على الأكاديميين الفلسطينيين أن يسمُوا بأنفسهم في توخي الحقيقة

حول الثقافة الشعبوية وخطاب الأكاديميين الفلسطينيين

بقلم جلعاد أتزمون

 

قبل سنتين، استمعت إلى محاضرة علي أبو نعمة حول “الثقافة” والسياسة، ناحيا بها منحا جديداً من الجهل الفكري. بعد ذلك واجهت المدعو عمر البرغوثي، أحد نشطاء حملة مقاطعة إسرائيل، داعيا إلى القدرية البيولوجية. وهذا الأسبوع، وقعت على محاضرة لجوزف مسعد، الأستاذ في جامعة كولمبيا، ألقاها في مدينة شتوتغارد في الشهر الماضي، وهي تدور حول الصهيونية ومناهضة الصهيونية. ولسوء الحظ، اتبع جوزيف مسعد النمط عينه.

والآن دعونا نمحص بعض أفكار جوزيف مسعد. إنه يستنتج في نهاية محاضرته أنه “بينما تصر إسرائيل على أن اليهود الأوربيين لا ينتمون لأوربا ويجب أن يأتوا إلى فلسطين، يصر الفلسطينيون على أن أوطان اليهود الأوربيين إنما هي في بلادهم الأوربية لا في فلسطين.” هذا وصف جميل لأفكار متناقضة، لكنها ملفقة كليا بيدي جوزيف مسعد. فأنا لا أعرف فلسطينيا، بمن فيهم مسعد نفسه، بلغت به الجرأة بحيث يشير على اليهود الأوربيين أين يكون انتماؤهم. فالواقع أن الوحيدة التي كانت من الشجاعة بحيث عبرت عن مثل هذه الفكرة الصحيحة البسيطة هي البطلة الأمريكية هِلن طومس.[1] بهذا يكون السؤال التالي هو من هم “الفلسطينيون” في ذهن جوزيف مسعد؟ هل هم موجودون خارج نطاق هذا العالم الذاتي؟

يمضي جوزيف مسعد قائلا، “بينما تصر الصهيونية على أن اليهود عرق منفصل عن المسيحيين الأوربيين، يصر الفلسطينيون على أن اليهود الأوربيين إنما هم أوربيون ولا علاقة لهم بفلسطين، لا بشعبها ولا بثقافتها.”

مرة أخرى، قد يكون جوزيف مسعد مُصيبا هنا فيما يتعلق بقدوم اليهود من أوربا. لكن، أيضا، من هم “الفلسطينيون” الذين يشير لهم جوزيف مسعد؟ هل هم شعب من علماء علم الإنسان الذين يُصدرون أحكاما حول اليهود وانتمائهم العرقي والعنصري؟

يمضي جوزيف مسعد في أقواله الغامضة الخاطئة التي لا علاقة لها بالحقيقة قط، فيقول، “لقد حُوِّل اليهود الأوربيون إلى أدوات للعدوان؛ وأصبحوا عناصر للاستعمار الاستيطاني والتفرقة العنصرية.” إن اليهود الأوربيين، إن لم يكن مسعد يعلم، لم “يُحوَّلوا” إلى “أدوات للعدوان.” ذلك أنهم، فيما يتعلق بالصهيونية، قد تبنَّوا ذلك الدور “العدواني.” أضف إلى ذلك أن إسرائيل دولة استيطانية حقا، غير أن الصهيونية ليست استعمارية وإسرائيل ليست “دولة استعماريةً استيطانية.” وإني لأتوقع من أستاذ في جامعة كولمبيا أن يعرف أن الاستعمار في تعريفه العام هو تبادل مادي بين “الدولة الأم” و”الدولة الاستيطانية.” وإنه لمن غير الواضح ما هي الدولة الأم التي تقف خلف الدولة الاستيطانية اليهودية.

حين يقرأ المرء جوزيف مسعد، لا يتأتَّى له أن يُدرك منهجه الفكري. فهو إنما يتبع نزوات قلبه في محاولة شعبوية لإرضاء جمهور من النشطاء اليساريين واليهود “المناهضين” للصهيونية. إن هذه حقاً كارثة، لأن للمفكر دورا في المجتمع وفي الخطاب المقاوم بخاصة. إن عليه، رجلا كان أم امرأة، أن يمضي قدما، لا أن يستسلم لنمط سياسي ضعيف وشعارات صارخة.

من المثير للدهشة أن جوزيف مسعد يخرج عن نمطه في إحدى النقاط ليقدم لنا ملاحظة حقيقية. يقول مسعد، إن الصهيونية في البداية تبنت الأفكار المناهضة لليهودية، ومنها اللاسامية العلمية. فيبين مسعد، مصيبا، أن الصهاينة الأوائل، مثل هيرتسل، كانوا يرون أن اللاسامي حليف لهم بالقوة. ويقول مسعد، “لقد بيّن هيرتسل أنهم اليهود، لا أعداؤهم المسيحيون، من “سبَّبوا” اللاسامية.”

وبالرغم من صحة قول جوزيف مسعد، فإنه هنا غير أصيل. ذلك أن الطبيعة اللاسامية للصهيونية المبكرة موضوع قُتل بحثا. غير أن مسعد لا يسأل نفسه السؤالين الحاسمين التاليين:

لمَ كانت الصهيونية المبكرة لاسامية؟

كيف أمكن الصهيونيةَ، التي رفضها “اليهودي”، بدايةً، أن تتطور إلى صوت لليهود؟

أتوقع من أستاذٍ في جامعة كولمبيا، خبيرٍ في شؤون الشرق الأوسط، أن ينغمس في التفكير النقدي أو على الأقل أن يكون عارفا للجدلية السلبية. وأتوقع من جوزيف مسعد أن يُدرك الآن أن الهوية السياسية اليهودية إنما تُعرَّف بإنكارها. فالصهيونية، والدولة اليهودية، والسياسة اليهودية عموما تُحرك العداوة ضد اليهود. وعمليات القتل الإسرائيلية في غزة، مثلا، تثير كره اليهود حول العالم. بناء عليه، نجد أن اليهود الفرنسيين يخشون من أعمال العنف التي تستهدفهم بين الحين والآخر، فيُدفعون إلى تعريف أنفسهم سياسيا بأنهم يهود أو صهاينة، وبعضهم قد يهاجر لاجئاً إلى تل أبيب.

معنى كل هذا بسيط، أن اللاسامية وكره اليهود مغروسان في الفكر والعمل الصهيونيين والمناهضين للصهيونية. إن اللاسامية موجودة في صلب خطاب الهوية السياسية اليهودية لأن اليهود العلمانيين يُعرفهم أعداؤهم بالجدلية السلبية (على عكس اليهود السنيين الذين يُعرَّفون بالتوراة). فهل ما ذكرتُه أعلاه أعقد من أن يفهمه باحث فلسطيني أمريكي؟ لا أعتقد ذلك. لكن جوزيف مسعد يخشى حقاً أن يسأل عن الطبيعة الحقيقية للدولة اليهودية وللسياسة اليهودية. إنه يفضل أن يبقى ضمن الحدود الصارمة للخطاب الصهيوني مقابل الخطاب المناهض للصهيونية. هل لي أن أذكر مسعد بأن هذا القالب هو حقيقة قالب صهيوني – يمكن ويجب تحديه.

لسبب ما، يخرج جوزيف مسعد باستنتاجات غريبة جدا. فهو، على سبيل المثال، يؤوِّل حقيقة أن الدول الأوربية والولايات المتحدة قد رفضت أن تُجير مئات آلاف الناجين اليهود من المحرقة كإثبات لدعم برنامج الصهيونية اللاسامي. فهل يستطيع مسعد أن يبرر هذه الفكرة السخيفة؟ لا طبعا، بل إنه لا يحاول أصلاً. أليس أكثرَ احتمالا أن الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية رفضت دخول الناجين من المحرقة بمعزل عن الصهيونية؟ لكن مسعد، الذي لديه ما يكفي من الجرأة الوقحة ليزعم أن “الفلسطينيين أصروا دوماً على أن أوطان اليهود الأوربيين هي الدول الأوربية”، كان ينبغي أن يتحلى بالحد الأدنى من الاستقامة بحيث يقبل أن الأمريكيين، كالفلسطينيين، ربما آمنوا أيضاً بأن أوطان اليهود الأوربيين هي الدول الأوربية لا الولايات المتحدة الأمريكية.

إن جوزيف مسعد مفكر خلاق ممتع. وقد كان في إمكان بصيرته النافذة أن تلقي الضوء على هذا الخطاب، لكنه بدل ذلك مُتورّط في تذبذب محرج، وكاذب أكاديمياً، على طريق مغلق. وما كان الأمر مفاجئاً أن مسعد كان من بين أوائل من نقد عمل ميزهايمر ووالت[2] حول قوة الضغط الإسرائيلية. كذلك إن مسعد يحذو حذو علي أبو نعمة. ومسعد، الذي كثيرا ما يؤيد بصوته واسمه وسمعته حملات تلطيخ وجه اليهود، كان ضحية مثل هذه الحملات. فقد أذعنت “الجزيرة” للضغوط الصهيونية حين سحبت مقاله من موقعها الالكتروني دون حياء.

أود أن أعتقد أن جوزيف مسعد قد تعلم الدرس – فقد حان الوقت للأكاديميين، والأكاديميين الفلسطينيين خاصة، أن يقفوا ويعبروا عن عقولهم مستهدفين الحقيقة. آن الأوان لكل منا أن يصر على أن ينتج مثقفونا ثقافة حقيقية، لا أن يحوموا حول أنفسهم. إن الحرية، حقيقةً، هي حرية الروح، والقدرة على قول المرء ما يعتقد، لا محاولة إلقاء المواعظ على المهتدين.

*** ***

جلعاد أتزمون عازف على السكسافون، ولد في فلسطين المحتلة. خدم في الجيش الإسرائيلي، ويحمل الجنسيتين الإسرائيلية والبريطانية. وهو كاتب وناشط سياسي، يحاول أن يُظهر نفسه متعاطفا مع الفلسطينيين إنسانيا، لكنه يرفض عودة اللاجئين إلى ديارهم، وإزالة إسرائيل غير واردة في ذهنه طبعا.

يمكن الاطلاع على المقالة باللغة الإنكليزية على الموقع التالي.

http://www.presstv.ir/detail/2013/05/23/305051/united-against-scholarship/

 


[1] هلن طومس (ولدت عام 1920) صحفية أمريكية ذات أصل عربي، كانت عضوا أساسيا في مجموعة صحفيي البيت الأبيض. استقالت من عملها عام 2010 عقب ضجة أثارتها بسبب تصريح لها حول إسرائيل وأن على اليهود فيها أن يعودوا إلى بلادهم في أوربا.

[2] يشير الكاتب هنا إلى الكتاب التالي:  John Mearsheimer & Stephan Walt: The Israel Lobby & U.S. Foreign Policy, 2007