ما بعد حافة استدخال الهزيمة

4

الآليات الداخلية والخارجية لهزيمة فرنجة راس المال

عادل سمارة

تعرضنا في المقالة الثانية من هذه الحلقات لوقوف العدو، الأمريكي والصهيوني على حافة استدخال الهزيمة. وبالطبع نقصد بالاستدخال هو ذك الموقف والسلوك المحكوم بقناعة داخلية بالهزيمة (بشأن استدخال الهزيمة أنظر كتاب عادل سمارة ثورة مضادة، إرهاصات أم ثورة، ص ص 307-8). صحيح أن التعبير عن ذلك هو مسألة يمكن ضبطها (في حالة معينة) وعيا وثقافة  بمعنى: إن القوي حين يقتنع بهزيمته لا يعني ذلك فقدانه القدرة على المناورة كي يستثمر ذلك سياسياً للاحتفاظ بأكبر قدر مما سلبه او اغتصبه أو نهبه…الخ وهذا لا يخفي او يعدم إمكانية استعادته لدور ما  وخاصة إذا ما تراخت القوى الوطنية والقومية والطبقية أو إذا ما اختلفت على الأساسيات.وهذه حالة من استدخال الهزيمة ومحاولات المبادئة مجدداً مما يؤكد رمادية المرحلة.

نناقش في هذه المقالة عوامل استدخال الهزيمة لدى النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والتي بمجموعها تشكل الطبقة الحاكمة/المالكة، وليست الطبقة السياسية كما تسميها القوى اللبرالية لأن مصطلح طبقة سياسية يخلو من المضمون الاقتصادي تحديداً ويُبعد عن ذهنية القارىء مسألة السلطة والقوة بما هما في النهاية تجسيدات القمع والاستغلال وموجبات الصراع الطبقي مع راس المال.

 هناك سلطة سياسية بمعنى إدارة الدولة سياسيا وإدارياً، ولكن ليس شرطاً أن الإدارة السياسية هي نفسها  أو وحدها القوة الاقتصادية بما تتضمنه اساسا من علاقات الملكية والاستغلال.

تتكون الطبقة الحاكمة/المالكة في الولايات المتحدة من

·        النخبة السياسية الإدارية في السلطة،

·        والنخبة الراسمالية مالكة الصناعات المدنية ،

·        والنخبة الراسمالية مالكة الصناعات العسكرية،

·        والنخبة الثقافية الأكاديمية  الإعلامية

·        ونخبة الدين السياسي.

 وليست هذه النخب على اتساع كل واحدة منها ومراتبيتها الداخلية، ليست كل واحدة منها طبقة قائمة بذاتها، كما انها جميعاً متداخلة بالمعنى الملكوي أي مصلحيا.

يشكل الوعي الطبقي السياسي لأية طبقة معيار وآلية وسمة صدِّها أو استدخالها للهزيمة وكل ذلك على ضوء طبيعة مصالحها  واندغامها في السياسة الرسمية للدولة. فطبقة الكمبرادور في مصر مثلاً، يتمظهر استدخالها للهزيمة في فتح ابواب البلد لراس المال الأجنبي كي ينهب بلا مواربة ناهيك عن التضحية بالسيادة الوطنية والقومية عبر اعترافها بالكيان الصهيوني. وبالطبع لا يختلف وضع الكمبرادور الفلسطيني والأردني عن ذلك. وهذا سؤال برسم التطورات في سوريا بمعنى هل تسمح الطبقات الشعبية بعودة الدردريالذي اسس لكل الفقر والبيئة الحاضنة للمطالبة بالإصلاح ومن ثم  تحول جزء منها كبيئة حاضنة للمذبحة!

في حالة بلد كالولايات المتحدة فإن استدخالها للهزيمة هو حالة معقدة تتخذ شكل الرفض والحرب رغم الاقتناع بأن درجة كبيرة من الهزيمة هي محققة حتى لو اتخذت حالة من التدرج البطيء جدا.

الأزمة، العلاج والتراخي، والتخليف والإسعاف  وما بعد

إثر  تورثها التدريجي لفرنسا وبريطانيا بعد الحرب ألرأسمالية-بين-غربية  الإمبريالية/النازية الثانية اُطلق على اقتصاد الولايات المتحدة “اقتصاد الملاذ الأخير” حيث اصبح الدولار هو عملة عقد مختلف الصفقات الكبرى بين الدول وخاصة تسعير النفط، وأصبحت مصارفها الأكثر استقبالا للتحويلات الرسمية والشركاتية والفردية من الخارح  وأعتمدت كثرة من الدول على تصريف منتجاتها في السوق الأميركية كما أصبحت أكثرية أل 500 شركة الأكبر في العالم أمريكية الموطن، وتحولت امريكا إلى مركز القرار المالي والإداري للمصارف والشركات الكبرى وهذا ما طرح السؤال عن دور الدولة في الحكم، الأمر الذي أخذ حوارات طويلة (أنظر كتاب ثورة مضادة… ص ص 64-70) وهو أمر يميل إلى العلاقة العميقة بينهما وإن كانت تتخذ اشكالاً متغيرة طبقا للتطورات.

على أن شركة الشركات الكبرى كما يبدو هو: “مصرف التسويات الدولية في سويسرا الذي هو مصرف المصارف المركزية عالميا ويضم 58 مصرفا مركزيا منها الأمريكي وهو مصرف خاص مملوك ويُدار من قبل المصارف المركزية الدولية التي هي شركات كبرى خاصة تدير شؤوننا دون ان تكون منتحبة  ولا يمكن استجوابها. وفي هذا المصرف تم غسيل الأموال النازية خلال الحرب العالمية الثانية”.(Basel III: How The Bank For International Settlements Is Going To Help Bring Down The Global Economy, by Michael Snyder). وبهذا لا جدال في ان سويسرا هي مركز الفاشية المالية الدولية وهي بلد المصارف التي يدخر فيها ديكتاتورات بلدان المحيط ما سلبوه من دماء شعوبهم، هذا دون أن نتحدث عن كثير من المؤسسات الراسمالية الخطرة على البشرية ومنها مؤتمر دافوس.

وربما كان الحل او الإجابة الأوضح على هذا السؤال في الأزمة المالية الاقتصادية التي لا تزال تعصف بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ عام 2008. فمن يتابع الدور الذي قامت به السلطات الأميركية منذ بدء الأزمة حتى الآن يجد بأن مبالغ طائلة صبتها السلطة في النظام المصرفي وخاصة المصارف الكبرى كي لا تنهار ضمن رؤية ومصلحة أن المطلوب إنقاذ راس المال وليس المجتمع الأمر الذي يعزز مقولة لينين بأن “أية سلطة هي ديكتاتورية طبقة في نهاية المطاف”.

وبالطبع مرت على الولايات المتحدة، بل على النظام العالمي سلسلة أزمات ما بين 1963-2008، منها أزمة جنوب شرق آىسيا، وأزمات في الولايات المتحدة وأزمة روسيا-يلتسين، ولكن تم استيعاب صدماتها حيث كانت لا تزال بنية هذا النظام مرتكزة على مقعد مرن يدور على محوره متمكناً من عدم النزول إلى الأسفل. لكن هذا لم يكن شأن الأزمة الحالية التي قوضت دور اقتصاد الملاذ الأخير، ومهدت لاستدخال الهزيمة على اكثر من صعيد.

ورغم صحة قانون فوضى الإنتاج اللصيق بالراسمالية، فقد حاولت الولايات المتحدة تجنيب نفسها نتائجه المُرَّة، حيث ركزت على إنتاج السلاح لتتفوق على العالم باسره في هذا المجال، أي اختارت قانوناً آخر للراسمالية (فقوانين راس الملال حمَّالة أوجه كذلك-المعنى مأخوذ من قول الإمام علي) وهو صناعة الحروب كمرتكز اساس لراس المال من خلال التسلُّح، الحرب، ، اختلاق حروب للآخرين، التدمير ومن ثم الإعمار كأفضل المشغلات لراس المال.  وحينما فشلت في تكرار حرب مباشرة بنفسها في العراق حاربت ليبيا من الجو وخلقت حربا في سوريا بين السوريين وأردفت الثورة المضادة بإرهابيين من مختلف بقاع الأرض، وبالطبع باعت وتبيع لمموليهم السلاح وأجهزة الاتصال…الخ أي مارست حرب الإنابة والهيمنة الثالثة. (سنرى في مقال لاحق كيف تجهز الدردري للعب دور حرب ما بعد  الحرب في سوريا).

بدوره أدى اعتماد اقتصاد إنتاج وتسويق السلاح ونشر الحروب إلى هروب الكثير من الصناعات المدنية إلى بلدان الأجر الضئيل الصين والهند خاصة، وهو الأمر الذي رفع معدل البطالة في الولايات المتحدة. وبالطبع لم تفلح إدارة أزمة البطالة في امتصاص الكم الكبير للعاطلين من خلال الفرعين اللذين عُوِّل عليهما:

·        الصناعات العسكرية

·        وقطاع الخدمات.

لكن البطالة لم تتبلور في حراك طبقي الذي إذا ما اشتعل سيكون التجلي الأكبر للهزيمة العملية وليس استدخالها وحسب. ورغم أهمية شعار “إحتلوا وول ستريت  في تقليد لاحتلال المصانع في فرنسا أثناء ثورة الطلبة 1968، إلا أن هذا الحراك ظل مجرد صدمة جرى امتصاصها. وهذا أمر يعود إلى أكثر من سبب منها افتقار الولايات المتحدة إلى تراث حركة عمالية قوية، وعدم وصول الأزمة إلى العظم في قطاعات عمالية كثيرة. وهذا ما علينا التنبه إليه كفارق بين أزمة الدول المتقدمة وبلدان المحيط، حيث من المستبعد مجاعة الأولى، بينما الثانية هي على حافة المجاعة قبل اشتداد الأزمة.

كان وراء حروب الإنابة (في السودان، واليوم بين ليبا وتشاد وداخل باكستان وفي سوريا اليوم بشكل خاص ونافر…الخ) العجز المالي للولايات المتحدة المقدر ب 16 تريليون دولار  وبطالة وصلت 16 بالمئة على الأقل.

للتغطية على الأزمة كان تبادل أدوار النخب حيث برزت النخبة الإعلامية لتثرثر عن الانتعاش الاقتصادي بين 2009 -11 وهو انتعاش في سوق الأسهم ولا يخدم سوى 7% من المجتمع، بمعنى أنه لم يزد قدرة الأكثرية الساحقة من المستهلكين/القدرة الشرائية ولا باعة المفرق، ألى جانب تقلص قوة العمل وبقاء زيادة الشواغر اقل من تزايد السكان، والشواغر طريق مسدود بقلتها وبالأجور المتدنية.

كما حصلت الشركات على أرباح متأتية عن دفعها أجورا متدنية عبر استجلاب عمال بالفيزا من الخارج ووظائف أوف شور. وهذا يناقض أطروحات بعض الاقتصاديين الوطنيين مثل بول كرياج روبرتس الذي يطالب السلطات بأن تفرض ضرائب عالية على الشركات الأميركية العاملة في الخارج لإرغامها على العودة إلى البلاد لتشغيل العاطلين عن العمل ويقترح تقديم تسهيلات ضريبية عالية لها. ولكن عدم لجوء السلطة لهذا قائم على أمرين:

·        أن الطبقة الحاكمة/المالكة لا تزال تجلس على مقعد مرن

·        ولأن هكذا سياسة تأخذ زمنا إذا ما تقرر تطبيقها

واللافت أن هذه الشركات الرابحة لم توظف لا في استثمار ولا في قروض استهلاكية بل في مضاربات في المشتقات والأسهم. أما السلطة فظل هدفها الحفاظ على حماية المصارف الكبرى وهو ما خدم ال 7% حيث رفع قيمة حقائب الأسهم. أما المصارف والتي استفادت من تريليونات الدعم الحكومي، فلم تتعاون حتى مع بعضها، فهي لم تقرض المواطنين ولم تتقارض فيما بينها نظراً لشكوك كل مصرف بأن الآخر على حافة الإفلاس.

من على حافة استدخال الهزيمة لا تكتفي البرجوازية بالتمسك بأرباحها بل تتجرد من إنسانيتها، مثلاً، أقدمت السيدة جولي على إزالة ثدييها لأن طبيبها اخبرها بأن احتمال إصابتها بسرطان الثدي تصل 87%، أما الإعلام فأحاطها بهالة البطولة تعميماً لهذه النسبة على المجتمع وبالطبع خدمة للشركات الطبية! وهذه معطيات تعود لفحوصات على أسر ذات حالات استثنائية فقط. هذا التعميم الفردي على المجتمع شبيه بتعميمات فرويد لحالات الأفراد المرضى نفسياً. إذا كان هذا مسموح به في المجتمع الأميركي، ما الذي سوف تتحفظ عليه الولايات المتحدة في سوريا!!!

إضافة إلى معالجات أو إدارة الأزمة بإنتاج السلاح وإشعال الحروب، ونقلها إلى الحرب بالإنابة…الخ، عملت السلطات الأميركية على معالجات اقتصادية بحتة ومنها قرار طباعة تريليون دولار سنوياً ضمن سياسة أسمتها (التسهيل الكمي ) كمااصدرت سندات خزينة لصالح الصين مقابل ديون صينية وصلت 2 تريليون دولار، وطافت على توابعها العربية النفطية حيث قدمت لها الأخيرة معظم صناديقها السيادية واشترت اسلحة بعشرات مليارات الدولارات كي تتراكم كخردوات قريبا ليتم شراء بدائل لها تلقى نفس المصير. ولكن كما اشرنا تم تسخير كل هذا لتوفير السيولة للمصارف الكبرى.

وضمن محاولات صد الهزيمة تركز الولايات المتحدة جهدا كبيرا باتجاه التصدي للقطبيات الصاعدة روسيا والصين الشعبية وذلك عبر التحضير لمواجهة الصين في حرب باردة قد تسخن في اي حين، ومواجهة روسيا في حرب اقتصادية من سماتها محاولة تطويق غاز ونفط روسيا عبر التركيز على إيصال الغز القطري الخفيف عبر (احتلال سوريا) وصولا إلى تركيا فتحيي نابوكو الذي خنقته سوريا الصامدة.

التراخي مقدمة لاستدخال الهزيمة:

نصل مما تقدم أن أزمة الولايات المتحدة، وبالطبع الاتحاد الأوروبي ليست متخيلة بل أزمة حقيقية. وهي أزمة تواجهها السلطة هناك بمحاولات متعددة ولكن دون أن تمس مصالح الطبقة الحاكمة، بمعنى أنها تزيح عبىء الأزمة على الطبقات الشعبية داخليا وعلى الأمم الأخرى خارجيا.

ولكن كل محاولات الإزاحة هذه لم تستر دخول بلدان ثلاثي المركز الإمبريالي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) مرحلة تراخي قبضتها على المحيط الأمر الذي تستغله القوى القطبية الروسية والصينية والبرازيل بشكل خاص حيث تبني كل منها علاقات ومصالح مع بلدان كانت ولا تزال جزئيا ضمن التبعية للثلاثي الإمبريالي. فالصين توسع نشاطها الاقتصادي في إفريقيا، والبرازيل تعفي عدة دول إفريقية من مليار دولار من الديون،وروسيا تثبِّت وجودها في المشرق العربي عبر تحالها مع سوريا وفي المنطقة عبر تحالفها مع إيران. وهذه مناطق كانت مغلقة لصالح الثلاثي الإمبريالي.

وعليه، فإن الحرب المشتدة في سوريا هي حاسمة لمصير الوطن العربي والعالم لأنها ترفع تراخي قبضة الإمبريالية إلى حصول ومن ثم استدخال الهزيمة بلا مواربة، وهذا ربما يفسر اشتداد الصراع، ولجوء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى لفيف من المناورات السياسية وتقديم اسلحة للإرهاب في سوريا لتحسين شروط مؤتمر جنيف 2 وربما سلسلة جنيف.

بقي أن نختم هذه العجالة بالتذكير بصراعات تاريخية حاسمة يمكن لفهم دروسها الإضاءة على وجوب النصر في سوريا. فلا بد من استحضار موقف طارق بن زياد حين أحرق السفن ولا بد من استعادة تكتيك صلاح الدين الأيوبي الذي قطع الماء عن جيوش فرنجة الإقطاع مما أدى إلى هزيمتها وما علينا اليوم سوى استعادة النفط والغاز الخليجي وقطعه عن الثلاث الإمبريالي (فرنجة رأس المال) عبر التحكم بالنفط لإلحاق الهزيمة بالثورة المضادة.