تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.
تتمة الفصل الرابع
سياسة الإسكان
من بين جميع سياسات حكومة تشافيز الاجتماعية، لعل ما أنجزته في مجال الإسكان كان أضعفَها (وتليه المستشفيات العامة). ثم لاحقاً في وقت مبكر من رئاسة تشافيز، عام 2000، كان الإنفاق على المساكن العامة بالنسبة إلى الفرد الواحد قد بلغ أعلى مستوى له خلال نيِّفٍ وعقدٍ من الزمن، بالغاً 104.5% من مستوى الإنفاق عام 1990، واحتُفل به كإنجاز كبير. بيد أن الإنفاق على المساكن العامة بالنسبة إلى الفرد الواحد أخذ بعد ذلك ينخفض انخفاضاً شديدا كل سنة، بالغاً أقل مستوى على الإطلاق عام 2004 بنسبة 39.8% من مستواه عام 1990.([i]) ومن حيث عدد المنازل، لقد بلغ ما بنته الحكومة عام 2000 ذروةً تساوي 70 ألفاً، لينخفض إلى 11 ألفاً عام 2003.([ii]) أما المساحة المبنية، ققد بلغت 4,635,000 متر مربع عام 2001، لتنخفض إلى 1,770,000م2 عام 2003. وكانت حكومة تشافيز قد بَنَت عددا من المساكن العامة في السنة الواحدة خلال أول أربع سنوات لها في الحكم (1999-2002) أقلَّ مما بنته حكومة كارلُس أندريس بيريز (1989-1993) وأكثرَ قليلا فقط من حكومة رفائيل كَلديرا (1994-1998). أي أن المعدل السنوي لحكومة تشافيز كان 34,228 مقارنة بـ37,018 لحكومة بيريز و33,754 لحكومة كالديرا.([iii])
تكمن مشكلة قطاع الإسكان في أن فنزولا تعاني من نقص حادٍّ في المساكن. ذلك أن تضافر التمدن السريع، والنمو السكاني القوي (تضاعف بين عامي 1976 و2004)، والانتشار الواسع في الفقر، حالت كلُّها دون أن يقدم القطاع الخاص ما يكفي من بيوت لمن يحتاج إليها. فقد قُدِّرت الحاجة السنوية بـ135 ألف بيت جديد على الأقل للوفاء بالطلب السنوي الجديد فقط. وفي العام 2004، بلغ العجزُ الإسكانيُّ رقما مذهلا هو 982 ألف بيت جديد، مع تحسين أكثر من 1.4 مليون بيت موجود. غير أننا لو جمعنا البيوت التي بناها القطاعان الخاص والعام كلاهما بين عامي 1990 و2000، لوجدنا أن 63,500 بيت فقط قد بُنيت في السنة الواحدة.([iv]) وبهذا يُصبح واضحاً أن النقص في الإسكان بالمعدل الحالي ليس له بمرور الوقت إلا أن يسوء.
كثيرة هي المشاكل التي واجهتها حكومة تشافيز، ولا تزال حتى الآن عاجزةً عن التغلب عليها. أولا، إن وسائل الحكومة في بناء المساكن بيرقراطية جدا. فهناك حالياً ما لا يقل عن خمس دوائر رسمية مسؤولة عن بناء المساكن العامة، وهو ما يعقد التنسيق كثيرا. كذلك كان تشافيز باستمرار، مدفوعاً بخيبة أمله في عدم فاعلية وزرائه، يعين وزراء جدداً مسؤولين عن الإسكان العام، مما يجعل المسألة مستحيلة عملياً للوزير المعين حديثاً أن يعتاد على وظيفته الجديدة، وأن يجد سبيله في هذه البيرُقراطية المعقدة، وأن يأتي بنتائج. وفي سنوات الحكومة الخمس، من 1999 حتى 2004، عيّن تشافيز سبعة وزراء كانوا مسؤولين عن الإسكان العام (كان كلٌّ من الخمسة الأوائل وزير البنية التحتية، ومنذ 2004 وزير الإسكان). وفي كل مرة يحدث فيها تغيير للوزير، كانوا يميلون إلى تغيير المستوى التالي من إدارة الوزارة، مسببا ذلك اضطراباً في المؤسسة برمتها. ثالثا، بالإضافة إلى العدد الكبير نسبياً للمؤسسات الوطنية المسؤولة عن الإسكان العام، هناك دوائر محلية في الدولة كلها تزيد من الارتباك العام في هذا القطاع. رابعا وأخيرا، كما هو الحال في جميع مجالات السياسة الاجتماعية الأخرى، كان على الحكومة أن تبدأ في الحد من الإنفاق العام الكبير في العامين 2002 و2003، بسبب الأزمة السياسية والاقتصادية في هذين العامين.
في منتصف العام 2004، أعلنت حكومة تشافيز مبادرتين جديدتين رئيسيتين في سياستها افتُرض فيهما التغلب على هذا السجل الواهي في قطاع الإسكان. أولاهما كانت إنشاء وزارة جديدة توحد جميع المؤسسات المتعلقة بالإسكان العام الحالي، وتوضع تحت إشراف “بعثة الموطن”. والثانية كانت سنَّ قانون جديد ينظم الرهنَ ودعمَ الدولة شراءَ المنزل.
في أوائل عام 2005، أعلن تشافيز أن وزارة الإسكان الجديدة و”بعثة الموطن” سوف تبنيان ما يكفي من مساكن لجميع الفنزوليين أو تعيدان بناءها، بحيث تُحلُّ أزمة الإسكان في البلاد بحلول عام 2021، وهو العام الذي أعلن تشافيز أن ثورته البوليفارية سوف تكتمل فيه. وسيكون هناك تغيير مهم في سياسة الإسكان الجديدة، بألا يقتصر التركيز على بناء الدولة لمساكن الفنزوليين الذين يحتاجون إليها، ولكن أيضاً على إشراك الفنزوليين العاديين في بناء أو إعادة بناء بيوتهم، بمساعدة الدولة. وإذ اعترفت الحكومة بأن حوالي مليون بيت جديد ينبغي بناؤه وأن 1.5 مليون بيت ينبغي إعادة بنائه، كان هدف الحكومة بناء ما لا يقل عن 120 ألف بيت جديد عام 2005 و200 ألف عام 2006، حسب تصريح تشافيز في أحدى حلقات برنامجه المتلفز، “مرحبا أيها الرئيس.”([v]) وسوف يُبنى أغلب هذه البيوت (معظمها شقق) باتفاقية تعاون مع الصين، التي ستُستشار حول الجوانب الفنية في بناء هذه الكثرة من المساكن في هذه الفترة القصيرة من الزمن.([vi]) بيد أن تشافيز اضطر أن يعترف في منتصف عام 2005 بأن البرنامج لم يزل يتعثر. فقد قال في 30 تموز 2005، في برنامج “مرحبا أيها الرئيس”، “إنني غير سعيد إطلاقاً من نفسي ومن حكومتي في هذه القضية [الإسكان] وأتحمل أنا المسؤولية الأولى. لقد أعطيت كثيرا من الوقت لكي أرى النتائج، لكن المؤشرات سيئة.” وبالرغم من هذا الاعتراف وتعيين وزيري إسكان آخرين بحلول منتصف 2006، استطاعت الحكومة أن تبني 42 ألف مسكن فقط من 120 ألفا خططت لها عام 2005، وعلى الأكثر 78 ألفاً أخرى بدل 200 ألف في نهاية 2006.([vii])
يُنظِّم الإجراء الثاني، في سنِّ قانون يتعلق بالرهن، معدلاتِ الفائدة والمعوناتِ الماليةَ لمشتري البيوت. أما معدلات الفائدة على الرهن التي لا تخضع للتنظيم في الوقت الراهن فهي 38%، ولكن الأفراد، بحسب القانون الجديد، يمكنهم الحصول على معدلات فائدة ما بين 5.7% و10.7% اعتماداً على دخلهم. كذلك يُطلب من جميع المصارف أن تجعل 10% من قروضها الرهنية متاحةً في هذا المستوى من الفائدة المتدنية. أخيراً، يستطيع كل من يقلُّ دخله عن 588,000 بوليفار (273 دولارا) في الشهر أن يتلقى معونة مالية مقدارها 19 مليون بوليفار (8,837 دولارا) ليشتري بيتا.
هناك إجراءٌ آخر للترويج لشراء بيت وبنائه متمثلٌ في نشر كتاب حول كيف تبني بيتك. ذلك أن الفنزوليين اعتادوا لعقود طويلة أن يبنوا بيوتهم في الأحياء الفقيرة بأنفسهم، وغدت الكثرة من سكان تلك الأحياء خبيرةً في “المعمار الشعبي”، وفي المهارة والمعرفة المتعلقتين ببناء البيوت في الأحياء الفقيرة. في هذا تقول حكومة تشافيز إن القطاعين الخاص والعام لا يستطيعان سدَّ حاجة الإسكان وحدهما على الإطلاق. فالحاجة ماسة إلى مبادرة من سكان الأحياء الفقيرة أنفسهم، وقد كانوا اضطلعوا بهذا في الماضي، ولكن ليس بدعم أو مباركة من الحكومة. والأمل معقود على أن تستطيع مبادرة المواطنين الخاصة، ببعض دعمٍ من الحكومة، أن تُوجَّه صوب بناء عملي وقليل الخطورة. يقول هنري رانْغِل، مدير برنامج الإسكان الوطني، “تحبذ الحكومة الوطنية البناء الذاتي؛ ولهذا الأمر سوف تنظم ورشات تدريب للبنائين الشعبيين وتوزع 500 ألف نسخة من كتيّب البناء الشعبي، الذي سيقوم بتوجيه من يريدون بناء منازلهم الخاصة، لكنهم لا يملكون المعرفة الفنية لهذا العمل.([viii]) إنها إرادة إشراك المجتمع المحلي التي تلقي عليها الضوءَ مجموعةُ حقوق الإنسان “بروفيا” عادّةً إياها إحدى الجوانب الإيجابية لسجلٍّ إسكانيٍّ فقيرٍ: “بالمقارنة مع الإدارة الناقصة التي كانت تميّز سياسة الإسكان العامة في السنوات الأربع الماضية (1999-2003)، تبرز مشاركة المجتمع المحلي النامية والمنظمة.“([ix])
الضمان الاجتماعي
يتضمّن الضمان الاجتماعي في فنزولا تشكيلة كاملة من وسائل منح ضمان مالي دائم في حالات العجز، والمرض، والبطالة، والأمومة، وغيرها. أُنشئ نظام الضمان الاجتماعي الفنزولي بادئ ذي بدء في أربعينات القرن العشرين، وكان أساساً نظام تأمين للصحة والعجز يغطي الموظفين الذين يتقاضون راتباً فقط. وعلى مر السنين، خاصة في أثناء الازدهار النفطي، توسع نظام التأمين ليغطي مزيداً من الناس وتشكيلة أوسع من الحالات. كذلك أصبح هذا النظام أكثر تعقيداً بدخول مزيد من أنواع التأمين عليه، خاصة للتقاعد، بحيث يوجد اليوم أكثر من 400 نظام.
بالإضافة إلى مشكلة التعقيد المتزايد، أصبح واضحا لمعظم السياسيين بحلول تسعينات القرن العشرين أنْ لا بد من تعديل النظام الحالي. كانت المساهمات أقلَّ من أن تغطي حلقة المستفيدين المتزايدين دوما، خاصةً أن نسبة المتقاعدين ازدادت بينما انخفضت نسبة المساهمين المستخدَمين. أما أحد الأسباب الرئيسية في انخفاض حلقة المستخدَمين المشاركين، فكان ازديادَ الاستخدام غير الرسمي ازدياداً ثابتا، بلغ أكثر من 50% بحلول عام 2000. وقد بُذلت عدة جهود في أوائل تسعينات القرن العشرين لخصخصة نظام الضمان الاجتماعي، جزئياً على الأقل. غير أن جميع هذه الجهود قد فشلت؛ ولم يكن حتى نهاية رئاسة رفائيل كَلديرا عام 1998 أن سُنَّ قانون جديد للضمان الاجتماعي ألغى النظام القديم كلياً، وهو المعروف باسم البرنامج الفنزولي للضمان الاجتماعي، مُحِلاًّ محله نظاماً مخصخصاً للضمان الاجتماعي. وهناك تغيير مهم جداً في قانون العمل الجديد، استند عليه إصلاح الضمان الاجتماعي، نصَّ على أنْ يُخفَّض تخفيضاً كبيرا تعويضُ الانقطاع عن العمل، الذي يمثل في جوهره شكلاً من التأمين ضد البطالة.
بيد أنه قبل تطبيق القانون الجديد، أصبح تشافيز رئيساً، وبوفائه بوعوده في الحملة الانتخابية، أصدر مرسوما قانونياً، بموافقة المجلس التشريعي، ألغى فيه إصلاح الضمان الاجتماعي الذي أقره كَالديرا. وقد نصَّ دستور 1999، الذي أُقر بعد ذلك بوقت قصير، بتفصيل غير عادي على أن نظام الضمان الاجتماعي في فنزولا ينبغي أن تُديره الدولة، ولا بدّ له من أن يغطي كل جوانب الضمان الاجتماعي. بل إنه نصَّ أيضاً على أن عمل الزوجة في البيت يجب عدُّه عملاً مأجوراً لغايات الضمان الاجتماعي. والأمر الأساسيُّ في هذا التعامل مع الضمان الاجتماعي يستند إلى أنه لكي تُطبَّق سلطة الدستور، لا بد من إقرار تشكيلة جديدة من القوانين تصف بالتفصيل عمل هذا النظام الجديد.
ولم يكن إلا بعد ثلاث سنوات، في أواخر عام 2002، أن مُرِّر “القانون العضويُّ لنظام الضمان الاجتماعي”.([x]) وقد نصَّ قانون الضمان الاجتماعي على أن من كانوا قادرين اقتصادياً على المساهمة في نظام الضمان الاجتماعي هم فقط من يُطلَب منهم ذلك، لكن لكلِّ الناس حقَّ الاستفادة من هذا النظام. غير أن كيفية دفع هذه الفوائد، بالنظر إلى صغر قاعدة المساهمين، تُركت مفتوحة لقوانين إضافية لا يزال ينبغي سنُّها. وبنهاية عام 2005، لم يكن بعضُ هذه القوانين الإضافية، التي بها يُصبح النظام الجديد نافذاً، قد مُرر بعد.([xi]) وبهذا التأخير، انتهك المجلسُ التشريعيُّ “القانونَ العضويَّ لنظام الضمان الاجتماعي”، الذي نصّ على أن أقصى موعد لتمرير القوانين الإضافية المطلوبة لنظام الضمان الاجتماعي هو عامٌ واحد بعد تمرير “القانون العضويّ لنظام الضمان الاجتماعي”.([xii])
قامت حكومة تشافيز ببعض تغييرات مهمة في نظام الضمان الاجتماعي لم تكن تحتاج إلى إجراء تشريعي. كان أهمها رفع المنافع التقاعدية للمتقاعدين. ففي السابق كان المتقاعدون يتلقون ما معدله 60 ألف بوليفار فقط (37.50 دولاراً عام 2003) في الشهر. وابتداءً من شهر أيار 2003، أصدر تشافيز مرسوماً بوجوب ربط المنافع التقاعدية مباشرةً براتب الحد الأدنى، الذي كان يومئذٍ حوالي 247 ألف بوليفار (154 دولاراً) في الشهر، مضاعفاً المنافع التقاعدية أربع مرات. كذلك كان نظام الضمان الاجتماعي قد سبب على مر السنين ديناً ضخماً للمستفيدين منه، فبدأت حكومة تشافيز في تسديده. وهناك عامل آخر أنه كلما تقاعد المزيد من الفنزوليين، كان للمزيد منهم حق تلقي منافع التقاعد. وكنتيجة لهذه العوامل، تضاعفت أكثر من ثلاث مرات نفقات الضمان الاجتماعي كنسبة للناتج المحلي الإجمالي في أثناء إدارة تشافيز. ففي ما بين 1990 و1995، لم تتعدّ نفقات الضمان الاجتماعي 1% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي السنة التي سبقت وصول تشافيز إلى الرئاسة، كان الرقم 1.3%. ثم تصاعد بثبات بعد ذلك، بالغاً 3.2% في العام 2004.([xiii])
في أثناء هذه الفترة، انخفض عدد الذين يودعون في نظام الضمان الاجتماعي بسبب تناقص عدد الموظفين الرسميين الذين يعملون وقتاً كاملا. فبينما كان 12.4% من مجموع السكان في العام 1994 مؤمَّنين في نظام الضمان الاجتماعي، انخفض هذا الرقم بحلول العام 2003 إلى 9%. في هذه الأثناء، ازدادت نسبة الفنزوليين الأكبر من 60 سنةً الذين يتلقون منافع تقاعدية من 14.2% عام 1997 إلى 27.3% عام 2004.([xiv])
مساعدات اجتماعية أخرى
سوء التغذية هي النتيجة العامة لأية زيادة في الفقر. ففي فنزولا، مع الأزمة الاقتصادية في العامين 2002 و2003، لم يزدد الفقر وحده (من 39% إلى 54%)، بل ازداد معه سوء التغذية وانخفاض أوزان المواليد. فحسب “نظام فنزولا للاحتراس الغذائي” (سِسْفان)، ارتفع سوء التغذية، نتيجة الأزمة الاقتصادية بشكل كبير لدى الأطفال بين السابعة والخامسة عشرة، من 24.4% إلى 26.8% بين العامين 2002 و2003.([xv]) كذلك أظهرت إحصاءات المواليد بأوزان منخفضة ميلاً شبيها، من 8.5% من المواليد الجدد عام 2002 إلى 8.8% من المواليد الجدد عام 2004.([xvi])
يشير سوء التغذية الحادّ إلى مشاكل خطيرة في مجتمع غير مرتبط طبيعيا بدولة، كفنزولا، تبدو في غير هذا الحال غنية. في أوائل رئاسة تشافيز، كان البرنامج الرئيسي لمقاومة مثل هذه المشكلة هو المسمى “خطة بوليفار 2000″، التي وُزِّعت بموجبها آلاف الأطنان من الطعام على فقراء البلاد، أغلبها مجانيٌّ، بين العامين 1999 و2001. لكنْ، لم تكن ثمة أية مساعدة غذائية في العامين 2002 و2003، ربما في الأغلب بسبب انشغال الحكومة بالأزمة الاقتصادية والسياسية، وكذلك بسبب نقص في أموال الحكومة من جراء هذه الأزمة. ولعل غياب اهتمام الحكومة هذا، وكذلك الازدياد المثير في البطالة والتضخم، يفسِّران سبب ازدياد سوء التغذية وانخفاض استهلاك اللحوم خلال هذه الفترة من الزمن.
كما هو الحال تماما في دول العالم الثالث، ليس في فنزولا برنامج للرفاه العام يضمن مساعدة مالية للفقراء. فالفقراء كانوا دائماً تقريباً يُتركون إما لوقاية أنفسهم بأنفسهم أو بالاعتماد على الإحسان. وقد كانت “البعثة مِركال” أهم برامج حكومة تشافيز في مكافحة الفقر. وكلمة مِركال مشتقة من “مِركادو دي أليمِنْتُس” (Mercado de Alimentos)، أي سوق الطعام.
بدأ البرنامج على نطاق صغير نسبياً في وقت مبكر من العام 2003، بُعيد ظهور إمكانية انهيار شبكة توزيع الطعام في البلاد نتيجة إضراب صناعة النفط من كانون الأول 2002 إلى كانون الثاني 2003. بعد ذلك بسنة، في أوائل العام 2004، رُفِّع البرنامج إلى بعثة. وقد كان غرض البعثة الرئيسي تزويد الفنزوليين الفقراء بالطعام بأسعار رخيصة جدا. وفي بداية البرنامج، كانت “البعثة مِركال” تبيع حوالي 880 طنا من الطعام يومياً لمليون و200 ألف نسمة. بعد ذلك بسنة واحدة، في أوائل العام 2005، كانت تبيع 4,700 طن من الطعام يومياً لأحد عشر مليون فنزولي. وهكذا قُدِّر للبعثة، بحلول منتصف 2005، أن تزود 43% من السكان بالطعام. كان هدف الحكومة زيادة هذا الرقم إلى 60% من السكان في نهاية عام 2005، بحيث تزود 15 مليون فنزولي بستة آلاف طن من الطعام.([xvii]) يباع هذا الطعام في 3,800 محلٍّ بتشكيلة واسعة من الأحجام، من أسواق طعام كبيرة إلى متوسطة الحجم، فإلى دكاكين صغيرة جدا.
استفاد الفنزوليون أكثر فأكثر من أسواق مِركال لأن التضخم كان مزمنا وأسعار مِركال لم تبق ثابتةً دائماً حسبُ، بل كانت أيضاً أقل كثيراً من الأسعار الاعتيادية في الأسواق. كانت الخصومات الممنوحة ما بين 25% و50% أقل من معدلاتها في السوق، مما جعل منها صفقة جيدة للمتسوقين. بعبارة أخرى، كانت الحكومة تدعم “البعثة مِرْكال” بحوالي 24 مليون دولار في الشهر، أو 288 مليوناً في السنة (في أوائل 2005).
لعل “بيوت الطعام” هي البرنامج الأهم من “البعثة مِرْكال” في جهد محاربة سوء التغذية. فهي تبيع الطعام بنصف السعر لفقراء البلاد. ويتلقى حوالي مليونَيْ فنزوليٍّ طعامَهم من خلال هذا البرنامج. كما أن شبكةً من “المطاعم البوليفارية الشعبية” ملحقةً بهذا البرنامج تقدم وجبات مجانية، ومأوى، وبرامج تعليمية، ورعاية صحية أساسية، لحوالي 600 ألف يعانون من الفقر المدقع.
كإجراء آخر لضمان تلقي الفنزوليين الفقراء غذاءً كافياً، قامت الحكومة بضبط أسعار السلع الغذائية الأساسية، كالطحين، والبيض، والدواجن، والجبنة، والفواكه، والحبوب، إلخ. وبطبيعة الحال، كانت المعارضة، خاصة غرف التجارة، كغرفة التجارة الاتحادية واتحاد المزارعين ومربي الأبقار، تحتجُّ بمرارة من أن ضبط الأسعار يُقوِّضُ عمل السوق الصحيح ويجعل صعباً على الإنتاج الخاص تزويد السوق بمنتجات الطعام. لكن الحكومة تقول إن الأسعار المحددة لا تزال تسمح للمنتجين الخاصين بأن يُحققوا ربحاً لأن التحديد محدد بما دون كلفة الإنتاج. مع هذا، ظهر منذ بدء ضبط الأسعار نقص في منتجات مختلفة، كالحليب المجفف وبعض منتجات اللحوم، عادة.([xviii])
وإذ تبين للحكومة أن جميع البرامج المذكورة أعلاه لم تحلَّ مشكلة الفقر المدقع، جاءت ببرنامج آخر في كانون الثاني 2006، سُمِّي “البعثة نيغْرا هيبوليتا”، المسماة باسم مُرضعة سيمون بوليفار. ويُفتَرَضُ بهذا البرنامج التعرفُ على من لا بيت له من الفقراء والأسر الفقيرة فقراً مدقعا، وتزويدُهم ببرامج مختلفة، كالعناية الصحية، والمأوى، والطعام، وإعادة تأهيلهم من الإدمان على المخدرات. أما الجانب المهم من هذا البرنامج، فكان البحث الجاد عن الفقراء فقراً حرجا، بدل الاعتماد عليهم في العثور على البرنامج بأنفسهم. مَثَلُ ذلك أن منظمي البرنامج ذهبوا، في مرحلته الأولى، إلى حاويات القمامة، حيث وجدوا الكثرة من الأسر تعيش على هذه الحاويات. عندئذٍ تأكدوا من إدخال الأطفال في المدارس وأعطوهم بعض منح الكبار المخصصة للبرامج التعليمية. هناك جانب مهم آخر من هذا البرنامج يتمثل في افتتاح عدة مراكز في البلاد كلها للتأهيل من إدمان المخدرات – وهو مشروع معنيٌّ بالفقراء وحدهم لم يكن موجوداً من قبل قطُّ.([xix])
أخيراً، دشن تشافيز في آذار 2006 أحدث بعثة، هي “أمهات الحيِّ الفقير”. وهذه البعثة تقدم للنساء الفقيرات اللائي عندهن أطفال وليس لهن وظيفة دائمة راتباً شهرياً يبلغ 60% إلى 80% من أجر الحد الأدنى (زهاء 176 دولاراً). وتستند فكرة هذا البرنامج الأساسية على المادة 88 من الدستور، التي تنصُّ على أن الدولة تَعُدُّ عمل المرأة في البيت نشاطاً اقتصاديا. وقد بدأ البرنامج بمئة ألف امرأة، وفي شهر آب توسع ليشمل 200 ألف، تم انتقاؤهن من قبل لجان الأحياء بحسب المعايير المستندة إلى الحاجة. وبينما يشجب النقاد البرنامج باعتباره فجاً للدعاية المسبقة للانتخابات، تؤكد الحكومة على أن المستفيدين منتقون على أساس الحاجة فقط، وحتى يمكن مزيداً من الناس الاستفادةُ منه، سوف يُجرَى تدويره على من يتلقون الرواتب. ولما كان الراتب قليلاً نسبياً، لأنه لا يغطي حتى كلفة الطعام الأساسي لأسرة من أربعة، ولا يغطي إلا جزءاً صغيراً نسبياً من الأمهات الفقيرات (حوالي 8%)، فهو لا يبدو أن يكون ذا أثر كبير في التخفيف من الفقر. بيد أن للنمط التنظيمي في العمل مع المجتمعات المحلية في تطبيقه، والمثال الذي يؤسس له، والتوكيد على أن العمل المنزلي عمل اقتصادي، أثراً سياسياً يتجاوز حجم البرنامج.
عودة إلى معدلات الفقر – خلال رئاسة تشافيز
إزالة الفقر أمر حاسم، طبعاً، لنجاح السياسات المذكورة ولتحقيق هدف بلوغ العدالة الاجتماعية. كذلك كانت إزالة الفقر إحدى وعود حملة تشافيز الأولية عام 1998. لكن هناك الكثير من الارتباك حول مسألة ما إذا انخفض الفقر أو ارتفع في أثناء رئاسة تشافيز. ففي أواخر عام 2005، بدأت قصة خرافية تنتشر في وسائل إعلام المعارضة الفنزولية وفي وسائل الإعلام العالمية بأن الفقر ازداد في أثناء رئاسة تشافيز. كان هناك عدد لا يحصى من افتتاحيات الصحف والأخبار كلها تشير إلى إحصاءات مستقاةٍ من مؤسسة الإحصاءات الوطنية التابعة للحكومة الفنزولية تظهر أن الفقر في فنزولا ازداد من 43.9% في النصف الثاني من عام 1998 إلى 53.1% في النصف الأول من عام 2004. وبالرغم من صحة هذه المعطيات، لكنها لم تأخذ في الحسبان المعطيات الأحدث (التي كانت متوافرة حين كُتبت معظم هذه الافتتاحيات) التي تشير إلى أن الفقر قد انخفض إلى 37.9%([xx]) في نهاية عام 2005 وإلى 32%([xxi]) في نهاية عام 2006. ولما كان الفقر قضية حساسة لتقييم أداء حكومة تشافيز، بالنظر إلى جهدها في إزالة الظلم الاجتماعي، سوف نلقي الآن نظرة أدق على كيفية نشوء الفقر في فنزولا، قبل رئاسة تشافيز وفي أثنائها.
هناك عدة مقاييس مختلفة للفقر والرفاه العامّ في فنزولا، أحدها “مؤشر التنمية البشرية” الذي أنشأه “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”. لا يقتصر قياس “مؤشر التنمية البشرية” على دخل الفرد في دولة ما، بل يتأثر أيضاً بالعوامل الصحية والتعليمية، كمعدل الوفيات، والتعليم، والأمية، ومعدلات أخرى. غير أن مؤشر التنمية البشرية في فنزولا لا يعكس النمو المذهل للفقر في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. فقد ارتفع هذا المؤشر بين العامين 1970 و2004 بشكل ثابت تقريباً من 0.689 إلى 0.799، بحدوث انخفاضات عَرَضية في الأعوام 1988، و2002، و2003.([xxii])
هناك على الأقل تفسيران معقولان لسبب ازدياد مؤشر التنمية البشرية حتى حين ازداد أيضاً معدل الفقر خلال هذه الفترة. أولا، لما كان مؤشر التنمية البشرية مؤشراً إجمالياً لا يفرق بين الطبقات، فإن إحدى الإمكانيات أن مؤشر التنمية البشرية المتزايد للطبقة الأغنى من السكان قد رفع مجموع مؤشر التنمية البشرية في الدولة، لأن مؤشر هذه الطبقة تحسن بشكل متفاوت بالنسبة إلى مؤشر الطبقة الفقيرة. ثانيا، حتى إذا ازدادت نسبة السكان الفقراء، فمن الممكن لمؤشر التنمية البشرية المتعلق بهم أن يتحسن، تماماً كما هو الحال مع عموم السكان، لأن إجراءات الحكومة قد عززت شبكة الأمان الاجتماعي في البلاد. وبفقدان المعطيات الملموسة لجعل المقولة جامعة مانعة، أرى أن فحص سياسات الفقر خلال رئاسة تشافيز تظهر أن التحسن في مؤشر التنمية البشرية خلال هذه الفترة يمكن رده على الأغلب إلى السياسات العامة المُركَّزة على فقراء البلاد.
تجاهلت المعارضة الفنزولية اتجاهات مؤشر التنمية البشرية وركّزت، بدل ذلك وبقوة كبيرة، على إحصاءات الفقر خلال رئاسة تشافيز. ولما كان تشافيز انتُخب بتفويض محدد هو تخفيف الفقر في فنزولا، فالمعارضة تقول إنه قد فشل في قاعدته الانتخابية. وهي تأتي بهذه المقولة مشيرةً إلى أن الفقر، حتى حسب معطيات الحكومة نفسها حول الفقر، قد ازداد خلال رئاسته من 43.9% من السكان عام 1999 إلى 54% عام 2003. كذلك ارتفع معدل الفقر المدقع (المضمَّن في الرقم السابق)، الذي يقيس نسبة الفقراء الذين لا يملكون الوسائل الكافية لتغطية حاجاتهم الأساسية، من 16.7% إلى 25% في تلك الفترة ذاتها.
كما هو الحال في كل جدل اقتصادي بين المعارضة وأنصار الحكومة، تركز الجدل حول ما حدث خلال سنتي 2002 و2003. فلو ألقى المرء نظرة على إحصائيات الفقر للأعوام من 1998 إلى 2001، لرأى أن الفقر انخفض قليلاً من 46.5% إلى 39%. لكنه ارتفع ارتفاعاً مذهلا في سني الركود إلى 54%، كما سلف ذكره، وقد حدثت الزيادة الأكثر حدةً بين النصف الأول من سنة 2001 والنصف الأول من سنة 2003، وهي الفترة الزمنية ما بين انقلاب نيسان 2002 ونهاية إضراب صناعة النفط عام 2003. وقد كانت الإحصائيات غير الحكومية في الاتجاه عينه، وهي عادةً ما تكون أعلى. وبهذا، فإن السؤال من يُعدُّ مسؤولاً عن ازدياد الفقر ينتهي بالسؤال من المسؤول عن أزمة العامين 2002 و2003: حكومة تشافيز أم المعارضة؟
ما أن استعاد الاقتصاد عافيته عام 2004، حتى عكست إحصاءات الفقر أيضاً هذا التعافي في انخفاض معدل الفقر من 54% إلى 37.9% في النصف الثاني من العام 2005، حسب إحصائيات الحكومة.([xxiii]) ولا بد من ملاحظة أنّ إحصاء الفقر لا يقيس إلا فقر الدخل. غير أن الكثرة من البرامج الحكومية قد رفعت مستوى معيشة السكان بشكل غير مباشر عبر برامج التعليم والصحة والطعام الجديدة، أعني “البعثات”. فلو أخذ المرء في الحسبان فائدة العناية الصحية وحدها، لوجد بعض الحسابات يقول إن الفقر انخفض إلى 35.3% في النصف الثاني من العام 2005. وهذا انخفاض في نقطتين كاملتين في معدل الفقر.([xxiv]) فذلكة القول، لا ريب في أن الفقر انخفض خلال رئاسة تشافيز (من 44% إلى 38%)، بالرغم من الركود الضخم الحقيقي في العامين 2002 و2003، الذي خفض مؤقتاً الناتج المحلي الإجمالي بنسبة غير متوقعة، هي 16%.([xxv]) أي أن الفقر انخفض لسببين، التعافي الاقتصادي والبرامج الاجتماعية الجديدة والكثيرة، وأغلبها قُدم في العام 2004 وما بعده.
أما بعد
تتميز سياسات حكومة تشافيز بعنصرين رئيسيين. أولهما أنها تعيد التوزيع، بمعنى أن بعض البرامج كإصلاح ملكية الأراضي أو البعثات مُصمَّمةٌ لتقديم موارد الدولة، كالأرض وعائدات النفط، أولا وقبل كل شيء، لفقراء البلاد. وثانيهما أنها تميل إلى إدخال العناصر التشاركية، في أن إصلاح ملكية الأراضي والبعثات إنما يُقصد بهما فعلاً مشاركة المجتمعات المحلية المعنية في تطبيقهما. ولهاتين الميزتين العامتين جذرهما في دستور فنزولا للعام 1999، الذي ينص على أن الدولة الفنزولية دولة مؤسسة على الديمقراطية التشاركية وأنها تضمن بعض الحقوق الاجتماعية، كالصحة والتعليم، بالإضافة إلى الحقوق السياسية المعتادة. بناء عليه، تمثل سياسات الحكومة الاجتماعية تقدما مهما مقارنة بسياسات الحكومات السابقة، حين لم تكن الحقوق الاجتماعية معترفاً بها وكانت السياسة الاجتماعية قائمة على الإحسان. كذلك نادراً ما شمل تطبيق السياسات الاجتماعية مشاركة المجتمعات المحلية.
حقيقة الأمر أنه ما كان الجانب المتمثل بإعادة توزيع الثروة ولا البرامج والسياسات الاجتماعية أمراً مضاداً للرأسمالية تحديداً، أو حتى اشتراكيا، سواء أكان بالمقارنة بالحكومات الفنزولية السابقة أم بالحكومات الأخرى في العالم. ذلك أن الحكومات السابقة، خاصة في ستينات وسبعينات القرن العشرين، قد أقامت بالتدريج دولة رفاه اجتماعي مرموقة في فنزولا بالتماشي مع خطوط ديمقراطية اجتماعية شملت عناية صحية مجانية، وتعليما مجانيا، وتغطية ضمان اجتماعي عريضة. أما حقيقة أن تشافيز يعيد تطبيق هذه البرامج الآن، بعد أن قُوِّضت دولة الرفاه الفنزولية في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم، فإنها تجعل هذه السياسات تبدو جذرية لفقراء الجيل الجديد الذي لم يخبر سنوات الازدهار في البلاد.
إن الجانب الإبداعي الحقيقي، بل الجذري، في البرامج الاجتماعية، المعروفة كلها الآن بـ”البعثات”، ليس في وجودها حسب، بل في الطريقة التي بها تطبق. أي أنها تطبق بمشاركة حميمة من لدن المجتمعات المحلية المستفيدة منها، بدل إنزالها من أعلى إلى أسفل من خلال الوزارات البيرقراطية. ذلك أن بعثات كل من إصلاح ملكية الأراضي، والتعليم، والعناية الصحية، وأمهات الأحياء الفقيرة، كلها تُطبَّق بالتعاون مع لجان من المجتمعات المحلية التي لها القول الفصل حول كيفية تنظيم البعثة ومكانها. هذا يعني أن البعثات في كثير من الحالات تخلق هيكلا موازيا للوزارات، إما أنه يكمل عمل الوزارات (كما هو الحال في البرامج التعليمية) أو أنه عمليا يحل محلها (كما هو الحال في بعثتي الإسكان والعناية الصحية). وفي نهاية المطاف، يتعيّن على هذه البعثات أن تُلحق ببنية الدولة الموجودة، ومن ثَمَّ يكون هناك سؤال مفتوح حول ما إذا سينتهي أمر هذه البعثات وقد حوّلت الوزارات إلى إدارة تشاركية عامة، أو أن ينتهي الأمر بالوزارات وقد صبغت بالبيرقراطية هذه البعثات مبعدةً إياها عن المجتمعات المحلية.
بيد أنه، حتى يكتمل دمج الوزارات والبعثات، هناك حدان خطيران لتطبيق سياسات الحكومة الاجتماعية. أولهما أن السياسات الاجتماعية لا يضمنها القانون وإن ضمنها الدستور. أي أن الكثير من السياسات الاجتماعية، كالبعثات التعليمية، والجامعة البوليفارية، وبعثة مركال، وإصلاح ملكية الأراضي الحضرية، لا تضمنها القوانين، بل المرسوم الرئاسي فقط. هذا يعني أنها قد تختفي بسهولة بين عشية وضحاها، كما كان الحال مع السياسات الاجتماعية السابقة حين كانت عائدات النفط تنضب فجأة؛ أو يمكن أن تُطبَّق بطريقة نزقة، كجزء من نظام المحسوبية السياسية. أما ما يعنيه عمليا هذا الأمر (في غير وضع الصيغة العامة للدستور)، فهو أن هذه البرامج قد تختفي في أي وقت وأنّ من أُقصوا انتقائياً من بعض السياسات الاجتماعية سيواجهون صعوبة لدى المحاكم في دحض إقصائهم.
تتعلق مشكلة فقدان الضمانات الشرعية (أو الحق القانوني) تعلقاً شديداً بالمشكلة الأخرى، وهي تحديداً أن هذه البرامج غالباً ما تبدو ذات علاقة بالمصالح الانحيازية والمحسوبية. أي أن اتهامات بعض البرامج التعليمية، وإصلاح ملكية الأراضي، وبعض البرامج المتعلقة بالقروض الصغيرة، قد غدت عديدة وفي كثير من الحالات صحيحة تماماً – وهي أن كثيراً من البرامج تفيد مؤيدي تشافيز. من المؤكد أن مؤيديه أكثر احتمالاً لأن يسعوا للمشاركة في هذه البرامج، لأنهم ينتمون في معظمهم للأغلبية الفقيرة في البلاد. غير أنه، ما دام المناوئون الصريحون يجدون صعوبة في المشاركة، فلن تفقد هذه البرامج جانبها المحسوبي.
بين استفتاء آب 2004 وأوائل العام 2005، بدأت وسائل الإعلام الخاصة المعارضة تركز على الإعلان عن حالات عديدة استُبعد فيها الفنزوليون الذين وقّعوا على عريضة كانون الأول 2003 المؤيدة لإجراء الاستفتاء على إلغاء انتخاب الرئيس من الخدمات الحكومية، كالحصول على جواز سفر، أو أنهم حيل بينهم وبين الحصول على وظيفة حكومية أو طُردوا منها. وقد نشر قائمةَ الموقعين على العريضة النائبُ في الجمعية الوطنية لويس تاسْكون، الذي وضع قائمة الموقعين على العريضة على موقعه على الشبكة العالمية في أوائل العام 2004. وقد قال تاسْكون إن نيته كانت السماح لمن لم يوقعوا العريضة أن يتأكدوا إن كان اسمهم ظهر عليها بالرغم من عدم توقيعهم إياها. وقد أزال تاسْكون القائمة من على موقعه بُعيد الاستفتاء، لكن الواضح أنها أُنزلت واستخدمت لإقصاء مؤيدي المعارضة من وظائف الحكومة ومن الخدمات.([xxvi]) وما إن بدأت قصة سوء استخدام القائمة في الظهور تكراراً في الأخبار في نيسان 2005، حتى أعلن تشافيز أن على موظفي الحكومة التوقف عن استخدام تلك القائمة. لكن تصريحه، بالنسبة إلى المعارضة، كان ضعيفاً ومتأخراً جدا. كذلك ظهرت على السطح قائمة أخرى هذه المرة، هي “قائمة ميسانتا”، التي لم تكتف باحتوائها على الموقعين على العريضة، بل على جميع المشاركين بالبعثات أيضاً، مُعرِّفةً إياهم بأنهم مؤيدو تشافيز بفضل مشاركتهم. لكنْ، حسب أنصار تشافيز، كانت الغاية من وراء هذه القائمة التعرف على مؤيديه لأجل الحملة للاستفتاء على الإلغاء، وليس كوسيلة لوضع مؤيدي المعارضة على القائمة السوداء.
الجزء من القصة الذي تغض النظرَ عنه المعارضةُ ووسائلُ الإعلام الخاصةُ بانتظام هو وجود تقارير ذات مصداقية عن أن القائمة تُستخدم كثيراً أيضاً بطريقة مختلفة، أي للشركات الخاصة، لكي تمنح معاملة تفضيلية لمؤيدي المعارضة الذين وقّعوا على العريضة. كذلك حين كانت المعارضة في السلطة، كانت عضوية الحزبين الحاكمين السابقين، العمل الديمقراطي أو الحزب المسيحي الديمقراطي، مطلوبة للحصول على مناصب في الحكومة وعلى خدماتها. لكن هذا لا يعني أن المحسوبية في حكوماتهم السابقة أو المحسوبية في معارضتهم الحالية تبرر المحسوبية عند تشافيز. غير أنها تشير إلى مدى تجذُّر المحسوبية في الثقافة الفنزولية وأنها تتطلب جهداً منسَّقاً للقضاء عليها.
[i] وزارة التخطيط والتنمية.
[ii] استناداً إلى أرقام من مجلس الإسكان الوطني، ذكرت في ص. 203 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004.”
[iii] م.ن.، ص. 207.
[iv] م.ن.، ص. 205.
[v] برنامج مرحباً أيها الرئيس، 27 شباط 2005.
[vi] وكالة الأنباء البوليفارية، 20 آذار 2005.
[vii] المصدر: (“Persiste escasez de insumos para construeir,” El Eniversal). 15 كانون الثاني 2007.
[viii] التعبير “شعبي” يستعمل عموماً للإشارة إلى الأحياء الفقيرة أو الفقراء. اقتبس في بروفيا: (www.derechos.org.ve/actualidad/coyuntura/2005/coyuntura_152.htm#13).
[ix] ص. 213 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004.”
[x] “عضوي” تعني أن القانون مخول مباشرة من الدستور.
[xi] من القوانين الضروري سنُّها لتفعيل نظام الضمان الاجتماعي واحد فقط كان يشتمل على العناية الصحية والتقاعد ولم يُمرَّر بعد حتى أواخر 2006.
[xii] إذ قالت بانتهاك حقوق الإنسان لدى الفنزوليين، أقامت مجموعة بروفيا لحقوق الإنسان دعوى لدى المحكمة العليا عام 2003 لإجبار المجلس التشريعي على تمرير القوانين. وقد استغرق الأمر 23 شهراً قبل أن تستجيب المحكمة العليا أخيراً وتطلب من الجمعية الوطنية تمرير القوانين اللازمة، وقد فعلت الجمعية ذلك.
[xiii] المصدر: (www.sisov.mpd.gov.ve). هذا يمثل للفرد زيادة حقيقية تزيد على 400%، مقارنة بالعام 1990.
[xiv] م.ن.
[xv] المصدر: (www.sisov.mpd.gov.ve). لم تتوافر معطيات أحدث لفترة التعافي الاقتصادي.
[xvi] م.ن.
[xvii] أخذت جميع الأرقام من (www.misionvenezuela.gov.ve).
[xviii] ص. 61 من “معطيات بْروفيا السنوية 2003-2004.”
[xix] “فنزولا تدشن برنامجاً للصحة الأساسية للفقراء المدقعين”. 22 نيسان 2006 (http://www.venezuelanalysis.com/articles.-php?artno=1712).
[xx] لمعرفة تفصيلية عن كيف نشأ هذا اللغز واستمر في الانتشار لدى وسائل الإعلام العالمية، راجع: “معدلات الفقر في فنزولا: تصحيح الأرقام،” ورقة بحث لدى مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية، فايزبْرُت وآخرون. (2006)
[xxi] المصدر: مؤسسة الإحصاء الوطنية، (www.ine.gov.ve).
[xxii] معطيات الأعوام 1997-2004 من مؤسسة الإحصاء الوطنية، (www.ine.gov.ve)؛ أما معطيات الأعوام 1970-1995، فمن برنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة (www.undp.org).
[xxiii] مؤسسة الإحصاء الوطنية، (www.ine.gov.ve).
[xxiv] وايْزْبْرُت وآخرون. (2006). هذا الرقم هو التقدير الوسطي حول مدى ما تُفيد الرعاية الصحية الفقراء.
[xxv] 16% هي النسبة المئوية الكلية لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بين 2001 و2003. بحلول العام 2005، استعاد الناتج المحلي الإجمالي عافيته بحيث أصبح 8.4% أعلى منه عام 2001، و28.8% أعلى منه عام 2003. المصدر: المصرف المركزي الفنزولي (www.cbv.org.ve).
[xxvi] يجب أن نلاحظ أن محض توقيع شخص ما على العريضة لا يعني أنه تلقائياً معارض للحكومة. ومفهوم تماماً أن بعض مؤيدي تشافيز كانوا يرغبون في استفتاء على شرعية الرئاسة لا للتخلص منه، بل لكي يؤكدوا استمراره فيها ولكي يهزموا المعارضة في صراع ديمقراطي (بدل انقلاب أو إضراب عام).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.