“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

تتمة الفصل الثالث

شركة نفط فنزولا وحكومة تشافيز (1999-2006)

 

حين انتُخِب تشافيز لأول مرة في كانون الأول 1998، لم يبد أن كانت لديه خطط معينة حول شركة نفط فنزولا، بل كانت عنده خطط تتعلق بأوبك، التي كان لها، بقيادة علي رُدْرِيغِز، أن تصبح اتحاداً قوياً مرة أخرى. فحتى مجيء تشافيز إلى السلطة، كانت أوبك قد تحولت ظلا لذاتها السابقة، حين كانت الدول الأعضاء فيها تتجاهل أو تتجنب حصصها بانتظام. وكانت فنزولا، بالخصوص، قد غدت أحدى الدول الأعضاء الأقل جدارةً بالثقة. ولقد أدى الإنتاجُ الذي يزيد على الحصص المحددة إلى هبوط حادٍّ في سعر النفط ، مضافاً إليه التوسع في إنتاج النفط في الدول غير الأعضاء في أوبك، مثل روسيا والمكسيك. وقد وعد تشافيز أن يضع حداً لهذا بتنظيم الاجتماع الثاني لرؤساء الدول الأعضاء في أوبك في كاراكاس عام 2000. كذلك أمضى تشافيز سنوات رئاسته الأولى زائراً قادة أوبك والدول غير الأعضاء فيها لإقناعهم بالالتزام بحصص الإنتاج، للمحافظة على سعر للنفط ما بين 22 دولاراً و28 للبرميل الواحد.([i]) وقد جاءت مساعي تشافيز بنتائج فورية تقريباً، إذ ارتفع سعر النفط لأول مرة منذ 1991 إلى نيفٍ و27 دولاراً للبرميل (بالأسعار الاسمية).

غير أنه سريعاً ما تنازع تشافيز مع إدارة شركة نفط فنزولا، التي كانت، للسنوات الخمسَ عشرةَ الماضية، تركز على إنتاج ما تستطيع من نفط، بغض النظر عن حصص أوبك. فكانت النتيجة، أولا، تدويراً ثابتاً لرؤساء هذه الشركة، ثم مواجهةً مفتوحةً بين حكومة تشافيز وصناعة النفط. وقد استخدم تشافيز هذا النزاع ليقول إن ما تحتاج إليه صناعة النفط كان “إعادة تأميم” كاملة لأنها أصبحت مستقلة عن الدولة أكثر مما يجوز وباتت “دولة داخل دولة”. لذلك اشتملت جهود حكومة تشافيز لتحويل صناعة النفط على أربعة مجالات رئيسية: تعزيز ملكية الدولة لصناعة النفط، والإصلاح الضريبي، وتقوية أوبك، وإخضاع صناعة النفط عموماً للمصالح الوطنية.([ii])

إعادة التأميم

في دستورُ العام 1999، الذي وضعه داعمو تشافيز، جُعلت ملكية الدولة لشركة نفط فنزولا مادة دستورية. وقد كان معروفاً جيداً أن حكومة رفائيل كَلْديرا، سلف تشافيز المباشر في الرئاسة، كانت تريد خصخصة شركة نفط فنزولا. غير أن تشافيز حاول، بالدستور الجديد، التأكد من أن شركة النفط ستبقى شركة تملكها الدولة. وبهذا يقول الدستور الجديد إنه “لأسباب تتعلق بالسيادة الاقتصادية والسياسية وبالإستراتيجية القومية، ستحافظ الدولة على ملكية أسهم شركة نفط فنزولا، أو الكيان الذي يُقام لإدارة الصناعة النفطية، ملكيةً كاملةً….”([iii]) وقد كان يُفترَض لهذه المادة من الدستور أن تكون مَعْلما لانسلاخ واضح عن السياسات الاقتصادية اللبرالية الجديدة التي كانت شركة نفط فنزولا والحكومة تتبعانها قبل انتخاب تشافيز.

فيما يتعلق بملكية الدولة، هناك بند في قانون الهدروكربون ينص على أن جميع أنشطة الدولة المتعلقة باستكشاف النفط وإنتاجه يجب أن تُكرَّس “للصالح العام”،([iv]) وبتحديد أكثر، يجب تكييف كل الأنشطة المتعلقة بالنفط لدعم “تطور الدولة تطوراً عضوياً، ومتكاملاً، وقابلاً للإدامة، والانتباه إلى استخدام الموارد الطبيعية استخداماً عقلانياً، والحفاظ على البيئة.” ويجب على الدخل الآتي من النفط “في جزئه الأعظم”، أن يمول الرعاية الصحية، والتعليم، وصندوق الاستقرار الاقتصادي الكلي.

وبينما جُعلت شركة نفط فنزولا تحت سيطرة الدولة رسميا بموجب الدستور الجديد، كانت لا تزال عمليا بعيدة عن هذا الإنجاز. وفي عامي 2001 و2002، بذل تشافيز جهودا مستمرةً لاكتشاف مالية الشركة وكسر مقاومتها للتغيير.

كان لرفض شركة النفط التماشي مع خطط الحكومة بزيادة الضرائب على صناعة النفط، وتخفيض الكلفة، وزيادة الشفافية حول عملياتها الخارجية، وتعيين مجلس إدارة موالٍ لتشافيز، أن بلغ حداً عصيباً خلال محاولة انقلاب نيسان 2002، حين أيّد مدراء شركة نفط فنزولا الانقلاب بقوة، وأغلقوا، من بين أشياء أخرى، أحدى المصافي المهمة في فنزولا في أثناء تلك الأزمة. وحين عاد تشافيز إلى الرئاسة لاحقاً، حاول الوصول إلى تراضٍ مع إدارة الشركة، فأعاد تعيين مجلس الإدارة القديم، بينما واصل العمل على تحقيق أهداف سياسته المتعلقة بهذه الصناعة. بيد أن تشافيز لم يستطع إجراء أية تغييرات إلى ما بعد إغلاق صناعة النفط من كانون الأول 2002 إلى شباط 2003، حين سرّح حوالي 18 ألف مدير ومهندس وإداريٍّ ومهني آخر مضربين عن العمل. عندئذ فقط، بموظفين ومجلس إدارة مطيعين، استطاع تشافيز الدفع بالتغييرات الأساسية في طريقة إدارة صناعة النفط.

الإصلاح الضريبي

كان الهدف الرئيسي للإصلاح، عقب إخضاع شركة نفط فنزولا للدولة، يتعلق بطريقة مكس الحكومة الفنزولية إيراداتها من صناعة النفط. هنا فرضت حكومة تشافيز تغييراً في الضريبة. منذ العام 1943، كانت الحكومة تمكس دفعة مقابل منح الامتياز تبلغ 16.6% عن كل برميل نفط تستخرجه شركة نفط فنزولا أو أية شركة أجنبية. وفي حالات كثيرة، كان يُساوم على قيمة هذا الامتياز لتهبط إلى 1% مع بعض المستثمرين الأجانب، كحال إنتاج الخام الثقيل جدا في “نطاق نفط أورينوكو”. بل إن إصلاحا نفطياً جديداً كانت شركة نفط فنزولا تعمل عليه عام 1998 اقترح إلغاء مدفوعات الامتياز كليا. غير أنه، بقانون الإصلاح النفطي الجديد للعام 2001، ضوعفت دفعة الامتياز تقريباً لتبلغ 30%. وفي الوقت ذاته، خفضت الحكومة ضريبة الدخل على استخراج النفط من 59% إلى 50%.

حين أقرت الحكومة هذا التغيير، أخذت المعارضة تصرخ بأن مضاعفة قيمة الامتياز سوف تدمر تعاون فنزولا مع المستثمرين الأجانب وتزيل عمليا الاستثمار الأجنبي المباشر. أما رأي الحكومة الرئيسي حول زيادة قيمة الامتياز فاستند إلى حقيقة أنّ قبض قيمة الامتياز أسهل كثيراً لها من جباية الضريبة على دخل النفط. أي أن الحكومة تستطيع بسهولة أكبر تقصي كمية النفط المستخرج، ومبالغ الامتياز التي يجب دفعها بناء على سعر النفط الجاري، من أن تستقصي الضرائب على أرباح الإنتاج، التي تشمل متغيرات أكثر كثيرا. أي أن ضبط الضرائب على الأرباح أصعب بكثير لأن المصاريف ليست بهذه السهولة لمدقق حسابات خارجي، إذ أن في إمكان دافع الضريبة تضخيم المصاريف لتخفيض الضريبة.

هناك وسيلة أخرى لزيادة عائدات النفط تتمثل في إجبار شركات النفط على أن تكون أكثر كفاءة. أي أنه بتقليل المصروفات المعفاة من الضريبة، وهو ما يفعله الانتقال من الضريبة على الدخل إلى الامتياز، تُمنَح الشركة حافزاً قوياً لزيادة كفاءة عملياتها. بعبارة أخرى، “يجعل الامتيازُ مصالح مالك المورد الطبيعي [الدولة] والمستثمر [الشركة] متطابقة.”([v])

هناك انتقال آخر يشمل زيادة في العوائد ويتعلق بالانتقال من اتفاقيات التشغيل إلى المشاريع المشتركة. في وقت مبكر من عام 2005، أعلنت شركة نفط فنزولا أن على جميع الشركات الخاصة الاثنتين والثلاثين التي لها اتفاقيات تشغيل معها أن تحوِّل هذه الاتفاقيات إلى مشاريع مشتركة، بحيث تسيطر شركة نفط فنزولا على 60% من هذه المشاريع المشتركة. وقد مُنحت هذه الشركات سنة واحدة تنتهي بنهاية عام 2005 للتفاوض على هذا الانتقال مع شركة نفط فنزولا. وقد وقعت جميع الشركات التي تحمل اتفاقيات تشغيل ضمن الزمن المحدد، باستثناء إكْسُن موبيل، التي كانت الشركة الوحيدة التي تحدَّت هذا الانتقال المفروض في المحكمة، بينما استولت شركة نفط فنزولا على حقولها كليا. ولم يعد للمشاريع المشتركة فرصة أو حافز لتضخيم مصاريف عملياتها، كما كانت تفعل من قبل، لأن عليها الآن أن تدفع امتيازات وضرائب على إنتاجها النفطي.

إصلاح أوبك

حين وصل تشافيز إلى السلطة لأول مرة في شباط 1999، كانت إحدى أهم أولوياته تقوية أوبك ورفع سعر النفط. كان النفط الفنزولي قد هبط إلى ما دون عشرة دولارات للبرميل، وكان ذلك إلى حد كبير لأن شركة نفط فنزولا كانت، في أثناء حكومة رفائيل كَلْديرا السابقة، تتجنب حصص الإنتاج التي تحددها أوبك. وكان غير الأعضاء في أوبك، مثل روسيا والمكسيك، تزيد إنتاجها زيادة كبيرة، فتدفع سعر النفط إلى مزيد من الهبوط. وعلى الفور، وضع تشافيز علي رُدْرِيغِز – وهو مقاتلٌ غِواريٌّ يساريٌّ سابق، وخبيرٌ في صناعة النفط، وعضوٌ في ائتلاف تشافيز – على رأس وزارة النفط والتعدين. وخلال المئة يوم الأولى من وجود الحكومة الجديدة، زار رُدْرِغيز معظم الدول المنتجة للنفط، سواء أكانت عضوا في أوبك أم لم تكن، وعاد بالتزام معظمها بحصص أوبك. فارتفع سعر النفط فوراً من سعر يبلغ في المتوسط 12.28 دولاراً للبرميل عام 1998 إلى 17.47 دولاراً عام 1999، وهو أحد أكبر ارتفاعات لا تتعلق بالحرب في العقد الماضي. لاحقاً، استطاع تشافيز ورُدْرِغيز أن يقنعا أوبك أن تقدم نظام سعر موحداً، من 22 دولاراً إلى 28 دولاراً للبرميل، تحاول أوبك أن تحافظ عليه.

في السنة التالية، 2000، أنفق تشافيز كثيرا من الوقت أيضاً مسافراً إلى الدول الأعضاء وغير الأعضاء في أوبك لتعزيز التزامها بكبح إنتاج النفط ولإقناعها بالحضور إلى التجمع الثاني لرؤساء الدول الأعضاء في أوبك والذي يراد عقده في كاراكاس.([vi]) وفي 27 أيلول 2000، افتتح تشافيز مستضيفاً هذه القمة الثانية في تاريخ أوبك. وقد  كان لهذه القمة الأهداف الستة التالية:

1.      إعادة الحوار بين فنزولا وشركائها في أوبك؛

2.      استعادة مصداقية فنزولا في أوبك؛

3.      تقوية أوبك؛

4.      الدفاع عن أسعار النفط؛

5.      استعادة مكانة قيادية داخل أوبك؛

6.      تعزيز العلاقة بين فنزولا والعالم العربي/الإسلامي.

بالنظر إلى مكانة أوبك المعززة في العالم اليوم، يمكننا القول إن أهداف تلك القمة قد تحققت إلى حد كبير.([vii])

تقنية المعلومات والأعمال والتقانة (إنتيسا – INTESA)

ظهر بُعدٌ آخر من فقدان سيطرة الدولة على صناعة النفط خلال إغلاق هذه الصناعة في العامين 2002-2003. فلم تكتف شركة نفط فنزولا باستخدام مُشغِّلين خارجيين في بعض إنتاجها النفطي، بل استخدمتهم أيضاً في بعض عملياتها العامة. ولعل أهم مثل على التشغيل الخارجي في إدارة شركة نفط فنزولا كان المشروع المشترك مع شركة أمريكية، هي شركة التطبيقات العلمية العالمية (سيك – SAIC) لإنشاء شركة “تقنية المعلومات والأعمال والتقانة” (INTESA) عام 1996. أنيطت بهذه الشركة جميع حاجات شركة نفط فنزولا المتعلقة بمعالجة المعطيات. وبعد أربع سنوات من ذلك، أصبح واضحاً أن شركة (إنتيسا) تكلف شركة النفط أكثر بكثير من المتوقع، بينما المفروض أن تكون وسيلة للتوفير.([viii])

عقب محاولة انقلاب نيسان 2002، كلف علي رُدْرِيغِز، الرئيسُ الجديد لشركة نفط فنزولا، خوان فيرنَنْدِز، الذي أصبح لاحقاً قائد إغلاق شركة نفط فنزولا في كانون الأول 2002، بإلغاء العقد مع شركة (إنتيسا)، فرد فيرنَنْدِز بأن العقد سوف ينتهي، ربما ليس صدفة، بنهاية كانون الأول 2002. بيد أن شركة (إنتيسا) انضمت إلى الإضراب وأغلقت جميع خدماتها المقدمة لشركة نفط فنزولا قبل انتهاء العقد بكثير. وكانت النتيجة أن شركة النفط لم تستطع تحويل معالجة معطياتها إلى أنظمة جديدة، ولم تستطع معالجة طلباتها وفواتيرها لشحنات النفط. وانتهى الأمر بشركة النفط أن كان عليها القيام بذلك يدويا لأن كلمات المرور والبنية التحتية الحاسوبية العامة لم تكن متوافرة، وهو ما جعل الإضراب أكثر تخريباً للشركة مما كان يمكن أن يكون لو كانت معالجة المعطيات بيد شركة نفط فنزولا.

كشف التحقيق مع شركة (إنتيسا) ومع شركة (سيك)، صاحبة أغلبية الأسهم (60%)، عن بعض المعلومات التي من شأنها أن تكون مزعجة جداً لحكومة هوغو تشافيز.([ix]) ذلك أن شركة (إنتيسا)، التي تسيطر على جميع معطيات شركة نفط فنزولا، تسيطر عليها شركة (سيك)، وهي شركة على قائمة مجلة فورتشن (Fortune) لأكبر 500 شركة (بعائدات بلغت 6.1 مليار دولار عام 2002)، وذات علاقة قوية بصناعة الدفاع في الولايات المتحدة، خاصةً أنها ذات علاقة بالتقانة النووية، والاستخبار العسكري، وتقانة الحوسبة. وقد ضمت قائمةُ مدرائها اثنين من وزراء الدفاع في الولايات المتحدة (وليَم بيري ومِلْفِن ليرد) واثنين من مدراء وكالة الاستخبار المركزية (جون دويْتْش وروبرت غيتس). ويضم مجلسُ إدارتها الحاليُّ القائدَ السابقَ للقوات الخاصة الأمريكية (وين داونِنْغ)، ومنسقاً سابقاً لمجلس الأمن القومي (جاسبر وِلْش)، والمديرَ السابق لوكالة الأمن القومي (بوب راي إنْمَن). أما إذا كانت (سيك) متورطة في إضراب شركة نفط فنزولا أو كانت تُمرِّر معلومات مهمة حول الشركة إلى شركات نفط أخرى، فغير معروف. غير أن حقيقة وجود هذه العلاقات لا بد من أن تسبب قلقاً عظيماً لشركة نفط فنزولا وللحكومة الفنزولية.

التكامل الأمريكي اللاتيني عبر تكامل الطاقة

كانت أحدثُ مبادرةٍ لحكومة تشافيز حول السياسة النفطية تعزيزَ التكاملِ الأمريكيِّ اللاتينيِّ عبر تكامل الطاقة. كان تشافيز اقترح، في مراحل مختلفة من رئاسته، إنشاءَ شركةِ نفطٍ لجميع أمريكا اللاتينية، من شأنها أن تدمج جميع شركات النفط الأمريكية-اللاتينية المملوكة للدولة. غير أنه لم يكن إلا في العام 2004 أن قام تشافيز بأول خطوة ملموسة في هذا الاتجاه، بتوقيع اتفاقية “بتروسور” مع شركة إنارْسا للنفط التي تملكها دولة الأرجنيتن في كانون الأول 2004. بعد ذلك وُسعت الاتفاقية لتشمل شركتي النفط اللتين تملكهما كلٌّ من دولة البرازيل (بتروبراس) ودولة أوروغواي (أنكاب).

كان الغرضُ الرئيسيُّ لهذه الاتفاقية “تقليصَ الآثار السلبية لسعر الطاقة على دول المنطقة إلى الحد الأدنى –  أي الأسعار التي تأتي من عوامل تخمينية وجغراسية – عبر تخفيض كلف الإجراءات (بالتخلص من الوسطاء)، والوصول إلى التمويل التفضيلي، والاستفادة من التضافر التجاري لحل التنافر الاقتصادي والاجتماعي.”([x])

جاء سوء فهم هذه الاتفاقية والاتفاقيات الأخرى التي تلتها أن فنزولا وافقت على تزويد دول أمريكا اللاتينية بنفط مخفض السعر. لكن هذا لا أساس له من الصحة. بل إن الاتفاقية تحاول فقط خفض الكلفة بالتخلص من الوسطاء وتقديم تمويل تفضيلي على فواتير النفط. وثمة عنصر مهم آخر أن هذه الدول تستطيع تسديد فواتير نفطها ببضائع وخدمات بدل النقد. والمثل الأبرز على هذه الخطوة يتعلق بالأرجنتين، التي سُمح لها بتزويد فنزولا بالبقر مقابل النفط. بعد ذلك أُضيفت إلى الصفقة جرارات زراعية ومنتجات أخرى.

تمثلت الخطوة الكبيرة التالية نحو التكامل في الطاقة في اتفاقية “بتروكاريبي”، التي وقعها تشافيز وشركة نفط فنزولا في حزيران 2005 مع أربعَ عشْرةَ دولةً كاريبية. وكاتفاقية “بتروسور”، كان العنصر الرئيسي في هذه الاتفاقية أنها قدمت تمويلا تفضيليا على دفع فواتير معظم دول الكاريبي. فقد مُنح المشترون سنتين اثنتين للبدء في تسديد فواتير نفطهم، مع تمويل بنسبة 1% لمدة سبعة عشر عاما إلى خمسة وعشرين لذلك الجزء من الفاتورة الذي يزيد على 40 للبرميل. وهذا شبيه إلى حد ما باتفاقية أبكر كانت وقعتها كل من فنزولا والمكسيك مع الدول الكاريبية عام 1980، حلف سان جوزيه، ولكن بمعدل فائدة أقل.([xi]) وكما هو الحال مع اتفاقية “بتروسور”، يُسمح لهذه الدول بتسديد فواتيرها ببضائع وخدمات. كذلك كان جزء من الاتفاقية الجديدة أن تساعد شركة نفط فنزولا دول الكاريبي في توسيع مرافقها التخزينية، بحيث تكون أقل اعتماداً في احتياطياتها على شركات النفط المتعددة الجنسية.

بُعيد توقيع اتفاقية “بتروكاريبي” في تموز 2005، وقّع تشافيز اتفاقيةً نفطيةً ثالثة، “بتروأندينا”، كانت هذه المرة مع دول الأنديز، بوليفيا، وكولمبيا، والإكوادور، وبيرو. كانت هذه الاتفاقية أكثر عمومية في أنها لم تقل سوى أنها سوف “تعزز الوصل المتبادل للكهرباء والغاز، والتزويد المتبادل لموارد الطاقة، والاستثمارات المشتركة في المشاريع.” أما تفاصيل الاتفاقية فكان عليها أن تُنسَّقَ لاحقاً، وعند كتابة هذه السطور لم يجرِ عليها شيء.

يُفترَض في هذه الاتفاقيات الثلاث معاً، بتروسور، وبتروكاريبي، وبتروأندينا، أن تكون العمودَ الفقريَّ لـ”بتروأميرِكا”، التي ستُشكِّل التكاملَ الأمريكيَّ–اللاتينيَّ في الطاقة. وتشمل النظرة البعيدة لهذا المشروع إنشاء “مخروط للطاقة” في أمريكا اللاتينية، من شأنه أن يمد شبكة لخطوط الكهرباء والغاز وأنابيب النفط.

كان أحدَ أول المشاريع الكبرى في هذه النظرة البعيدة الاقتراحُ بإنشاء أطول خط أنابيب للغاز في العالم، يمتد من شاطئ الكاريبي في فنزولا ويعبر البرازيل إلى مصب نهر الفضة (ريو دي لا بلاتا) في الأرجنتين. وسيبلغ كامل طول هذا الخط ما بين سبعة آلاف وتسعة آلاف وثلاثمئة كيلومتر، وستبلغ كلفته 20 إلى 25 مليار دولار، وسيتم بناؤه في سبع سنين. وبالرغم من اعتراضات المدافعين عن البيئة لأن خط الأنابيب هذا يهدد بتدمير الكثير من الحياة البرية في غابات الأمازون، وبالرغم من اعتراضات المحللين القائلين إن هذا الخط سيكون مكلفاً أكثر مما يستحق، فقد تعهدت حكومات فنزولا، والبرازيل، والأرجنتين، في آذار 2006 أنها ستُجري دراسة جدوى لهذا المشروع. بعد ذلك بثلاثة أشهر، انضمت للمشروع أيضاً كل من بارغواي وبوليفيا. وتأمل هذه الحكومات في أنْ يُمكِّن خطُّ الأنابيب هذا أمريكا اللاتينية من استغلال احتياطياتها الضخمة من الغاز الطبيعي استغلالاً كاملاً خلال العقود العديدة القادمة.

إن المخططَ البعيدَ المدى لتعزيز تكامل أمريكا اللاتينية عبر التكامل بالطاقة أمرٌ مثيرٌ في أنه يقلد، جزئياً على الأقل، التكامل الأوربي، الذي بدأ أيضاً تكاملا في التزوُّد والاتجار بالطاقة في أوربا، ولم يتوسَّعْ إلا لاحقاً في جميع مناحى التجارة، ثم بعد ذلك إلى التكامل السياسي التدريجي. بعبارةٍ أخرى، تهدف اتفاقية “بتروأميركا” إلى تحقيق الاتحاد البوليفي لشعوب أمريكتنا (ALBA)، “البديل البوليفاري” لأمريكا الجنوبية، وهو اقتراح فنزولا لمجتمع شعوب أمريكا اللاتينية. يهدف هذا التكامل، على المدى الأقصر، إلى تعزيز التطور الاقتصادي الأمريكي اللاتيني بضمان أن يكون تزويد الطاقة، أكانت كهربائية أم غازية أم نفطية، موزعاً توزيعاً متساوياً في جميع أرجاء القارة، حيث تعطي الدول الغنية في موارد الطاقة، كفنزولا، المناطق ذات الموارد الفقيرة من أمريكا اللاتينية أولوية على الشمال المتطور. وقد شرح تشافيز هذا المنطق كما يلي: “لا يبدو لنا عادلا أن تكون لدينا هذه الكثرة من الغاز، والكثرة من النفط، بينما يحدث انقطاع متكرر للكهرباء في جمهورية الدومنكان، وأن شمال البرازيل ليس لديه طاقة كافية للتطور، وأن كولمبيا ليس لديها ما يكفي من الطاقة لمدنها الحدودية….”([xii])

سياسة اقتصادية لاشتراكية القرن الحادي والعشرين؟

يُمكن تقسيم سياسات حكومة تشافيز الاقتصادية إلى فئتين: فئة إصلاحية وأخرى تحويلية بالإمكان. وتقع ضمن الفئة الأولى جميع السياسات التي تتصف في جوهرها بأنها اجتماعية ديمقراطية أو كينيزية،([1]) وهذه تتضمن تدخل الدولة في الاقتصاد الرأسمالي، لكنها في أُسسها لا تغيّر الفاعلية الرأسمالية في تراكم رأس المال الخاص في المنافسة السوقية. أي أن السياسات المتعلقة بضبط العملة، وإعادة توزيع الثروة عبر الإصلاح الزراعي، والضرائب التصاعدية، والبرامج الاجتماعية؛ والجهود المتعلقة باستبدال الاستيراد بالمعونات المالية والقيود على التجارة؛ ومنح القروض الصغيرة، كلها تقع ضمن هذه الفئة من الإصلاح الاقتصادي. وهكذا تقع ضمن هذه الفئة معظم سياسات الحكومة، أي تلك التي كان لها الأثر الأكبر.

أما الفئة الثانية، أي السياسات الاقتصادية التحويلية بالإمكان، التي يمكن أن تغيِّر الفعالية الرأسمالية لتراكم رأس المال الخاص التنافسي إلى فعاليةٍ مؤسَّسةٍ، بدل ذلك، على الحاجات الإنسانية والتعاون البشري، فتقع ضمنها سياسات أقلُّ كثيرا. ذلك أن إنشاء تعاونيات عمالية ومشاريع يشترك العمال في إدارتها، قد ينتهي بها الأمر إلى تحويل فعالية رأس المال السوقي، إذا توسعت كثيراً وارتبطت ببعضها ضمن شبكة تعاونية تتصف بالتضامن والتبادلية بين تلك المشاريع.

هناك فعالية تحويلية أخرى بدأت الحكومة في تقديمها، ولكنها لم تُبحث حتى الآن، هي قرارها التحوّلَ إلى البرمجيات الحاسوبية المجانية. ففي أيلول 2004، أعلنت الحكومة أن الإدارة العامة برمتها ينبغي أن تحول برمجياتها الحاسوبية من برمجيات خاصة إلى مجانية، ما لم تكن البرمجيات المجانية غير متوافرة. وقد شرح تشافيز أن الخطوة قد خُطيت باسم “الاستقلال العلمي الوطني، بحيث لا نعتمد على برمجيات مملوكة ملكاً خاصا. فإن لم يكن للمعرفة مالكون، فإن المُلكية الفكرية فخٌّ نصبته اللبرالية الجديدة.”([xiii])

قد تبدو هذه مسألةً تافهةً عملياً صُمِّمت لتوفر على الحكومة بعض المال لأنها لن تضطر بعدئذ إلى شراء البرمجيات الغالية من شركة مايكْروسُفْت. بيد أن مضامين هذه السياسة أبعد كثيراً من ذلك، لأن البرمجيات المجانية تُحوِّل فكرة حقوق المُلكية الفكرية، المؤسسة في الرأسمالية على المُلكية الفكرية الخاصة وتراكم رأس المال، إلى فكرة التبادل المجاني والمساواة.

بعبارة أخرى، في بعدين رئيسيين من الاقتصاد، ومن علاقات المُلكية عبر التعاونيات والإدارة المشتركة، ومن المعرفة والتقانة عبر البرمجيات المجانية،([xiv])خطت حكومة تشافيز خطواتٍ مهمةً لكنها صغيرة صوب اقتصاد غير رأسمالي. مع هذا، فإن ثمة بعداً اقتصاديا جوهريا ثالثاً لم يُلمس فيه عمل السوق إلا عبر تدخل الدولة في السوق، أكان من خلال قوة المشاريع المملوكة للدولة أم من خلال صيغ التدخل الأكثر مباشَرةً، كالمعونات المالية ومشتريات الدولة الهادفة. وكما سنبحث لاحقاً، لا يزال في حاجةٍ إلى التنميةِ تجاوزٌ للسوق أبعد مدى، من خلال فكرة “مجتمعات الإنتاج والاستهلاك” المُدرَكةِ حديثاً.

بيد أن هذه الخطوات صوب تحويل الاقتصاد سوف تفشل إن لم تُتجاوزْ ثلاثُ مشاكلَ اقتصاديةٍ مستمرةٍ ومتعلقٍ بعضُها ببعضها الآخر بشكل محكم. أولا، بالرغم من جهود الحكومة الثابتة، فإن الاقتصاد أبعد من أن يصبح أقلَّ اعتماداً على إنتاج النفط مما كان لزمن طويل. ويعود السبب الرئيس وراء هذا، بالطبع، إلى أن سعر النفط تضاعف ثلاث مرات في السنوات الأخيرة، فرفع الواردات كثيراً خلال رئاسة تشافيز. ويتضافر سعر النفط العالي بقوةٍ مع جهود الحكومة لزيادة السيطرة على صناعة النفط، مما يُعطي الحكومة مزيداً من واردات لم تشهدها فنزولا منذ الازدهار النفطي في سبعينات القرن العشرين.([xv]) ولا بد لهذه الواردات، نظرياً، من أن تسمح للحكومة أن “تَبْذُرَ النفط”، للاستثمار في شعبها وفي البنية التحتية المادية، لعلّ أنشطةً جديدةً غير نفطية تنمو.

بيد أن الواردات النفطية – وهذه هي العقبة الثانية، أعني “المرض الهولندي” – تُقوِّضُ القطاعات غير النفطية، تماماً كما حدث في سبعينات القرن العشرين، لأن تلك الواردات تمثل زيادة في الدخل الفنزولي لا تكافئه زيادةُ الإنتاجية. أي أن الأمر ينتهي في أن يكون استيراد المواد الزراعية والصناعية أرخصَ (ثانيةً) من إنتاجها في فنزولا. بعبارة أخرى، إن العائدات النفطية العالية، وهي الظاهرة عينها التي تجعل تشافيز “يَبْذُرَ النفط”، تقوِّضُ أيضا الاقتصاد غيرَ النفطي. وهذا التناقض الأساسي لا يمكن حلُّه ما دامت الحكومة تسمح لآليات السوق أن تقوم بدور طاغٍ في تقرير التخصيص.

ثالثا، إن قوة الصناعة النفطية المستمرة والكبيرة الحجم في الاقتصاد تثير أسئلةً جادّةً حول ما إذا كانت تجارب فنزولا في التحول الاقتصادي إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين يمكن أن تَحيَى خارج سياق اقتصادٍ نفطيٍّ مُترف.

 


[1] الاقتصاد الكينيزي (أو الكينيزية أو النظرية الكينيزية) مدرسة في الاقتصاد الكلي مؤسسة على أفكار الاقتصادي البريطاني جون مايْنارْد كايْنْز (John Maynard Keynes) – (1883- 1946). وتنادي هذه النظرية، التي كانت النمط الاقتصادي المتبع في الجزء الأخير من “الكساد الكبير” وما بعد الحرب العالمية الثانية، بما يسمى الاقتصاد المختلط، حيث يوجَّه الاقتصادُ من قبل القطاعين العام والخاص معا. لكنها فقدت تأثيرها في سبعينات القرن العشرين أمام ظاهرة الركود التضخمي في الاقتصاد، المتصفة بالتضخم المالي وتباطؤ النمو الاقتصادي وبقاء معدلات البطالة عالية. [المترجم]


[i] كان لزيارتي تشافيز صدام حسين ومعمر القذافي أن تلاحقاه تكراراً، لأن مناوئيه أخذوا يذكرون هاتين الزيارتين كسبب لكرههم له.

[ii] يقدم علي رُدْرِغيز، رئيس أوبك سابقاً، والرئيس الحالي لشركة نفط فنزولا، إيجازا جيداً لهذه السياسة في: “الإصلاح النفطي في فنزولا للعام 2001″، (La Reforma PetroleraVenezolana de 2001) في مجلة الاقتصاد والعلوم الاجتماعية (Revista Venezolana de Economia y Ciencias Sociales)، ع. 2/2002، أيار/آب 2002.

[iii] دستور جمهورية فنزولا البوليفارية، المادة 303. غير أن نفوذ شركة نفط فنزولا المؤثر في الجمعية الدستورية ترك الباب مفتوحاً للخصخصة لأن الدستور يقول أيضاً إن الدولة ستمتلك جميع أسهم شركة نفط فنزولا، “ما عدا أسهم الفروع، والشراكات الإستراتيجية، والأعمال التجارية، وأي شيء آخر عزز الشركة أو يعززها نتيجة تطور أعمالها التجارية.” ولما كانت شركة نفط فنزولا لا تنتج أي نفط – بل فروعها فقط – تستطيع هذه الشركة، نظريا، بيع فروعها واحدة تلو الأخرى. فشركة نفط فنزولا في الأغلب إنما هي شركة قابضة، لذلك لن يبقى الكثير منها لو قررت الحكومة المضي في هذا السبيل.

[iv] المادة 5 من القانون العضوي للهدروكربون.

[v] علي رُدْرِغيز (2002، ص. 204).

[vi] إن زيارة تشافيز للعراق – وهي الأولى لأي رئيس دولة منذ حرب الخليج – ولليبيا، وكلتاهما عضوان في الأوبك، ستستخدم لاحقاً وبتكرار من خصومه في الوطن وفي الولايات المتحدة كدليل على ميوله الخطيرة وأنه لا يعتمد عليه.

[vii] في نهاية المَطاف، يمكن لنهوض أوبك أن يكون جزءاً كبيراً مما حفز الولايات المتحدة إلى مهاجمة العراق. أي أنه لو بقيت أوبك متهافتة كما كانت يوم صعد تشافيز إلى السلطة، فمن المحتمل جدا ألا تفكر إدارة بوش بأن تكون السيطرة على احتياطيات نفط العراق مسألة مهمة. لكن، بعودة أوبك، وما تلاها من ارتفاع أسعار النفط، وفقدان السيطرة العام الذي استشعرته حكومة الولايات المتحدة في مواجهة أزمة طاقة والهجوم على مركز التجارة العالمي، أصبح “كسر ظهر أوبك” أولوية عالية.

[viii] راجع (www.soberania.org/tercerizacion_portada.htm). وقد كان معدل الزيادة زهاء 90 مليون في السنة للأعوام 1998 إلى 2000

[ix] راجع ألِكزاندر فوستر وتوليو مُنْسالفي: “من يدير معطيات شركة نفط فنزولا؟” (A. Foster and T. Monsalve, “Qien Moneja las Computadoras de PDVSA?”, Venezuela Analitica). 17 كانون الأول 2002. (www.analitica.com/bitbiblioteca/tulio_monsalve/computadoras_pdvsa.asp).

[x] حسب موقع شركة نفط فنزولا على الشبكة (www.pdvsa.com).

[xi] عام 2000، جدد تشافيز حلف سان خوسيه بتفاهمات كاراكاس، التي ضمت دولا أكثر، منها كوبا، مما قاد بعد ذلك إلى تبديل نفط فنزولا بأطباء كوبيين.

[xii] الرئيس هوغو تشافيز، 6 تشرين الثاني، 2004، خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب توقيع اتفاقية الطاقة مع جمهورية الدومنكان، حسب اقتباس ذلك في (www.pdvsa.com).

[xiii] “أعلن تشافيز أن الدولة الفنزولية سوف تنتقل إلى ’البرمجيات المجانية‘.” (http://www.venezuelanalysis.com/news.-php?nesno=1373).

[xiv] هناك مجال آخر اتخذت فيه الحكومة الفنزولية إجراءً لتحويل استخدام المعرفة والتقانة يتعلق ببراءات الاختراع في الحقل الطبي، إذ تدفع باتجاه القبول العالمي لوضع حق ملكية بعض الأدوية الحيوية أو المنقذة للحياة فوق حق التربح من الملكية الفكرية.

[xv] حسب شركة نفط فنزولا، كانت العائدات أعلى بثلاثين مليار دولار مما كان يمكن أن تكون من غير التغييرات من 2004 إلى 2006. نشرة بذر النفط (Siembra Petrolera). ع. 3. كاراكاس: شركة نفط فنزولا.