تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.
تتمة الفصل الرابع
سياسة التعليم
من جميع ما يتعلق بمختلف فروع السياسة الاجتماعية، لعل سياسة التعليم هي التي يعيرها تشافيز وأنصاره الاهتمام الأكبر، باعتبارها أولوية الحكومة الأولى. وغالبا ما يحبُّ تشافيز أن يذكر مقولة سيمون بوليفار في هذا الأمر يوم قال، “بالتعليم يتقدم الناس.” وبهذا، لعل حكومة تشافيز كرست أعظم الزيادات في موارد الدولة للتعليم بجميع مراحله، من الروضة، إلى الابتدائي والثانوي، حتى الجامعي. وحديثاً ركز تشافيز أيضاً على تحسين التعليم بين فقراء البلاد، غالباً من خلال البعثات التي تقدم مساعدة مالية وبرامج خاصة، كبرامج محو الأمية.
كما ذكر من قبل، كان نظام التعليم المجاني في فنزولا يستثني بالتدريج أعدادا أكبر فأكبر من الفقراء، إذ كان النظام المدرسي يزيد العقبات أمام مشاركة الأطفال الفقراء. وغالباً ما أخذت هذه العقبات شكل الرسوم المدرسية، التي كانت كل مدرسة تفرضها بمفردها كي تعوِّضَ في الغالب غياب الموارد التي تتلقاها من الحكومة المركزية. وبحلول عام 1996، انخفض الإنفاق العام على التعليم إلى 118 دولار للفرد الواحد، أي بنسبة 37% أقل منه عام 1990.([i]) وهناك مؤشر آخر على زيادة سوء التعليم العام هو أنه حتى مع الزيادة المضطردة في عدد السكان، بقي عدد التلاميذ الذين يؤمُّون المدارس العامة على حاله البالغ 5.5 ملايين ما بين عامي 1992 و1998.([ii])
حين استلمت حكومة تشافيز السلطة، كان إنفاق الحكومة على التعليم أكثرَ المجالات تركيزا. وبحلول عام 2002، زادت الحكومة الإنفاق العام على التعليم إلى 4.3% من الإنتاج المحلي الإجمالي (أو 220 دولارا للفرد)، وهو ضعف المستوى في العام 1996 وأحد أعلى المستويات في العشرين سنةً الماضية.([iii]) وقد ذهب الكثير من الاستثمار في التعليم إلى بناء مدارس جديدة وتحويل القديم منها إلى “مدارس بوليفارية.” كذلك زاد التسجيل في المدارس العامة (الابتدائي والثانوي) من 5.5 ملايين عام 1998 إلى 6.5 ملايين عام 2001 – بزيادة مليون (أو 18%) خلال ثلاث سنوات فقط، بينما لم تكن ثمة زيادة قط في جميع المدارس العامة في السنوات الست الماضية.
الفلسفة التعليمية
بالنسبة إلى حكومة تشافيز ووزير تعليمها، أرِسْتوبولو إسْتوريز، لم يكن التناقض في الفلسفة التعليمية بين الحكومات السابقة والحالية أقوى منه الآن. فحسب إسْتوريز، كان نبراسُ الحكومات السابقة ما أسماه النمطَ التعليميَّ “اللبرالي-الجديد”، الذي يركز على المنافسة والفردية، أكان في المنهج أم في وسيلة تنظيم النظام التعليمي. ويقول إسْتوريز، “كانت هناك نزعة واضحة إلى الخصخصة والاستبعاد، كعنصرين ميّزا النمط التعليمي، نتيجةً للسياسات اللبرالية الجديدة.”([iv]) وكما ذُكر سابقاً، ازداد الوصول إلى النظام التعليمي عبر السنين كلفةً ومنافسة. وبالنسبة إلى إسْتوريز، إن هذا ما يجعله نمط تعليم لبراليا جديدا.
على عكس ذلك، يركز النمط البوليفاري على التعاون والمجتمع في مناهجه وانفتاحه العام ومبدأ المساواة في تنظيمه. ويُفترَض في السياسات التعليمية الفردية، من الروضة، إلى المدرسة الابتدائية والثانوية، إلى التعليم المهني والجامعي، أن تعكس هذه المبادئ. غير أنه لم يكن إلا في أواخر عام 2003، حين بدأت ميزانية الدولة تتعافى، أن قامت حكومة تشافيز بدفعة إضافية لتعميم التعليم والتأكد من أن الفقراء الذين استُبعدوا من النظام التعليمي في طفولتهم يستطيعون أيضاً أن ينالوا التعليم عبر البعثات.
التعليم في رياض الأطفال: مشروع سيمونسِيتو (Proyecto Simoncito)
قررت حكومة تشافيز، كأحد أهدافها الرئيسية، أن تقدم تعليما شاملاً لمرحلة ما قبل المدرسة لجميع أطفال فنزولا (من الولادة حتى 6 سنوات). وقد سُمِّي المشروع الذي يقوم بتطبيق هذا البرنامج باسم “سيمونسِيتو”، أي “سيمون الصغير”، إشارة إلى سيمون بوليفار. وكما يشرح أرِسْتوبولو إسْتوريز، وزير التعليم، “ليس عندنا في المدرسة القدرة على حلّ التفاوت الاجتماعيِّ الاقتصاديّ. لكن عندنا القدرة، بغض النظر عن أصل الطفل، على جعل الظروف أكثر مساواةً قبل دخوله الصف الأول. فالوظيفة التي تقوم بها روضة الأطفال هي ضمان المساواة.”([v]) وبالإضافة إلى مساواة حالات بدء دخول الأطفال إلى المدرسة لأول مرة، طبعاً، يقدم برنامج روضة الأطفال أيضاً رعاية نهارية للوالدَيْن العاملَيْن، تخفيفاً للعبء المالي المترتب على وضع الطفل في برنامج رعاية نهارية أو للإبقاء على أحد الوالدين في البيت لمراقبة الأطفال.
حسب إسْتوريز، أمَّ رياضَ الأطفال العامة في العام 2004 حوالي 1.38 مليون طفل ما بين الولادة إلى ست سنوات،([vi]) وهو ما يساوي حوالي ثلث السكان في هذا السن. وقد أظهر مجموع الانتساب إلى التعليم في رياض الأطفال، سواء منه العامُّ أم الخاصّ، للأعمار من 3 إلى 5 سنوات، صعوداً ثابتاً خلال السنوات العشر الماضية، من 43.5% من الأطفال في تلك المجموعة العمرية عام 1993/94، إلى 52.3% عام 2002/03 (بزيادة 8.8%). وقد حدثت الزيادة العظمى في أثناء رئاسة تشافيز (5.7%، مقارنة بـ3% خلال رئاسة كالديرا).([vii]) لكنْ، لا تزال أمام الحكومة مهمة عظيمة لجعل تعليم رياض الأطفال تعليما عاما.
المدرسة الابتدائية البوليفارية
يمثل إنشاء ما يسمّى بـ”المدارس البوليفارية” إحدى سياسات الحكومة التعليمية الرئيسية. ويُفترَضُ بهذه المدارس أن تتعامل مع الفقر بطرق متنوعة. أولا، تستغرق هذه المدارس النهار بطوله، وهكذا تُخلِّص الأبوين من واجب رعاية الأطفال في النهار، فتسمح لهم بالعمل خلال النهار. كذلك يسمح البرنامجُ المدرسيُّ الذي يستغرق النهار بطوله بإضافة نشاطات ثقافية ورياضية. ثانيا، تقدم هذه المدارس وجبتي الفطور والغداء ووجبة خفيفة في وقت متأخر من العصر، وهذه وجبات منتظمة ما كان للتلاميذ الفقراء أن يحصلوا عليها بغير هذا على الأغلب. ثالثا، يُفترض في هذه المدارس أن تكون أكثر اندماجاً بالمجتمع من المدارس العامة التقليدية.
منذ العام 2004، افتُتحت حوالي 3,600 مدرسة بوليفارية، منها 650 (18%) مبنيةٌ حديثاً والبقيةُ مدارس تقليديةٌ أعيد بناؤها. وتخدم هذه المدارس الآن 700 ألف طفل، أو 17% من جميع مدارس الأطفال الابتدائية.([viii]) وتهدف حكومة تشافيز إلى تحويل جميع المدارس العامة تدريجياً إلى مدارس بوليفارية.
بحسب الحكومة، تتميّز المدارس البوليفارية بست ميزات:([ix])
1. إنها تسعى إلى تحويل الأطفال إلى أفراد تشاركيين، يتمتعون بحاسة النقد، متكاملين، ينتمون لهويتهم الوطنية.
2. إنها تشاركية وديمقراطية، حيث يشارك جميع أعضاء المجتمع المدرسيِّ في صنع القرار وتنفيذ نشاطات المدرسة.
3. إنها في خدمة المجتمع المحلي.
4. إنها تنادي بالعدالة الاجتماعية وتسعى بهذا إلى التأكد من أن جميع الأطفال يُكملون دراستهم.
5. إنها نماذج للتجديد التعليمي الدائم، حيث “تتحوّل المدرسة إلى مكان للتحاور في الإنتاج المعرفي والثقافي.”
6. إنها تحارب الإقصاء التعليمي.
بينما ازداد الانتساب إلى المدارس كثيراً خلال السنوات الستِّ من حكومة تشافيز، تباطأت الزيادة في الفترة الحديثة جداً، من زيادة بلغت 7.0% و5.6% عام 2000/01 و2001/02، إلى زيادة بلغت 1.3% عام 2002/03. ولعلنا نردُّ هذا التباطؤ إلى أن الحكومة، وقد وصلت إلى جميع من كانوا أهدافاً سهلةً لدمجهم في النظام المدرسي، ينبغي عليها الآن أن تصل إلى الذين كانوا، لأسباب مختلفة، أصعب دمجاً. كان معدل الانتساب للمدرسة الابتدائية (الأعمار 6 إلى 11 سنة) في السنة المدرسية 2005/06 في مستواه الأقصى عمليا، وهو 99.0%. وهذا يمثل زيادة 10.5 نقطات مئوية، مقارنة بعشر سنوات أبكر. وفي هذه السنين العشر، حدث كل هذا النمو تقريباً خلال رئاسة تشافيز (1999/2000 إلى 2004/05).([x]) وهناك صورة مشابهة للانتساب إلى المدرسة المتوسطة (الأعمار 12 إلى 14 سنة)، حيث يزداد معدل الانتساب للمدرسة من 47.5% عام 1993/94 إلى 58.7%. ومرة ثانيةً، حدث هذا النموُّ برمته (11.2%) خلال رئاسة تشافيز لا قبلها.
هناك مشكلة خطيرة أخرى كان يواجهها النظام المدرسي في فنزولا لمدة طويلة هو معدل الانسحاب العالي من المدرسة. فمن مجموعة التلاميذ الأولى التي تدخل السنة الأولى في أية سنة، ينسحب حوالي نصفهم قبل بلوغهم الصف التاسع. ويبدو أن هذا الإحصاء قد تحسن قليلا من سنة 2000 إلى 2003، حسب مجموعة حقوق الإنسان، بْروفيا، من معدل انسحاب يبلغ 54% عام 2000 إلى 47% عام 2003.([xi])
كما ذُكر سابقاً، يعود أحد أهم الأسباب المباشرة للزيادة في الانتساب للمدارس إلى إلغاء حكومة تشافيز رسوم التسجيل في المدارس العامة. وكان هذا شائعاً بين المدارس العامة للتعويض إلى حد كبير عن تخفيضات الميزانية المدرسية. غير أن دستور فنزولا للعام 1999 يمنع بوضوح مَكْسَ الرسوم في المدارس العامة. مع هذا، بحسب وزارة التعليم، لا تزال هذه الممارسة مستمرة بشكل غير شرعي في حوالي 10% من المدارس العامة، التي يواجه بعضها الآن دفع الغرامات.
بعثة روبنسُن 1 و2 – محو الأمة لدى الكبار والتعليم الابتدائي
في تموز 2003، بعد أن كان للحكومة بعض الوقت للتعافي ماليا من الركود الاقتصادي المدمر الذي أثاره الانقلاب والإضراب النفطي عام 2002، أعلن تشافيز أول ما سيصبح لاحقاً اثنتي عشرة “بعثة” لمحاربة الفقر.([xii]) أولى هذه البعثات كانت بعثة روبنسُن، التي سميت باسم سيمون “روبنسُن” رُدْرِغيز، الذي كان معلم سيمون بوليفار. يُفترض ببعثة روبنسن أن تتولى محو الأمية. وبالرغم من أن الأمية في فنزولا منخفضة نسبياً، حوالي 7% تقريباً، مقارنة ببقية أمريكا اللاتينية حيث تصل إلى 11%، فالمؤكد أنها أحد أخطر العوامل المساهمة في الفقر.
وهكذا، بالتعاون مع كوبا، دعت فنزولا مئات الكوبيين الخبراء في محو الأمية للقدوم لتدريب معلمي محو الأمية. وفي المرحلة الأولى من البرنامج، الذي دُشِّن في أول تموز 2003، كان التلاميذ يتعلمون القراءة والكتابة، مستخدمين منهجاً كوبيا مؤسَّساً على الأرقام، لأن معظمَ الأميين يعرفون الأرقام. وحسب الإحصاءات الحكومية، استفاد نيفٌ و1.3 مليون فنزولي من هذا البرنامج بحلول أواخر عام 2004، بمساعدة أكثر من 100 ألف معلم محو أمية، يعملون في جميع أرجاء البلاد.([xiii]) وفي أواخر العام 2005، أعلنت الحكومة أن فنزولا الآن أصبحت رسميا “خالية من الأمية.”([xiv])
تتجاوز المرحلة الثانية، بعثة روبنسن 2، حدود محو الأمية إلى تعليم المشاركين كلَّ ما يحتاجون إليه حتى يبلغوا الصف السادس. والبرنامج هذا مضغوط جداً، بحيث يُنهي التلاميذ في سنتين اثنتين برنامج روبنسن 2، بدل أخذ السنوات الست المعتادة في التعليم الابتدائي الفنزولي. بدأت بعثة روبنسن 2 في 28 تشرين الأول 2003، وفي أواخر العام 2004 كانت قد رعت 1.1 مليون تلميذ منذ البدء فيها، وكان أغلبهم شاركوا في برنامج بعثة روبنسن 1. وكلا البرنامجين، بعثة روبنسن 1 و2 يعتمدان على معلمين متطوعين، ويقام هذان البرنامجان في بيوت الناس، وغالباً بمساعدة التلفاز والفيديو اللذين تقدمهما الحكومة. وبحسب مجموعة حقوق الإنسان المستقلة، بْروفيا، “تستجيب كلا البعثتين لالتزام الدولة بضمان حق التعليم، ومن خلاله بمحاربة الأمية. وقد أيقظ هذا المشروع حافزاً ومشاركةً شعبيين إيجابيين في كل الأحوال.”([xv])
مع هذا، تزعم المعارضة الفنزولية أن برنامج محو الأمية لا يعدو كونه غطاء لبرنامج تلقيني كوبي. بيد أن محض نظرة سريعة على المواد المستخدمة (ما تسمى “مكتبات” لعشرات الكتب، التي يستلمها كل بيت مشارك مجاناً)، وكذلك الحديث مع الناس الذين تخرجوا من هذا البرنامج، يبين أن لا شيء له علاقة بهذا الاتهام.
المدارس الثانوية البوليفارية
هناك ابتداع متأخر نسبياً لحكومة تشافيز هو المدرسة الثانوية البوليفارية. كانت إحدى المهمات الرئيسية لهذه المدارس الثانوية خفض معدل الانسحاب من المدرسة وتحضير شباب البلاد ليكونوا أكثر فعالية حين يلجون عالم العمل. وحسب الدستور الفنزولي وقوانين التعليم، تُعدُّ العملية التعليمة “مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعمل وتهدف إلى جعل التعليم منسجماً مع النشاط الإنتاجي….”([xvi])
أهداف المدرسة الثانوية البوليفارية شبيهة نوعا ما بأهداف المدرسة الابتدائية، فيما عدا التركيزَ على التلاميذ الباقين لكامل مدة المدرسة الثانوية، وعلى ربط عملهم المدرسي بالعالم الحقيقي من خلال مشاريع، والتركيزَ على تعليمهم تطبيقَ فكرة “التطور الذاتي”، والمشاركة في مجتمعاتهم المحلية، مثل مجالس التخطيط العامة المحلية.
تصف وزارة التعليم الفرق بين المدارس القديمة والبوليفارية كما يلي. إن النظام المدرسي القديم:
“قد حافظ على معرفة موسوعية صارمة ومؤسسة على الحفظ، بعيدةٍ عن عقلية المراهقين والشباب وعن مشاكل حياتهم الحقيقة. وهذه المعرفة العلمية، المؤسسة على منظور عقلاني، مرتبطة بميزتين أساسيتين اثنتين: التخصص والتجريد. هذه المعرفة المتخصصة صارمة في أنها تزيل حدود جزء من الحقيقة، وهي مجردة في أنها تزيل العلاقات التي تقيمها مع الجوانب الأخرى من ذاتها.”([xvii])
على العكس من ذلك، إن النظام المدرسي الثانوي البوليفاري مؤسس على مثال العلوم المُعقّدة:
“… متكاملاً في وجه الانعزالية والثنائية، وبديلا عن المراهنة على فكرةٍ متعددة المواضيع، أو عابرة للمواضيع، أو خارج المواضيع…. يفترضُ التغلبُ على تشظِّي المنهاج تبني منظورٍ للتكامل، مفترضاً أن العلم وسيلة لفهم مشاكل المجتمع، لا غاية في ذاته…. وليس ضروريا أن تكون مواضيع الدراسة مسائل علمية، بل أن تكون مسائل متعلقة بالمجتمع.”([xviii])
تستند فكرة التعليم في المدارس الثانوية إلى حد بعيد على نظريات إدغار موران التربوية، وهو فيلسوف فرنسي في التربية حظي في السنوات الأخيرة بتأييد كبير في أوربا وأمريكا اللاتينية (تُرجم بعض أعماله إلى الإنكليزية).([xix])
تقوم الفكرة، عملياً، على خلق منهاج تدريس ثانوي متكيف أكثر بالتطبيقات العملية، بدل التقسيمات التقليدية الصارمة. من ذلك، مثلاً، بدل وجود صفوف منفصلة للكيمياء والفيزياء والأحياء، تُجمع كلها معاً في مجال العلوم. وتشمل المجالاتُ الأخرى علمَ الاجتماع والإنسانيات والصحة، مثلا. ويُفتَرَضُ في جميع هذه المجالات أيضاً أن تركز على عمل البرنامج العملي، لجعل التعلم أقرب ارتباطاً ما أمكن بالوضع الحقيقي في الحياة.
كجزء من إجراء لزيادة دمج المعرفة، وللتغلب على المعدل العالي للانسحاب من المدرسة، يُفترض في التلاميذ أن يتفاعلوا مع عدد أقل من المعلمين في أثناء اليوم المدرسي. أي بدلاً من وجود اثني عشر معلماً مختلفاً لاثني عشر موضوعاً مختلفاً، يريد وزير التعليم أن يقصُرَهم على خمسة معلمين لخمسة مجالات: الرياضيات والعلوم الطبيعية، وعلم الاجتماع والمواطنة، واللغة والثقافة، والتربية الرياضية، والتعليم لأجل التطور الذاتي.
واضح أن هذه التغييرات تمثل خروجا جذريا على الطرق التقليدية في تنظيم المنهج المدرسي. وبحلول العام 2005، لم تلق هذه الخطط إلا القليل من اهتمام الجمهور، خاصة أنها لم تمارس بعد. مع هذا، وحسب وزارة التعليم، بدئت خلال العام المدرسي 2004/05 مشاريع تجريبية. وسوف يزداد عدد المدارس والتلاميذ المشمول في البرنامج ازدياداً مضطرداً، بحيث يُضمُّ إلى المشروع في نهاية فترة التجربة البالغة ثلاث سنوات 259 مدرسة ثانوية بوليفارية و128 ألف تلميذ. ويمثل هذا 7.5% من جميع تلاميذ المدارس الثانوية.
بعثة ريباس – التعليم الثانوي للكبار
بالتوازي مع برنامجي محو الأمية والتعليم الابتدائي لبعثة روبنسن، أوجدت الحكومة بعثة ريباس، التي سُميت باسم بطل الاستقلال خوسيه ريباس (1775-1815)، بحيث يستطيع من انسحبوا من المدرسة الثانوية إكمال تعليمهم الثانوي. وحسب الإحصاءات الحكومية، هناك نيِّفٌ وخمسة ملايين فنزولي كانوا قد انسحبوا من المدرسة الثانوية. ويُفترض في بعثة ريباس أن تضم هؤلاء إلى برنامج تعليمي يسمح لهم بالتخرج في مدة أقصاها سنتان. في العام 2003، وهي السنة التي دُشِّن فيها البرنامج، سُجِّل وشارك في البرنامج أكثرُ من 430 ألف فنزولي، بمساعدة أكثرَ من 100 ألف متطوع. وبحلول العام 2004، زاد عدد المشاركين بما يزيد على 700 ألف و27 ألف متطوع.
هذا البرنامج مجانيٌّ كليا كجميع البعثات. غير أن 100 ألف مشارك يتلقون بعثات تعليمية بناء على الحاجة المادية. ومعظم المساقات على شكل “دروس عن بعد”، أو فيديوهات، بمساعدةٍ من أحد المتطوعين. وما أن يُتم التلاميذ دراساتهم، حتى تعرض شركة نفط فنزولا وشركة الكهرباء المملوكتان للدولة، تشغيل التلاميذ في مجالات المناجم، والنفط، وقطاع الطاقة. والبرنامج برمته منسق من قبل هاتين الشركتين، اللتين تقدمان أيضاً معظم تمويل البرنامج.
يستند الانتقاد الرئيسي للبرنامج على أن الكثرة من المتطوعين غير خبراء وغالباً ما لا يعرفون المادة التي يُفترض فيهم تدريسها. أما الناطقون باسم الحكومة فيشيرون إلى أن معظم التعليم من الكتب والأجهزة السمعبصرية.
الجامعة البوليفارية
كما أن التعليم الأساسي كان يُقصِي بالتدريج مزيدا من الأطفال الفقراء من النظام المدرسي في الفترة ما بين 1978 و1998، كذلك كان التعليم العالي. وبينما يُفترض فنياً في كل من يحمل شهادة المدرسة الثانوية أن تُفتح له طريق الجامعة، حددت الجامعات العامة القبول بامتحانات الدخول. وهذه، كما هو الحال عادة، تنتهي بتنخيل التلاميذ الآتين من خلفيات فقيرة أو طبقة عاملة. والعامل المهم في عملية التنخيل هذه أن التلاميذ من الطبقتين الوسطى والعليا قادرون على أخذ دروس خاصة تُعدُّهم لامتحانات الدخول، بينما لا يقدر الفقراءُ عليه. وبينما قُبل عام 1984 70% من التلاميذ الفقراء الذين تقدموا لدخول الجامعة، لم يُقبل عام 1998 أكثر من 19%.([xx]) أما بالنسبة إلى تلاميذ الطبقة العاملة، فقد انخفض معدل القبول من 67% إلى 27%. نتيجةً لذلك يُقدَّر وجود نيِّفٍ و400 ألف فنزولي ممن يفون بالمتطلبات ويرغبون في دخول الجامعة، لكنهم لا يستطيعون ذلك لعدم حصولهم على علامات كافية في امتحانات الدخول.
يُفترَضُ في جامعة فنزولا البوليفارية أن تجسر الفجوة بين العرض والطلب الجامعيين. بل يُفترَضُ فيها أن تعطي أولوية الدخول للتلاميذ الفقراء. وقد قُبل في صفوف الجامعة الأولى في تشرين الأول 2003 ألفان وأربعمئة تلميذ، كما أن عشرين ألفا سُجِّلوا مسبقاً. وسوف يكون لهذه الجامعة فروع في جميع أرجاء البلاد ويُفترَضُ أن يصل عدد تلاميذها أخيراً 100 ألف.([xxi]) أما برامج الدراسة الابتدائية فهي الطب، والصحافة، والقانون، والدراسات البيئية والتطويرية. وفي غضون سنة من تدشينها الرسمي، افتُتح لها خمسة مواقع، كثير منها في مبانٍ كانت مملوكة لشركة نفط فنزولا. ففي ولاية فالكُن، مثلاً، كانت هناك بناية لتدريب موظفي شركة النفط حُوِّلت لجامعة فنزولا البوليفارية – وهي خطوة ترمز إلى تحويل أصول الدولة التي كانت مقتصرة على النخبة لفقراء البلاد.
أكثر من مجرد جسر الفجوة بين من يرغبون في دخول الجامعة وبين توافر المكان الجامعي، خاصة لفقراء فنزولا، تُدشن الجامعة البوليفارية أيضاً فكرةً جديدة في التعليم الجامعي؛ فكرةً مُشَكَّلة أيضاً على مبدأ إدغار موران. أي أن الجامعة منظمة على مبدأ التطبيقات العملية لا النظم التجريدية، حيث أن الكثير من التعليم مكيفٌ بحسب المشروع، ويُطلب من التلاميذ أن يعملوا قريباً من المجتمعات الفقيرة.([xxii])
هناك غرض للجامعة البوليفارية لعله لا يوضَّح كثيراً هو تقديم مكان جامعي لتدريب المهنيين البوليفاريين، أي المهنيين الذين يحملون أهداف المشروع البوليفاري وأفكاره. حتى منذ انتخاب تشافيز، كانت إحدى أخطر المشاكل وأشدها إزماناً التي تواجهه حكومته فقدان المهنيين المدربين تدريباً عالياً ممن يدعمون المشروع البوليفاري، أو الذين ليسوا، على الأقل، مهتمين اهتماما نشيطاً بتقويض الحكومة وزعزعة استقرارها. فالأغلبية الساحقة من الطبقة المهنية تنتمي بوضوح للمعارضة. ووجود هؤلاء في تنظيم الدولة الإداري، هو غالباً لعدم وجود موظفين مؤهلين يحلون محلهم، قد خلق مشاكل لا حصر لها لحكومة تشافيز في إدارة الدولة بكفاءة. وكثيرا ما كان تشافيز يُحل مؤيدين له غير مهرة ولا قادرين محلَّ متعاطفين مع المعارضة مهرةٍ وقادرين. ونادراً ما كان هذا يحلُّ المشكلة. أما الحل طويل المدى لهذه المشكلة، فيكون بخلق طبقة جديدة من المهنيين. نتيجةً لذلك، “تساهم جامعة فنزولا البوليفارية في تغيير الدولة الفنزولية،” حسبما تقول وثيقة تأسيس الجامعة.([xxiii])
واضح أن المعنى الضمني لهذا الهدف الأخير وغير المترابط غالباً أن التلاميذ الذين يتبنّون بشكل رئيسي أهداف المشروع البوليفاري ومُثُله مرحَّب بهم في الجامعة. وقد ظهرت الشكاوى الآن من المعارضة، متهمة الجامعة بالتفرقة السياسية. لكن مسؤولي الجامعة ينكرون الأمر. ومن الصعب القول إن كانت هناك تفرقة نشطة. أما مجموعة حقوق الإنسان الفنزولية، بْروفيا، فلا تذكر شيئاً عن تلك التفرقة، ما عدا القول إن التفرقة السياسية على جانبي الشرخ السياسي متجذرة في النظام التعليمي، من الروضة إلى الجامعة.([xxiv])وواضح لأي زائر عارض للجامعة، أن جامعة فنزولا البوليفارية هي جامعة يسيطر عليها التلاميذ والأساتذة المؤمنون بالمشروع البوليفاري. ومن المحتمل جدا أن الغالبية العظمى لهؤلاء الأساتذة والتلاميذ مؤيدة لتشافيز بشكل رئيسي بسبب الاختيار الذاتي وليس نتيجةً للتفرقة من جانب سلطات الجامعة.
البعثة سوكر – بعثات التعليم العالي
أعظم معوقات التعليم الجامعي بالنسبة إلى الفقراء فقدان الموارد المالية. إذ أن عليهم عموما أن يعملوا جانباً، وغالباً ما يساعدون أفراد أسرهم في الوقت ذاته، مما يجعل الدراسة مستحيلة. ويُقصَد بالبعثة سوكر، المسماة باسم بطل آخر من أبطال الاستقلال، أنطونيو دي سوكر (1795-1830)، إيصال التعليم الجامعي لفقراء البلاد. إنها، في الجوهر، برنامج إعداد، وإدخال، وبعثة مالية للتعليم الجامعي.
وجد إحصاء أجرته وزارة التعليم العالي عام 2003 أن هناك أكثر قليلا من 500 ألف فنزولي أكملوا متطلبات التعليم الجامعي، لكنهم لم يُقبلوا في إحدى الجامعات. وسيُشمَل هؤلاء، حسب الوزارة، في التعليم الجامعي على مراحل. في المرحلة الأولى، ابتداءً من تشرين الثاني 2003، قُبل 72,144 فنزوليا فقيرا، ثلاثون ألفا منهم تلقَّوْا منحاً دراسيةً بما يساوي 100 دولار في الشهر لتعليمهم الجامعي. وبحلول تموز 2004، انضم إلى البرنامج 90,193 تلميذا، منهم 40 ألفا استلموا منحهم.
جميع هؤلاء التلاميذ إما شُملوا ببرنامج تأهيلٍ جامعي في جامعة فنزولا البوليفارية، أو في إحدى الجامعات العامة العادية، أو في “القرى الجامعية” الجديدة. والقرية الجامعية تمثل إبداعاً تعليميا آخر لحكومة تشافيز، وتهدف إلى جلب التعليم الجامعي إلى أماكن في البلاد في حاجة إليه. أي أنه بدل أن يأتي التلاميذ إلى العاصمة أو إلى أحد المراكز الحضرية الأخرى التي فيها جامعة، حيث غالبا ما ينتهي الأمر ببقاء التلاميذ هناك، فلتكن الفكرة “تمدين” الجامعة. وستكون هذه جامعات صغيرة تخدم حاجات محددة للمجتمع المحلي، مقدمة مختارات محدودة من المساقات التدريسية. ومنذ العام 2005، كان هناك ثلاثة مشاريع تجريبية، مع خطط للبدء بأربعين قرية جامعية أخرى في جميع أرجاء البلاد قريبا.
بحلول أيلول 2003، أبدى أكثر من 420 ألف فنزولي اهتماما بالبعثة سوكر. أما غويسِب جيانِتو، الذي كان يومئذ رئيس أكبر جامعة عامة، هي جامعة فنزولا المركزية، والناقد المفوّه لحكومة تشافيز، فقد قال إن “البعثة سوكر” برنامج “غوغائي” لأن الحكومة لن تستطيع استيعاب 400 ألف تلميذ يرغبون في دخول النظام الجامعي، وليس لهم مكان. لا تستطيع الجامعات الموجودة حاليا استيعاب هؤلاء التلاميذ، حسب جيانِتو. بيد أن الحكومة تقول إن معظم هؤلاء سيجدون في النهاية مكاناً من خلال جامعة فنزولا البوليفارية، أو توسيع الجامعات العامة، أو من خلال القرى الجامعية. وعلى المدى المتوسط، يعتمد نجاح “البعثة سوكر” على ما إذا كان في إمكان الإنفاق التعليمي والدخل النفطي الذي يدعمه إدامة هذا التوسع الكبير في النظام الجامعي.
لعل انتقادا أكبر لبعثة سوكْر كان ما أثارته بْروفيا [لحقوق الإنسان] التي تقول إن هذه البعثة، كالكثير من البعثات التعليمية الأخرى، تعاني من الرعاية السياسية ومن خلق هياكل موازية للدولة. أي أن البعثة غالبا ما تُفيد في رعايتها من يدعمون حكومة تشافيز فقط. وتذكر بْروفيا كُتيِّب حملةٍ لائتلاف مؤيدي تشافيز يقول، “جميع العناصر البوليفارية (البعثات، والأحزاب السياسية، والحركات الاجتماعية، ومنظمات التلاميذ والشباب، ومجموعات المجتمع المحلي، إلخ.) إنما هي جزء” من وحدات المعركة الانتخابية، التي قامت بحملة دعم تشافيز في الاستفتاء على إبطال الرئاسة عام 2004. وكما تشير بْروفيا مُحقةً، إنه لا يجوز لبرامج الدولة أن تُشمل في الحملات السياسية.
فيما يتعلق بخلق هياكل موازية، تُعدُّ هذه مشكلة في مدى تقويضها الهياكل الديمقراطية الحالية، كقدرة المجلس التشريعي على قبول ميزانيات برامج كهذه. أي أن جميع البعثات التعليمية تمولها شركة نفط فنزولا مباشرة ولم تكن، أولا وعلى الأقل، جزءاً من موازنة الدولة العادية. كذلك تتجاوز هذه البعثات إلى حد كبير كثيراً من مؤسسات الدولة الحالية، أكانت جامعاتٍ أم وزارةَ التعليم نفسَها. لكن وزير التعليم أرِسْتوبولو إسْتوريز يقول إن هذه البعثات لا تُدار خارج مؤسسات الدولة الحالية إلا في مرحلتها الابتدائية، حين تكون برامج تجريبية. غير أنها الآن ستُضَمُّ إلى هياكل الدولة القائمة بالتدريج.
سياسة العناية الصحية
كجميع مجالات السياسة الاجتماعية الأخرى، كانت الرعاية الصحية الفنزولية في العقدين السابقين لتشافيز تعاني من انحدارٍ اقتصادي طويل ومن تطبيق اللبرالية الجديدة. فقد هبطت، مثلاً، نسبة ما أنفقته الدولة على الرعاية الصحية من الناتج المحلي الإجمالي هبوطاً كبيراً، من 1.8% عام 1992 إلى 0.8% عام 1996([xxv]) – وهو هبوط يزيد على 50% خلال أربع سنين. ثم تعافى هذا الإنفاق قليلا في السنتين التاليتين، بالغاً 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1998، وهي السنة التي سبقت تولي تشافيز الرئاسة.([xxvi])
بالإضافة إلى هبوط التمويل العام للرعاية الصحية، أصبح نظام الرعاية الصحية في فنزولا مرتبكا ومتشظيا تماماً. ذلك أن هناك أربع مؤسسات وطنية عامة رئيسية تدير الرعاية الصحية، لكل منها نظام تأمينها ومستشفياتها.([xxvii]) وبالإضافة إلى هذه المؤسسات الوطنية، هناك العديد من المستشفيات التابعة للدولة وللبلديات، وهو ما يزيد من تعقيد نظام الرعاية الصحية الإداري وتمويلها في فنزولا. وقد بُذل جهد لتخليص نظام المستشفيات من المركزية في أواخر تسعينات القرن العشرين لجعل المستشفيات أكثر تلبية لحاجات المجتمع المحلي، لكنه، بعد بعض نجاح ابتدائي، لم يتقدم كثيرا.
تُظهر المؤشرات الصحية في فنزولا أن صحة السكان أيضاً لم تكن جيدة في تسعينات القرن العشرين. فبينما كان الميل في العقود الثلاثة السابقة إلى أن توقُّع الحياة ومعدل وفيات الأطفال يتحسنان تحسنا ثابتا، لم يكن هناك تحسن أو أنه كان ضعيفاً في تسعينات القرن العشرين. فقد كان معدل توقُّع الحياة خلال هذه الفترة 71.9 سنة، ودار معدل وفيات الأطفال حول 24 وفاة لكل ألف ولادة في الفترة ما بين 1990 و1996.
من العدل القول إنه مع بدء حكومة تشافيز ازدادت أو تحسنت بثبات مؤشرات الرعاية الصحية ونفقات الصحة العامة لأول مرة منذ أوائل ثمانينات القرن العشرين. من ذلك، مثلاً، زادت نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية من 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1998 إلى 1.6% عام 2004. وبالأرقام المطلقة، زاد الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد الواحد في عام 1998 من 66.8% من مستوى عام 1990 (أي 61.47 دولار للفرد) إلى 111% عام 2005 من مستوى عام 1990 (أي 102.64 دولار للفرد).
تُظهر المؤشرات الصحية الإجمالية ميلا شبيها، في أن توقُّع الحياة ازداد سنة كاملة تقريباً بين 1998 و2005، صاعداً من 72.4 سنة إلى 73.2 سنة. ويمثل هذا معدل الزيادة السنوية الأعلى منذ عام 1988. كذلك، هبط معدل وفيات الأطفال من 21.4 وفاة لكل ألف ولادة عام 1988 إلى 17.7 وفاة عام 2001 (لكنه ازداد بسبب الأزمة الاقتصادية من 18.2 وفاة عام 2002 ثم هبط إلى 17.1 بحلول عام 2004).([xxviii]) مرة أخرى، يمثل هذا متوسط الانخفاض السنوي الأكبر في معدل وفيات الأطفال منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين. فما الذي فعلته حكومة تشافيز لتحقيق هذه التغييرات؟
تعميم الرعاية الصحية
كان الهدفُ الأول لسياسة الرعاية الصحية التي تتبعها حكومة تشافيز أن تكون مفتوحة لكل الفنزوليين، بغض النظر عن دخلهم. والحقيقة أن هذا كان هدف الحكومات السابقة، وإلى حد ما استطاعت حكومات سني الازدهار النفطي (1958-1978) بلوغ هذا الهدف. غير أن نظام الرعاية الصحية، كما ذُكر من قبل، مَثَلُه مَثَلُ النظام التعليمي، أصبح إقصائياً بازدياد خلال العقدين الأخيرين. فكان لا بد لتعميم الرعاية الصحية من أن يوضع ثانيةً على أجندة صنع السياسة العامة.
أحد الإجراءات الأولى التي قامت بها حكومة تشافيز كان إصدار مرسوم يقول إن لجميع الفنزوليين الحقَّ في العلاج في المستشفيات العامة، بغض النظر إن كانوا أو لم يكونوا مؤمَّنين صحيا. وإذ أن قطاع التشغيل الرسمي قد بلغ 50-55%، فقد تزايد عدد الفنزوليين الذين لم يعد يُغطيهم نظام التأمين الصحي العام (مؤسسة الضمان الاجتماعي الفنزولي).([xxix]) إن فتح الضمان الاجتماعي والمستشفيات الأخرى لغير المؤمَّنين قد فتح بالمعنى الحرفي أبواب المستشفيات للملايين الذين أصبحوا عبر السنين مُستثنَيْن من نظام الرعاية الصحية في فنزولا. وبينما أفاد هذا الأمر الكثيرين بالتأكيد، كان التغيير صغيراً إلى حد ما مقارنة باتساع مشاكل الرعاية الصحية.
كان تمويل المستشفيات لا يزال قاصراً في جزء كبيرٍ من رئاسة تشافيز (1999-2005). وهناك كثرة من القصص عن أناس مُلقين بل ينازعون الموت في أروقة المستشفيات، وعن مرضى اضطروا إلى إحضار محاقينهم وأدواتٍ أخرى للعلاج في مستشفى ما. وفي حالات عديدة أيضاً كانت تمر شهور لا يتقاضى فيها الأطباء وغيرهم من موظفي المستشفى رواتبهم. ونتيجةً لذلك، أصبح إضراب المستشفيات أمراً شائعا. في العامين 2003 و2004، كان هناك ما مجموعه 27 إضرابا ذا علاقة بالرعاية الصحية، وهو ما مثّل انخفاضاً بنسبة 24% مقارنةً بفترة السنتين السابقتين.([xxx]) وهكذا، بالرغم من فتح أبواب المستشفيات للجماهير، كان المرضى خلف هذه الأبواب يجدون ما لا يشتهون.
لم يقفز نظام الرعاية الصحية وتعميم الرعاية الصحية قفزاتٍ نوعيةً وكميةً للأحسن حتى أُنشئ برنامج “الحيّ الفقير من الداخل” في منتصف العام 2003. كما أن هناك برنامجاً آخر مهماً حسّن الرعاية الصحية كثيراً هو برنامج التطعيم، الذي قُدِّم في بدايات رئاسة تشافيز. ففي العام 2000، قررت حكومة تشافيز تحقيق هدف تغطية جميع الأطفال بالتطعيم. لكن هذا الهدف، حسب مجموعة بْروفيا لحقوق الإنسان، لم يتحقق بعد. واعتماداً على نوع المرض، تتراوح التغطية الآن بين 17% و90%.([xxxi]) لكنْ، حين يُقارَن معدّل التطعيم السنوي بالحكومات السابقة، يميل في أثناء حكومة تشافيز إلى الارتفاع لمختلف الأمراض. من ذلك، مثلاً، تراوح معدل تطعيم الحصبة حول 45% في ثمانينات القرن العشرين وحول 65% في التسعينات. لكن معدل التطعيم السنوي في أثناء حكومة تشافيز (1999-2003) كان 76%.([xxxii]) ويمكن رؤية اتجاهات شبيهة بقفزة تبلغ 10% في التغطية المناعية لمعظم أنواع التطعيم أيضا.
بعثة الحيّ الفقير من الداخل
بحلول تشرين الثاني 2004، كانت “بعثة الحيّ الفقير من الداخل” موجودة في 320 بلدية من بلديات فنزولا البالغ عددها 335 بلدية، موظِّفاً 13 ألف طبيب عامٍّ كوبي و29 طبيباً عاماً فنزولياً يعملون في 8,500 عيادة “شعبية”. كذلك توسع البرنامج ليشمل أطباء أسنان، موظفاً 3,054 كوبياً و543 فنزوليا. وحسب وزارة الصحة والتطوير الاجتماعي، قدمت “بعثة الحيّ الفقير من الداخل” نيِّفاً و45 مليون استشارة طبية منذ التفكير بها، منقذةً أرواح 25 ألف طفل.([xxxiii])
بينما اكتسب هذا البرنامج شعبية كبيرة بين فقراء البلاد، أغضب المؤسسة الطبية غضباً شديداً. فحسب الاتحاد الطبِّي الفنزولي، يحرم هذا البرنامج الأطباء من وظائفهم، ويخفض مستوى العناية الطبية، لأن الأطباء الكوبيين يُفترض أنهم غير مدربين جيدا كالأطباء الفنزوليين، وأنهم يُلقِّنون العقيدة الماركسية لفقراء البلاد. إن الاتحاد الطبي الفنزولي، الذي يضم في عضويته 55 ألف طبيب، هو أحد أقوى جماعات الضغط في البلاد، وقد اتخذ موقف المعارضة من تشافيز منذ البداية. بيد أن معارضته قد جازت حدود الشؤون المهنية. ففي حزيران 2003، رفع الاتحاد الطبي الفنزولي دعوى قضائية على الأطباء الكوبيين، متحديا كفاءتهم في ممارسة الطب، قائلاً إنهم لم يجتازوا إجراءات الترخيص الصحيحة. أما المحكمة التي تولت القضية فكانت “محكمة النزاع الإداري الأولى”، التي كانت، في الوقت ذاته، معروفة بأنها في أيدي المعارضة. وفي شهر آب 2003، حكمت المحكمة لصالح الاتحاد الطبي، قائلة إن الأطباء الكوبيين لم يكن مسموحاً لهم ممارسة الطب في فنزولا من غير أن يُمنحوا تصريحا بذلك من قبل جامعة طبية فنزولية. لكن الحكومة قررت أن تستأنف القضية لدى المحكمة العليا وتتجاهل حكم المحكمة الدنيا بحجة أن الحقَّ الإنسانيَّ والدستوريَّ في العناية الصحية يتقدم على حكم المحكمة البيروقراطي. وحتى أواخر العام 2005، لم تكن المحكمة العليا قد بتّت في القضية.
مع هذا، لا يمكن، على المدى البعيد، أن تستمر “بعثة الحيّ الفقير من الداخل” من غير الأطباء الفنزوليين. لكن الأطباء الفزوليين أثبتوا أنهم لا يريدون المشاركة في البرنامج لأنهم ينتمون في معظمهم للطبقة الوسطى أو العليا ويشتركون في الحقد الذي يحمله فنزوليو الطبقة الوسطى على الأحياء الفقيرة، معتقدين أنها أخطر وأقذر من أن يعيشوا أو يعملوا فيها. ولحل هذه المشكلة، بدأت الحكومة في تجنيد تلاميذ الطب الآتين من الأحياء الفقيرة، الذين يدرسون الطب في كوبا أو في جامعة فنزولا البوليفارية. وقد تخرجت أول دفعة كان عددها 250 تلميذ طب فنزولي في أواخر عام 2004، مع ألف تلميذ لا يزالون يدرسون في كوبا.
المشكلة الأخرى التي قد يواجهها البرنامج هو التمويل. حاليا، مع كون سعر النفط في مستواه الأعلى خلال عشرين عاما، تتمتع الحكومة الفنزولية بازدهار في عائداتها سمح لها أن تنفق بسخاء على برامج كبرنامج “بعثة الحيّ الفقير من الداخل”. فلو هبطت هذه العائدات فجأة، فقد يتبخر البرنامج بسرعة، وهو المقدرة كلفته بنحو 1.5 مليار دولار في السنة. في الجانب الآخر، لما كانت “بعثة الحيّ الفقير من الداخل” تقدم رعاية أولية ووقائية، فإنها، على المدى البعيد، توفِّر قدراً كبيراً من المال على النظام الطبي في فنزولا، بخفض حاجة الناس إلى دخول المستشفى أو حاجتهم إلى علاج أغلى. كذلك إن كلفة البداية لهذا البرامج أعلى من كلفة تشغيلها، فما أن تُبنى عيادات المجتمع المحلي “الشعبية”، حتى تغدو إدامتها أرخص كثيرا.
بالرغم من التقدم الحديث، تبقى مهامُّ حكومة تشافيز في الرعاية الصحية عديدة ومليئةً بالتحدي. أولا، لجعل “بعثة الحيّ الفقير من الداخل” برنامجاً ثابتاً فعالا، عليها أن تنتهي من بناء 9,500 مركز صحي للمجتمع المحلي (لم يُبنَ منذ منتصف عام 2005 سوى 280). وعليها أن تُحلَّ بالتدريج أطباء فنزوليين محلَّ الكوبيين. بعد ذلك، فيما يتعلق بنظام الرعاية الصحية الأكبر، يجب أن تجد وسيلة لتوحيد شبكة المستشفيات الحالية المتشظية وتخليصها من المركزية. هناك قانون “عضوي” (قانون يستند إلى الدستور) للعناية الصحية يتم وضعه وسوف يعالج هذه المسألة. أخيراً، لا بد من تجهيز المستشفيات الحالية وتوسيعها ودفع رواتب الأطباء المتأخرة.
لم يلتفت تشافيز إلى هذه النقطة الأخيرة إلا في منتصف العام 2005، حين أعلن عن برنامجين جديدين: “الحيّ الفقير من الداخل” الرقم 2 والرقم 3. يشمل “الحيّ الفقير من الداخل-الرقم 2” بناء عيادات مجتمع محلي جديدة في الأحياء الفقيرة، التي لم يكن فيها أية عيادة من قبل قطّ. أما “الحيّ الفقير من الداخل-الرقم 3″، فيشمل، في المقابل، وبعد أكثر من عقد من الإهمال، تمويلاً كاملاً لنظام المستشفيات الحالي في فنزولا. كان سيتم تخصيص 2.5 مليار دولار من احتياطيات الدولة من العملة الصعبة (من صندوق فُنْدِن) لشراء معدات طبية من الخارج. وقد مثَّل هذا إحدى أكبر المخصصات في صندوق “فُنْدِن”.([xxxiv])
[i] المصدر: وزارة التخطيط والتطوير.
[ii] هناك عدد أكبر قليلا كان يؤمُّ المدارس الخاصة في هذه الفترة من الزمن، يتراوح ما بين 1.2 مليون عام 1992 و1.5 مليون عام 1998. هذه الأرقام مأخوذة من (Provea Informe Annual 2003-2004). ص. 162.
[iii] استمر الإنفاق العام على التعليم في النمو، حتى خلال عامي الأزمة 2002 و2003، بحيث بلغ 273 دولاراً للفرد الواحد بحلول عام 2005، أو 4.9% من الناتج المحلي الإجمالي، الذي كان 44.5% أعلى منه سنة 1990.
[iv] في مقابلة مع المؤلف، في آذار 2005، نُشرت على موقع (www.venezuelanalysis.com) قال: “الآن علينا أن نعزز هذا النظام التعليمي البوليفاري،” 12 نيسان 2005.
[v] م.ن.
[vi] 2004: سنة الإنجاز البوليفاري (2004: Ano de logros bolivarianos). ص. 118.
[vii] ص. 168 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004”.
[viii] استناداً إلى عدد تلاميذ المدارس الابتدائية البالغ 4,085 مليوناً (الصفوف 1-6)، حسب إحصاء وزارة التعليم.
[ix] مأخوذ من منشور وزارة التعليم حول المدارس البوليفارية.
[x] المصدر: وزارة التخطيط والتطوير (www.sisov.mpd.gov.ve).
[xi] ص. 171 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004.” لسوء الحظ أن المعطيات الأقدم غير متوافرة.
[xii] هذه البعثات هي: روبنسن 2 (التعليم الابتدائي للكبار)، ريباس (التعليم الثانوي للكبار)، سوكر (التعليم الجامعي)، الحيّ الفقير من الداخل 1 و2 و3، (الرعاية الصحية الشاملة)، مِركال (محلات الأطعمة المدعومة)، فْوِلْفان كاراس (الاستخدام)، الموطن (الإسكان)، غْويكيبورو (الحقوق المحلية)، زامورا (إصلاح ملكية الأراضي)، بيار (التعدين الصغير)، إدنْتِداد (أوراق الهوية)، ميراندا (الاحتياط العسكري).
[xiii] هذه الأرقام مأخوذة من موقع الحكومة حول البعثات: (www.misionvenezuela.gov.ve).
[xiv] يرفض هذا الزعمَ كلٌّ من المعارضة، ودراسةٌ أجراها أورتيغا ورُدْريغيز ومِغْوِل (2006)، وكذلك الاقتصاديون المتعاطفون مع المعارضة، قائلين إن برنامج محو الأمية ليس له تأثير عملي على التخفيف من الأمية.
[xv] م.ن. ص. 197.
[xvi] منشور وزارة التعليم، التعليم البوليفاري، ص. 28-29.
[xvii] م.ن. ص. 51.
[xviii] م.ن. ص. 52.
[xix] أحد هذه الترجمات متوافر لدى اليونسكو [بالإنكليزية]: (http://unesdoc.unesco.org/images/0011/001177/117740eo.pdf).
[xx] راجع “ثلاث سنوات على الجمهورية الخامسة” (3 Anos de la Quinta Republica) على الرابط: (http://www.mpd.gov.ve/3%20A%DIOS/3AnosdelaVRepublicapdf).
[xxi] حسب برنامج “مرحبا أيها الرئيس!”، ع. 168، 19 تشرين الأول 2003.
[xxii] في العام 2005، تعرضت الجامعة البوليفارية لتغيير مهم، بمدير جديد وصراع داخلي سلطوي قوي حول الفلسفة التعليمية التي تستند عليها الجامعة. وقد قال بعض المراقبين إن الهدف كان جعل الجامعة أقل “تقدما حداثيا” بالمعنى الذي جاء به إدغار موران، وأكثر تقليدية مما كانت عليه في البدء.
[xxiii] ص. 16 من الوثيقة الرسمية لجامعة فنزولا البوليفارية (Documento Rector: Universidad Bolivariana de Venezuela)
[xxiv] ص. 187 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004.”
[xxv] بحساب الفرد الواحد، انخفضت النفقات العامة على الصحة أيضاً بأكثر من 50%، من 91 دولارا للفرد عام 1990 إلى 43. المصدر: المؤشرات الاجتماعية المدمجة لفنزولا (integrado de indicadores sociales para Venezuela) (www.sisov.mpd.-gov.ve).
[xxvi] كذلك انخفضت النفقات للفرد الواحد عام 1995 إلى 55% عن مستواها عام 1990، واستعادت مستواها قليلا عام 1998، فبلغت 66.8% من مستوى العام 1990. (م.ن.).
[xxvii] الأنظمة الوطنية الأربعة هي: وزارة الصحة والتنمية الاجتماعية، المؤسسة الفنزولية للضمان الاجتماعي، مؤسسة التنبؤ بالعون الاجتماعي لوزارة التعليم، مؤسسة التنبؤ الاجتماعي للقوات المسلحة الوطنية.
[xxviii] المصدر: حسابات المؤلف، استناداً إلى معطيات من المؤشرات الاجتماعية المدمجة لفنزولا (www.sisov.mpd.-gov.ve).
[xxix] المؤسسة الفنزولية للضمان الاجتماعي.
[xxx] ص. 136 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004.”
[xxxi] م.ن. ص. 139.
[xxxii] إحصائيات التطعيم لدى منظمة الصحة العالمية.
[xxxiii] جميع هذه الإحصاءات من بروفيا و (www.misionvenezuela.gov.ve).
[xxxiv] “فندن” اختصار صندوق التنمية الوطني الذي أسس من “فائض” العملة الأجنبية. وقد خصصت 6 مليارات دولار لهذا الصندوق عام 2005.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.