“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

الفصل الرابع

السياسة الاجتماعية:

إصلاح ملكية الأرض والتعليم والصحة والإسكان والضمان الاجتماعي

 

في بدئها ثانية بخطة التطوير الاجتماعي والاقتصادي 2001-2007، كان هدف حكومة تشافيز من سياستها الاجتماعية بلوغَ العدالة الاجتماعية في فنزولا. ولهذا، اقترحت الخطةُ أهدافاً فرعية ثلاثة، هي: عولمة الحقوق الاجتماعية، وتقليص التفاوت في الثروة والدخل ونوعية الحياة، وتخصيص الحقل العام للخير الجماعي. وسنرى فيما هو آتٍ كيف عالجت الحكومة العمل على هذه الأهداف وإلى أي حد يمكن السياساتِ الاجتماعيةَ أن تساهم في خلق اشتراكية القرن الحادي والعشرين.

أساسُ هذا النقاش أن حكومة تشافيز ترى أن الحقوق الاجتماعية لا تقل أهمية عن الحقوق السياسية. أي أن دستور 1999 يضمن للمواطنين الفنزوليين حق التعليم والعناية الصحية والإسكان والعمل والضمان الاجتماعي. كثيراً ما يُشكك المنظرون السياسيون اللبراليون بهذه الحقوق الاجتماعية، قائلين إن من غير الواضح تماما كيف للدولة والمجتمع أن يضمنا تطبيقها. مع هذا، في حالة دستور فنزولا، إنه مبيّن تقريباً أن الدستور يحدِّدُ كيف يُفترَض في الدولة أن تعمل على تحقيق هذه الحقوق. ففي حالة الصحة والتعليم، مثلا، ينصُّ الدستور على أن واجب الدولة أن تقدم هاتين الخدمتين مجانا لجميع المواطنين. غير أنه في حالة التوظيف ينص الدستور على وجوب أن تتبع الدولة سياسات اقتصادية واجتماعية تهدف إلى تحقيق فرص العمل بشكل كامل. لكنه لا ينصُّ على وجوب أن تقدم الدولة عملاً لكل من يحتاج إلى العمل، كما كان الحال في المجتمعات الخاضعة لاشتراكية الدولة. هناك تحديد مهم آخر في الدستور حول هذا الموضوع في أنه ينصُّ على أن إنجاز الحقوق الاجتماعية يستند إلى المسؤولية المشتركة. وهذا يعني أن على الدولة والمواطنين عموما مسؤولية تحقيق هذه الحقوق. أما كيف تُطبّق عمليا المسؤولية المشتركة، فسيتضح الأمر أكثر في الوسائل التي تصاغ بها بعض السياسات.

مجالات السياسة الاجتماعية المدروسة هنا مصنفة تحت إصلاح ملكية الأرض، والتعليم، والصحة، والإسكان، والضمان الاجتماعي، والمساعدة الاجتماعية. ولكي نضعَ أساساً للمقارنة، سوف نقوم أولا بفحص السياسة الاجتماعية ونزعات الفقر العام قبل وصول تشافيز إلى السلطة. وسنختتم هذا الفصل بتقييم كيفية تطوُّر الفقر في فنزولا في أثناء رئاسة تشافيز، وما إذا كانت هذه السياسات تمثل شيئاً جديداً أساساً، شيئاً يصلح لتحقيق أهداف اشتراكية القرن الحادي والعشرين بشكل أفضل من السياسات النموذجية للحكومات ذات التوجه الرأسمالي.

السياسات الاجتماعية قبل تشافيز

تبع تطورُ السياسات الاجتماعية في فنزولا قبل وصول تشافيز إلى السلطة التطورَ العام في الاقتصاد، مارّاً في مرحلة تراكم خلال سني الازدهار، من منتصف سبعينات القرن العشرين إلى منتصف الثمانينات، ثم انتكس (كما دلّ على ذلك الإنفاق الاجتماعي) خلال الأزمة الاقتصادية من أواخر الثمانينات حتى أواخر التسعينات. وقبل الازدهار النفطي، كان برنامجُ الحكومة الرئيسيُّ لمكافحة الفقر متمثلا بإصلاح ملكية الأراضي الزراعية، إذ أعاد توزيع الأراضي على 150 ألف أسرة في وقت مبكر من ستينات القرن العشرين. بيد أن فنزولا، مع الازدهار النفطي، عزمت على أن تصبح دولة صناعية حديثة، فأهملت برنامج إصلاح ملكية الأرض لصالح البرامج التي ستبعد البلاد عن الزراعة. وبشكل أولي خلال سني الازدهار، كانت سياسات مكافحة الفقر تعني تقديم التعليم العام المجاني، والرعاية الصحية المجانية، وحدا أدنى معقولا للأجور، ومشاريع عمل ضخمة. كانت كل هذه تعتمد على العائدات العالية من النفط، وانتهى بها الأمر بتأثير واضحٍ على تقليص الفقر في فنزولا. وقد وُجدت مشاريع مساعدات اجتماعية أخرى أيضاً، لكنها كلها كانت تعاني من سيادة مبدأ العلاقات الشخصية والنزعة الأبوية، بحيث كان غالباً ما يُتوقَّع من المستفيدين أن يصبحوا أعضاء في أحد الحزبين المسيطرين، العمل الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي، قبل استلام الفوائد.

مع الهبوط الاقتصادي على مدى 20 عاما في فنزولا، الذي بدأ في منتصف ثمانينات القرن العشرين، انتهى المَطاف بأهم الإجراءات، التي كان يُقصَد منها أصلا أن تُفيد الفقراء، أن أصبحت تفيد الطبقة الوسطى. وإذ أصبحت الدولة أشدَّ فقراً، وانحطَّ متوسط الأجور، لم تعد الطبقة الوسطى قادرةً على تحمل كلفة العناية الصحية الخاصة والتعليم الخاص. نتيجةً لذلك، تولت الطبقة الوسطى بالتدريج أمر نظام التعليم العام والصحة العامة. كذلك أصبحت البرامج الأخرى التي كانت أصلاً تستهدف الطبقة العاملة، كالمساعدة على شراء المساكن، أو مِنَحِ الدراسة في الخارج، أو السيارات المعفاة من الجمارك، سياساتٍ تدعم الطبقة الوسطى أساساً.

هناك عامل مهم في الانزياح التدريجي لدى المستفيدين من برامج الحكومة في أن الخدمات لم تعد مجانية. من ذلك، مثلا، أن التعليم العامّ أخذ يفرض رسوما تدريجية وازدادت كلف اللوازم المدرسية. كذلك بينما كانت العناية الصحية العامة برسوم رمزية أو بكلفة قليلة، بات على المرضى أن يدفعوا ثمن لوازم العلاج. أما نزعة الحكومة المتقطعة نحو إجراءات اقتصادية لبرالية جديدة خلال إدارة كارلُس أندريس بيريز (1989-1993) وفي أواخر رئاسة رفائيل كَلْديرا (1996-1998)، فقد فاقمت مشاكل الفقر في فنزولا بسبب إجراءات الخصخصة، وتخفيض الإنفاق الاجتماعي، وزيادة كلفة الخدمات العامة.

لم يقتصر الأمر على انزياح المستفيدين من السياسات الحكومية تدريجياً صوب الطبقة الوسطى، بل تغير الفقر نفسه. فبالإضافة إلى اشتماله على قسم متزايد من السكان، بدأ الفقر يؤثر على الناس الذين يُعَدُّون، استناداً إلى مستوى تعليمهم، جزءاً طبيعياً من الطبقة الوسطى. وهكذا أصبح الفقرُ أكثرَ تنوعاً وتعميما. كذلك، مع تدفق الأعداد الكبيرة من المهاجرين الآتين من كولمبيا والدول الأمريكية-اللاتينية الأخرى، بات الفقراء أكثر تنوعا عرقيا. وما إن حلت حكومة كَلديرا الثانية (1994-1999)، حتى غدت موارد الدولة للتخفيف من الفقر من الشحِّ بحيث أصبح نادراً بقاءُ أية برامج تفيد الفقراء مباشرة.

الفقر في فنزولا

كان لنقص البرامج الاجتماعية للتخفيف من الفقر والهبوط الاقتصادي المرافق لها أثر مباشر على تزايد التفاوت في المساواة وعلى تناقص دخل الفرد. وقد أنتجت هاتان النزعتان مجتمعتَيْن أعلى معدل زيادة في الفقر في فنزولا بين دول أمريكا اللاتينية الأخرى.

لم يُظهر المقياس المعياري للتفاوت في المساواة، المسمَّى “معامل جِني”، الذي يقيس تفاوت المساواة في أية دولة، تغيُّراً مهماً على مدى ثلاثين سنة تقريباً في فنزولا. فمن 1971 إلى 1997، تقلّب بغير انتظام، لكنه بقي عموماً ما بين 0.45 و0.50، منتهياً عام 1997 عند المستوى نفسه تقريباً كما كان عام 1971.([i]) بيد أن مؤشر جِني لا يقيس إلا الدخل الآتي من الأجر أو الراتب، لا الدخل الرأسمالي. وتُظهرُ معطياتٌ أخرى، مثلا، أن حصة الدخل الرأسمالي (أي الدخل من استثمار رأس المال) ازدادت أكثر كثيراً من الدخل الآتي من الأجر أو الراتب خلال الثلاثين سنة المنصرمة. وقد أظهرت إحدى الدراسات، مثلا، أن العمالة خسرت أمام رأس المال بين سبعينات القرن العشرين والثمانينات 11% من الناتج المحلي الإجمالي.([ii])

وهكذا، إذا أخذ المرء الدخل الرأسمالي في الحسبان، ازداد التفاوت في المساواة كثيراً، بحيث تكون فنزولا الآن إحدى أشدِّ مجتمعات العالم تفاوتاً في المساواة، متقدمةً في هذا على جنوب أفريقيا والبرازيل.([iii]) ويمكن رد سبب هذا إلى عدة عوامل، أهمها التركيز المتزايد في رأس المال والانهيار في معدلات الأجور خلال هذه الفترة.

يتصل انهيار الأجور بانخفاض دخل الفرد من النفط في فنزولا. وبالرغم من تضاعف صادرات النفط للفرد الواحد من 1973 إلى 1993، انخفض دخل الفرد من النفط. ويمكن رد السبب الرئيسي في هذا إلى انخفاض أسعار النفط التي انخفضت من سعر عالٍ بلغ 15.92 دولارا للبرميل عام 1982 إلى 3.19 دولارات للبرميل عام 1998 (كلا الرقمين بأسعار عام 1973).([iv]) وهكذا انخفضت قيمة صادرات النفط للفرد الواحد من 955 دولارا عام 1974 إلى 384 دولاراً بعد ذلك بعشرين سنة، عام 1993.([v])

لما كان النفط مصدر دخل فنزولا الرئيسي، كان هبوطه، مع تنامي عدم المساواة، ذا أثر مهم على معدل الفقر. واستنادا إلى نوع الإحصاء وطريقة القياس اللذين يستعملهما المرء، ازداد الفقر بشكل مذهل من 33% من السكان عام 1975 تقريباً إلى 70% عام 1995.([vi]) وبينما تضاعف الفقر أكثر من ضعفين، ازدادت الأسر الفقيرة فقراً مدقعاً ثلاثة أضعاف، من حوالي 15% إلى 45%. أما مقاييس الفقر الأخرى، خاصةً تلك التي لا تستند إلى الدخل وحده، فهي أقل، لكنها كلها تشير إلى زيادة كبيرة في الفقر على مدى الخمسة والعشرين عاما المنصرمة.([vii]) وبالمقارنة مع دول أخرى في أمريكا اللاتينية، تتصف فنزولا بأكبر زيادة في الفقر في هذه الفترة الزمنية، وتُعَدُّ بين الدول الأكبر في أمريكا اللاتينية، ففيها أكبر نسبة من السكان الفقراء حين انتخب تشافيز.

الاتجاهات التي صاحبت هذه الزيادة في الفقر كانت هبوطاً مثيراً في الأجور الصناعية والدنيا الحقيقية، التي انخفضت إلى 40% من مستوياتها عام 1980 في عشرين عاما، تاركة إياها على أقل من مستواها في خمسينات القرن العشرين.([viii]) وقد انخفض الإنفاق الاجتماعي الحكومي في مجمله من 8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1987 إلى 4.3% عام 1997. كذلك نمت نسبة العاملين في الاقتصاد غير الرسمي من 34.5% عام 1980 إلى 53% عام 1999. أخيراً، انخفض مستوى إنشاء الاتحادات من 26.4% عام 1988 إلى 13.5% عام 1995.

حين وصل تشافيز إلى السلطة عام 1999، كانت أولُ مهمة عمل له أن يُدخل بعض البرامج سريعة الإصلاح، عُرفت في مجملها باسم “خطة بوليفار 2000″، للتعامل مع مستويات الفقر المريرة في البلاد. لكن مشروعيه الأبعد مدىً كانا مشروع إصلاح ملكية الأراضي الريفية وإصلاح نظام التعليم في البلاد. وإذ استثار هذان المشروعان كثيراً من السخط لدى النخبة القديمة في البلاد، وساهما في محاولة انقلاب نيسان 2002، لم تبدأ مشاريع حكومة تشافيز الأبعدُ طموحاً إلا بعد هزيمة المعارضة في محاولة الانقلاب وإغلاق صناعة النفط. كانت هذه البرامج الجديدة إلى حد ما، المعروفة باسم “البعثات”، تُعِدُّ لاستفتاء الإلغاء الرئاسي في آب 2004، وكانت جزئياً نتيجةً لازدياد الإيرادات الحكومية بسبب الازدهار النفطي، وجزئياً نتيجةً للتجذّر العقائدي لدى تشافيز وأنصاره في فترة ما بعد الاستفتاء.

إصلاح ملكية الأرض([ix])

كان إصلاحُ ملكية الأرض برنامجاً اجتماعياً واقتصادياً شائعاً في جميع أرجاء أمريكا اللاتينية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته. بيد أن سوء التصميم، الذي عادة ما أعطى المزارعين الصغار دعماً غير كافٍ فيما يتعلق بالمهارة، والتدريب، والقروض، والتقانة، والوصول إلى الأسواق، مثلاً، قد أفشل معظم هذه البرامج فشلا ذريعاً، بحيث أنها بحلول الثمانينات لم تُقدِّم سوى القليل. وبالرغم من هذه المشاريع، بقي سوء توزيع الأراضي ومعها الثروة في أمريكا اللاتينية على حاله إلى حدٍّ كبير. ومن الناحية العملية، ما من حكومةٍ في المنطقة، تبعاً لهيمنة نظرية الاقتصاد اللبرالي الجديد، أخذت على عاتقها مسألة إصلاح ملكية الأراضي مرة أخرى. لكن تشافيز كان الاستثناء المرموق حين جعل إصلاح ملكية الأراضي قضية مركزية في برنامج حكومته. بل أكثر من ذلك، لم يكن لإصلاح ملكية الأراضي أن يكون محض مسألة ريفية، وهي في فنزولا لا تؤثر إلا على قسم صغير من السكان، بل كانت أيضاً مسألة حضرية بتوكيد إصلاح ملكية الأراضي الحضرية.

إصلاح ملكية الأراضي الريفية

لعل مشروع إصلاح ملكية الأراضي الريفية في فنزولا يُمثل إحدى السياسات الرئيسية ونقطة الانعطاف في رئاسة تشافيز. وحين عُرض في تشرين الثاني 2001، كان أحد القوانين التي اعترضت عليها المعارضة أشدَّ اعتراض من رزمة 49 قانوناً مُرِّرت كجزء من “تمكين القانون”. ينصًّ إصلاح ملكية الأراضي أساساَ على أن لجميع الفنزوليين البالغين حقاً في طلب قطعة أرض لأسرهم، طالما انطبقت عليهم الشروط الأساسية.

لفنزولا أصلاً خبرة في إصلاح الأراضي، إذ كان قانون إصلاح قد سُنّ عام 1960 استفاد منه 150 ألف مزارع صغير. غير أن هذا المشروع الإصلاحي تهافت في سبعينات القرن العشرين حين لم تعد الحكومة مهتمةً به في أثناء سني الازدهار النفطي فتوقفت عن تطبيقه. كذلك فشل لأنه لم يقدم للمزارعين آلياتٍ كافيةً للحصول على القروض، أو المساعدة الفنية، أو المساعدة التسويقية لمحاصيلهم. أما قانون إصلاح الأراضي الجديد، فيُفترض فيه تغييرُ كلِّ هذا.

غير أن فنزولا، منذ إصلاح الأراضي الأول عام 1960، أصبحت دولة أكثر حضرية، كبقية أمريكا اللاتينية. فالريفيون الآن لا يشكلون سوى 12% من السكان، مقارنةً بـ35% عام 1960. كذلك هبطت حصة الزراعة من النشاط الاقتصادي، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، من 50% عام 1960 إلى 6.1% عام 1999، وهي الأدنى في أمريكا اللاتينية. وتعكس هذا الإحصاءَ أيضاً حقيقةُ كون فنزولا المستوردَ الصافي الوحيد للمنتجات الزراعية في أمريكا اللاتينية.

النفط، بطبيعة الحال، هو السبب الرئيسي وراء انخفاض الإنتاج الزراعي الكبير منذ غدا المادةَ المصدَّرة الرئيسية في البلاد. وإدراك هذه المشكلة هو السبب الرئيسيُّ في أن جميع الحكومات حاولت بغير نجاح، منذ الازدهار النفطي في بواكير سبعينات القرن العشرين، تنويع الاقتصاد الفنزولي. وقد مضت حكومة تشافيز إلى هذا الحد لكي تحفظ التنوع الاقتصادي مصوناً في الدستور، بمعنى أن الحكومة ملزمةٌ دستورياً أن تعمل على اكتفاء الشعب من الغذاء اكتفاء ذاتيا.([x])

هناك هدف آخر لإصلاح ملكية الأراضي يتمثل في بلوغ عدالة اجتماعية أكبر. ذلك أن 75% من الأرض الزراعية الخاصة يملكها 5% فقط من المُلاّك، بينما يملك 75% من صغار المُلاّك 6% فقط من الأرض.([xi]) أما الحكومة فترغب في بلوغ عدالة أكبر، أولا، بتوفير الأرض لمن يريد أن يعمل. ثانيا، إنها تريد أن “تزيل كلياً النظام المسمى لاتيفُنْديو (latifundio) [أي الإقطاعية]، كنظام يتناقض مع العدالة، والصالح العام، والسلم الاجتماعي في الريف.([xii]) يعرّف قانون الأرض الإقطاعية بأنها أية ملكية تزيد مساحتها على خمسة آلاف هكتار([1]) من الأرض الزراعية البور.

أخيراً، يستند الحافز الرئيسي الثالث لإصلاح ملكية الأراضي إلى ما تبين لمعظم الخبراء الزراعيين من أن مزارع الأسر الصغيرة أكفأ عموماً من المزارع الكبيرة.([xiii])والأمل معقود على أنه بإعادة توزيع الأرض إلى مزارع أسر صغيرة، تستطيع الدولة أن تزيد إنتاجها الزراعي.

بيد أن إصلاح ملكية الأراضي عمل خادع. ذلك أن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تقول إن معظم برامج إصلاح ملكية الأراضي التي نُفذت منذ العام 1945 في جميع أرجاء العالم قد فشلت. وفي معظم الأحيان، حسب الفاو، توجد فجوة ضخمة بين النظرية والتطبيق، إذ لا يكون فعالا تطبيق القوانين والنوايا في إصلاح الأراضي. فما الذي يضمن نجاح برنامج الإصلاح الفنزولي حيث فشل الآخرون؟

فيما يتعلق بمشكلة تحويل القانون والنظرية إلى ممارسة، يقول شقيقُ الرئيس، أدان تشافيز، الذي كان رئيس جمعية الأرض لفترة قصيرة في 2002-2003، إن السبب الرئيسي في قلة نجاح إصلاح الأراضي في فنزولا سابقاً يعود إلى أن البرنامج لم يخلق سلسلة مؤسسات تحدد المسؤوليات بوضوح في عملية إصلاح الأراضي. كذلك كانت الإرادة السياسية مفقودة. غير أن قانون إصلاح الأراضي الجديد يخلق ثلاث مؤسسات جديدة: جمعية الأراضي الوطنية، وهي مسؤولة عن استئجار الأراضي وإعادة التوزيع؛ وجمعية التطوير الريفي الوطنية، وهي مسؤولة عن المساعدة الفنية والبنية التحتية؛ والشركة الزراعية الفنزولية، التي ستقدم للمزارعين الذين استفادوا من إصلاح الأراضي مساعدة في توزيع المنتجات الزراعية وتسويقها. وحسب أدان تشافيز، “يؤكد القانون الجديد على ألا تنكسر السلسلة الإنتاجية، أولا. لكن، لا بد لنا، في الممارسة، من جعله حقيقة – وكما وعدنا للناس، لسوف نتابع الأمر.”([xiv])

إن إعادة توزيع الأراضي وإمكانية نزع الملكية هي أكثر جوانب هذه العملية إثارة للجدل. وحسب القانون، لا تُنزع الملكية إلا عن الأراضي الزراعية البور التي تزيد مساحتها على 100 هكتار، أو عن الأراضي البور الأقلِّ نوعيةً والتي تزيد مساحتها على خمسة آلاف هكتار. ويقول مؤيدو هذا القانون، مثل أدان تشافيز، إن المعارضة تبالغ تماماً في إمكانية انتزاع الملكية لأن انتزاع الملكية هو آخر إجراء يمكن اتخاذه. هناك كثير من الأراضي التي تملكها الدولة سوف تنقل ملكيتها قبل نزع ملكية أية أرض خاصة. كذلك، يُلزم القانونُ الحكومةَ بإقناع الملاك في جعل الأرض منتجةً زراعيا قبل مصادرتها. أخيراً، على غير حال العديد من برامج إصلاح ملكية الأراضي حول العالم، سوف تعوِّض الحكومةُ الأرضَ المنزوعةَ ملكيتُها بالقيمة السوقية.

يمكن أيَّ مواطن فنزولي، إذا كان رب أسرةٍ أو يبلغ من العمر ما بين 18 و25 سنة، أن يطلب قطعة أرض. فإذا فُلحت الأرض وأنتجت لثلاث سنوات، فلصاحب الطلب أن يحصل على ملكية كاملة لها. غير أن الملكية الكاملة لا تعني أن المالك يستطيع أن يبيع الأرض، بل يستطيع توريثها لنسله. أما تحريمُ بيع الملكية الآتية من إصلاح الأراضي، فقضية أخرى يرى فيها منتقدو الإصلاح خللا، لأنها تقود بسهولة إلى سوق سوداء لملكية الأراضي. وكما هو الحال في جميع الأسواق السوداء، ولأن الملكيات ليست شرعية تماما، سوف ينتهي بها المطاف متاجراً بها بأقلَّ من قيمتها الحقيقية، مما يجعل الفلاحين الفقراء أشد فقراً مما لو كان الأمر غير ذلك. يقول الأستاذ أُلِفَر ديلاهايه، أستاذُ الهندسة الزراعية في جامعة فنزولا المركزية، “إن الفلاح الذي يبيع ’أرضه‘ يقبض عليها سعراً يقل كثيراً (40%-60%) عن السعر الذي يمكن أن يقبضه في سوق رسمية. ولا يمكن عمليا تطبيق مثل هذا التحريم [تحريم بيع الأرض] الذي يضر بالأشدِّ فقرا.”([xv]) على الجانب الآخر، ليست غيرَ منطقيةٍ خشيةُ الحكومة من أن الناس سيحصلون على الأرض من خلال إصلاح الأراضي ثم يبيعونها بربح، مما يؤدي إلى تجدد تفاوت المساواة في توزيع الأراضي.

 في البداية، انطلق برنامج إصلاح الأراضي بطيئاً، لأن البنية التحتية الضرورية، على الأغلب، تحتاج إلى أن توجد. وبينما وزعت الحكومة القليل جداً من الأراضي عام 2002، تحركت في السنة التالية بقوة ووزعت 1.5 مليون هكتار على حوالي 130 ألف أسرة. ويساوي هذا، في المعدل، 11.5 هكتاراً للأسرة الواحدة، ويبلغ مجموع المستفيدين 650 ألفاً (استناداً إلى ما معدله خمسة أشخاص للأسرة الواحدة). وفي نهاية 2005، وزع ما مجموعه 3 ملايين هكتار من أراضي الدولة على 200 ألف أسرة.

مع هذا، لم يكن إلا في بواكير عام 2005 أن أعارت حكومة تشافيز انتباهها للأراضي المملوكة ملكا خاصا. فحتى ذلك الوقت فقط، كانت الأراضي المملوكة للدولة قد وُزِّعت. وللقيام بهذه المهمة، عيّن تشافيز إليسير أوتيزا، المعروف في الحكومة بأصوليته، مسؤولاً عن جمعية الأراضي في وقت مبكر من عام 2005. فكان هذا الأمرُ تحديَ الحكومةِ الرئيسيَّ الأولَ للنخبة الإقطاعية منذ سنِّ قانون إصلاح الأراضي عام 2001.

بدأ المجهود الأول للقيام بإصلاح الأراضي المُجدد هذا في آذار 2005، حين أعلن برنامج الأراضي عن “استرداد” خمس عِزَب. أي أنه بدلاً من الإعلان بأن الأرض تُعدُّ “لاتيفُنْديو” [إقطاعية] ولا بد من نزع ملكيتها على أساس أن مساحة كبيرة منها كانت بوراً، قالت جمعية الأراضي إن جميع هذه الأراضي أو جزءاً منها تعود ملكيتها، حقيقةً، للحكومة لأن محتليها الحاليين لا يستطيعون إثبات ملكيتهم لها بطريقة صحيحة. وقد استثار هذا، بالطبع، كثيراً من الجدل، خاصةً أن بعض الملاك زعموا أنهم يستطيعون أن يثبتوا ملكيتهم بوثائق تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر. لكن الحكومة قالت إن بعض هذه الوثائق زائف.

يعود جزء من سبب هذا الجدل إلى أن ملكية الأرض في فنزولا، كما هو الحال في معظم أمريكا اللاتينية، مسألة غامضة جدا. ذلك أن ملاك الأراضي الكبيرة غالبا ما وسّعوا أرضهم أبعد بكثير من حدودها الأصلية، مستولين على أرض إما كانت مملوكة للدولة أو لإقطاعي غائب. ويعود جزء من سبب فعلهم هذا إلى أن الأوصاف في سندات الملكية القديمة حول تعيين حدود الأرض غامضة جدا. كذلك قد يكون المالك أحيانا قد اشترى الأرض بطريقةٍ شرعية، لكن من اشتُريت منه الأرض لم يكن يملك سند ملكية شرعيا. فمهمة حكومة تشافيز الرئيسية الآن أن تُنخِّل كل هذه الأمور وأن تأتي بسندات تسجيل أراض مضبوطة وصحيحة. لكن هذا صعب للغاية، ويستغرق وقتا طويلا، وعملية مثيرة للنزاع.

في كثير من الحالات، كان صغار الفلاحين قد تحدَّوا بأنفسهم ملكية مالكي الأراضي الكبيرة، قائلين إنهم ليسوا المالكين ذوي الحق، وقاموا باحتلال الأرض. مثل ذلك في إحدى الحالات المثيرة للجدل أنْ قررت مجموعة كبيرة من صغار الفلاحين أن تحتل عزبة إل تشاركوتي، التي تملكها شركة الأبقار البريطانية التي تعود للورد فِسْتي. أما أصحاب مزرعة الأبقار، الذين زعموا أن هذا الاحتلال كلفهم خسائر في إنتاج لحم البقر تبلغ ثلث إنتاجهم قبل الاحتلال، فقد قالوا إن لديهم وثائق ملكية تعود إلى العام 1850. في النهاية، أخذت جمعية الأراضي القضية على عاتقها وحكمت بأن المالكين لم يكونوا حقاً يحملون ملكيةً شرعيةً للأرض، ولما كان حوالي ثلثيها غيرَ عاطل، فباستطاعتهم الاستمرار في استخدام تلك الأرض. أما الثلث الآخر، الذي قررت الجمعية أنه معطل، فيُعطى للفلاحين؛ وليس بالضرورة لمن كانوا يحتلونه.

في حالة أخرى تتعلق بإحدى أكبر وأشهر إقطاعية في البلاد، معروفة باسم “لا ماركزينيا”، تفاوض المالك مع الحكومة ووافق أخيراً على التخلي عن 85% من تلك الإقطاعية (8,490 هكتاراً)  لبرنامج إصلاح ملكية الأراضي. وقد أعطى تشافيز تلك المفاوضات اسم التحبب، “طريقة تشأز”، وهو اختصار من اسم تشافيز واسم المالك، كارلُس أزْبورْوا، قائلاً يجب أن يُعطى جميع الإقطاعيين أولا فرصة التفاوض. وحسب جمعية الأراضي الوطنية، هناك 317 إقطاعية حددتها الجمعية في جميع أرجاء البلاد سوف تخضع للفحص واحدة تلوَ أخرى، إن كان يمكن نزع ملكيتها لغاية إصلاح الأراضي.

بالنسبة إلى المعارضة، كانت حالة عزبة إل تشاركوتي شعاراً، حيث أن جمعية الأراضي الوطنية، بعد تأسيسها بثلاث سنوات، بدأت بطريقة منهجية تفحص الملكية الشرعية للإقطاعيات التي تشك في أنها كذلك. ومن الممكن كليا أن تقرر جمعية الأراضي الوطنية أن معظم هذه الأراضي ليست بوراً فقط، بل أن ملاكيها المزعومين لا يحملون وثائق صحيحة. فإذا حدث هذا، فمن المحتمل أن ينفجر العنف في الريف. فقد اغتيل أكثر من 80 قائداً للفلاحين في السنوات الثلاث الماضية بسبب نزاعات على الأراضي.

مَثَلُ ذلك أنه في إحدى الحالات غير العادية، وبشكل رئيسي لأن وسائل الإعلام التقطتها، أن جراحاً محترما ومعروفاً جداً، هو بيدرو دوريا، الذي كان أيضاً رئيس جمعية الأراضي المحلية، قد اغتيل في 25 آب 2002. وكانت جمعية الأراضي التي كان دوريا يترأسها في طريقها إلى المطالبة بملكية أراض بور إلى الجنوب من بحيرة ماراكيبو. وحسب قيود الحكومة، تعود ملكية الأرض للدولة، ويمكن بهذا أن تؤول لأسر الفلاحين الخمسين التي قدمت طلباً باستملاكها من خلال جمعية الأراضي المحلية. غير أن إقطاعيا محليا كبيرا ادعى أيضاً حقه في هذه الأرض، وفي عدة مناسبات رفض السماح لدوريا وممثلي الحكومة بمعاينة الأرض. وفي تلك المنطقة، معروف أن هذه الأرض كانت حقيقةً بيد الرئيس الفنزولي السابق كارلُس أندريس بيريز، الذي قيل إنه يملك نيفاً و60 ألف هكتار من خلال آخرين في أرجاء البلاد، معظمها أراض بور.

هناك آخر نجا من محاولة اغتيال عام 2002 هو خوسيه هْويرْتا. وقد أصيب بطلق في الكتف، وكاد لا ينجو من الهجوم. كان هْويرْتا يعمل لصالح مكتب محلي لجمعية الأراضي في ذلك الوقت، وكان مسؤولاً عن النظر في المطالبات في جمعية الأراضي التي يترأسها دوريا. وحسب بْروليو الفارس، مدير “التنسيق الزراعي ’إزِكويِل زامورا‘”، وهو ائتلاف من حوالي اثنتي عشرة منظمة فلاحية، لم تُحلَّ أيٌّ مما يزيد على ثمانين حالة اغتيال لزعماء الفلاحين، معظمها يعود إلى الصدام ما بين كبار الإقطاعيين والشرطة. من ذلك، مثلا، في حالتي دوريا وهْوِيرْتا، يُشكُّ في أن الإقطاعي الذي كان وراء منفذي الاغتيال هو عمر كُنْتْريراس باربوزا، وهو وزير زراعة سابق في حكومة كارلُس أندريس بيريز وشقيق حاكم سابق لولاية زوليا، حيث توجد الأراضي المتنازع عليها. وفي آب 2006، كان أيضا بْرولْيو الفارس، الذي انتخب للتوِّ عضواً في الجمعية الوطنية في كانون الأول السابق، ًضحية محاولة اغتيال، كاد لا ينجو منها.

بالإضافة إلى مقاومة الإقطاعيين والعنفِ الموجَّه ضد زعماء الفلاحين، يواجه إصلاح الأراضي الريفية عدداً ضخماً من العقبات، مثل سجلات الأراضي غير الدقيقة، والفساد، والمشاكل اللوجستية والاقتصادية المتعلقة بالتأكد من أن الأرضَ المُعاد توزيعُها تغدو منتجة حقا. بيد أن حكومة تشافيز، بالرغم من هذه المشاكل الكبيرة، قد أبدت التزاماً واضحاً بإصلاح الأراضي؛ وبالرغم من أن هذه العملية كانت بطيئة أحيانا، فهي إحدى مجالات السياسة التي يُمكن فيها إظهار قدر من التقدم.

إصلاح ملكية الأراضي الحضرية([xvi])

هناك إجراءٌ آخرُ مهمٌّ جداً لحكومة تشافيز هو برنامج إصلاح ملكية الأراضي الحضرية، الذي يُقصد منه منحُ سندات تسجيل شرعية لسكان العشوائيات، وهي الأحياء الفقيرة في المدن. والفكرة شبيهة بفكرة هيرنَنْدو دي سوتو التي روّج لها في بيرو وبلاد أخرى،([xvii]) لكنها تشمل عناصر إضافية مهمة تجعل هذا البرنامج فريداً ومثلا يُحتذى به في البلاد الأخرى.

لبرنامج إصلاح ملكية الأراضي الحضرية إمكانية أن يؤثر في معظم سكان فنزولا ذات الأغلبية الحضرية (87%).([xviii]) من هؤلاء السكان الحضر في أغلبيتهم، يعيش ما يُقدَّر بـ60% في عشوائيات مبنية بيوتها بأيدي السكان أنفسهم، على أرض احتلوها غزواً أو استيلاء. وكثيرٌ من هذه الأحياء الفقيرة مبنيٌّ على أرض غير آمنة، وعلى سفوح تلال محيطة بالعاصمة كاراكاس، مثلاً، ومهددٌ بخطر الانزياح الأرضي صوب الوادي حين تهطل عليها أمطار غزيرة.([xix])

كانت الحكومات الفنزولية السابقة تقول دائماً إن الحل الوحيد لهذا الحال المزري ولهذا الفقر المعشِّش في الحارات يكمن في هدم تلك البيوت ونقل سكانها إلى مساكن حكومية. غير أن هذه السياسة لم تطبق عمليا قط، لأنها مكلفة بما يحول دونها. بدل ذلك، منذ أعمال الشغب في 27 شباط 1989، نشأت حركة الأحياء الفقيرة التي عُرفت باسم “تجمع الأحياء الفقيرة” (asamblea de barrios). وقد جعلت هذه الحركة من قضية تشريع الأحياء الفقيرة مطلباً مركزياً لفقراء فنزولا. أخيرا، اندمج “تجمع الأحياء الفقيرة” مع حركة تشافيز البوليفارية وأسهم في انتخابه إلى الرئاسة في أواخر عام 1998.

في وقت مبكر من رئاسة تشافيز، كاد يُنسَى مطلب سكان الأحياء الفقيرة بوجوب منحهم سنداتٍ شرعيةً بملكية بيوتهم. واستمر الحال حتى 4 شباط 2002، حين أعلن تشافيز، في الذكرى العاشرة لمحاولة انقلابه عام 1992، أنه سوف يمنح سكان الأحياء الفقيرة سنداتٍ شرعيةً بملكية بيوتهم. وعلى الأغلب الأعمّ، كان جزء من الحافز وراء هذا الإعلان أنه أراد العودة لقضية قديمة كانت غرضاً لضغط مارسه نشطاء الأحياء الفقيرة فترة غير قصيرة حين كانت الحكومة تحت حصار كثيف من طرف المعارضة. أي أنه قُبيل هذا الإعلان، في 10 كانون الأول، كان اتحاد غرف التجارة الفنزولية واتحاد المصنعين (فيديكامارَس)، واتحاد عمال فنزولا، قد التأمت قواها لتنظيم أول إضراب عن العمل. ومن خلال الهجوم الضاري المتواصل الذي شنته المعارضة ووسائل الإعلام، كان واضحا فقدانُ الحكومة شعبيتَها وتوجّب عليها أن تفعل شيئاً مثيرا.

هناك حافز آخر وراء مبادرة إصلاح الأراضي الحضرية لعله جاء من حقيقةِ أن أحد أحزاب المعارضة الرئيسية، “حزب العدالة الأول”، كان أيضاً ينوى اقتراح قانون للأحياء الفقيرة. وكان يُفترَضُ بهذا القانون أن يمنح أيضاً ملكية شرعية لسكان الأحياء الفقيرة. وقد استُوحِيَ قانون الأحياء الفقيرة لدى حزب العدالة الأول من كتابَيْ هيرنَنْدو دي سوتو، السبيل الآخر ولغز رأس المال، وليس من جمعيات الأحياء الفقيرة في بواكير تسعينات القرن العشرين، كما هو قانون تشافِستا. وقد ركّز قانون حزب العدالة الأول على قدسية الملكية الخاصة، كما تضمن عقاباً بالحبس مدةً لا تزيد على خمس سنوات على غزو الأراضي.([xx]) أما نقل الملكية إلى سكان الأحياء الفقيرة فينطبق بالدرجة الأولى على الحالات التي تكون الحكومة فيها مالكة للعقار أو يكون السكان احتلوا الأرض لعشر سنوات أو يزيد.

حين أعلن تشافيز عن المرسوم الرقم 1,666 في 4 شباط 2002، وضع الأساس للبدء في نقل الملكية الشرعية في الأحياء الفقيرة إلى سكانها. بيد أن هذا المرسوم ينحصر في نقل الأراضي المملوكة للدولة فقط. ويقدر إفان مارتِنيز، مدير المكتب الفني الوطني لتنظيم استئجار الأراضي الحضرية، أن ما يقرب من ثلث الأراضي التي تشغلها الأحياء الفقيرة الآن تملكها الدولة، والثلث الآخر ملك خاص، والثالث مطعون فيه. أما نقل أرض ملكيتها خاصة، فلا بد من سنِّ قانون به.

كان القانون ذو العلاقة، “القانون الخاصّ بتنظيم استئجار الأرض في المستوطنات الحضرية الفقيرة،” يقوم على اقتراحه حزبُ تشافيز، “حركة الجمهورية الخامسة”؛ وقد بقي مجمداً في الجمعية الوطنية لعدة سنوات. كان أحد أسباب المدة الطويلة التي استغرقها تمرير هذا القانون، بالإضافة إلى المأزق الذي حدث عامي 2003 و2004، أن المرسوم حدّد أن تفاصيل القانون سيُشتغَل عليها بالتزامن مع المجتمعات التي ستستفيد من القانون. يعني هذا أن لجان الأراضي التي شُكِّلت في كلِّ حيٍّ فقير أرسلت مندوبيها إلى الجمعية الوطنية لمناقشة القانون مع المشرِّعين. وحسب مارتِنيز، اقترحت هذه المجتمعات تغييرات عديدةً على مسوّدة القانون الأصلية، كوضع شرط لإنشاء ملكية مشاعية. وهذا أول قانون في تاريخ فنزولا يصاغ مع المجتمعات المحلية المتأثرة به، وقد بُرمج له أن يُمرَّر من قبل المجلس التشريعي في وقت متأخر من عام 2006.

يؤكد مارتنيز على أن هذا قانون سيكون ذا أثر كبير على حياة عدد من المواطنين أكبر من أي برنامج حكومي آخر، باستثناء التعليم العام. وسيستطيع عشرة ملايين فنزولي، أو 40% من السكان، أن يستفيدوا أخيراً من برنامج إعادة التوزيع. لكن هذه، حسب مارتنيز، ستكون عملية بطيئة نسبياً قد تستغرق عشر سنين حتى يتم تطبيقها.

يقول مارتنيز إن تمليك سكان الأحياء الفقيرة هو “اعتراف بالدَّيْن الاجتماعي الذي تتحمله الدولة تجاه السكان.” ففي نهاية المطاف، بينما قامت الدولة ببناء مليون بيت فقط في الخمسين سنة الماضية، وقام القطاع الخاص ببناء حوالي مليوني بيت، بنى سكان الأحياء الفقيرة نيفاً وثلاثة ملايين بيت. كذلك، حين نفكر بأن كلفة هدم بيت في حي فقير وبناء آخر في مكان ما تبلغ زهاء عشرة أضعاف، يغدو واضحاً، حسب مارتنيز، أن “الأحياء الفقيرة هي جزء من الحل، لا من المشكلة.”

يضيف أندريس أنتِلانو، الذي قام مع إفان مارتنيز بصياغة قانون إصلاح الأراضي، وأحد المنظمين في لا فيغا، أحد أكبر وأقدم الأحياء الفقيرة في فنزولا وأكثرها تسييساً، أن هذا المشروع هو “حول الاعتراف بالحيِّ الفقير ككيان ذي حقوق شرعية وإمكانيات تحويلية كبيرة.” بعبارة أخرى، لا يقتصر إصلاح الأراضي الحضرية على كونه وسيلة لدعم تراكم رأس المال في الأحياء الفقيرة، بل إنه أيضاً وسيلة لتأسيس مساعدة ذاتية ديمقراطية تشاركية في هذه المجتمعات.

 لأجل تنظيم المجتمعات ذات العلاقة بإعادة توزيع الأراضي، اشترط المرسوم والقانون المقترح وجوب إنشاء “لجان للأراضي”. وهذه اللجان تتألف من سبعة أفراد إلى أحد عشر يُنتخَبون من مجموعة من الأسر لا يقل عددها عن 50% في أي مجتمع، ممثلةً ما بين 100 إلى 200 أسرة. وللجان الأراضي هذه حرية اختيار حدود الأرض التي تمثلها.

بحلول منتصف عام 2005، كان هناك نيفٌ و5,600 لجنة أراضٍ عاملة (بمتوسط يبلغ 147 أسرة لكل لجنة، وهو ما يعني أن زهاء 800 ألف أسرة، تضم أكثر من 4 ملايين فرد، منظمة في هذه اللجان). ومن خلال هذه اللجان، تلقت 126 ألف أسرة، تمثل 600 ألف فرد، سجلاً شرعيا بمُلكية بيوتها في حوالي ثلث بلديات البلاد.([xxi]) وهذا يجعل برنامج إصلاح الأراضي الحضرية أحد أكثر البرامج المتعلقة بالمجتمع المدني والحكومة طموحاً، ومعه التعليم العام وبرنامج “الحيّ الفقير من الداخل” ذو العلاقة بأطباء المجتمع المحلي. كذلك إنها أكبر حركة منظَّمة في المجتمع المدني في فنزولا.

للجان الأراضي تشكيلة واسعة من المهمات، كلّها تشمل تنظيم المجتمع بطريقة أو بأخرى. ويمكن عموماً تقسيم مهماتها إلى ثلاثة مجالات، حسب المنظم الاجتماعي أنريس أنتِلانوا: أولا، المشاركة في ضبط سجلات المُلكية الحضرية؛ ثانيا، حكومة الحيّ الفقير الذاتية؛ ثالثا، تحوُّل الحيّ الفقير ذاتيا. كما أن هناك مهمة مؤقتة إضافية هي مشاركتها في صياغة قانون الأراضي الحضرية.

فيما يتعلق بمشاركتها في ضبط سجلات المُلكية الحضرية، تشترك هذه اللجان اشتراكاً نشيطاً في قياس قطع الأراضي التي تحتلها كل أسرة وفي الحكم في النزاعات حول الأراضي. كذلك، لما كانت عملية القياس والتسجيل هذه تتطلب الدقة، فإن المسؤولين الحكوميين يشاركون في القياس ويدربون أعضاء المجتمع المحلي على كيفية استخدام أجهزة القياس. وهذه العملية يمكن أن تتطلب براعة خاصة لأن بيوت الأحياء الفقيرة غالباً ما تكون غير منتظمة الشكل. كذلك يشمل القياس وتسجيل سند المُلكية تحديد أي الأجزاء من أراض