التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية

د. منذر سليمان

 

مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

واشنطن، 8 حزيران 2013

المقدمة:      

 

الفضائح السياسية التي تلاحق الادارة الاميركية لا تزال تشكل مادة اهتمام رئيسة لمراكز الابحاث، التي ابطأت وتيرة نشاطاتها بعض الشيء، مع حلول فصل الاجازات الصيفية.

يستعرض قسم التحليل مسألتين لهما انعكاساتهما على التطورات في المنطقة العربية: الاولى مظاهرات الاحتجاجات الشعبية في تركيا؛ والثانية تعيين الرئيس اوباما لسوزان رايس مستشارته لشؤون الأمن القومي.

ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث

سورية:

          حذر مركز ويلسون Wilson Center من الكلفة المالية المترتبة على انخراط الولايات المتحدة في سورية، كما يرغب اقطاب الداعين للحرب، واستنتج ان “الرئيس اوباما لا يرغب في اثقال كاهل الميزانية” المترنحة اصلا. واضاف ان الخيارات “الاستراتيجية المتاحة محدودة، فهي اما النأي بالنفس، او بلورة استراتيجية جادة” ينطوي عليها حشد القوى الحليفة لتعزيز التدخل. واضاف انه في حال “فشل مؤتمر جنيف-2 فانه سيؤدي الى استدراج الولايات المتحدة لتقديم بعض المساعدات الفتاكة لقوى المعارضة.”

          معهد واشنطن Washington Institute اعرب عن قلقه من نتائج معركة مدينة القصير “وهي معركة هامة بحد ذاتها” لما يترتب عليها من “تغيرات، اهمها استعادة النظام زمام القدرة الهجومية واعتماد اكبر على القوات غير النظامية والقوى الرديفة.” وحث القوى الداعمة للمجموعات المسلحة “تزويدها بمقومات تعينها على شن مواجهات اكثر فعالية،” ومعربا عن اعتقاده “بحتمية فشل مفاوضات السلام المقترحة.”

          في سياق متصل، اعرب المعهد عن عظيم امتنانه لعلاقات التعاون المشتركة بين “اسرائيل والولايات المتحدة” مما اتاح للاولى وضعا بحيث “لا يواجهها تهديد تقليدي من قبل اعدائها،” سيما وان تجليات التعاون تتجسد في “انتشار الصراع الطائفي بين السنة والشيعة على طول العالم الاسلامي، وسورية تعاني من الحرب الاهلية بينما يقف العراق على عتبة نشوب حرب اهلية.” ومضى المعهد يعدد مزايا الصراع الدائر في سورية وانعكاساته الاقليمية، اهمها “احجام حزب الله عن اطلاق صاروخ واحد على اسرائيل منذ عام 2006.”

سلطت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies الضوء مجددا على “حزب الله” بالزعم انه “يتحمل المسؤولية لاكبر عدد من القتلى الاميركيين متفوقا بذلك على اي منظمة ارهابية اخرى.” كما وجه انتقادات لوزارة الخارجية الاميركية التي “اغفل تقريرها الاخير (حول الارهاب) ذكر العديد من نشاطات حزب الله في اميركا اللاتينية .. بخلاف تقرير النائب العام في الارجنتين الذي يقع في 500 صفحة” حول النشاطات المكثفة لايران في القارة الاميركية الجنوبية.

العراق:

          تناول معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War تجدد “العنف الطائفي” في العراق على ايدي القاعدة، محملا رئيس الوزراء نوري المالكي مسؤولية “توسيع نطاق نشاطات الميليشيا الشيعية” مما يقوض مصداقيته لدى العراقيين واتهامه بالتواطؤ في اعمال القتل. وزعم المعهد ان “اعادة التعبئة في صفوف الميليشيات الشيعية في العراق تزامن مع اعلان (السيد) حسن نصر الله المشاركة العسكرية المباشرة” في سورية.

          حذر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS الولايات المتحدة من الركون و”تجاهل الاهمية الاستراتيجية للعراق في ضوء تجدد اعمال العنف،” حاثا صناع القرار في واشنطن العمل على تهدئة وتيرة الصراع هناك لاتاحة الفرصة امام العراق “للابتعاد عن ايران” واسداء خدمة استراتيجية للولايات المتحدة، التي من شأنها “تخفيف حدة الترابط بين التوترات والصراعات في الخليج وتلك القائمة في المشرق، بل ضمان أمن الاردن ولبنان ومصر.”

مصر:

          اعرب معهد واشنطن Washington Institute عن استيائه لقرار القضاء المصري تثبيت التهم الموجهة “لنشطاء المنظمات غير الحكومية .. ويعد ايضا تعديا على المصالح الاميركية،” على ضوء تداول مجلس الشعب المصري “مشروع قانون لتقييد حركة المنظمات الاهلية .. وينبغي على الولايات المتحدة وضع شروط لتقديم الدعم لمصر تتضمن تقييد مسعى القاهرة للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.”

السلطة الفلسطينية:

          اشاد معهد واشنطن Washington Institute باختيار رامي الحمد الله رئيسا لوزراء السلطة، ورضى محمود عباس عليه سيما وان “الحمد الله ليس له اعداء سياسيون، بل يفتقد الى قاعدة دعم شعبية، مما سيخفف من احتمالات توجهه لانتهاج مسار مستقل” عن رئيس السلطة. واوضح ان تقييم الدول المانحة لاستمرارية دعمها للسلطة سيستند الى ثلاثة اعتبارات “شفافية الميزانية، ادارة الملف الاقتصادي، واستمرار التعاون الأمني مع اسرائيل.” واردف ان “شفافية الميزانية” تقتضي استمرار العمل بالاجراءات التي طبقها سلفه سلام فياض “لاشراف دولي على الحساب المالي المركزي للسلطة.”

          معهد بروكينغز Brookings Institution سعى بدوره لاضفاء شرعية شعبية على رامي الحمد الله، بالزعم انه ينتمي لاسرة لها تاريخ عريق في الحركة الوطنية الفلسطينية عبر “وحيد الحمد الله في عقدي السبعينيات والثمانينيات” من القرن الماضي. تجدر الاشارة هنا الى ان بروكينغز اغفل عن عمد ما يدركه الفلسطينيون عن تاريخ جد رامي، حافظ الحمد الله، لخدمتة الحركة الصهيونية تحقيق اهدافها منذ عشرينيات القرن الماضي، وارتباطه الوثيق بشبكة الاستيلاء على اراضي الفقراء من الفلاحين وبيعها للوكالة اليهودية. كما يدل تاريخ حافظ على ادارته لما سمي “فرق السلام” في منطقة طولكرم، التي شكلها ومولها الاحتلال البريطاني بالتعاون مع الحركة الصهيونية بغية تقصي ومحاربة الثوار الفلسطينيين. كما يدرك معظم الفلسطينيون انه عندما توفي حافظ الحمد اللة عام 1974 رفض المصلون اقامة صلاة الميت عليه لتاريخه السيء. ويعتبر البعض ان خلفه ليس بافضل منه، اذ توجه الاتهامات له من الطاقم الاكاديمي وهو على رأس جامعة النجاح في نابلس بان له باع طويل لقيامه تقديم تسهيلات لوجستية لمساعي اختيار وتجنيد طلبة الجامعة لصالح الاستخبارات الصهيونية.

ايران:

          اعربت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies عن قناعتها بان نتائج الانتخابات الرئاسية في ايران لن تأتي بجديد فيما يخص العلاقة مع الغرب، سيما وان السباق الرئاسي “يخلو من اي مرشح معتدل بخلاف ما يدعيه البعض.” ورجحت المؤسسة ان الاوضاع الاقتصادية ستشكل الاهتمام الحيوي الاكبر لدى الناخب الايراني، كما ستدل عليه النتائج قريبا.

تركيا:

          تناول معهد كارنيغي Carnegie Endowment الاحتجاجات المتنامية في تركيا، معربا عن اعتقاده بانها “لا تشكل تهديدا آنيا لسلطة اردوغان .. وينبغي عليه التعامل معها بجدية،” سيما وان مستويات الاحتقان تتنامى “من الاعلى الى اسفل” الهرم الاجتماعي احتجاجا على “اسلوب الحكم الاستبدادي لحكومة اردوغان.” واوضح ان الشعب التركي “انهكته الاستقطابات السياسية ويتطلع الى نظام سياسي اكثر توافقيا مما عليه راهنا، ويتعين على اردوغان ادراك هذ الطموح واعتماد نمط تصالحي في تعامله” مع الغير.

          معهد التقدم الاميركي Center for American Progress سعى للتعرف على كنه الاحتجاجات التركية ودوافعها بالقول ان “احتجاجات (ساحة) تكسيم تعكس حالة رد عنيف من النخب المدينية ضد الاسلوب الابوي لاردوغان .. وهيمنته الطاغية على السياسة التركية،” واثنت بالمقابل على دور الرئيس عبد الله غول “واصراره على ضرورة الدفاع عن حرية التعبير ..” واوضحت ان تقييد حرية الصحافة شكلت “حافزا اساسيا اضافيا لنزول الشعب للتظاهر،” مع ملاحظة ان اليومية الاكبر في تركيا “صباح” التي يملكها صهر اردوغان “احجمت عن تغطية الاحتجاجات ..” كما لفت المعهد النظر الى ازدواجية تعامل شبكة (سي ان ان) الاخبارية الاميركية التي تجاهلت نسختها التركية كل ما يتعلق بالمظاهرات، مقارنة مع تغطيتها من المحطة الام في اميركا.

التحليل:

1 – صيف تركي حار يلفح اردوغان ويذيب شمع المكابرة

          تركيا “حزب العدالة والتنمية” كانت على وشك استنساخ تجربة سلفتها الامبراطورية العثمانية، في مستوى بسط سيطرتها وتمدد نفوذها في الدول العربية؛ ورئيس وزرائها رجب طيب اردوغان يتوثب لاعلان نفسه سلطانا بعد خطبه وُدّ الولايات المتحدة، واطمئنانه لآيات الاطراء الصادرة عن الرئيس باراك اوباما لأهمية تركيا و”دورها الحيوي لانهاء الحرب الدائرة في سورية.” كما انتشى اردوغان برسالة الاعتذار الصادرة عن رئيس وزراء الكيان “الاسرائيلي” نتنياهو لاعتراض قواته العسكرية سفينة آفي مرمرة ومصرع عدد من ركابها الاتراك في طريقهم لتحدي الحصار المفروض على قطاع غزة.

          بل تألق ابتهاج اردوغان لثبات طموحه السياسي وبقائه في منصبه الاطول زمنا في تاريخ تركيا الحديث منذ الحرب العالمية الاولى، عززه ظنه ارتفاع منسوب شعبيته سيما في تصديه لسلطة المؤسسة العسكرية وسعيه مؤخرا لتهدئة الصراع مع الخصوم الكرد. وبدا لوهلة ان تركيا عصية على تكرار تجربة “الربيع العربي” وهي التي استكانت لمكانتها كواحة استقرار في منطقة مضطربة وملتهبة.

          باغت تحرك الشباب الاتراك طموح اردوغان في تحقيق مآربه، وهو السياسي المحنك، ونزلوا الى الساحات العامة والشوارع الرئيسة احتجاجا على صلف سياسته، ونزوعه الثابت نحو التطرف والاستبداد؛ واندفعت شريحة اجتماعية عريضة تمثل اطياف التيارات السياسية لرفد المسيرات والمواجهات الاحتجاجية المتعددة وينمو زخمها باضطراد. اقطاب حلف الناتو، وعلى رأسهم المانيا، سارعت للتلميح الى امكانية تدخل المؤسسة العسكرية العلمانية الى جانب المحتجين. اميركا ودوائرها الاستخبارية، التي تتمتع بعلاقات طيبة مع خصوم اردوغان، ترجح “استمرار وتيرة الاحتجاجات وازدياد حدة الاشتباكات” مع اجهزة الشرطة “وربما تزداد رقعة الشرخ والانقسام داخل صفوف حزب اردوغان.”

          احتقان وقلق عميق يحمله المحتجون ضد سعي اردوغان تطويع النصوص الدستورية كي تمنحه صلاحيات اوسع، وادراكهم ان الصيغة الحالية للدستور تمنع اردوغان من الترشح مجددا عند نهاية ولايته الحالية في العام 2014. ولم يعد سرا سعي اردوغان لاقرار صيغة دستورية تخول منصب الرئيس صلاحيات اضافية، وهو الساعي لتبوأ المنصب ان كتب لمساعيه النجاح، مما يعني ان باستطاعته البقاء في الحكم لمدة عشر سنوات مقبلة يرافقه تراجع تدابير الشفافية ومراقبة الاداء.

          ربما كانت ساحة تكسيم هي الشرارة التي اطلقت الارهاصات الشعبية ضد اردوغان من مهدها، سيما وان القوى المنخرطة تضم فئات اجتماعية واراء سياسية متعددة، بل متناقضة في تطلعاتها لمستقبل تركيا. وانصهرت سريعا للتصدي لبرنامج اردوغان اسلمة البلاد وتقييد منظومة الحريات المدنية في عهده. أس قاعدة الدعم الشعبي لاردوغان يأتي من الاناضول، المعروفة بآسيا الصغرى وتشترك في حدودها الجنوبية مع سورية، بينما تتطلع النخب السياسية والتجارية في اسطنبول غربا نحو اوروبا للتفاعل والتواصل معها. احتدام الازمة يؤشر على صراع يجري بين رؤيتين مختلفين لماهية ومستقبل تركيا.

          اصرار اردوغان على احتقار المتظاهرين، بينما هو يمضي في زيارة رسمية لعدة دول بينها تونس تستمر لثلاثة ايام، وعدم احساسه بما يمور به النبض الشعبي اعطى المتظاهرين زخما اضافيا لصحة تقييمهم بأن اردوغان لا يلتفت لمصالح ومطالب الشعب. ومما زاد الطين بلة تصريحه مطلع الاسبوع بانه “فهم رسالة المحتجين،” ارفقه بالتهديد لاطلاق عنان جموع مؤيديه الذين صوتوا له باستعادة الساحات العامة عنوة من المتظاهرين، وعززه ايضا بنشر قوات اضافية من الشرطة بتعليمات لقمع التحركات وتهدئة الاوضاع.

          بلغت غطرسة اردوغان مستويات غير مسبوقة لعزمه تطبيق برنامج حزبه، اذ ذكّر الاتراك في تصريح مؤخرا ان كانو يرغبون الاحتكام الى قانون وضعي سنّه فرديْن ثمِليْن ام الى قانون الهي. يذكر ان تركيا اتاتورك رفعت الحظر عن تعاطي الكحول في العام 1926، ويعتقد ان اتاتورك قضى بمرض تليف الكبد. وعليه، يفهم من تصريحات اردوغان بانها تشكل هجوما على بطل تركيا القومي الذي ارسى دعائمها الحديثة، واعاد الى اذهان الشعب مغزى القانون الذي سن مؤخرا لتقييد بيع واستهلاك الكحول.

          الصراع الدائر في سورية ارخى ظلاله على الداخل التركي، قبل اندلاع الاحتجاجات، ابرزها تنامي التوتر بين اكراد تركيا وحكومة اردوغان على خلفية دعم الاخيرة لمسلحي جبهة النصرة في سورية، مما ادى الى نشوب بعض الاشتباكات بين الطرفين. بعد انتشار المظاهرات، وانشاء الاكراد مناطق سلمية يحرسونها في الداخل السوري من اختراق المسلحين المتطرفين، وتفاقم الاوضاع الداخلية يصبح عسيرا على اردوغان وفريقه معالجة تلك القضايا دفعة واحدة؛ سيما وهو المشهور بعناده في التعامل مع الملفات السياسية ومع الآخرين.

          ومن ابرز عوامل الاحتقان ضد سياسات اردوغان وفريقه انكماش الاقتصاد التركي مما انعكس مباشرة على شريحة التجار ورجال الاعمال الذين دعموا حملته في البداية. وتراجع الانتاج القومي العام الى نحو الصفر، بينما تنمو اجهزة الدولة ومرافقها باضطراد بنسبة 20% سنويا تمول بقروض خارجية. اذ ارتفع معدل الديون (العجز) على تركيا الى نحو 300 مليار دولار. اما احصائيات البطالة فهي ترتفع تصاعديا يرافقها تضخم بنسبة 7%.

          سيناريوهات مخارج الازمة تصب في اتجاهين: المؤسسة العسكرية التقليدية حارس النموذج التركي العلماني؛ والثاني التعويل على رموز سياسية اخرى في حزب العدالة والتنمية، اذ جرى تداول اسم الرئيس عبدالله غول ونائب رئيس الوزراء بولنت ارينج، كمرحلة انتقالية لامتصاص حدة الغضب الشعبي. فالمؤسسة العسكرية قامت بالسيطرة على الحكومة التركية في ثلاث مراحل منذ انشاء الدولة: 1960، 1971، و1980.

          اردوغان ادرك منذ بداية ولايته القوة النافذة للمؤسسة العسكرية وعمل بتأن لتقويض دورها والحد من هيمنتها وادخال تغييرات بنيوية عليها، كما وتطهير صفوفها من كبار الضباط النافذين، بل اودع بعضهم السجن ممن لا يطمئن جانبه او ولاءه. واستند الى بند ضبابي في النظام التركي يحيل الطرف المناويء الى السجن بناء على مجرد توجيه التهمة له، يتم احتجازه بموجبه لعدة سنوات دون محاكمة او اطلاق سراحه بكفالة مالية. واضحت المؤسسة العسكرية هيكلا عظميا في عهده مقارنة بالايام الخوالي.

          اطلق اردوغان يده ليتم اعتقال ما يعتقد انهم يعارضون سياساته، اذ شملت حملة الاعتقالات والتوقيف طيفا واسعا من النخب ضمت صحافيين واساتذة اكاديميين ورجال سياسة ونشطاء في مجال الحقوق الانسانية. وفازت تركيا بالمرتبة الاولى بين دول العالم في عدد الصحافيين خلف القضبان دون محاكمة.

          تفتقد حركات الاحتجاج الحالية الى رموز اساسية باستطاعتها استقطاب قوى مختلفة وتوجيه البوصلة، كما لوحظ ابتعاد الاحزاب السياسية المعارضة عن تجيير الحركة لصالحها، دل عليه غياب الاعلام واليافطات والشعارات الحزبية فضلا عن غياب الشخصيات السياسية المعروفة من ميادين الاعتصامات. المشهد العام للقوى المشاركة يدل على انخراط “الكماليين،” اتباع المؤسس مصطفى كمال اتاتورك، والشيوعيين جنبا الى جنب مع الليبراليين والعلمانيين. الامر الذي يدحض اتهامات اردوغان لتلك المجموعات بانها حفنة من “اللصوص والمهربين.”

          وها هي الاوضاع تتبلور في اتجاه نقيض لاجواء “الربيع العربي،” الوصفة السحرية لقوى الثورة المضادة، التي “سمح لها بالصعود السريع” وتسلم زمام الامور في مصر. باستطاعة المرء التعرف على اهداف المتظاهرين الاتراك وارساء نموذج الديموقراطية الليبرالية ضد القوى الاسلامية الساعية لفرض تفسيرها الديني الخاص البعيد عن التسامح مع الآخر. فالربيع التركي، وللدقة “الصيف التركي” يتخذ مغزىً خاص لناحية كونه يشهد احتجاجات واسعة هي الاولى ضد الحكم المطلق للاسلاميين. ولخص مثقفون اتراك الوضع بجملة بالغة الدلالة بأن “الاحتجاجات تشكل صرخة ملايين تشعر بالتهميش،” مؤشرة على استقطابات اجتماعية وربما طبقية لتحييد تغول النموذج الاسلامي.

امكانية انقلاب عسكري في تركيا

          للمؤسسة العسكرية التركية باع طويل للتحرك وحماية نموذج تركيا العلمانية، فهل ستمضي في هذا المضمار للاطاحة باردوغان؟

          الاجابة قد تكون بالايجاب من الناحية التقنية، لكن من غير المرشح قيامها بذلك. رئيس هيئة قيادة الاركان العسكرية التركية، نجدت اوزل، لا يظهر حماسا للتعاطي بالامور السياسية وغير مصنف في خانة المؤيدين للغرب. اذ اعلن فور تبوئه منصبه انه يتعين على القوات العسكرية البقاء خارج الحلبة السياسية والعمل ضمن الضوابط القانونية. بخلاف اسلافه قادة الاركان كافة، لم يتبوأ اوزل منصبا لدى حلف الناتو واقتصر نطاق اختصاصه على مكافحة الارهاب الداخلي ومحاربة الاكراد.

          الثابت ان ولاء اوزل يميل الى اردوغان الذي اصطفاه الى اعلى هرم التراتبية القيادية بينما اضطر الاخرون الى تقديم استقالاتهم. ويحسب لاوزل افشال فريقه العسكري لمكافحة الارهاب محاولة اغتيال لاردوغان في مدينة نسيبين عشية الانتخابات في 12 تموز 2011. قام اوزل على اثرها بتنحية اثنين من قادة الدرك، العقيد محمد ناصيف والنقيب حاليت جالموك، لاحجامهما عن التدخل لايقاف المظاهرات المناوئة لاردوغان.

          وعليه باستطاعتنا القول انه من غير المرجح تدخل القوات العسكرية التركية لدعم الاحتجاجات في اي وقت منظور؛ بل لا يستبعد استخدامها لقمع التحركات. الامر ليس بهذه السطحية ولا ينبغي الذهاب نحو الوثوق من فرضية عدم تدخل الجيش في السياسة. فالدور الذي قام به الجيش المصري، الذي كان يكن ولاء مطلقا للرئيس مبارك لحين بدء المظاهرات المطالبة برحيله، ما لبث وان انتقل الى صف المتظاهرين بغية ضمان سلامة مصالح قياداته العليا الاقتصادية الواسعة في الاقتصاد المصري.

          بالاستناد الى فرضية ان القوات العسكرية لن تلجأ لممارسة دورها التقليدي لحماية نموذج تركيا العلمانية، يبقى الامر متروك بيد اردوغان لاخماد حراك المحتجين واستعادة اواصر ثقة الناخب التركي. في هذا الصدد، ينبغي عليه استخلاص الدروس من مظاهرات المصريين الذين طالبوا منذ اللحظات الاولى لتجمهرهم في ميدان التحرير على اقالة وزير الداخلية، حبيب العادلي، وليس باقالة حسني مبارك. الغطرسة المبكرة التي ابداها مبارك وتجاهله مطالب المحتجين ادت الى تنامي رقعة الاحتجاجات بسرعة قياسية. مستقبل اردوغان السياسي معطوف على عدم براعته في الرد على المطالب، اذ مهد لقرب نهايته السياسية باحتقار وازدراء المحتجين، تماما كما فعل الرئيس مبارك.

          مع كتابة هذه السطور يسعى اردوغان للالتفاف على مطالب المتظاهرين باظهار تنازلات شكلية تقتصر على تغيير طبيعة المنشآت التي يرغب في تشييدها في ساحة الاحتجاجات، ولا يبدو انها ستكون كافية لحمل المحتجين العودة عن اعتصامهم.

2 – تعيين سوزان رايس مستشارة للأمن القومي

          اعلان الرئيس اوباما تعيين المندوب الاميركي الدائم لدى الامم المتحدة، سوزان رايس، مستشارة للأمن القومي لم يفاجيء احدا، سيما وانها من المقربين سياسيا له. رمى اوباما في تعيين رايس الى مكافأتها بعدما اضحت شخصية مثيرة للجدل، على خلفية تصريحاتها حول احداث البعثة الاميركية في بنغازي. كما ان اختيارها يقصد به توجيه صفعة لخصومه الجمهوريين في مجلس الشيوخ، الذين اقاموا سدا قاطعا ضد تزكيتها لمنصب وزير الخارجية آنذاك. منصب رايس الجديد لا يشترط مصادقة مجلس الشيوخ، وبهذا تفلت من مقصلة الجمهوريين.

          لزمن قريب اعتبرت رايس خلفا مناسبا لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون لحين حادثة بنغازي واطلاقها تصريحات عدة توصف الحادث بانه عفوي حفزه شريط فيديو مناهض للاسلام والمسلمين؛ التحقيقات اللاحقة اثبتت بطلان فرضية تصريحاتها. عندئذ، قرر الرئيس اوباما سحب ترشيحها للمنصب لتفادي جلسات رسمية محرجة كان سيجريها مجلس الشيوخ.

          ليست المرة الاولى التي يثار فيها الجدل حول رايس. ففي عام 1996، شغلت منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية، ابان فترة مادلين اولبرايت، اذ ناشدت رايس الرئيس بيل كلينتون رفض العرض السوداني نيته تسليم اسامة بن لادن، الذي اقام هناك آنئذ، للسلطات الاميركية. دلت التحقيقات المتتالية لعامي 1996 و 1997 على رفض رايس، وامتدادا وزارة الخارجية، طلبات عدة تقدم بها مكتب التحقيقات الفيدرالي للتدقيق في معلومات تتعلق بنشاطات ارهابية على صلة ببن لادن.

          لا زال البعض يعتبر آراءها حول مسائل الارهاب خلافية ومثيرة للجدل. للدلالة، في العام 2005 شاركت رايس ببحث اكاديمي استند الى فرضية ان الارهاب “يشكل خطرا تكمن جذوره في مشاعر الاضطهاد والحرمان معا،” وليس بدافع الحقد نحو الغرب.

          اسهامات رايس الادبية وتصرفاتها العملية في قضيتي بنغازي والسودان تقود الى استنتاج مشاطرتها الرئيس اوباما الرأي بأن الحرب على الارهاب قد انتهت.

          مؤهلات منصب مستشار الامن القومي تتطلب توفر الاستقامة وتوجهات فكرية مستقلة، ومعارضة الانزلاق نحو الخيارات الجاهزة المقدمة من الاجهزة الاستخبارية، عند الضرورة، بل الغوص عميقا في المجال الاستخباري للتحقق من صدقية المعلومات قبل تقديمها للرئيس. سلوك رايس في المسألتين المشار اليهما، بنغازي والسودان، تدل على تبعيتها للرواية الرسمية الصادرة عن وزارة الخارجية؛ الأمر الذي يؤشر على ثغرة حقيقية لاهليتها وتكشف مكامن الضعف في المؤهلات المطلوبة لمنصب بهذه الخطورة. وهنا يبرز السؤال حول دورها الحقيقي المطلوب لصياغة سياسة الأمن القومي للسنوات الثلاث المتبقية للرئيس اوباما.

          تجدر الاشارة الى ان تجربة رايس في السياسة الخارجية تؤشر على احد اضعف السجلات لمسؤول رئيسي في بلورة سياسات السلم والحرب، من بين اقرانها السابقين جميعا. جرت العادة ان يستعين الرؤساء بشخصيات ذوي خبرة  صلبة في بلورة السياسة الخارجية ويتمتعون بسمعة اكاديمية باهرة. نال اسلافها المنصب نظرا للأهلية في مجالي السياسة الخارجية والشؤون الأمنية، منذ عهد الرئيس كنيدي وانتهاء بالرئيس جورج بوش الابن، فضلا عن المكانة الاكاديمية والفكرية المرموقة كما يستدل من تاريخ بريجينسكي وبرينت سكوكروفت، مثلا.

          عند القاء نظرة تمحيصية على اسهامات رايس الادبية نستطيع القول انها لم تفصح بما يميزها لتبوأ منصب هام ومؤثر في مجال السياسة الخارجية، سواء داخل بنية الحزب الديموقراطي او خارجه. بل اتسمت بطغيان الدوافع والتبريرات السياسية كما تجلى في دفاعها عن احداث بنغازي الذي تهاوى سريعا بغية حجب الاسباب الحقيقية للهجوم، وكل ذلك خلال معركة الانتخابات الرئاسية لعام 2012. كما تصدع جدار خبراتها السياسية بعد الكشف عن دورها في تخفيف اهوال حرب الابادة الجماعية في رواندا ابان شغلها موقع مدير المنظمات العالمية وحفظ السلام، والذي كان ايضا لاعتبارات سياسية سيما والبلد مقبلة على معركة الانتخابات النصفية حامية الوطيس. ونقل عنها قولها آنذاك “لو استخدمنا تعبير “الابادة الجماعية” ولم نقم بعمل اللازم، ماذا ستكون التداعيات على انتخابات (الكونغرس) في نوفمبر؟”

           البيت الابيض لا يزال يواجه سلسلة فضائح سياسية ليس من مؤشر على حسمها في المدى المنظور. ويستمر الجدل الرسمي وجلسات استجواب الكونغرس حول احداث بنغازي للسعي والتوصل الى امكانية تعاون موظف في الخارجية، ولو برتبة وظيفية متدنية، وافشائه بعض المعلومات تناقض او تفند تصريحات سوزان رايس السابقة. يترتب على هذا الامر انصراف مستشار الرئيس اوباما للأمن القومي وبذل بعض الجهد للدفاع عن ذاتها على حساب انجاز المهام المنوطة بها لبلورة توجهات سياسية لبضع سنوات قادمة.

          في المحصلة العامة، قرار اوباما اختيار رايس لمنصب مستشار الأمن القومي يدل على عزمه احاطة نفسه بمؤيدين يثق بولائهم السياسي على حساب بذل جهود حقيقية لصياغة اجندة للأمن القومي في ولايته الرئاسية الثانية.

::::

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

مدير المركز: د. منذر سليمان

الموقع: www.thinktanksmonitor.com

العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com