التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية


د. منذر سليمان

مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

واشنطن، 17 مايو 2013

 

المقدمة:

          فضائح سياسية ثلاث لاحقت الادارة الاميركية الاسبوع المنصرم، ومن المتوقع استمرار الجدل بها وحولها، سيما وانها تتعلق بالرئيس اوباما وطاقم البيت الابيض وبعض مسؤولي ادارته مباشرة.

          زيارة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان، الى واشنطن رافقها جدل واسع وتوقعات عالية من الجانب التركي لحمل الرئيس اوباما على تعديل موقفه والاقتراب من المطالب التركية بالتدخل العسكري المباشر وتسليح قوى المعارضة السورية بأسلحة نوعية، عبر البوابة التركية.

          سيستعرض قسم التحليل توقعات ونتائج زيارة اردوغان، وتخفيف الرئيس اوباما من ارتكاز عتاصر الاستراتيجية الاميركية المكثف سابقا على تركيا كلاعب اقليمي اهل بالدور المرسوم؛ كما سيتناول خطأ القراءة التركية للمتغيرات الاقليمية والدولية من منظور الاتفاق الاميركي الروسي حول التمسك بحل سياسي تفاوضي للأزمة والاقلاع عن الحل العسكري والمعادلة الصفرية.

ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث

          سورية كانت حاضرة في صلب محادثات الرئيس اوباما وضيفه التركي رجب طيب اردوغان، كما الدور المرتقب لتركيا في سياق الاستراتيجية الاميركية في الاقليم، كما تناولتها مراكز الفكر والابحاث الاميركية. ايضا، استعرضت قوى المعارضة المصرية وحث صناع القرار الاميركي القفز بعيدا عنها لهشاشة تركيبتها والتركيز على ترسيخ القيم الديموقراطية وحقوق الانسان.

          الذكرى الخامسة والستين (65) لاحتلال فلسطين اخذت حيزا ضيقا من اهتمامات مراكز الابحاث، بالنظر اليها من زاوية “نكبة انسانية” تستدعي اهتماما اميركيا. ايضا كان اهتمامها عرضيا بالازمات المتراكمة في الاردن، وحثها الادارة الاميركية على تسهيل منحه قروضا مالية لتحصينه من تداعيات الازمة السورية.

          ايضا، موضوع الملف النووي الايراني الدائم زاحم ملفات الاهتمامات الاخرى لمراكز الابحاث.

زيارة اردوغان لواشنطن:

          اعربت مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation عن اعتقادها بان الولايات المتحدة وتركيا “تواجهان تحديات متوازية مشتركة (في الاقليم) .. مما يستوجب تعاونا مشركا وثيقا بينهما فضلا عن تعاون متعدد الاطراف من الحلفاء في الناتو واسرائيل والاردن.”

          معهد المشروع الاميركي American Enterprise Institute كان اشد وضوحا بوصفه التصرفات التركية بان “تركيا اضحت دولة راعية للارهاب بصورة جلية ..” وانطلق المعهد في استنتاجه من ارضية المضايقات القانونية التي تمارسها حكومة اردوغان ضد المرأة “وتقييد حظوظها في تسلم مهام وظيفية مرموقة .. وتنامي العنف ضد المراة على خلفية جرائم الشرف .. واعتقال الاجهزة الأمنية للصحافيين دون مبرر .. بل لقد حول اردوغان بلاده الى اكبر سجن دولي للصحافيين .. فضلا عن استمرا دعم حكومته لجبهة النصرة ..”

          اما مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS فقد التزم الحصافة الديبلوماسية للنيل من اردوغان، مشيرا الى ان مجرد لقاء مسؤول تركي بسيد البيت الابيض يصور انتصارا كبيرا في تركيا قبل عودته “بصرف النظر عما جرى داخل المباحثات الخاصة بين الزعيمين.” واوضح المركز ان الاحتفالات البرتوكولية التي التزم بها الجانب الاميركي شملت “الاقامة في بيت الضيافة الرسمي (بلير هاوس) وثلة من حرس الشرف، وعقد لقائين متتاليين مع اوباما فضلا عن المؤتمر الصحفي المشترك .. مظاهر سيتم وصفها في الصحافة التركية بانها انتصارات” انجزها اردوغان. واضاف المعهد ان النتيجة الحقيقة للمحادثات المشتركة ستتبين فور عودة اردوغان وما باستطاعته ترجمته من مواقف عملية في الشأن السوري والداخل التركي “في ظل تنامي الانتقادات حول مدى الانخراط التركي في الازمة السورية.”

          معهد كارنيغي Carnegie Endowment مضى بازداء نصائحه المتكررة للحكومة التركية معربا عن توقعاته بان “يتم تركيز الجهود الاميركية والتركية على اهداف مشتركة في سورية .. اذ هناك ضرورة ملحة لبلورة مبادرة اقليمية” للحد من انتقال تداعيات الازمة السورية الى دول الجوار.

سورية:

          ناشدت مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation الدول العربية المنخرطة في الصراع داخل سورية توخي الحذر لمصير موارد الدعم المقدمة للاطراف السورية المختلفة، مطالبة واشنطن العمل على “تقديم مزيد من المساعدات لقوى المعارضة وتنسيق جهود برامج الدعم المختلفة والحد من تدفق المعونات للمجموعات الاسلامية السورية المتشددة .. بل ممارسة الضغط على قطر والسعودية وتركيا وحلفاء آخرين (المقصود اسرائيل) لوقف الدعم المقدم للمجموعات السورية مباشرة .. وتحويله عبر قناة الجيش السوري الحر..” كما طالبت الولايات المتحدة التشبث بموقفها لحث “السعودية وقطر ومشيخات النفط الاخرى اتخاذ اجراءات صارمة ضد الشبكات الاسلامية التي وقفت الى جانب القاعدة ومنظمات متشددة اخرى في سورية.” ومضت بلهجة التهديد انه ان لم ترعوي تلك الدول “فانها ستفقد آلية الوصول الى سوق مبيعات الاسلحة الاميركية في المستقبل.”

          المجلس الاميركي للسياسة الخارجية American Foreign Policy Council سعى لتوضيح مآل السياسة الاميركية “المحكومة ببعض مظاهر السلبية .. التي تجد ارضيتها في قراءة ماهرة لتوجهات الرأي العام الاميركي،” ملفتا النظر الى نتائج احد احدث الاستطلاعات لمعهد راسموسن الذي جاء فيه ان نحو 73% من الاميركيين يحبذون ابتعاد الولايات المتحدة عن الاحداث السورية؛ في المقابل اشاد نحو 61% من المستطلعة اراؤهم بالغارات “الاسرائيلية” الاخيرة على سورية. واوضح المجلس ان الخلاصة العامة للنبض الشعبي تدل على “التعب والارهاق الذي اصابه بعد ما ينوف على عقد من شن الحروب .. وترحيبه بتولي طرف آخر المسؤولية في الصراع،” في اشارة الى تركيا.

          معهد واشنطن Washington Institute بدوره ناشد الولايات المتحدة التدخل “بشكل حازم” في سورية والذي من شأنه “انقاذ تركيا من الانزلاق عميقا في الازمة ..” سيما وان سورية “اضحت تشكل تهديدا مباشرا للانجازات التي حققتها تركيا، وكذلك لمستقبل اردوغان السياسي.” واوضح بما لا يدع مجالا للشك ان التهديد الاكبر يكمن في “استشراء حرب اهلية طائفية نهايتها غير مرئية تعصف باقليم هاتاي، ومعه باقي مناطق تركيا،” والحل الوحيد لدرء تلك النتيجة هي “تدخل عسكري اميركي مباشر ..”

          حثت مجموعة الازمات الدولية International Crisis Group الدول الغربية على تسهيل وفتح ابواب الهجرة امام السوريين، وعلى الحكومة اللبنانية المقبلة يتعين تخصيص موارد مالية عاجلة للاجئين السوريين “حتى قبل تسلم المعونات الدولية الموعودة،” وانشاء مخيمات لاستيعاب تدفق موجات اللاجئين على اراضيها. واوضحت في دراسة اصدرتها ان سياسة الحكومة الرسمية للنأي بالنفس “مشكوك فيها على المستوى العملي،” سيما وان “غالبية اللبنانيين ينظرون الى الازمة من منظار طائفي” مما يحدد مواقف الاطراف كافة من مسألة اللاجئين السوريين. كما حثت الحكومة السورية على “القبول بمبدأ انشاء مخيمات للاجئين.”

          عودة الاخوان المسلمين بقوة على المشهد السوري كان محل اهتمام معهد كارنيغي Carnegie Institute ، الذي حثهم على بلورة هوية منفصلة عن التنظيم الأم في مصر، كما يتيعن عليهم مواجهة التساؤلات التي ادت الى اقصائهم عن البلاد لنحو 30 عاما، والاجابة بحزم على الاخطاء التي ارتكبتها الجماعة طيلة تلك المدة. واوضح المعهد ان من شأن هذه المراجعة والمواجهة الصريحة مع الماضي تقديم الضمانات للاقليات الدينية الاخرى وانفتاحها على ماضيها والتأكيد على استخلاصها الدروس المستفادة التي يكمن مركزها في “تبنيها للوسطية كايديولوجية ناظمة وهوية سياسية.”

مصر:

           حذر معهد كارنيغي Carnegie Endowment من القلق الشديد لدى الاميركيين من حال قوى المعارضة المصرية وعدم التعويل عليها مستقبلا نظرا لانقساماتها وتشرذمها سيما وانها “نخب تتمركز في القاهرة .. منقسمة ومتخاصمة، تهدر كثير من وقتها في تشكيل واعادة تشكيل احزاب صغيرة بدلا من التوحد في بضع احزاب كبيرة” لمواجهة الاخوان المسلمين. وقال انه من اجل “تقويض سيطرة الاخوان المسلمين وحماية الحقوق المدنية، ينبغي دعم التوجهات نحو الحلول الديموقراطية وحقوق الانسان،” سيما وان “تماسك قيادات الاخوان النسبي” قد يوفر لها المناخ الملائم لاستمرارية هيمنتها على السلطة الحاكمة في المدى المنظور، بمواكبة عجزها عن تلبية طموحات الشارع المصري لانجاز اصلاحات سريعة وذات اهمية.”

فلسطين:

          في الذكرى الخامسة والستين لذكرى احتلال فلسطين وتشريد اصحابها الاصليين، وجه معهد بروكينغز Brookings Institution نقدا بيّنا لسياسة الولايات المتحدة في رضوخها “لضغوط حكومة اليمين الاسرائيلية التي ردت على موافقة وزير الخارجية الاميركية جون كيري لمبدأ مبادلة الارض ببناء اكثر من 300 وحدة سكنية في محيط مدينة رام الله.”

          في سياق متصل، اشارت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies الى الحفل الذي اشرف عليه متحف “نيوزيام” لتكريم شهداء مهنة الصحافة الذين سقطوا اثناء تأديتهم الواجب في مختلف اقطاب الارض. وتصدرت المؤسسة حملة ضغط على المتحف لازالة صحفييْن فلسطينييْن سقطا في غزة ابان العدوان “الاسرائيلي” عليها، وهما محمود الكومي وحسام سلامة. وامتثل المتحف لحملة الضغط والتهديد بايقاف مصادر التمويل والدعم عنه من قبل المؤسسة.

 

التحليل:

اوباما واردوغان:

داخليا تحت الحصار

وخارجيا لتلاشي السحر

 

          كان حري برئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان قراءة المتغيرات الجيو- سياسية في الاقليم باتقان وتمعن قبل عزمه ركوب الطائرة متوجها لواشنطن، سيما وان زيارته أتت بعد الاتفاق الاميركي الروسي على المضي بحل تفاوضي في سورية بدلا من المعادلة الصفرية. على الجانب الآخر، لم تسعف التطورات الداخلية الاميركية المتسارعة جدول اعمال الزائر التركي الحافل بملفات متعددة، خاصة للمأزق المستجد على الادارة الاميركية في فضيحة التجسس على السلطة الرابعة، تلتها أزمة هيئة الضرائب باستهداف الجماعات المناوئة لسياسة الادارة.

          قبيل الزيارة، ازدى معهد كارنيغي نصيحة لاردوغان كان يتعين عليه التدقيق بها قبل تلقي الاهانات المبطنة من الرئيس اوباما، في مؤتمرهما الصحفي المشترك على مرأى من العالم، الذي خفف فيه من حدة الاتهامات للحكومة السورية باستخدام الاسلحة الكيميائية؛ والتي تبنت حكومة اردوغان روايتها وترويجها عالميا. نصيحة المعهد (13 ايار الجاري) كانت وجيزة وبليغة: “هي فرصة لانتقاء المفردات بمهارة وتوازن دقيق، والابتعاد عن اشهار الاعلانات او انفعال العواطف، (والتي من شأنها) ترسيم معالم السياسة التركية وموقعها لسنوات عدة قادمة ضمن ساحة تعج بلاعبين اساسيين في منطقة تتصف بالتعقيد.” كما حث المعهد الحكومة التركية على الوقوف جانبا في التطورات السورية اذ ان ” مسؤولية ايقاف النزيف الدموي تقع على عاتق الولايات المتحدة وروسيا .. اما تركيا وقطر باستطاعتهما لعب دور مساعد ان هما اصطفتا الى جانب الاجماع الذي سينجم عن المؤتمر الدولي” المقبل. ويوم لقاء اردوغان باوباما اوضح المعهد عينه مجددا للضيف الزائر  دور انقرة في تشكيل مجالس المعارضة المتعددة ان “اصدقاء سورية .. على مقربة من بدء البحث مرة اخرى عن اطار تمثيلي لقوى المعارضة يحوز على مصداقية اكبر ..” (كارنيغي 17 أيار). اذن، مراهنات تركيا على هزيمة الحكومة السورية سقطت وسمعها اردوغان مدوية قبل مجيئه للقاء الرئيس اوباما.

          لقاء الزعيمين في العام 2009 تميز بنشوة الانتصار في مدى شعبيتيهما المرتفعة، خص اوباما فيه اردوغان القيام بدور في الاقليم نيابة عنه في مهام دقيقة الحساسية كالملف النووي الايراني. وافرط اردوغان في اداء دوره المرسوم ليجدد ولاءه لدور بلاده في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، وليشكل نموذجا اقتصاديا ناجحا ينبغي اقتداء الاقليم به، سيما تجاه سورية.

          لم تكن زيارة اوباما الاولى كرئيس للولايات المتحدة الى تركيا مجرد صدفة، بل عززها تنامي المراهنة عليها لتعلب ادوارا متعددة تخدم صلب الاستراتيجية الاميركية كما جاء في خطابه آنذاك قائلا ان الزيارة “تشكل دليلا على أهمية تركيا ليس للولايات المتحدة فحسب، بل للعالم .. ولديها اطلالة نافذة على مروحة كبيرة من التحديات الاقليمية والاستراتيجية التي نواجهها.” كما اكد اوباما ان تركيا تمثل نقطة تلاقي الشرق بالغرب، في اشارة لها دلالتها لدى الاتحاد الاوروبي الذي لم يتقدم خطوة عملية واحدة للقبول بتركيا المسلمة ضمن عضويته.

          استنادا الى الدعم المعنوي الاميركي، توجه اردوغان لممارسة سياسة خارجية هجومية وتسخير مصادر القوة والنفوذ التركية في خدمتها. وبرز وزير خارجيته احمد داوود اوغلو مزهوا بسياسة “صفرية المشاكل مع الجوار،” يعرضها بضاعة لتعزيز دور تركيا كمرجعية لحل الازمات المختلفة.

          وجاءت اولى ترجمات تلك التوجهات على لسان وزيرة الخارجية الاميركية آنئذ، هيلاري كلينتون، التي طمأنت العالم بعدم القلق لدى انتقال احداث “الربيع العربي” الى سورية اذ ان تركيا تتحكم بتلابيب الامور هناك. ومن بين ما دلت عليه تصريحاتها التي تندرج تحت سقف سياسة الرئيس الجديد، اوباما، ان السياسات الاميركية السابقة القائمة على التدخل المباشر غالبا ما كانت تؤدي الى مفاقمة الاوضاع في الشرق الاوسط بدلا من تهيئة الارضية لحلها.

          نتائج استراتيجية اوباما وفريقه السياسي على تركيا أتت سريعا مخيبة لآمال المراهنين على قدرة تركيا ممارسة النفوذ القديم للامبراطورية العثمانية في الاقليم؛ بل جاءت ايضا كمؤشر على تنازل اميركا عن دورها لصالح تركيا لاتخاذ دور المبادر في السياسة الجديدة. للدلالة، تطورت ازمة السياسة الاميركية نحو سورية حيث اضحى اوباما يراوح في حاجة ماسة لأي كان اتخاذ زمام المبادرة كي يتلقفها ويبني عليها.

          المؤتمر الصحفي المشترك لاوباما واردوغان حمل رسائل واضحة موجهة للأخير سيما لعدم حسم الرئيس اوباما مسألة استخدام الاسلحة الكيميائية، واستطرادا عدم تجاوز “الخط الاحمر” المرسوم لسورية، على مسمع اردوغان. بل ذهب في مزيد من التوضيح بالقول “نحن بحاجة لمزيد من التعاون والعمل المشترك لجمع مزيد من الادلة والمعلومات الموثقة.” وقارب القول ان دور تركيا المرسوم شارف على النهاية عند تأكيده على “ممارسة ثابتة للضغوط من الاطراف الدولية” على الحكومة السورية، بخلاف توقعات اردوغان وفريقه الحاكم. وارفق اوباما ترحيله الضمني لتركيا بالاشادة “باولاد المسؤولين الاتراك .. الذين يتلقون تعليمهم العالي في الجامعات الاميركية،” من ضمنهم انجال الرئيس عبدالله غول واردوغان ووزير خارجيته داوود اوغلو، كأنه رمى للقول ان “اولادكم في حضننا،” كما لخص الأمر بعض المراقبين.

          اردوغان، من جانبه، لم يضمر مشاعر عدم ارتياحه لسير محادثاته مع الرئيس اوباما، عند اشارته الى فعالية الدور الاميركي في سورية ردا على اسئلة الصحفيين قائلا انه “يفضل النظر الى الجزء المملوء من الكوب، وليس الى الجزء الفارغ.” وفي لفتة تتسق مع تصريحات اوباما، اشار اردوغان الى ضرورة العمل مع روسيا والصين في الشأن السوري. بعبارة اخرى، اضحى اردوغان يصرح عكس تصريحاته السابقة التي اشبعها تهديدا ووعيدا للرئيس السوري بالرحيل.

          جعبة اردوغان التفاوضية كانت مثقلة بتداعيات الازمة السورية على بلاده، وخشيته وفريقه الحاكم من ارتداد صداها داخل تركيا (تفجيرات الريحانية)، وحاجته الملحة للحصول على دعم اميركي في مستويات عدة. اصبح جليا لدى اوباما ان مراهنته على استغلال النفوذ التركي لم تؤت الثمار كما كان مرسوم لها، بل باءت بالفشل لوقف الحرب برمتها او لجهة تلطيف موقف الرئيس الاسد من حل يلبي المصالح الاميركية.

          تفاقمت ازمة فريق اردوغان في سورية ليس لناحية تدفق اللاجئين السوريين فحسب، بل لعدم القدرة على اتخاذ قرار بشن حرب او القيام بعمل عسكري محدود داخل الاراضي السورية، سيما وان خطوة خطيرة من هذا القبيل لا بد لها من الحصول على تأييد اميركي؛ فضلا عن ان الترسانة العسكرية التركية ليست على سابق عهدها من القوة ابان الحرب الباردة. كما يدرك اردوغان وفريقه انه على الرغم من اتفاقه الاخير المبرم مع حزب العمال الكردي، فان قواته المسلحة تعاني من عدم القدرة لبسط سيطرتها على مناطق شاسعة من الاراضي التركية في جنوب شرقي البلاد. اما سلاح القوات الجوية فليس بافضل حال والذي يدميه خسارة مقاتلاته كان آخرها بالقرب من الحدود السورية قبيل زيارة اردوغان لواشنطن ببضعة ايام. البنية التحتية للقوات المسلحة في عهد اردوغان اصابها العطب سيما وان نسبة 20% من مجموع الضباط الاتراك تقبع في السجون على خلفية توجيه تهم ذات ابعاد ودلالات سياسية.

          سياسات اردوغان وفريقه اضاعت الفرصة لتركيا كي تلعب دور الوسيط الاقليمي، الذي لم يكن باستطاعتها القيام به دون دعم وتأييد اميركي.

تنامي الفضائح لاوباما

          من المألوف في تاريخ الرئاسة الاميركية ان تطبع الولاية الرئاسية الثانية بسيل من الفضائح وتردي نسبة الدعم الشعبي نتيجة ذلك. اوباما، في ولايته الثانية ، بدا وكأنه يقترب من الشذوذ عن اسلافه حتى مطلع الشهر الماضي بالرغم من توارد تفاصيل مزعجة عن حقيقة ما جرى في الاعتداء المسلح على مقر البعثة الاميركية في بنغازي، 11 أيلول 2012.

          لم تدم فرحة اوباما طويلا، وما لبث ان حاصرته الاتهامات بتزييف الحقائق حول بنغازي. ثم تلتها اعترافات هيئة الضرائب باستهداف المنظمات السياسية المحافظة، فاقمتها انباء الاستيلاء على سجلات الهواتف الخاصة لعدد من الصحافيين الذين كشفوا عن عدد من تجاوزات الحكومة لصلاحياتها وتلاعبها بالحقائق. دورة الفضائح لا تزال في بداياتها لكنها تنطوي على مكونات تكفي لاثارة عواصف سياسية بامكانها حرف بوصلة الرئيس اوباما وتسديد ضربة موجعة للبرامج التي ينوي تحقيقها في ما تبقى له من عمر ولايته الرئاسية. تجدر الاشارة في هذا الصدد ان المؤتمر الصحفي المشترك، بين اوباما واردوغان، حفل بتساؤلات عدة من الصحافيين حول الازمات الداخلية المشار اليها، على حساب الاهتمام بقضايا الشرق الاوسط.

          اثبتت التحقيقات اللاحقة في مسألة بنغازي ان الادارة كانت على علم بهجوم طور الاعداد نسب الى تنظيم القاعدة، بخلاف ادعاءاتها المتكررة ان الاعتداء جاء على خلفية رد فعل لفيلم اميركي مسيء للاسلام؛ اذ كانت ترمي الى حرف انظار الرأي العام عشية الانتخابات (الرئاسية والتشريعية)، وابعاد التهم عن اوباما لليونته في التعامل مع “الحرب على الارهاب،” كما يقول خصومه. بيد ان معظم الرأي العام لم يولي المسألة الاهمية التي كان ينبغي ان تنالها باستثناء قطاع المناوئين لسياسة الرئيس اوباما.

          اما اجراءات هيئة الضرائب التي استهدفت مجموعات سياسية بعينها فمن المرجح ان تبقى حية وحديث الساعة، سيما وان الهيئة لا تلقى ترحيبا بل تواجه عدم ثقة وربما مشاعر احتقار شبه جماعية نظرا لطبيعة مهامها التي تنال من رفاهية كل فرد من افراد المجتمع.

          للانصاف التاريخي، استغل الرؤساء الاميركيون هيئة مصلحة الضرائب لتحقيق اهداف سياسية منذ القدم، ولا تزال تداعيات فضيحة الرئيس نيكسون في ووترغيت ماثلة امام الجميع. من المفارقة ان الصحافي كارل بيرنستين، الذي شارك مع زميله بوب وودوورد في كشف خفايا فضيحة ووترغيت والتي ادت الى استقالة نيكسون، وصف اجراءات الهيئة في مقابلات متلفزة بأنها “امر فاضح تجاوز كل الحدود،” ومنهجها بمثابة “حادث نووي في طور الانفجار.”

          المؤشرات الاولية على تصرفات الهيئة تدل على علم مسبق للادارة بينما تم حجب المعلومات عن الكونغرس.

          اما فضيحة الاعتداء على السلطة الرابعة من شأنها ان تتجاوز تداعياتها كل من بنغازي وهيئة الضرائب، لتحديها السافر لحقوق يكفلها الدستور، ولن يكون بوسع الادارة التخفيف من اهوالها كما سيكون الامر بالنسبة الى القضيتين الاخريين. في التفاصيل، دأبت وزارة العدل، التي يرأسها اريك هولدر المقرب من اوباما، على التحكم بسجلات الهواتف الخاصة لعدد من مراسلي ومحرري وكالة “اسوشيتد برس” للانباء، وشملت نحو 20 هاتفيا شخصيا ونيف للفترة الممتدة من شهري نيسان وأيار لعام 2012.

          من الطبيعي ان تتضامن كافة المؤسسات الاعلامية مع زميلتها المعتدى عليها، مطالبة وزارة العدل باعادة كافة السجلات الاصلية واتلاف ما تبقى من النسخ. وقال رئيس وكالة “الاسوشيتد برس،” غاري بروويت، ان  “.. محتويات السجلات الهاتفية قد تدل على هوية مصادر اخبارية موثوقة للوكالة ومراسليها .. ورسم خريطة لآلية عمل جمع المعلومات وافشاء معلومات تتعلق بنشاطات ومنهجية الوكالة التي لا يتوفر للحكومة واجهزتها اي حق او مبرر للاطلاع عليها.”

وقعت الادارة في شرك شباكها، ووفرت للمؤسسات الصحفية فرصة ثمينة لتسديد اهدافها ضد البيت الابيض تحديدا، الذي يعي جيدا ما آلت اليه تحقيقات الثنائي وودوورد وبيرنستين في استقالة الرئيس نيكسون، واللذين اصبحا مثالا يخلد نزاهة السلطة الرابعة.

          من المبكر راهنا التنبؤ بما ستؤول اليه سلسة الفضائح المشار اليها، سواء لاضطرار الرئيس الاعتزال عن منصبه او الاستقالة. اذ اقدم الكونغرس خلال تاريخ النظام الاميركي على المضي باجراءات عزل للرئيس في حالتين فقط: اندرو جاكسون وبيل كلينتون، واللذين لم يتم ادانتهما بجرم محدد ومضيا في منصبيهما لاستكمال فترتيهما الرئاسيتين. ايضا، خصوم الرئيس من الجمهوريين في الكونغرس قلقون من خيار اجراءات العزل للخشية من الاتهامات بتوظيف المسألة لاغراض سياسية وانتخابية بحت، سيما وان الرأي العام يحملهم جزء كبير من المسؤولية عن التداعيات المالية التي نالت معظم البرامج الخدماتية الحكومية. بل من المرجح موافقتهم على بقاء الرئيس اوباما في منصبه الى نهاية ولايته وتركه يلملم اضرار سمعته وحيدا. بالمقابل، سيستمر هؤلاء في استهداف وزيرة الخارجية السابق، هيلاري كلينتون، بدافع مسؤوليتها عن احداث بنغازي بغية النيل من هيبتها وحظوظها في دخول حلبة السباق الرئاسي لعام 2016.

          وعليه، لنستعرض الاحتمالات الاكثر ترجيحا الناتجة عن سلسلة الفضائح المتلاحقة. اولها، وضع حد لمشاريع القوانين الطموحة للرئيس اوباما بل افشالها الى ان تنتهي ولايته الرئاسية؛ اذ يتعين عليه تسخير جهد كبير للحد من تداعياتها الشاملة وما يقتضيه من الحد من جهوده لاستغلال الموقع الرئاسي لدعم مرشحين ديموقراطيين لمناصب متعددة على مستوى الولايات المحلي او الصعيد السياسي القومي. نظرا لهذا الاعتبار، سيتحول الرئيس اوباما سريعا الى عبء على المؤسسة الحاكمة برمتها، ويقوض حظوظه بالتعامل مع بعض الخصوم الجمهوريين الذين كان يعوّل على تعاونهم في بعض القضايا الهامة؛ بل قد يجد ان شركاءه الديموقراطيين ينأوون بأنفسهم عنه لتفادي الاحراج الانتخابي فيما تبقى له من الولاية الرئاسية.

          اولى ضحايا مشاريع اوباما سيتجسد في مشروع قانون الهجرة الذي بدأت عليه معالم الترنح في اروقة مجلس النواب، فضلا عن تعثر بل فشل مشروع قانون الحد من اقتناء السلاح الفردي. اما مسألة الشد والجذب في الميزانية السنوية وتحديد سقف جديد للاقتراض الحكومي قد يتم تسويتها بعد انقضاء فصل الصيف، لكن ينطوي عليها تقديم اوباما تنازلات اضافية اكبر مما كان يتعين عليه القيام به قبل استشراء الفضائح السياسية.

          اما هيئة الضرائب فقد تخضع لتخفيض في ميزانياتها وادخال تعديلات قاسية على آليات عملها ونطاق مهامها، بل قد يصل الأمر الى فرض اصلاحات على النظام الضرائبي المعتمد وربما ازالة العديد من التعقيدات الاجرائية مما ينال من سطوة ونفوذ الهيئة وخضوعها لنظام مساءلة لم تعهده من قبل. وفي هذا الصدد، ونظرا للدور المنظور للهيئة في تهيئة المناخ لتمويل برامج الرعاية الصحية والاجتماعية، المعروفة باوباما كير، ستترك تداعياتها سلبا على مسار البرامج.

          استطرادا، ستترك هذ الازمة المتجددة تداعياتها على مناخ الانتخابات التشريعية في العام المقبل، دون ريب؛ سيما وان بعض النواب الحاليين عن الحزب الديموقراطي قد اعلنوا عن نيتهم بعدم الترشح للفترة المقبلة، مما قد يحفز التيارات المتشددة داخل الحزب الجمهوري الزج بمرشحيهم لمناصب عليا. الامر الذي عزز توقعات الحزب الجمهوري ومناصريه من امكانية سيطرته على مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس في الدورة المقبلة، فضلا عما ستتركه من آثار ايجابية للحزب على المستويات الانتخابية الاخرى.

          من الطبيعي ايضا ان تسفر التحقيقات المقبلة عن استقالة بعض المسؤولين، او اقالتهم، وتدرج الاستقالات تلقائيا اثر ذلك، ليس اقلها هروب البعض من المركب قبل الغرق، مما سيترك فراغا في بعض الاجهزة والتشكيلات الحزبية والحكومية معا. ما سيترتب على هذا الوضع هو صعوبة تجنيد مسؤولين بدائل لاولئك المستقيلين والمقالين، سيما وان المناصب الرئيسة تستوجب موافقة من مجلس الشيوخ، الذي يمارس الحزب الجمهوري دورا معطلا في ادنى المستويات.

          تداعيات الفضائح الداخلية ستنال السياسة الخارجية للولايات المتحدة نظرا لكونها من صلاحيات الرئيس، مما قد يحفز الرئيس اوباما القيام ببعض المبادرات على ذلك الصعيد لتعديل ميزان القوى الداخلي، وقد تشمل اجراءات اكثر تشددا في مجال “الحرب على الارهاب” لدرء الاتهامات من ناحية، وفرض اجندة جديدة من الناحية الاخرى.

          في هذا الخصوص، قد يلجأ الرئيس اوباما المثخن بالجراح الى الاقدام على خطوات اشد عدوانية في الشأن السوري، او ايران او كوريا الشمالية، بغية استرضاء عطف الراي العام؛ وربما ذهابه ايضا لحث الخطى في مسار المفاوضات السلمية في الشرق الاوسط (كما درجت العادة على تسميتها)، او العمل على التوصل لصيغة ما حول اتفاقية للاسلحة النووية مع روسيا.

          حظوظ الرئيس اوباما تجاوز تلك الازمات مجتمعة واردة وان بنسبة ضعيفة، سيما وان المجتمع الاميركي عادة ما يضجر من الرئيس وحزبه السياسي في منتصف ولايته الرئاسية الثانية، كما تدل التطورات التاريخية منذ نحو 70 عاما خلت، مع قليل من الاستثناءات.

:::::

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

مدير المركز: د. منذر سليمان

الموقع: www.thinktanksmonitor.com

العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com