الاحتفائيون العرب: تدليك تشومسكي بالنقد “اللوَّام”

عادل سمارة

 

إعتقدت، وسأواصل الاعتقاد، منذ انتصار الجزائر وهزيمة فرنسا وانتصار عدن وهزيمة بريطانيا، وانتصار حرب اكتوبر 1973 وصمود الجيشين المصري والسوري، رغم تواطؤ راس المال الكمبرادوري المصري، وبعدَ صمود مخيم جنين، والمقاومة العراقية (عابرة الطوائف-رغم كل شيىء) وانتصار حزب الله الناصع عام 2000 وانتصاره عام 2006، وصمود مقاتلي غزة 2008-2009 و 20012 رغم مخاطر دور قطر، اعتقدت وسأواصل الاعتقاد بأن بوسعنا مقاومة جيوشهم، فلماذا نجبن عن مجابهة وصد خطابهم صدّاً وضدَّاً.

صحيح أننا لم نفرز بعد قوة تصدي فكري بقدر المهمة التي نواجهها، والقوة الفكرية ليس شرطا بإنتاج فلاسفة ومفكرين، وهناك فلاسفة ومفكرون، فلا يخلو الوطن العربي من قامات فكرية هامة ومتيزة رغم ما تعرضت له من قمع وتشريد. ولست هنا بصدد التعداد. ولكن ما اقصده جرأة ووضوح الموقف والتصدي للمركزانية الفكرية تحديداً.

ما يهمني هنا هو معالجة مسألة تقع ما بين صعود المقاومة بالسلاح وتضعضع المقاومة بالكلمة وموقف الكلمة كلغة ومعنى وسياسة! أو عدم ارتقاء قامة الفكر بما يوازي ويقوي مقاومة الطلقة! وكنت كتبت في كلمة بعنوان” حرب غُوار الثقافة” قدمتها في تكريم بيت الشعر لمثقفين وكنت أحدهم: يختفي مقاتل الغوار خلف سلاحه ويتمترس المثقف خلف وعيه.

لماذا لا ترتقي الكلمة إلى ذكاء الطلقة ومباشرتها؟ ليس جديدا أن الكلاب وحدها التي تخشى رائحة البارود، هذا ما أفادتنا به كلاب القرى. فحينما تصمت فجأة عن العواء والتعاوي المجاني نعرف أن دورية من مشاة الاحتلال على مشارف القرية.

تشومسكي صهيوني وليس إيقونة

لاحظت في السنوات الأخيرة ان كثرة من المثقفين والأكاديميين العرب قد اكتشفوا نوحام تشومسكي، طبعا بعد اربعين سنة من اكتشاف حتى بسطاء المثقفين في العالم له. ولاحظت احتفائهم به فوق العادة وفوق ما تستحق مواقفه وخاصة من القضية الفلسطينية مما يرغمك على استنشاق رائحة استجداء الاعتراف الذي لن يأتي، ولا قيمة له حتى لو أتى!

 مثقفو الاحتفاء العرب “الاحتفائيون” حًفاة من الكرامة عُراة من الانتماء. هم انفسهم الذين حينما يذكرون هيجل لا يذكروا للقارىء بأنه مؤسس العنصرية الألمانية، وبأن مارتن هيدجر داعية نازية، وبان ميشيل فوكو لم يتحدث عن الاستعمار الذي نحر الأمة العربية ومختلف بلدان المحيط، وبأن ديريدا يدعوا شعوب المستعمرات لشطب مآىسيها واحتجاز تطورها ومن ثم التسامح، وبأن أرسطو وقف مع الأحرار ضد المستعبدين…الخ والقائمة تطول. كل هؤلاء مفكرين كبار لا شك، ولكن مثقفينا خلقوا منهم آلهة تعلو على النقد مما يؤسس لتبعية فكر وخطاب. أليست هذه انتماءات وحتى اختيارات عبودية حقة رغم  الجرائم الفكرية الواضحة لهؤلاء، بينما سقطة واحدة ل ماركس (عن الاستعمار البريطاني في الهند) وُضعت في غير مكانها، تمتلىء بها أفواه “معلمي” الجامعات العربية حتى وهم في مضاجع الأحلام بأن الرجل مركزاني أوروبي ومستشرق!.

ناحوم تشومسكي لا يخفي أنه يهودي/ صهيوني من نوع خاص ، وبأنه عاش في الكيبوتسات، وبأنه مع بقاء دولة لليهود خالصة لهم، وهو ضد دولة مشتركة مع الفلسطينيين…الخ.

ومع ذلك يقوم مثقفون عرب بلوي أعناق اقواله بل كتاباته التي هي شديدة الإلتواء ليجعلوا منها كلاماً مستقيماً مقبولا في محاولات تصحيح “ذيل الكلب”. وحتى حين ينقدونه فذلك بارتعاش (انظر مقالة سماح إدريس أدناه). ولست أدري، وأود أن أدري لماذا!

ناحوم تشومسكي مثل مختلف المثقفين المركزانيين الغربيين لا يخفون مواقفهم  ولا يخجلون من عنصريتهم، فما الذي يرغم مثقفينا على شطف مقولات هؤلاء وهي وسخة وخاصة ضدنا؟ ماذا غير استدخال الهزيمة وماذا غير قرار بتدنيس وعي أجيالنا القادمة؟ اليست هذه كولونيالية فكرية، أليس هذا تذويت التبعية وإستعادة هيمنة الخطاب التي تشكل التمهيد الطبيعي والضروري لاستعادة بل استدعاء الاستعمار حتى بشكله العسكري؟

نشرنا في مجلة كنعان في العدد 119 تشرين أول 2004 مقالة نقدية ل نوح كوهين والكاتب واضح من هو من إسمه، بعنوان “اعتذاريات اليسار” تفند  مواقف ناحوم تشومسكي من الصراع العربي الصهيوني ترجمناها عن الموقع الذي نشرت فيه وهو :

Axis of Logic. Noah Cohen, “Noam Chomsky and ‘Left’ Apologetics for Injustice in Palestine”, August  23 >http://www.axisoflogic.com/artman/publish/article_11169.shtm12004,

ومقالة نوح كوهين هي رد على أقوال تشومسكي في مقابلة أجراها معه جستين بدور و ستيفن شالوم :

Noam Chomsky interviewed by Justin Pdour and Stephen Shalom. March. 3, 2004: http://www.zmag.org/content/showarticle.cfm?ItemID=5240

وخلاصة ما قاله تشومسكي:

 

“إن الدعوة لدولة ديمقراطية علمانية لم تؤخذ بشكل جدي من قبل الراي العام الإسرائيلي والعالمي ، وهو مطلب واضح بتدمير إسرائيل… وهو أمر لم يؤخذ على محمل الجد من قبل الجمهور الإسرائيلي… ليس هناك تأييد دولي  لحق العودة يمكن تلمسه… إن اتفاقية جنيف مطابقة الى حد كبير للمواصفات ، ولذا يمكن القبول بها برأيي…إذا ما قرر رئيس الوزراء تطبيق مبادرة جنيف، فلا بد أن يذهب عميقا في التاريخ لتأكيد ان دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، بالاتفاق. وقد يكون هذا  حتى أكثر أهمية من إعلان الدولة عام 1948 “.

لست أدري إن كان سماح إدريس كاتب هذه المقالة في الأخبار قد سمع بمواقف تشومسكي من قبل أم لا، ومنها المقابلة التي اقتطفنا بعضها اعلاه، ولن نقول بأن ما تنشره كنعان يصل كل العالم، ولكن على من يكتب في القضية الفلسطينية ويطرح مواقف وحلول أن يكون متابعا، وإن لم يحصل، فها قد عرضنا له بعضا من مواقف الرجل. فهو ضد حق العودة ! فهل أوضح!!!

ومع ذلك، فإن ما تناوله إدريس من اقوال تشومسكي يستحق نقدا حاداً وشديداً حتى لو عزلناه عن اقواله السابقة، بل إن اقواله وقحة ضد حق شعبنا في التحرير والعودة.

يقول إدريس:

“…لكنّه يبدو مثابراً على الإيمان بفكرة «الدولتين». صحيح أنّه أقرب فكريّاً إلى «الدولة الواحدة» على امتداد فلسطين الانتدابية، أو ما يدعوه «الدولة الثنائية القومية»، بل هو أقرب إلى «اللادولة» كما يقول، استناداً ربما إلى فكره الفوضوي التحرري العريق المعادي لكلّ سلطة، غير أنّ ذلك لن يكون في رأيه تصوراً عمليّاً وعادلاً في الوقت نفسه”.

ما هذا النقد الغزلي!!! أين هذا من موقف النقد الثوري فما بالك بموقف المثقف الثوري النقدي المشتبك؟ فالمسألة هنا ليست محض فكرية، مثلا أن تكون ماركسيا ام أنارخياً،  هي دفاع عن وطن في وجه من يقف إلى جانب الكيان الاستيطاني العنصري الأبيض. لن نسأل هنا إن كان إدريس يقف على أرضية ماركسية، تختلف بشدة مع سرعة انطلاق الأنارخية باتجاه اللادولة واللاعملة فوراً. ولكن تشومسكي ضد دولة واحدة، ضد اي نمط من دولة واحدة بيننا وبينهم لنا ولهم على أرضنا وليست أرضهم كما اقتطفنا أعلاه. ربما لم يقل هذا تشومسكي في الجامعة الأميركية في زيارته التكريمية هذه، ربما نسي قول هذا، أو خشي أن يُفاجأ بطلبة غُواريين في تلك الجامعة كالذين طردوا القنصل البريطاني من جامعة بيرزيت بينما الإدارة “والمعلمون” يتحسرون على سيدهم وإلى جانبهم أربعة أنواع من المخابرات تتربص بالطلبة.  ولكن حتى ما قاله تشومسكي مع مذيعة التلفاز الصهيوني هو تأكيد لموقفه المضاد لحق شعبنا:

” المذيعة: ومن ناحية أخرى، أنت أكثر المتكلمين انتقادا لإسرائيل ودعوةً لتقويض وجودها…

 

تشومسكي: هذا غير صحيح إطلاقا. أنا لا أعد نفسي معاديا لإسرائيل، بل أنا داعم لها.

فقد كان موقفي أن لإسرائيل كل الحقوق التي تتمتع بها الدول، لا أكثر ولا أقل، لكن إسرائيل تطلب المزيد، ولا أقبل ذلك”.

لن نستدعي هنا ما قاله لينين للبوند (الجناح اليهودي في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي)  في بدايات القرن العشرين، بأن : “لا يحق لليهود إقامة دولة على أرض ليست لهم”. فكيف يقبل العربي اللبناني قول تشومسكي: “إن لإسرائيل كل الحقوق التي تتمتع بها الدول”. حين قبل السادات بهذا أُغتيل! ولكن الثورة المضادة ثأرت للسادات بأن حولت من اغتالوه إلى ملاين السادات عبر نفس قوى الدين السياسي  التي تحكم مصر اليوم وتحمي سفارة الكيان الصهيوني الأشكنازي وتغلق سفارة سوريا. هذا هو الشغل يا رئيس تحرير الآداب التي كما يبدو تتأدب كثيرا على يديك بعد الراحل الطيب ابيك.

يضيف إدريس:

“وفي الإطار نفسه، إطار العملانية والعدالة، رفض تشومسكي الكفاح الفلسطيني المسلح، وانتقد بعض جوانب مقاطعة إسرائيل. وجاء رفضه وانتقاده بشكل يفتقر، أحياناً، إلى الأسس المقنعة والموضوعية في رأيي المتواضع”.

ولست ادري ما معنى هذا النقد المؤدب جداً. ومتى؟ في لحظة من التاريخ صار الكفاح المسلح تاجها وصولجانها!  ثم هل الكيان مُقام على أرض فلسطين بالياسمين والبنفسج! لو كان طلبة الجامعة الأميركية عربا حقيقيين لطردوا هذا الصهيوني المتعالي إلى المطار فوراً، كما فعل طلبة بير زيت في جوسبان قبل عشر سنوات حينما هاجم حزب الله، وطردوا السفير البريطاني قبل شهرين. أما نقد إدريس الناعم فلا شك يُبعده فراسخاً عن دور وموقف المثقف المشتبك. خطورة النقد الناعم “النقد اللوَّام” أنه يخصي الجيل الجديد.

إن تشومسكي مخلص لصهيونيته ويهوديته وموقفه حين يرفض حتى المقاطعة الأكاديمية للكيان الصهيوني. ويرفض حتى  أل “بي.دي.سي” وهي المقاطعة التي لنعومتها تكاد تكون غزلا عذرياً. وهذا أساس الشيء اللافت والمؤسي مجسداً في أن كل ما قدَّر الله إدريس عليه أن يقول:

“أما في مسالة المقاطعة، فموقف تشومسكي مربك (بكسر الباء) قليلاً. في شباط 2003، أعلن رفضه للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل”.

موقف مربك للسيد إدريس، لكنه تشومسكي ليس مرتبكا في موقفه الكولونيالي بامتياز، ليس مرتبكاً لأنه صهيوني متعالٍ يعرف ما يريد ويصفع عرب الجامعة الأميركية مواجهة حتى وهي تكرمه ولا شك أن كثيرا من “المعلمين” العرب هناك صافحوه وبالغوا في تقبيل وجهه المجعد منذ شغله اليدوي في حفر اساسات الكيبوتسات! موقف مطابق لمصافحة وزراء الخارجية العرب وأمين عام الجامعة العربية لجون كيري وهو يهنئهم على تقديم أجزاء جديدة من أرض فلسطين للكيان الصهيوني!

أخيراً، يقدم السيد إدريس نفسه كعضو أو شريك في أل ” بي.دي.سي” والتي على نعومتها يرفضها تشومسكي، فكيف لا يرفع السلاح على الكفاح المسلح!. هذه المنظمة الناعمة لا تجرؤ على قول كلمة واحدة خارج نطاق  رفض التطبيع الأكاديمي. ولذها تحديداً يتم احتضانها والعزف على مؤخرتها من الإعلام الأكاديمي البرجوازي الغربي.  ومع ذلك، فأحد مؤسسيها السيد عمر برغوثي تقدم للدراسة في جامعة حيفا!  وبعد هجمة هائلة وفضيحة تراجع. أختم لأقول لك، في ندوة عن الدولة الواحدة في قاعة بلدية البيرة قبل 4 سنوات، بينما كنت اقدم مداخلة، قفز السيد عمر برغوثي ليقول: “أنا ضد الكفاح المسلح”. ضحكت وقلت له: أنا لم افتح مكتب تجنيد، ولو فعلت لن أدعوك! كان الرجل يرسل رسائل لمن سيوبخه لأنه جلس في مكان لم يلعن أحد الحضور فيه الكفاح المسلح. بقي أن يعرف كل الناس، أن مفهوم والموقف من التطبيع في الأرض المحتلة مختلط كالموقف من سوريا، فمن يثرثرون ضد التطبيع هم الغارقون فيه.

وعود إلى الخطاب. لماذا يتذيل خطاب الكثيرين منا لخطابهم العنصري والمتعالي والمعادي؟ تصوروا مثلاً، لو وقف القائد المصري البطل سعد الدين الشاذلي وامتدح شارون، أو لو وقف سيد المقاومة، وقدم تفسيرا يسوِّغ تسليح أوباما لآكلي الأكباد! ماذا سيقبى منهما!

* * *

تحية نقدية إلى القائل بـ «مسؤولية المثقفين»

سماح إدريس*

يستحيل في سطور قليلة، وضمن هذا الوقت البخيل الذي فرضتْه عليّ «الأخبار»، أن أحيّي قامة عملاقة بحجم نوام تشومسكي بمناسبة منحه دكتوراه فخرية من «الجامعة الأميركية في بيروت». فكيف إذا سعت هذه التحية القصيرة إلى أن تكون «نقدية»، لا تكتفي بالانحناء أمام إنجازاته العملاقة الفذّة، بل تسلّط الضوء أيضاً على نقاط خلاف واستفسار؟ لنقرّرْأولاً أنّ تشومسكي أحد أعظم المحرّكين الثقافيين في العالم، ولاسيّما في مجال اللسانيات الحديثة، وأنّ بصماته في هذا المجال تحديداً تمتدّ إلى علوم أخرى، كالرياضيات وعلم النفس. لكن علينا أن نجزم أيضاً أنه، في العقود الخمسة الأخيرة، بات يُعرف أولاً وأساساً، كناقد شرس للسياسات الرسمية الأميركية. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في محاضرة طويلة ألقاها في «جامعة هارفرد» عام 1966 بعنوان «مسؤولية المثقفين» (نقلتُها إلى العربية سنة 1993)، وعدّها كثيرون دستوراً للحركة المناهضة لتدخّل الولايات المتحدة في فيتنام، ولدورها في جنوب شرق آسيا آنذاك، مع التركيز على مسؤولية «المثقفين» (أمثال شليسينجر وروستو وكيسينجِر) في شرعنة تلك السياسات الرسمية وتعزيزها بالحجج «الموضوعية» و«العلمية». ومن العبارات التي لا تزال ترنّ في أذهان كثيرين استمعوا إلى تلك المحاضرة أو طالعوها قولُه: «من مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا الأكاذيب»؛ «إنّ التفريق بين عدوانية الإمبريالية الليبرالية الأميركية وعدوانيةِ ألمانيا النازية تفريق أكاديمي فحسب بالنسبة إلى فلّاح فيتنامي يسمَّم بالغاز». ثم توالت محاضراته وكتبه المناهضة للسياسة الأميركية في شتى بقاع الأرض منذ اكتشاف كولومبوس: من قبيل الاعتداء على كوبا وحصارها، مروراً بتسليح إرهابيي «الكونترا» في نيكاراغوا، ودعم الطاغية الدموي بينوشيه في تشيلي، وتدريب جهاز الشاباك في إيران، وصولاً إلى دورها الإجرامي في حصار العراق وتدميره، ودعم إسرائيل الدائم ضد لبنان وفلسطين.
على أنّ تشومسكي خصّص جزءاً كبيراً من جهده الفكري لإيجاد حل «عادل» و«عملي» للمسألة الفلسطينية، فعانى أذى الصهاينة ـ تجسّساً (على ما كشف موقع «الانتفاضةالإلكترونية» مؤخّراً) ومنعاً من دخول الضفة الغربية سنة 2010. ومن الظلم أن نجتزئ هنا، في جملتين أو ثلاث، آلاف الصفحات التي حبّرها تشومسكي في هذا المجال، لكنّه يبدو مثابراً على الإيمان بفكرة «الدولتين». صحيح أنّه أقرب فكريّاً إلى «الدولة الواحدة» على امتداد فلسطين الانتدابية، أو ما يدعوه «الدولة الثنائية القومية»، بل هو أقرب إلى «اللادولة» كما يقول، استناداً ربما إلى فكره الفوضوي التحرري العريق المعادي لكلّ سلطة، غير أنّ ذلك لن يكون في رأيه تصوراً عمليّاً وعادلاً في الوقت نفسه. وفي الإطار نفسه، إطار العملانية والعدالة، رفض تشومسكي الكفاح الفلسطيني المسلح، وانتقد بعض جوانب مقاطعة إسرائيل. وجاء رفضه وانتقاده بشكل يفتقر، أحياناً، إلى الأسس المقنعة والموضوعية في رأيي المتواضع.
في ما يتعلّق بالكفاح المسلّح، أذْكر أنّ مجلة «الآداب» سألت تشومسكي في إطار ملف أعدّته عام 2002، عن رأيه في تعريف «الإنسان المدني»، فأجاب: «لا أرى جدوى كبيرةمن المماحكة في هذا الموضوع. فالمزارع الذي يعمل في الحقل، والمرء الذي يتبضّع في الشارع، والطفل الراجع من مدرسته إلى بيته، كل هؤلاء مدنيون، حتى لو كان المزارعيملك بندقيةً ويعيش على أرض محتلّة…». ماذا؟ «حتى لو كان يمْلك بندقية ويعيش على أرض محتلة»، يا سيّد تشومسكي؟ أتعني أنّ المستوطن المسلّح الذي يحتل أرضاً ليست له، بموجب القانون الدولي نفسِه، مدني؟ وهل لا «يحقّ» لي، أنا الفلسطيني، أن أطلق النار عليه إلا بعد أن يبادرني بإطلاق النار (وقد يقتلني)؟!
أما في مسالة المقاطعة، فموقف تشومسكي مربك (بكسر الباء) قليلاً. في شباط 2003، أعلن رفضه للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل في معرض رفضه لطرد أكاديميين إسرائيليينمن هيئة تحرير مجلّات تملكها أستاذة داعمة لفلسطين. لكنه كان، وما زال، من الداعين الأساسيين لوقف المعونات العسكرية الأميركية إلى إسرائيل، بل دعا آنذاك الجامعاتالأميركية التي تستثمر هناك إلى التوقف عن ذلك. ومنذ شهر، كان تشومسكي من بين أبرز مشجّعي العالم الفيزيائي الشهير ستيفان هوكينغ على رفض تلبية الدعوة إلى مؤتمرإسرائيلي يرأسه شيمون بيريز. لكنه وقف ضد حركة «بي. دي. أس» بسبب «نفاقها»، كما قال، المتمثّل في عدم دعوتها إلى مقاطعة مجرم أكبر هو أميركا (!). بل زعم أنّ الشعب الفلسطيني لا يدعم المقاطعة أصلاً، وأنّ حركة «بي. دي. أس» تديرها منظمات غير حكومية «من شخص واحد». الجدير ذكرُه أنّ الحركة التي بدأتْ في تموز 2005، تضمّ أكثر من 170 منظمة فلسطينية تمثل الغالبية الساحقة من المجتمع المدني الفلسطيني وفصائله ، وتدعو إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها حتى تلتزمَ بالقانون الدولي لناحية: أ) إنهاء احتلالها للضفّة وغزّة، ب) وقف تمييزها العنصري داخل حدود فلسطين 48، ج) السماح للفلسطينيين بالعودة الى بيوتهم وبلداتهم بموجب القرار الدولي رقم 194. وفي مكان آخر، يقول تشومسكي إنّ المشكلة في مقاطعة جامعة تل أبيب نفسها هي أنّ الأميركيين «لم يتحضّروا (يستعدّوا)» لعملٍ كهذا، وإنّ على المقاطعة أن تُسبَقَ بعمل تنظيمي وتوعوي، وإلّا «حقّقتْ عكس أهدافها».
قد لا يكون في مواقف تشومسكي تناقض كبير، بل قد تتبدّل مواقفه (شأن مواقف أي كان) بحسب الظروف، ونوع المقاطعة المعتمدة، والاحتكاكات الشخصية بهذا الناشط الفلسطيني أو ذاك (صدّقوني: هذه الاحتكاكات ينبغي ألاّ يستهان بها). لكنه، في كل الأحوال، يبقى إلى يومنا هذا، ورغم تقدّمه في السن، أحد أبرز مَن غيروا في الخارطة الثقافيةوالفكرية في الولايات المتحدة والغرب والعالم.

::::

* كاتب وعضو «حملة مقاطعة داعمي «اسرائيل» في لبنان»

“الأخبار” العدد ٢٠٢٩ السبت ١٥ حزيران ٢٠١٣

http://www.al-akhbar.com/node/185108

* * *

 مقابلة تشومسكي في قناة تلفزة إسرائيلية
(ترجمها عن الإنكليزية بسام أبو غزالة)

المذيعة: شكرا لمقابلتي، أستاذ تشومسكي. كان عليّ أن آتي إلى عمّان لمقابلتك…. كنت أفكر بأن عليك أن ترسل بطاقة زهور لمسؤول مجلس السيطرة الذي قال إن في إمكانك الذهاب إلى “المناطق” [المحتلة].
تشومسكي: الشكر لبير زيت لإذاعة هذا الحديث، وإلا، ما كان لأحد أن يسمع به. كنت ألقيت محاضرة في بير زيت من قبل، ولم يعلم أحد بها.
المذيعة: كنا تكلمنا عن كلمتك بالفيديو لبير زيت، فهل كان فيها ….؟
تشومسكي: لا، كانت حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبطبيعة الحال مر الحديث على الشرق الأوسط، فتكلمت عن فلسطين وإسرائيل، ولا يُقارن بالحديث الذي أجريته في إسرائيل.
المذيعة: تعلم أن وزارة الداخلية اعتذرت وقالت إنه كان ببساطة سوء فهم.
تشومسكي: هذا مفهوم، وهناك أسباب مفهومة.
المذيعة: لماذا؟ أية أسباب؟
تشومسكي: هي الأسباب المتكررة. بلى، قيل لي إنهم لا يحبون آرائي. قلت نعم، وليس من شأني البحث عن حكومة ما في العالم تحب آرائي!
المذيعة: هل حدث هذا في دولة أخرى في العالم؟
تشومسكي: نعم، هناك حالة واحدة لم يُقبَل دخولي فيها إلى ذلك البلد. كانت هذه حكومة تشيكُوسلوفاكيا تحت الحكم الروسي عام 1968. من الصعب التفكير بحكومة خارج أنظمة الحكم الشمولي ترفض السماح بدخول أحد الناس لأنه مدعو للحديث في إحدى الجامعات.
المذيعة: لكن، لمَ لمْ تفكر بالدخول بعد اعتذار الوزارة؟
تشومسكي: لم يكن لدي متسع من الوقت. رحلتي قصيرة وعلي زيارة عدة دول. وسوف أذهب إلى البلد التالي.
المذيعة: أنت الآن في الأردن، وغدا ستذهب إلى بيروت. هل كان متعمَّدا منك أنك لم تزر إسرائيل منذ 12 إلى 13 سنة؟
تشومسكي: لم يكن متعمدا، فهناك بلاد أخرى لم أزرها منذ زمن، كالبرازيل والأرجنتين، وأنا مشغول جدا.
المذيعة: إذاً إنها مسألة برنامج.
تشومسكي: نعم مسألة برنامج.
المذيعة: بالمناسبة، كان في إمكاننا أن نجري هذا الحديث بالعبرية، فأنت تتكلمها بطلاقة.
تشومسكي: أعتقد أنها أصبحت صدئة. لو كان الأمر قبل خمسين سنة، لقلت نعم.
المذيعة: كان والدك أستاذا للعبرية.
تشومسكي: نعم، وقد عشت في إسرائيل لوقت ما، وكانت عبريتي معقولة، ولو أنها بلكنة أمريكية. أستطيع القراءة بها جيدا، لكنني لا أثق بقدرتي على الكلام بها.
المذيعة: نعم، إنها تؤكد على تعقّد المسألة، لأنك من ناحية تتكلم العبرية، وتنتمي لأسرة يهودية، وكنت تتكلم عن محاربة السامية يوم كنت صغيرا، وكنت تعيش في كيبوتز، وفكرت في العيش في إسرائيل…
تشومسكي: تماما!
المذيعة: ومن ناحية أخرى، أنت أكثر المتكلمين انتقادا لإسرائيل ودعوةً لتقويض وجودها…
تشومسكي: هذا غير صحيح إطلاقا. أنا لا أعد نفسي معاديا لإسرائيل، بل أنا داعم لها. فما قلته مرارا هو أن من يؤذون إسرائيل هم الذين يزعمون دعمها، ولكنهم يقودونها إلى التهافت وتدمير نفسها. أعتقد أن دعم إسرائيل يكمن في دعم السياسة التي تكون في صالحها.
المذيعة: تعني أنك لا تدعم وجود إسرائيل كدولة يهودية.
تشومسكي: طبعا.
المذيعة: ثم تذهب لتصافح زعيم حزب الله نصر الله قبل يومين من قصف إسرائيل…
تشومسكي: لا، لا، لقد رأوا صورتي أقابل نصر الله ولم يروا صورتي أقابل عدوه الرئيس، وليد جنبلاط، الذي قضيت معه وقتا أطول. ما حدث هو أنني، حين زرت لبنان، حاولت، كما أفعل في أي بلد آخر، أن أطلع على ما يحدث هناك. فقابلت زعيم حزب الله، الذي هو قوة سياسية رئيسة، والحقيقة أنه في الانتخابات الأخيرة…
المذيعة: وهو أيضا الزعيم الذي ينادي بتدمير إسرائيل…
تشومسكي: الحقيقة أن موقف حزب الله يقول إنهم يقبلون بما يقبل به الفلسطينيون. صحيح، إنه لا يعتقد أن إسرائيل يجب أن توجد…
المذيعة: لكن عنده صواريخ موجهة لإسرائيل، وهو اليوم ينوي قصف لتل أبيب..
تشومسكي: هذه صواريخ للردع… دعينا نعد خطوة واحدة إلى الخلف، قلتِ إنني أريد تدمير إسرائيل، أنا لا أومن بأن إسرائيل يجب أن تكون كدولة يهودية، كما لا أومن بأن الولايات المتحدة يجب أن تكون دولة مسيحية، ولا أومن بأن باكستان يجب تكون دولة مسلمة…
المذيعة: لكن هناك فرقا كبيرا، فليس هناك دولة في العالم تنادي بتدمير الولايات المتحدة وباكستان، وتملك سلاحا نوويا، كإيران، مثلا …
تشومسكي: ليس لدى إيران سلاح نووي، ولا تنادي بتدمير إسرائيل…
المذيعة: بلى إنها تنادي بتدمير إسرائيل، فأحمدي نجاد دقيق جدا حين يقول…
تشومسكي: هذه اقتباسات تظهر في الصحافة الإسرائيلية..
المذيعة: سمعته يقول ذلك بصوته…
تشومسكي: ما قاله هو قول الخميني إن إسرائيل ستنتهي في نهاية الزمن…
المذيعة: بل كان محددا جدا..
تشومسكي: إسرائيل في وضع أمني أفضل بكثير من دول كثيرة. والاعتراض هو على أن لا تكون الدولة دولة مواطنيها جميعا، بل دولة بعضهم فقط.
المذيعة: ما الذي تريد قوله؟ أن تقول للإسرائيليين، عيشوا كأقلية هنا في إسرائيل، اجلسوا على الشاطئ، … ماذا؟
تشومسكي: تماما ما أكتبه آلاف المرات، بالرغم من أنني أعارض وجود دولة يهودية، ولا تنسي أنني كنت جزءاً من الحركة الصهيونية، وما دامت تشكلت عام 1948، فقد كان موقفي أن لإسرائيل كل الحقوق التي تتمتع بها الدول، لا أكثر ولا أقل، لكن إسرائيل تطلب المزيد، ولا أقبل ذلك.
المذيعة: دلشوفتز يقول إن أعظم ما لدى أعدائنا هم اليهود المتهورون، من أمثال الأستاذ تشومسكي.
تشومسكي: هذه مشكلة دلشوفتز، ولا يعنيني ما يقول…
المذيعة: بالمناسبة، لقد عرض أن يناقشك في مناظرة في بير زيت، هل سيدُُعى إلى بير زيت؟
تشومسكي: إسألي بير زيت. لا يعنيني الأمر. لكنني قبلت مترددا أن أناظره، لأنه غير أمين على الإطلاق، لكن ليس في هذه المسألة ما يناقَش. لإسرائيل الحق في التمتع بحقوق كل الدول الأخرى. نقطة. لكنها تريد المزيد.
المذيعة: لأن حقها في الوجود مثار جدل، وهو ما ليس لغيرها من دول العالم.
تشومسكي: لكن الدول الأخرى، الولايات المتحدة لا تطالب المكسيك بأن تقبل بحقها في الوجود.
المذيعة: لأنها لا تواجه تهديدا. حين تسمع ما يقوله قادة حماس وإيران وحزب الله، تفهم أن هناك تهديدا مباشرا…
تشومسكي: أنت لا تفهمين أنه في سبعينات القرن العشرين، حين ظهرت هذه الدعوة، كانت حين عرضت مصر على إسرائيل، عام 1971 على ما أعلم، معاهدة سلام كامل، ولا شيء للفلسطينيين. وقد رفضتها إسرائيل لرفضها الانسحاب من سيناء، وهو الاعتراف الوحيد الذي أعرفه بحق إسرائيل في الوجود.
المذيعة: هل تشعر بعبء كونك يهوديا حين تنادي بما تنادي به؟
تشومسكي: لأنني يهودي، ولأن لي علاقة بإسرائيل منذ طفولتي، أعتقد أنه يجب أن تكون لي مواقف أخلاقية وواقعية وصائبة.
المذيعة: ألا تخشى، ما دمت تعمل لأجل إسرائيل، أن يساء استخدام مقولاتك، بسبب سمعتك العالمية، ابتداءً من المقاطعة الأكاديمية إلى السلاح النووي في إيران؟
تشومسكي: حقيقةً، إن كنت تهتمين بالقراءة، كانت المقاطعة الأكاديمية أمراً عارضته. صحيح أن بعض أقوالي أسيء استخدامها، مثل دلشوفتز، الذي هو خطر جدا على إسرائيل، وهو يشوّه مقولاتي بطريقة تساعد قضيته في دعم عدوانية إسرائيل وتوسعها، وهو أمر خطر جدا على إسرائيل.
المذيعة: لكن، حتى إذا استطعت فهم الحكمة الأكاديمية من رجل مثلك في قبول حتى مقولة إنكار المحرقة…
تشومسكي: ليس حتى، بل تحديدا، تحديدا عن آراء تكرهينها فيما يسمى حرية القول..
المذيعة: إلى حد ما .. لأن التاريخ أثبت العكس .. إنك تتحمّل الكثير من المسؤولية ..
تشومسكي: أنا أومن بحرية القول بالنسبة إلى دلشوفتز، بالرغم من أن تاريخه في الكذب كبير.
المذيعة: أنت منزعج من كذبه، وغير منزعج من كذب منكري المحرقة؟
تشومسكي: على العكس. وأنا لست منزعجا من كذبه، بل أقول إن علينا أن نؤمن بحرية القول للملتزمين بالكذب. وفيما يتعلق بمنكري المحرقة، بلى، إنه أمر فظيع، كما أنه أمر فظيع إنكار ما فعلنا، أعني القضاء على ملايين الهنود [الحمر].
المذيعة: مشكلة ما تدافع عنه هو الكيل بمكيالين. كالكلام عن حرية القول في بلاد ممنوع فيها ذلك، فأنت، مثلا، ذاهب إلى لبنان غدا، حتى هنا في الأردن حيث حرية القول محدودة قياسا بإسرائيل، هل هي على هذا السوء كغيرها من الدول؟
تشومسكي: هل قلت هذا؟
المذيعة: قضيت وقتا طويلا في استهداف إسرائيل.
تشومسكي: هل طلبت مني منظمة العفو الدولية أن أعطيها تصريحا تستطيع استخدامه لانتقاد إسرائيل لانتهاكها حقوق الإنسان؟ لا، بل سألتني عن سوريا.
المذيعة: إذا نظرت إلى خريطة العالم، تجد دولا كثيرة، فلماذا تكون إسرائيل في المركز، وهي أفضل من غيرها؟
تشومسكي: بدأت بالسؤال “لماذا تكون إسرائيل في المركز؟” والجواب هو: لا ليست إسرائيل في المركز بالنسبة إلي، بل التي هي في المركز بالنسبة إلي إنما هي الولايات المتحدة، ولسبب أخلاقي بسيط: فالمبدأ الأخلاقي هو أننا مسؤولون عن أعمالنا وتبعاتها. وكل جريمة ترتكبها إسرائيل، ترتكبها بمشاركة الولايات المتحدة وموافقتها. لذلك، فكل مواطن أمريكي طيب، حتى بدون اهتمام خاص بإسرائيل، يجب أن يكون الأمر في مركز اهتمامه، لأننا مشاركون في هذه الجرائم ومسؤولون عنها.
المذيعة: ما هو الأسوأ برأيك، ما يحدث في إسرائيل والمناطق [المحتلة] أو ما يحدث في أفغانستان؟ كيف تقارن بينهما.
تشومسكي: لا مجال للحديث عنهما كل الوقت…
المذيعة: لكن هل الحال في إسرائيل أسوأ من أفغانستان.. من دارفور..؟
تشومسكي: في حال دارفور نعم الأساسيات أسوأ. لكنني غير قادر على عمل شيء هناك. ولا بأس من توقيع عرائض تنتقد الوضع هناك.
المذيعة: وتشعر بالقيمة الأخلاقية لأنك مواطن أمريكي ذو علاقة بإسرائيل.
تشومسكي: دعينا من العلاقة الشخصية. ولو لم تكن لي علاقة قط بإسرائيل، وهي موجودة على أي حال، فإنني، كمواطن أمريكي، مهتم لأن الولايات المتحدة، ببساطة، متورطة تورطا مؤكدا. فما كان بمستطاع إسرائيل أن تهاجم غزة أو أن تقوم بالاحتلال بدون الدعم الأمريكي المباشر، دبلماسيا واقتصاديا وعسكريا.
المذيعة: أعتقد أنك تتحمل مسؤولية كبيرة.
تشومسكي: على المرء أن يتحمّل مسؤولية ما هو مسؤول عنه.
المذيعة: يبدو أنك مقتنع منذ سنوات بأن ليس ثمة خطر على إسرائيل.
تشومسكي: لا، هناك خطر على إسرائيل من نفسها.
المذيعة: تراها من هذه الزاوية. تريد من الإسرائيليين، من الحكومة الإسرائيلية أن تأخذ المخاطرة. خذ المسألة النووية…
تشومسكي: نعم، فلنأخذ المسألة النووية، هناك وسيلة …
المذيعة: سؤالي هو: ماذا لو كنت مخطئا؟
تشومسكي: انتبهي، عليك أن تحكمي بناء على أفضل تقدير لما هو متوافر من حقائق.
المذيعة: لكن، ألا نتعلم من التاريخ؟ كانت هناك أصوات قبل الحرب العالمية قللت من خطر هتلر، وللأسف أثبت التاريخ خطأها. فكيف نتأكد من أن أحمدي نجاد لن يمحو إسرائيل؟
تشومسكي: لا تستطيعين التأكد، لذلك عليك القيام بخطوات لتخفيف الخطر، بحسب وجوده. والخطوة المطلوبة هي مأسسة جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي. هذا سوف يخفف الخطر. وهذا مهم، لأن الإسرائيليين الذين لا يريدون فعل هذا إنما يؤذون إسرائيل.
المذيعة: لكنك لا ترى خطراً مباشرا على إسرائيل من خارجها. ماذا لو كنت مخطئاً واتبع الناس مقولتك في جعل المجتمع الدولي يُشيح النظر؟
تشومسكي: وهؤلاء قد يكونون مخطئين فيؤذون إسرائيل. بلى، هذا ممكن وصحيح تماما. لذلك، ثمة إمكانية للخطأ في أي موقف تتخذينه. وإذا كنت تضعين مصلحة إسرائيل في قلبك، فعليك تخفيبض إمكانية وجود سلاح نووي في المنطقة. وهناك وسيلة سهلة لفعل ذلك سوف تلقى عمليا دعم العالم بأسره، أعني العمل على إقامة منطقة هنا خالية من السلاح النووي. لكن إسرائيل ترفض، وكذلك الولايات المتحدة، وهما تكرران الكلمات ذاتها: فكرة جيدة، لكن ليس في الإمكان فعلها ما لم تتحقق تسوية سلمية شاملة. وهذا يعني: لا نستطيع فعلها .. نقطة. وما الذي يعيق تسوية سلمية شاملة؟ الجواب معروف: الولايات المتحدة وإسرائيل تخالفان العالم كله في إجراء مفاوضات تؤدي إلى تسوية سلمية.
المذيعة: لكن الفلسطينيين منقسمون أيضا، هناك حماس، وهناك فتح …
تشومسكي: صحيح. لكن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تعارضان بالكلام، بل هما حقيقة تعيقان العملية. أضيفي إلى ذلك القانون الدولي …
المذيعة: حسنا، هذا رأيك طبعا..
تشومسكي: لا، ليس رأيي، ما تفعله إسرائيل في المناطق المحتلة بدعم من الولايات المتحدة، هو أولا غير شرعي، وقد اعترفت إسرائيل بذلك عام 1967، وهو مؤذ لها أيضا.
المذيعة: للأسف قد لا نستطيع الاتفاق لأن المشكلة معقدة، ليست إما سوداء أو بيضاء. ما أفهمه أنه حين كان والداك على قيد كنت أكثر حذرا في مقولاتك ضد إسرائيل…
تشومسكي: مقولاتي ليست ضد إسرائيل بل لصالحها…
المذيعة: بلى، لصالحها. هل كان الأمر صعبا عليك؟
تشومسكي: لا كنت أقول الأشياء ذاتها.
المذيعة: في إسرائيل يعدونك مؤذيا لإسرائيل، فهل يضيرك الأمر شخصيا؟
تشومسكي: من يعدني هكذا؟
المذيعة: الرأي العام.
تشومسكي: الرأي العام يقرأ ما تقدمونه له.
المذيعة: أعني هل تشعر بالانزعاج؟
تشومسكي: أنا منزعج من أن هناك أناسا آخرين في العالم يرونني أكبر خطر على بلادهم.
المذيعة: هل هو متعب لك؟
تشومسكي: أتوقع ذلك. كل من ينتقد يتوقع أن يتعرض للتقريع. لو كنتِ منشقة سوفييتية، هل تتوقعين أن تعامَلي معاملة حسنة؟ لنعد للتاريخ، خذي إسرائيل، انظري إلى التوراة، أظنك درست التوراة. في التوراة هناك من وُصف بأنه كارهٌ لإسرائيل. ثم لاحقا أصبح من الأنبياء.
المذيعة: يعني أنك ترى في نفسك نبيا؟
تشومسكي: لا، بل أنظر للأنبياء على أنهم مفكرون.
المذيعة: تعني أنها رسالتك في الحياة.
تشومسكي: بل هي رسالة أي إنسان طيب. خذي هؤلاء الأنبياء، ألم يعاملوا معاملة سيئة؟ بعضهم أسيئت معاملته، ثم اعتُرف به لاحقا، وبعضهم أُحسنت معاملته ثم عُدّ لاحقا نبيا كاذبا.
المذيعة: كان هذا سؤالي التالي: كيف تعتقد أن التاريخ سيحكم عليك؟
تشومسكي: هذا يعتمد على التاريخ. من سيحكم علي؟
المذيعة: أعني التاريخ اليهودي.
تشومسكي: هذا يعتمد على من ينتصر في المعركة؟
المذيعة: لو أنك اخترت طريقا آخر في خمسينات القرن العشرين وبقيت في إسرائيل، فأين تظننا سنجدك؟
تشومسكي: سأكون مع أصدقائي في إسرائيل وأقول الشيء ذاته، وسوف تقرأين أقوالي في الصحافة.
المذيعة: ولو لم تكن في الولايات المتحدة، فأين ستكون؟ أظنك سؤلتَ هذا السؤال قبل خمس سنين.
تشومسكي: سألتني هذا السؤال صحيفة هآرتس، وقلت إنني سأكون قطعا في إسرائيل. لكنني الآن لا قول هذا، فالأمور تغيرت خلال السنوات الخمس الماضية، تغيرت بطريقة مؤذية للبلد، تستطيعين أن تري إسرائيل تؤذي نفسها يوما بعد يوم بعد يوم. للمجموعة الحاكمة مزاج يسيطر عليه جنون العظمة واللاعقلانية، وهو ما يؤذي البلد أذى خطيرا. حالتي غير مهمة، ولكنْ انظري لها. لو أن وزارة الداخلية لم تعترض على دخولي، ما سمع بالأمر أحد، وما سمع أحد بأي حديث أدليه في بير زيت. لكن هذا غير مهم. وفي الجانب الآخر، تعمُّد إهانة السفير التركي ليس أمرا بسيطا. خذي ردة الفعل لتقرير غولدستون. لقد حوّلته إسرائيل إلى حدث عالمي. ولو استجابت إسرائيل بعقلانية، لقالت: شكرا يا سيد غولدستون لعملك الدقيق، وشكرا بصورة خاصة لإعطائنا هذه الهدية الثمينة، وهو ما فعله. فلو كانوا مهتمين بسلامة إسرائيل، لاهتموا بهذه الأمور. لكن اللاعقلانية وجنون العظمة مؤذيان جدا وغير مجديين، وعلى المدى البعيد يؤديان إلى تبعات خطيرة مدمرة.
المذيعة: أستاذ تشومسكي، أشكرك جزيل الشكر