والسياسة العسكرية

بعيداً عن توظيفِ ضباطٍ عسكريين في حكومةِ تشافيز، وهو ما يبدو عسكرةً للمؤسساتِ المدنية، هناك ميلٌ أقوى كثيراً نحو “مَدْيَنَةِ” الجيش. أي أنه، تحت إمرةِ تشافيز، اضطلع الجيشُ بمهماتٍ مدنيةٍ أكثرَ مما اعتاد عليه من قبل قط. مَثَلُ ذلك أنّ أحدَ مشاريع تشافيز الأولى لتخفيفِ حدةِ الفقر كان تأسيسَ “خطة بوليفار 2000″، التي كانت في جوهرها مهمةً مناطةً بالجيش لاقتراح مشاريعَ تساعدُ في مكافحة الفقر.

لقيت الخططُ تأييداً شعبياً واسعاً وساهمت في شعبية تشافيز مبكِّرا، خاصةً بين الفقراء. غير أنّ الشائعاتِ أخذت، بعد وقتٍ قصير، تنتشرُ حول ضعفِ مراقبةِ الموازناتِ وأنّ الخطةَ كانت تشجِّعُ على كثير من الفسادِ في الجيش. أخيرا، نشر أمينُ المالِ العامُّ، الذي كان متحالفاً مع المعارضةِ في ذلك الوقت، تقريراً اتهم فيه الكثيرين من الضباط بشبهةِ الفساد. وقد أقيل العديدُ من الضباط من مناصبهم عقب تحقيقات داخلية. بيد أن ظلالاً من الريبةِ بقيت حول الخطة كلها.

أُنهيت الخطةُ بحلول سنة 2002، وبعد محاولة الانقلاب وإغلاق صناعة النفط في تلك السنة، حلّت محلَّها خططٌ أخرى، هي “البعثات”، في منتصف عام 2003. وإذ لقيت هذه البعثاتُ بعضَ المساعدةِ من قبل الجيش، كانت في معظمِها برامجَ تُدارُ مدنيا وتختلفُ عن “خطة بوليفار 2000”.

يدورُ منطقُ تشافيز في هذه البرامج، كخطة بوليفار 2000، حول “الوحدة المدنية العسكرية.” ففي عدةِ خطاباتٍ له، كان يشيرُ إلى أنّ الوحدةَ ما بين المدنيين والقواتِ المسلحةِ تشكِّل بعضَ أهمِّ ما يؤمن به. وحين يُشير إلى ذلك، غالباً ما يقتبس عن ماو تسي تُنْغ قوله، “إن الشعبَ للجيش كالماء للسمك.”([xiii]) بعبارةٍ أخرى، لا يمكنُ الجيشَ أنْ ينفصلَ عن الشعب، بل يجبُ أنْ يكونَ جزءاً لا يتجزّأ منه. وما انفصالُ الجيش عن المدنيين، حسب تشافيز، إلا اصطناعٌ يُمكِّنُ الجيشَ من كبتِ أنفاسَ المدنيين، كما يقفُ حجرَ عثرةٍ في طريق تطور البلاد. على فنزولا أن “تنأى بنفسِها عن مثل هذا التقسيم المصطنع الذي يتحوَّلُ أحياناً إلى عقبةٍ كأداءَ في تطور البلادِ وفي عمليةِ التوحيدِ الوطني.”([xiv]) بمقولةٍ أخرى، يقول تشافيز إنه يريدُ “مشاركةَ القواتِ المسلحةِ في تطوير البلاد ومشاركةَ المجتمعِ المدنيِّ في تطوير القوات المسلحة.”([xv])

هذه الأجندةُ في السياسةِ تعني عملياً شيئين: أولا، مشاركةَ الجيشِ المذكورةَ أعلاه في الواجباتِ المدنيةِ عادةً، كما في “خطة بوليفار 2000” وفي “البعثات”. فقد شارك الجيشُ مشاركةً كبيرةً في عملياتِ الإنقاذِِ خلالَ الانهيارِ الطينيِّ في ولاية فارغاس عام 1999.([3]) كما يتمثَّلُ الوجهُ الآخرُ من الوحدة المدنية-العسكرية في مشاركةِ المدنيين في المهماتِ العسكرية. ويُعبِّرُ هذا عن نفسِه مباشرةً في تعبئةِ الحكومة للاحتياطيين العسكريين. ذلك أن زهاء 93,500 احتياطيٍّ عسكريِّ تُعبِّؤهم “بعثةُ ميرندا”، المسماةُ باسم الجنرال فرانكو دي ميرندا، الذي قاتل في سبيل استقلال فنزولا في وقتٍ مبكرٍ من القرن التاسعَ عشر. وقد أعلنت الحكومةُ عام 2005 أن لديها 85 ألفَ احتياطيٍّ عسكريٍّ، 5 آلاف منهم من الحرس الوطني، و1,500 من البحرية.([xvi])

بالإضافةِ إلى “بعثةِ ميرندا”، أعلن تشافيز في 4 شباط 2005، في الذكرى السنويةِ الثالثةَ عشرةَ لمحاولةِ انقلابِه عام 1992، أنّ حكومتَه سوف تُعبِّئ “وحداتِ دفاعٍ شعبيةً” بأحجامٍ مختلفة تُنظَّمُ حسبَ المنطقة ومكانِ العمل. والمقصودُ من هذه الخطةِ الجديدةِ أنْ تكونَ تطبيقاً لـ”الخطةِ الإستراتيجيةِ الجديدة” ذاتِ النقاطِ العشر التي أعلن عنها تشافيز بُعيد الانتخاباتِ المحلية في 31 تشرين الأول 2004.([xvii]) وستوضعُ هذه الوحداتُ تحت إمرةِ تشافيز مباشرة. أما الهدفُ المنويُّ بلوغُه بتجنيدِ هؤلاء الاحتياطيين فافتُرضَ أولَ الأمر أنْ يكونَ مليون فنزولي، ثم مُدِّد لاحقاً إلى مليونين.

تدلُّ تعليقات تشافيز حول تلك الوحدات على أنّ الغرضَ منها التحضيرُ لغزوٍ أمريكيٍّ مُحتملٍ و”حربٍ غير متناسقة”.([xviii]) وهو ينمُّ مباشرةً عن تخوُّفٍ من غزوٍ أمريكيٍّ لفنزولا بات حقيقةً واقعةً بين أنصار تشافيز. لهذا بدأت الكثرةُ تستعدُّ بنشاطٍ لمثل هذا الاحتمال، مرحبةً ترحيباً كبيراً بمبادرةِ تشافيز لإنشاءِ وحداتٍ دفاعيةٍ شعبيةٍ لهذا الغرض. بيد أن محللي المعارضة ردوا بأنّ وحداتِ الدفاعِ الشعبيةَ إنما هي خطوةٌ أخرى صوبَ تحويلِ فنزولا إلى كوبا ثانيةٍ لأنها تُذكِّرُهم باللجانِ الكوبية للدفاع عن الثورة.

هناك غايةٌ أخرى للجيش تُوسِّعُ فكرةَ حكومةِ تشافيز حول الوحدةِ المدنيةِ-العسكريةِ مُتمثلةٌ في دورٍ يقومُ به لضمانةٍ لا تقتصرُ على أمنِ البلادِ بالدفاع عنها ضدَّ تهديداتٍ خارجيةٍ، بل تتعداها إلى ضمانةِ أمنِ الفنزوليين في الحصولِ على الطعام والسكن. أي أن المقصودَ توسيعُ فكرةِ الأمنِ ليضمَّ رفاهَ الشعبِ عامةً لا سلامتَه الجسديةِ وحدَها من هجومٍ خارجيّ. كما يعكسُ فكرةَ الأمنِ الموسعةَ هذه قانونُ القواتِ المسلحةِ الجديد،([xix]) الذي يقتضي أنْ يكونَ للجيش الفنزولي دورٌ فاعلٌ في تأمينِ التطورِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ في البلاد.

واضحٌ أنّ المعارضةَ في فنزولا قد كرَّرت مهاجمةَ فكرة تشافيز حول الوحدة المدنية-العسكرية، مُتَّهمةً إياه من حيث الجوهرُ بعسكرة المجتمع الفنزولي. مع هذا، بالمقارنة بالعامين 1989 و1992، حين أعلن الرئيس كارلس أندريز بيرز الأحكامَ العرفية، وعلَّق العملَ بالدستور، ونشرَ الجيش في كلِّ زاويةٍ في الشوارع، نرى أنّ الجيشَ اليوم، ذاتيا على الأقلِّ، نادراً ما يتواجدُ في المجتمع الفنزولي. بدل ذلك، يمكنُ القولُ بقوةٍ إن تشافيز، بدل عسكرةِ المجتمع المدني، إنما يُمدين الجيش. أما إن كان هذا التذويبُ للحدودِ ما بين الجيشِ والمدنيين فكرةً جيدةً، فسؤالٌ فلسفيٌّ واسع. وبالنظر إلى تاريخِ القمعِ العسكريِّ في أمريكا اللاتينية، الذي كان ممكنا إلى حدٍّ كبيرٍ بسببِ انفصام الجيش عن الحياة المدنية، فقد يكون فكرةً جيدةً جعلُ الحدودِ غيرَ واضحةِ المعالم لصالح المجتمع المدني.

لكنّ هناك قضايا أخرى انتقدتها المعارضةُ الفنزولية تتعلَّقُ بالسياساتِ العسكريةِ التي تتبعُها حكومة تشافيز، والتي تشتملُ غالباً على مركزيةٍ أكبرَ في إصدارِ الأوامرِ العسكرية، وتقليلٍ للسيطرة والمراقبة المدنيتين، واستقلالٍ أكبر للجيش. مَثَلُ ذلك أن دستورَ العام 1999 غيّرَ القواتِ المسلحةَ الوطنيةَ (بالجمع) في فنزولا إلى قوةٍ مسلحةٍ وطنية مفردة. وقد كانت الفكرةُ وراء ذلك ربطَ الأجنحةِ المختلفة، سلاحِ الجوِّ، والبحرية، والحرسِ الوطني، والمشاةِ في قوة واحدة خاضعةٍ لقيادةٍ أكثرَ مركزية. أما الخطورة، بحسب النقاد، فتكمنُ في أن جيشاً أكثر اتحاداً سيكون في موقعٍ أفضلَ للتنسيقِ والضغطِ على الحكومةِ المدنية. وهناك تغيرٌ آخرُ جاء به دستور العام 1999 أنْ تُقرَّرَ الترفيعاتُ داخلَ الجيشِ وحدَه، وليس في الهيئة التشريعية، كما كان الحال سابقا. وهذا أيضاً يزيد من استقلال الجيش عن المدنيين.

أخيراً، يقول النقاد إن تشافيز قد سيَّس الجيشَ بسبب النفوذِ الذي يُمارسه على قوائم الترفيع، وبطريقةٍ غير مباشرةٍ من خلال الاستقطاب العامِّ الذي حدث في البلاد، والذي يميل إلى إجبار الناس على الانحياز إلى طرفٍ ما. أما أنصار تشافيز فيردُّون بأنه يحتاجُ إلى ضبط قوائم الترفيع (وبهذا إلى تسييسها) بسبب نزوع بعض الضباط إلى التآمر عليه. بعبارةٍ أخرى، إن السؤال عينه المطروحَ أصلاً في المجتمع الأكبر مُتعلقٌ أيضاً بالجيش: هل الاستقطابُ الموجودُ داخلَ الجيشِ ناتجٌ عن حكم تشافيز الذي لا يُهادِنُ أو أنه ناتجٌ عن عدم رغبةِ المعارضةِ في قبول تشافيز رئيساً منتخَباً ديمقراطياً وقائداً أعلى؟

بالإضافة إلى تسييسِ الجيشِ واستقطابِ الحكومةِ والمعارضةِ له، لا بدَّ للمرء من أن يأخذَ في الاعتبار أنّ للجيش الفنزولي تاريخاً في الانقسام، كما بينّا من قبل. كذلك يقولُ محللو المعارضة إنّ الكثيرين في الجيش الفنزوليِّ مستاؤون من مطالبتِهم بالقيام بواجباتٍ مدنية. على الجانب الآخر، يقول مناصرو تشافيز إنه قد رفع سمعة الجيش لأن الناس لأول مرة ترى الجنود يُستخدمون في واجباتٍ عملية. أي أن تشافيز قد برّأ دور الجيش الفنزولي على أثر فقدانه المروِّعِ لسمعته في أعقاب مجزرة 1989 الوحشيةِ (كَركازو).([4]) كذلك، لما كان تشافيز نفسُه ينتمي للجيش،([xx]) فإن معظمَ الجنودِ يشعرون بالولاء له.

مجملُ القول إن هناك ميولاً متناقضةً بشكل واضح فيما يتعلق بسياسة حكومة تشافيز العسكرية. فمن ناحيةٍ، هناك اتجاهٌ واضحٌ نحو مشاركةٍ عسكريةٍ متزايدةٍ في المهمات المدنية ومشاركةٍ متزايدة للمدنيين العاديين، من خلال الاحتياطيين العسكريين، في المهمات العسكرية. بهذا يكون الجيش حقاً قد تَمَدْيَنَ، على شكلِ تغلغلٍ مشتركٍ ما بين المدنيين والجيش في شؤون بعضهما. ومن ناحيةٍ أخرى، هناك اتجاه نحو مركزية السيطرة العسكرية واستقلالها، بحيث يكون للرئيس مزيدٌ من السيطرة على الجيش، من خلال قوائم الترفيع وإخضاع الاحتياط لمظلةِ الرئيس. هذا يعني أنه ما دام الرئيس يدعم “مَدْيَنَةَ” الجيش، وهو ما يفعله تشافيز بوضوح، فهذا ما سيكون عليه الاتجاه السائد. بيد أنه، ما أن يوجد رئيس معارض لهذا العمل، سيواجه الجيش خطر أن يصبح مرة أخرى قوة معزولة عن بقية السكان. أي أن التغييراتِ الإيجابيّةَ التي أقامها تشافيز داخل الجيش لا تكاد تتمأسس بما يكفي لتجاوز مزاج الرئيس كائناً من كان. في المقابل، ينبغي على السياسة التي تسعى لضمان مشاركة المواطنين في كل مستويات الدولة ومؤسساتها، ومنها الجيش، أن تفحصَ كيف تستطيع مأسسةَ الديمقراطية في هياكل القيادة العسكرية، بحيث تضمن مشاركةَ المواطنين في جميع مناحي الدولة، ومنها الجيش.

الديمقراطية التشاركية

“إن مشاركة الشعب في تكوين الإدارة العامة، وتنفيذها، والسيطرة عليها هي الوسيلةُ الضروريةُ لإنجاز المشاركة التي تضمن تطورها الكامل، فرديا وجماعيا. وواجب الدولة والمجتمع تسهيل إيجاد أفضل الظروف لتنفيذ هذا الأمر.”

المادة 62، دستور جمهورية فنزولا البوليفارية

بالرغم من سوء مأسسةِ المبادئ التشاركيةِ في الجيش، يشيرُ المدافعون عن المشروع البوليفاري في فنزولا إلى نظام فنزولا الجديد، الجمهورية الخامسة، على أنها “ديمقراطية تشاركية وريادية”. قد لا تكون دقيقةً ترجمةُ كلمةِ “ريادية” (protagonica)، لكنها تعني القولَ إنه لا يُفترَضُ بالمواطنين الاكتفاءُ بالمشاركةِ في العمليةِ الديمقراطيةِ، بل عليهم القيام بدورٍ (رياديٍّ) نشط. ولكنْ، لمَ هذا التركيزُ على المشاركة وكيف وأين تتجلَّى في نظامِ الجمهوريةِ الخامسةِ السياسيّ؟

نظرية الديمقراطية التشاركية

لكي يفهمَ المرءُ لماذا يُشدِّدُ مناصرو المشروع البوليفاري كثيراً على الجانبِ التشاركيِّ من ديمقراطيتِهم، فإنه يحتاجُ لمعرفة كيف يفهمون الديمقراطية التمثيلية. فالديمقراطيةُ التمثيليةُ، بالنسبةِ إلى الحركةِ البوليفاريةِ، هي ذلك النوعُ من الديمقراطيةِ التي كانت سائدةً في الجمهوريةِ الرابعةِ قبل دستور العام 1999، والتي تعني إقصاءَ المواطنين العاديين فلا يُشاركون في شؤونِ البلادِ السياسية. ذلك أنّهم قد يُصوِّتُون مرةً واحدةً كلَّ خمس سنوات، ثمَّ لا يُتوقَّعُ منهم أنْ يتدخَّلوا في السياسة. وحسب هذا التحليل، كانت النتيجةُ أن يغدو السياسيون أحراراً فيما يفعلون، طالما أنه لا يوجد من يراقبهم. وهذا ما جعل الفسادَ وإساءةَ استخدام السلطة نتيجةً حتميةً للديمقراطية التمثيلية.

يُعبِّرُ “جلاءُ الأسباب” في الدستور لإقامةِ ديمقراطيةٍ تشاركيةٍ عن فكرةِ الديمقراطيةِ التمثيليةِ هذه وتحسينِها بالديمقراطية التشاركية كما هو آت:

“يستجيبُ هذا التنظيم [المساندُ للديمقراطية التشاركية] للمطامحِ المحسوسةِ لدى المجتمعِ المدنيِّ المنظم، الذي يُجاهدُ لتغيير الثقافة السياسية التي أنتجتها هذه العقودُ العديدةُ من أبويَّةِ الدولةِ وهيمنةِ زعماء الأحزاب، والتي أعاقت تطوير القيم الديمقراطية. بهذا المعنى، لا تقتصرُ المشاركةُ على العملية الانتخابية، لأن الحاجةَ إلى تدخل الشعب تُدرَكُ في عملية تكوين السياسة العامة ووضع صيغتها وتنفيذها، وهو ما سيؤدِّي إلى التغلب على مثالب الحكم التي أثَّرت في نظامنا السياسيِّ بسببِ غيابِ الانسجامِ بين الدولةِ والمجتمع.

إن فهمَ الإدارةِ العامةِ كعمليةٍ يتأسسُ فيها التواصلُ السلسُ ما بين الحكم والشعب يوحي بتعديلٍ في تكيُّف العلاقات ما بين الدولة والمجتمع، لكي تُعاد إلى الأخير ريادتُه الشرعية.”([xxi])

بعبارةٍ أخرى، يرى خصومُ الجمهوريةِ الرابعةِ في فنزولا ديمقراطيتَها التمثيليةَ مرادفةً لحكم الحزب (partidocracia)، الذي كان فيه الحزبان المهيمنان يتقاسمان فيما بينهما غنائمَ النظامِ السياسيِّ والاقتصاديِّ في فنزولا ويستخدمان سلطتَهما لاستبعادِ كلِّ منافسيهما. وبحسبِ هذا التأويل، تكمنُ الطريقةُ الوحيدةُ للتغلبِ على هذا النظام في إعادةِ الشعبِ إلى السياسةِ عبرَ المشاركةِ والعملِ الريادي. أضف إلى ذلك أن الدستور أيضاً يفرضُ قيوداً على الأحزابِ السياسيةِ للحيلولةِ دون اتخاذها “التنظيم الرأسي” الذي “أعاق تعميق” قيم الديمقراطية في الماضي.([xxii])

يأتي الجانبُ التشاركيُّ في ديمقراطيةِ فنزولا في أماكنَ متنوعةٍ تنوعا واسعا، في قوانينِها ودستورِها. ولعلَّ المجالات