د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 2 حزيران 2013
المقدمة:
دأبت مراكز الابحاث ووسائل الاعلام الاميركية على الاهتمام بفضائح الادارة الاميركية السياسية، بالتزامن مع مواكبتها جدل انعقاد مؤتمر جنيف – 2 الذي لايبدو ان الطريق اليه سالكة.
تأكيد الرئيس الاسد، في مقابلته مع محطة المنار للتلفزة، عل تسلم سورية اولى شحنات منظومة الدفاع الجوي الروسية، اس-300، اثار ضجة كبرى وقلقا لدى الدوائر السياسية والعسكرية.
سيتناول قسم التحليل ما ورد حول طلب الرئيس اوباما من البنتاغون التهيئة لاعداد خطة انشاء منطقة حظر جوي فوق الاجواء السورية، والنظر الى الابعاد العسكرية والسياسية التي تنطوي عليها، في ظل سعي صناع القرار التوفيق بين جدلية انشاء المنطقة دون الدفع باتجاه تصعيد الموقف.
ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث
سـوريـة:
تسلم سورية، او هي في الطريق التسلم، لمنظومة دفاع جوي متطورة من روسيا اثارت قلقا واسعا داخل الاوساط الاميركية. اذ حثت مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation الرئيس اوباما على اقناع تركيا بفك ارتباطها التجاري مع روسيا، بدءا باستغلال تركيا مكانتها التجارية القيمة لدى روسيا لاقناع الاخيرة بنيتها وقف اتمام الصفقة التجارية بينهما لانشاء اربعة مفاعلات نووية بخبراء روس في تركيا، على خلفية دعمها لسورية. واشارت المؤسسة الى “سماح تركيا للمسلمين الروس من السُنّة المرور عبر اراضيها للقتال ضد (الرئيس) الاسد في سورية .. وعليه لن تكون مهمة مستحيلة اقناع تركيا بان مصالحها تكمن في بناء مفاعلات نووية بخبرة اميركية او اوروبية.”
اعرب معهد بروكينغز Brookings Institute عن شكوكه لضم ايران في المفاوضات السياسية المقبلة حول سورية “نظرا لدورها الكبير” هناك. واوضح ان باستطاعة “ايران افساد اي تقدم نحو تسوية تنتج عن مؤتمر جنيف. وهذه الحقيقة الصارخة تقودنا الى نتيجة تفيد اننا بحاجة للتوصل الى تسوية مع ايران ان قدر للحل السياسي في سورية” الوقوف على قدمية.
ايضا، انتقد “بروكينغز” ما اسماه حماقة المجموعة الدولية لعدم تدخلها المباشر في سورية مما ادى الى تعزيز قوة الدولة السورية، سيما وان رئيس جهاز الاستخبارات الالمانية “يعتقد ان باستطاعة النظام (السوري) استعادة سيطرته على كافة رقعة الشطر الجنوبي من سورية مع نهاية العام الجاري.” ووجه اتهاما آخرا للمجموعة “لتبنيها الرواية السورية الرسمية بأن العناصر المتشددة تسيطر على قوى المعارضة ..” مزديا نصيحته الى نجاعة عامل التدخل العسكري “كما شهدت عليه البوسنة وكوسوفو .. ومن بعدها ليبيا” لانجاز الاهداف السياسية المرجوة.
معهد كارنيغي Carnegie Endowment ركز جهوده على التداعيات المترتبة على لبنان من احتضانه اللاجئين السوريين “الذين ينتمون للغالبية السنية بنسبة 80% ..” اما الفقراء بينهم فيشكلون نحو 40% والذين “لجأوا الى مناطق الشمال والجنوب والبقاع والهرمل” في لبنان.
دور حزب الله في سورية تناوله معهد واشنطن Washington Institute كونه “الحدث الابرز في الازمة السورية لتاريخه .. اما في الحقيقة فان الحزب انخرط في التدخل العسكري مباشرة في دمشق منذ فترة .. وانضم الى جانب القوات السورية في هجومها على درعا ومنطقة الغوطة الشرقية من دمشق .. الامر الذي يؤشر على نوايا الحزب في تقديم مصالحه الخاصة على مصلحة لبنان،” مشيرا ايضا الى تفاقم الصراع “السني – الشيعي” في اعقاب خطاب السيد حسن نصر الله.
رفض التدخل العسكري في سورية بالمطلق كان من نصيب “الجمعية الاميركية للقانون الدولي American Society of International Law” اذ اشارت الى ان “الاميركيين غير معنيون بانقاذ شعوب الشرق الاوسط من عدم الاستقرار،” ومناشدة صناع القرار الاميركي انجاز “علاقات شبه طبيعية مع روسيا التي تمثل المبرر الاميركي لترسيم الخطوط الحمراء بالنسبة للتدخل السافر في سورية.”
حذر مجلس العلاقات الخارجية Council of Foreign Relations قوى المعارضة السورية من رفضها المشاركة بمؤتمر جنيف – 2، اذ “من وجهة نظر عملية (براغماتية) فقرارها يمثل خطأً .. ويسهل اتهامها بافشاله .. وتغامر بخسارة دعم وتأييد الغرب لها.” كما ان قرار عدم المشاركة “يعقد الامر بالنسبة للقوى الغربية، ناهيك عن الولايات المتحدة، في توفير الاسلحة لقوى المتمردين.”
ايــران
جدد معهد واشنطن Washington Institute تحذيره من تنامي القوة النووية الايرانية، وتراجع الاهتمام الاميركي بتوجيه ضربة عسكرية لمنشآتها مما يضع “اسرائيل امام خيار توجيه ضربة عسكرية صاعقة” بخسائر اقل دون اللجوء لشن غارات جوية متواصلة. واوضح انه بعد ضربة مثل تلك فان الرد الايراني “سيكون مدروس بشكل اكبر، مما سيخفف من امكانية التصعيد” والتوتر في المنطقة. وحث الولايات المتحدة على النظر بتوجيهها غارات مستمرة على المنشآت الايرانية “ان توفرت لها الرغبة بعدم الانجرار الى حرب طويلة الاجل في بلد اسلامي، بنية وقف جهود ايران النووية، وليس لتغيير النظام او احتلال” البلاد.
الانتخابات الرئاسية الايرانية كانت من نصيب مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies التي اعربت عن اعتقادها بأن “بنية النظام الحالي تلغي كفاءة اي من المرشحين الذين لا يماشون النظام في سياساته وتفضيله الموالين له.” كما لفتت النظر الى الاتهامات الغربية الموجهة لمرشحين رئاسيين تم الابقاء عليهما ضمن قائمة التنافس النهائية، علي اكبر ولايتي ومحسن رضائي، لضلوعهما في تفجيرات بيونس آيرس، كما تزعم المؤسسة. واعربت عن استغرابها لعدم استجابة رئيسة الارجنتين، كريستينا كيرشنر، لضغوطات الجالية اليهودية في بلادها والتي مردها “العلاقات التجارية المميزة بين الارجنتين وايران” سيما وان الاولى “اضحت الممول الرئيس للقمح” للسوق الايرانية.
تــركــيــا:
اعرب معهد واشنطن Washington Institute عن اعتقاده بان “تركيا اضحت تبيع صادراتها المختلفة للسعودية عبر اسرائيل ..” بعد تراجع علاقاتها مع العراق الذي “اغلق اراضيه امام مرور صادراتها الى الدول المجاورة،” مما دفع بها الى التعويض عن الممرات البرية بانشاء طريق بحري مباشر بين مرفأي مرسين وحيفا. وحذر المعهد من ان تؤدي “سياسة تركيا المناوئة للحكومة السورية الى تقويض مكتسباتها السابقة،” موضحا ان “توجهات السياسة الخارجية لتركيا جاءت بكلفة عينية عالية،” في اشارة لانفجارات مدينة الريحانية بالقرب من الحدود السورية.
التحذير من ظاهرة الاسلام:
وجهت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies نقدا حادا للرئيس اوباما “لاخفاقه الاقرار بحقيقة ان الاسلام الجهادي هو في حالة حرب حتمية مع الغرب،” وذلك ردا على كلمة الرئيس اوباما في جامعة الدفاع الوطنية التي اقتصرت اشارته الى “اعتقاد بعض المتشددين بأن الاسلام في حالة صراع مع الولايات المتحدة والغرب.” وفند اوباما تلك المقولة بالتشديد على ان “الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع الاسلام.”
الخليج العربي:
حذر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS دول الخليج العربي من اغفال الارهاصات الداخلية في بلدانهم سيما وان الاحتجاجات الشعبية “تترك اثرها السلبي على شراكة الولايات المتحدة الاستراتيجية مع دول الخليج العربي،” مناشدا اياها “التفاعل مع الابعاد الاوسع لظواهر التشدد الديني والارهاب والصراع الداخلي، طائفيا وعرقيا وانقسامات قبلية” لما لها من انعكاسات على مجمل ميزان القوى في الخليج.
التحليل:
ثرثرة أميركية حول الحظر الجوي في سوريا
انتعش الجدل وعلقت الآمال على قرب انعقاد مؤتمر جنيف في نسخته الثانية، عقب التفاهم الروسي – الاميركي، وسرعان ما تبددت التوقعات الايجابية الى نقيض انعقاده على خلفية اضطراب وتناحر صفوف المعارضة السورية المقيمة في الخارج متشبثة تارة بموقفها العدمي بعدم الجلوس مع الحكومة السورية، التي تحرز تقدما ثابتا ومكاسب ميدانية بالغة الاهمية ضد المجموعات المسلحة. اضف الى ذلك ما تسرب من تفاصيل اعلامية توضح مدى الاحباط وضيق ذرع المبعوث الاميركي للمعارضة، السفير الاميركي غير المقيم في دمشق روبرت فورد، واعلانه غضبه الشديد من الاصطفافات والمحاور المتجددة داخل تلك العناصر.
على هذه الخلفية، واستمرار الحكومة السورية بتحقيق مكاسبها وانجازاتها الميدانية، تعود الاولوية لدى الطرفين الى السعي للحسم ميدانيا مما سيعكس موازين القوى الحقيقية على طاولة المفاوضات، عند التآمها. ما يعزز هذه الفرضية هو اعلان “حزب الله” تقديم الدعم والمشاركة في القتال ضد المجموعات المسلحة في شريط القرى المتاخمة للحدود اللبنانية – السورية المشتركة لحماية خاصرته الرخوة هناك من اختراقات اقليمية تنفذ عبر المجموعات المسلحة؛ فضلا عن اعلان روسيا وعلى اعلى المستويات الرسمية عزمها الوفاء بالتزاماتها التسليحية نحو سورية وتسليمها منظومة متطورة للدفاعات الجوية، اس-300، في غضون فترة زمنية قصيرة؛ سبقه اعلان دول الاتحاد الاوروبي رفع الحظر القائم على تسليح المعارضة السورية.
الرد الاميركي بالذات جاء ضمن المستوى المتوقع بانعاش “فرض منطقة حظر جوي” فوق الاجواء السورية، فاستخدام سلاح الجو يعد الخيار المفضل للمؤسسة الرئاسية الاميركية في كل حروبها التي شنتها في الخارج، منذ عهد الرئيس ليندون جونسون، مرورا بغزو واحتلال العراق الذي مهد له بوش الاب بفرض منطقة حظر للطيران امتدت منذ انسحاب العراق من الكويت في حرب الخليج الثانية. بالنظر الى اخفاق نتائج ما رمى اليه هتلر من فرض استسلام على بريطانيا، في الحرب العالمية الثانية، باعلانه منطقة حظر جوي عليها، وتجربة العراق الاطول في التاريخ، نستطيع القول ان نتائجها لم تؤد ببريطانيا اعلان استسلامها وكذلك العراق تحدى الحظر لحين لحظة غزو اراضيه؛ فضلا عن ان القصف الاميركي المدمر لهانوي لم يمنع تدفق الدعم العسكري لقوات الفيتكونغ المشتبكة مع القوات الاميركية في جنوبي فيتنام.
ينتظر من استراتيجيي البنتاغون الاتعاظ بتلك التجارب من الزاوية العسكرية، والاخذ بعين الاعتبار الاهداف السياسية وتداعيات التدخل في الحسبان.
معاني انشاء منطقة حظر للطيران فوق سورية
خيار انشاء منطقة حظر للطيران، في الحالة السورية، يخضع لتوفر خمسة اعتبارات من الناحية العملية:
وضوح الهدف او الاهداف المرجوة
تحديد وسائل التطبيق
حجم القوة والقوى المطلوبة
دقة المعلومات الاستخبارية
توفر النية لتنفيذها
من شأن نظرة تمحيصية في العوامل الواردة التدليل على طغيان البعد والاعتبارات العسكرية، بيد انها تنطوي على ابعاد سياسية غاية في الاهمية.
عند تناولها كل على حدة فيما يخص سورية، نتوصل الى اهمية توفر العناصر التالية:
وضوح الهدف:
منذ البداية، رفع الرئيس اوباما وحلفاءه سقف التوقعات للنتائج المرجوة، بالتركيز على انجاز تفوق جوي طاغي عوضا عن التواضع والاكتفاء بتحقيق سيطرة على الاجواء لمدة زمنية محددة وفوق منطقة جغرافية واضحة المعالم، مما يستدعي سيطرة جوية مطلقة على مدى الساعة. تحقيق ذلك بدى اعقد بكثير مما كان متوقعا.
لا يغفل جميع الاطراف حقيقة امتلاك سورية لمنظومة دفاع جوية فاعلة اشتبكت مع سلاح الجو “الاسرائيلي،” وحققت اصابات قاتلة في سلاح الجو التركي وامتدادا لحلف الناتو. فاستهدافها لن يكون نزهة بأي من المقاييس التي اعتادت الولايات المتحدة وحلفائها مواجهته، سواء في العراق او ليبيا. ففي حالة العراق، استمر القصف الجوي الغربي لمدة طالت نحو 30 يوما للتخلص من من مواقع الصواريخ ومنشآت الرادار التابعة لها وشبكة الاتصالات ومراكز القيادة والتحكم قبل بلوغها موقع التفوق الجوي الحاسم. بل اكتشف الغرب فعالية سلاح المدفعية المضادة للطيران عند طلعات الاغارة على ارتفاعات متدنية، والذي حصد عددا من المقاتلات البريطانية عند اغارتها على القواعد الجوية العراقية في العام 1991.
في هذا الصدد، يبقى السؤال مشرعا امام نية وعزم الرئيس اوباما ودول الناتو استثمار ارصدتهم السياسية المتدنية اصلا للتوصل الى تحقيق تفوق جوي ساحق للمضي بعملية انشاء منطقة حظر جوي فاعلة.
وسائل التطبيق:
انشاء منطقة حظر للطيران فوق الاجواء السورية يستدعي اقامة مزيد من بطاريات صواريخ باتريوت على الاراضي التركية المحاذية لسورية، والتي تنطوي على مدى فعالية محدود وقصير نسبيا تسند جهود فرض الحظر الجوي لكن ليس بوسعها ضمان عدم تفوق سلاح الجو السوري في مرحلة بالغة الحساسية.
بالنظر الى حجم القوة العسكرية المتوفرة لدول حلف الناتو، باستطاعتها انشاء منطقة حظر للطيران لو توفرت الارادة السياسية. اولى مهام قوات الحلف تستوجب الاغارة على مواقع شبكات الرادار باستخدام طائرات الشبح او بصواريخ كروز بعيدة المدى. ان استطاع الناتو تدمير تلك المنصات ينبغي عليه التقدم بالاغارة على مواقع سام المضادة للطيران وفرض معادلة تفعيل راداراتها لملاحقة اهداف جوية محددة – ربما طائرات الدرونز. وبعد انكشاف مواقع الرادار يسهل استهدافها باستخدام صواريخ مضادة للاشعاع والتي تغير على مصدر اشارات الرادار.
ومن ثم تدخل الطائرات السمتية والحربية بعلو منخفض للانقضاض على مواقع بطاريات الصواريخ وتدميرها؛ بالتزامن مع تحليق طائرات الاواكس لمراقبة اية طلعات للمقاتلات السورية وتوجيه سلاح جو الناتو للاشتباك والقضاء عليها، يرافقها غارات اضافية لاستهداف مدرجات المطارات العسكرية السورية ومواقع التحكم والسيطرة او القيادة السورية. هذا السيناريو يوفر لطائرات حلف الناتو سيطرة جوية لمدى ابعد من ارتفاعات 10،000 قدم.
حجم القوة المطلوبة:
يتعدى المطلوب القوة العددية ليشمل النوعية ومديات التدريب وعوامل اخرى. ليس بالضرورة توفر كل تلك العناصر لدى قوات حلف الناتو.
بالطبع، يتفوق حلف الناتو بنوعية الطائرات المقاتلة ومديات التدريب على ما لدى سورية؛ بيد ان بلوغ مرحلة التفوق الجوي الحاسم يستدعي توفر عناصر اخرى. للدلالة على صعوبة المهمة، ينبغي النظر الى التفوق النوعي لسلاح الجو “الاسرائيلي” والذي احجم عن انشاء منطقة حظر جوي فوق الاجواء السورية، مكتفيا ببسط تفوقه فوق اهداف محددة تم انتقاءها بعناية لفترات زمنية محدودة.
التفوق النوعي في الاجواء يستدعي بقاء طلعات الطيران على مدار الساعة، وهو أمر لا يجوز الاستهانة به او التخفيف من تبعاته ومتطلباته بل وتكلفته. في الحالة الليبية، مثلا، امتلك حلف الناتو قاعدة امداد خلفية نوعية ومدرارة في ايطاليا وهو عامل غير متوفر في سورية. لو اختار الحلف الانطلاق من قواعده في ايطاليا، فان بعد المسافة بحد ذاته يستدعي ادخال عدد اكبر من المقاتلات وما يتطلبه الامر من اعمال صيانة مكثفة.
الخيار المنطقي يتجه نحو استخدام القواعد الجوية التركية، الامر الذي ينطوي عليه الحصول على موافقة تركية مسبقة وما يرافقه من مخاطر الالغاء ان قررت “اسرائيل” الدخول على الخط. لو افترضنا توفر موافقة تركية باستخدام قواعدها واراضيها، يبقى عامل التغلب قائما على مهمة دعم وصيانة عدة مئات من الطائرات وبضع آلاف من الطواقم البشرية المرافقة واقامة جسر جوي بين تركيا واوروبا.
سورية لا تخلو من ميزات توفر القوة النوعية لصالحها. وخلافا لمقاتلات حلف الناتو التي تستدعي جبهة خلفية طويلة توفر لها الدعم، فان سلاح الجو السوري باستطاعته انتقاء اهدافه وتنفيذ مهامه بسرعة اكبر وحيثما شاء، بالنظر الى انه ينطلق من قواعده الذاتية في بلاده. الامر الذي يعمل بالضد من التفوق العددي لقوات حلف الناتو.
تسلم سورية لمنظومة الدفاع الجوي اس-300، بصرف النظر عن الفترة الزمنية المطلوبة او المفترضة، يشكل عامل قوة بحد ذاته بالنسبة لسورية. اذ تعتبر المنظومة من اشد الدفاعات الجوية فعالية المتوفرة على نطاق العالم بأكمله، يعززها شهادات القيادات العسكرية الاميركية. رادارات المنظومة تنطوي على قدرة رصد متزامن لنحو 100 هدف جوي والاشتباك مع 12 هدفا دفعة واحدة. كما ان صواريخ المنظومة الدائرية مغلقة الفجوات ولا تتطلب اي قدر من الصيانة طيلة عمرها الافتراضي. فضلا عن ان سلاحي الجو الاميركي ودول حلف الناتو لم يسبق لهما اختراق اجواء تحميها نظم اس-300 واختبار قدرتها الفعلية. يتردد ان كرواتيا، بعد انفصالها عن يوغسلافيا بحكمة الناتو، باعت ما لديها من منظومة بطاريات اس-300 للولايات المتحدة في العام 2004، الامر الذي يفترض معرفة مسبقة لقوات حلف الناتو بآلية عمل المنظومة.
من العناصر المميزة الاخرى لدى سورية امتلاكها منظومة صاروخية بعيدة المدى (الباليستية) ورؤوسا حربية بعضها وفقا لخبراء غربيين كيميائية، التي ان دخلت المعركة واستهدفت مواقع معينة في فلسطين المحتلة واقدمت “اسرائيل” على الرد، قد ينطوي على قيام حلفاء الناتو في الاقليم، مثل الاردن وتركيا، تحت ضغط شعبي داخلي واسع، بالاضطرار لسحب دعمهم من الانخراط في الصراع. من شأن ذلك ان يعقد مهمة الاستمرار في فرض منطقة حظر جوي فوق الاجواء السورية، ان لم تكن مستحيلة.
الجهد الاستخباري:
يتميز حلف الناتو بالتفوق في هذا الجانب، وامتلاك سورية لبعض العوامل لصالحها واهمها عزم روسيا على تأكيد دعمها بقاء الرئيس الاسد في السلطة وما ينطوي عليه من مشاركته في المعلومات الاستخبارية المتوفرة لدى روسيا عبر الاقمار الاصطناعية والمعلومات الالكترونية. بالاستناد الى فرضية قدرة حلف الناتو على النيل وتدمير شبكة الرادارات السورية، لانشاء منطقة حظر جوي، فباستطاعة القطع البحرية الروسية الراسية في مياه البحر المتوسط التعويض ورصد تحركات طيران حلف الناتو وتوفير تلك المعلومات للجانب السوري. كما باستطاعة الاقمار الاصطناعية الروسية توفير معلومات غاية في الاهمية والحساسية لسورية حول القدرات الجوية المتوفرة لحلف الناتو.
حينئذ يتوفر لدى سورية معلومات ذات طبيعة استخبارية تقوم بها اجهزة حليفة تابعة “لحزب الله” وايران وعبر شبكة الجواسيس البشرية التي اخترقت بها صفوف قوى المعارضة السورية بمختلف تلاوينها.
في ذات السياق، لا يجوز التخفيف من الموارد التقنية الهائلة المتوفرة لدى حلف الناتو لجمع المعلومات الاستخبارية، تساندها موارد استخبارية في “الموساد الاسرائيلي” وقوى المعارضة السورية. كما من شأن الحلف تعزيز معلوماته بالاعتماد على فرق القوات الغربية الخاصة المتواجدة في الاراضي السورية.
توفر النية:
الاولوية في هذا الصدد للقدرة على اتخاذ القرار السياسي وما يرافقه من انكشاف نقاط ضعف الخطة المرسومة.
انطلاقا من فرضية قدرة حلف الناتو على النجاح بمهمته لاقامة منطقة حظر جوي، فان توسيع نطاق المهمة سيفرض نفسه لمستوى شديد الاغواء. طبيعة موازين القوى على الارض تستدعي القول ان شن الحكومة السورية هجوما ناجحا ضد قوى المعارضة المسلحة سيدفع بالاخيرة لطلب حماية جوية من حلف الناتو لا محالة، وما ينطوي عليه من تصعيد نطاق المهمة وحاجتها لمزيد من المقاتلات الحربية لدخول ساحة المعركة وتوسيع قاعدة المتطلبات اللوجستية. كما ستعزز نية حلف الناتو باستهداف شخص الرئيس الاسد وقيادات اخرى عبر شن غارات جوية مباشرة. بالنظر الى تجارب التاريخ القريب، فكما اثبتت تجربة الرئيس الاميركي الاسبق ليندون جونسون بشنه غارات جوية مدمرة مكثفة على هانوي، عاصمة فيتنام الشمالية، وباءت بالفشل في تحقيق اغراضها، نستطيع القول ان التهويل بها في الحالة السورية تم تنحيته جانبا ووضع ادراج النسيان.
المحللون الغربيون، ساسة وعسكريون، ما فتأوا بالاشارة الى اختلاف سورية عن الحالة الليبية التي تتميز بالمساحة الجغرافية الشاسعة وقلة السكان، بخلاف سورية التي تقطنها كثافة بشرية مميزة في المدن الكبيرة. ولا يغفل عليهم ايضا الاشارة الى فشل تجارب الغارات الجوية، على نطاق العالم، فوق المدن من تحقيق اهدافها، سيما وان مثالي معركة ستالينغراد ومونتي كاسينو، جنوبي روما، لا يزالان ماثلين في الاذهان يؤشران على عقم الرهان على تفوق القوة الجوية وحده.
الجدوى السياسية من انشاء منطقة حظر للطيران
المغامرات العسكرية الاميركية المتعددة حفزت الرؤساء الاميركيين المتعاقبين على النظر الى شن الغارات الجوية بانها دواء شافي لكل الازمات؛ والرئيس اوباما لا يشذ عن ذلك الوهم. وعليه ليس من العسير الاستنتاج بان انشاء منطقة حظر للطيران في سورية، لو تم، لن يوقف الانجازات الميدانية للجيش العربي السوري؛ ولن تدفع الرئيس الاسد التخلي عن منصبه كما يطالبونه به؛ بل لن تؤدي الى احتلال دمشق كما تعول عليه المجموعات المسلحة.
قد يستطيع حلف الناتو التغلب بل وتجاوز العقبات التقنية التي تعترض التفوق الجوي الحاسم لصالحه، لكن ماهية المرحلة لما بعد ذلك تبقى ضبابية الملامح. بما ان تحقيق التفوق الجوي ليس هدفا قائما بمفرده، بل وسيلة لتحقيق غرض ما، فان شهية استغلاله لتحقيق اهداف سياسية ابعد تبدو شديدة الاغواء.
اتخاذ قرار سياسي باقامة منطقة حظر جوي، من قبل الجانب الاميركي وحلفائه، ينطوي على المضي بدعم المجموعات المسلحة لتمكينها من تحقيق الغلبة، وما يتطلبه ذلك من توفير دعم متواصل في مستويات عدة: مادية وتدريبية والدعم بشن غارات جوية خلال الهجمات البرية. بكلمة اخرى،انه يعني تصعيد غير محسوب بدقة قد يؤدي الى نشوب حرب اقليمية تطول مدتها الى بضعة اسابيع وربما أشهر، وما سينجم عنها من تغيير في مكونات الخارطة الجيو- سياسية في المنطقة.
رغم الثرثرة الاميركية المتجددة حول التلويح باعداد خطط للحظر الجوي فانها قد لا تنتقل الى ما هو ابعد من التخطيط خاصة في ظل التطورات الميدانية المؤشرة على استعادة الجيش العربي السوري للمبادرة .
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
مدير المركز: د. منذر سليمان
الموقع: www.thinktanksmonitor.com
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com