التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية


د. منذر سليمان

مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

واشنطن، 14 حزيران 2013

 

المقدمة:

فضيحة تجسس الأجهزة الأمنية وقرصنتها لوسائل الاتصالات كافة التي تجري بكثافة يوميا بين المواطنين ألهبت مشاعر التردد السابقة لنقد التطبيقات الحديثة المقيدة للحريات.

سيتناول قسم التحليل طبيعة التجسس والقرصنة التي تشمل كافة المواطنين بدون استثناء، من قبل وكالة الأمن القومي، والتعرف على تداعياتها وانعكاساتها السياسية على الساحتين المحلية والدولية.

ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث

          اخذت مسألة تجسس أجهزة الدولة الأميركية على مواطنيها في مخالفة صارخة لكل القوانين الوضعية حيزا لا بأس به من أولويات مراكز الأبحاث، وأيضا مواكبتها للازمة السورية وتفاعلاتها الميدانية والندب لهزيمة القصير؛ وحظيت الانتخابات الإيرانية باهتمام بارز وشامل.

          دشن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS حملة الانتقادات وادانة النخب لعملية التجسس والقرصنة الشاملة، قائلا انها “ازمة عميقة وبالغة الجدية.. وتصب في انهيار مصداقية الدولة وتنامي مشاعر السخط والاستياء لاسلوب طبق يحاكي أساليب دول أخرى عبر العالم.” وسعى لتعزية الحكومة لاقدامها على تضليل المواطنين بانه ربما عائد لفساد النظام الضرائبي او الاعانات المالية التي تحظى بها بضع شركات خاصة لها افضلية لدى الحكومة.” واستدرك المركز بالقول ان “كافة الدول تمارس الرقابة على قطاع الاتصالات، فاجراءات الرقابة تحد من خطر التهديدات.. بيد انه ينبغي لفت النظر الى مدى التزام القائمين على تطبيقها بحماية حرياتنا ام انتهاكها.”

          معهد أبحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Institute اعرب عن خيبة أمله البالغة لتعدي الحكومة على الحريات قائلا “ان شعورنا بالحرية اصبح وهماً.. وساهمت (الفضيحة) في دق ناقوس الخطر لدى الاميركيين حول الأدوار المنوطة بالحكومة والشركات الخاصة لجمع وتحليل معلوماتنا الشخصية.. بالمحصلة دعونا نتساءل ما هو كنه الحرية “الضرورية،” وماهية ديمومة السلامة التي وُعدنا بها عبر تجميع وتكثيف الدولة والشركات الخاصة لهذا الكم الهائل من المعلومات وتخزينها؟”

سورية:

          تداعيات “سقوط القصير” كان في صلب اهتمام معهد كارنيغي Carnegie Endowment        مؤكدا ان لسقوطها “ابعاد استراتيجية هامة.. وتؤدي الى اغلاق فوري لطريق امداد رئيسة.. وبوابة استراتيجية على كامل الأراضي السورية.. بل ان سقوط المدينة سيريح القوات المنتشرة والمجربة هناك نقل المعركة بيسر الى أماكن أخرى.”

مصر:

          جددت مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation دعوتها لتدخل الكونغرس ووقف المساعدات الأميركية الى مصر كرد فعل قوي وحاسم على قرار القضاء المصري بإدانة ممثلي المنظمات غير الحكومية. واتهمت “الإدارة الأميركية بالالتفاف على تحفظات الكونغرس الامر الذي حفز نظام (الرئيس) مرسي الركون الى فرضية استمرار الدعم الأميركي له.. يتعين على واشنطن الا تكافأ سلوكيات نظام مرسي في التعدي” على الحريات السياسية وحقوق الأقليات الدينية.

ليبيا:

          دان معهد كارنيغي Carnegie Endowment الاتفاق السابق المبرم بين الحكومة الليبية وميليشيا “درع ليبيا،” والتي اسفرت باعتقاده عن تجدد الاشتباكات المسلحة في بنغازي اذ توفر الدليل على ان الميليشيا تمارس مهام الدولة عوضا عنها. وحذرت الولايات المتحدة من الوفاء لطلب رئيس الوزراء الليبي تدريب قوات ذات مهام متعددة “للمخاطر الكامنة في مسلك الميليشيات التي قد تأخذ البلاد نحو مزيد من عدم الاستقرار.”

الانتخابات الإيرانية:

          اعرب معهد كارنيغي Carnegie Endowment عن قلقه لعدم بروز مرشح رئيسي قبل الانتخابات، قائلا “لم يتضح بعد من سيكون لديه القرار النهائي، جمهور الناخبين ام المرشد الأعلى. وفي كلتا الحالتين لا يتوقع الغرب سوى المزيد من النمط (المتشدد) الراهن فيما يتعلق ببرنامج ايران النووي والسياسات الخارجية.”

          جهدت مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for Defense of Democracies لتبيان غياب الديموقراطية عن طبيعة النظام في ايران الذي “يشترط تقدم ذَكَر بالغ يلتزم بالشريعة الإسلامية.. شيعي المذهب.. الترشح لمنصب الرئيس.. الذي بدوره يكون مسؤول امام سلطة المرشد وليس للناخبين.”

          سعى معهد واشنطن Washington Institute الى التعرف على مؤشرات السياسة الإيرانية عبر رصده لتصريحات المسؤولين الإيرانيين، موضحا ان الموقف نحو سورية أتى على لسان مستشار المرشد للشؤون العسكرية، يحيى رحيم صفوي، واصفا الصراع في سورية بانه “مواجهة بين السياسات الاستراتيجية لدول العالم الكبرى وبين قوىً إقليمية.” وحذر المعهد صناع القرار الأميركي من السياسة السلبية الراهنة التي ستنعكس سلبا على حلفاء الولايات المتحدة “وعدم الوثوق بنا.”

          سلط معهد المشروع الأميركي American Enterprise Institute الضوء على دور مجلس الشورى الذي يحتفط بحقه حصرا في الموافقة على المرشحين للرئاسة، بالزعم ان المجلس “صادق على ثمانية مرشحين من بين ما ينوف على 600” طامع في المنصب.

          ناشد معهد بروكينغز Brookings Institution الإدارة الأميركية بذل جهود اعلى للتعامل مع ايران وملفها النووي، وتقلل من الجهود عينها فيما يخص كوريا الشمالية، نظرا “لخطورة توصل ايران الى انتاج قنبلة  نووية مما سيغير المعادلة الراهنة في الشرق الأوسط.. وحفز دول إقليمية أخرى مثل السعودية ومصر وتركيا للحصول على أسلحة نووية أسوة” بايران. اما قنبلة نووية بيد كوريا الشمالية لا تشكل “تهديد.. في ظل وقوع الدول الحليفة الإقليمية في اليابان وكوريا الجنوبية تحت حماية مظلة الولايات المتحدة النووية.”

تركيا:

          اعرب معهد بروكينغز Brookings Institution عن اعتقاده “ببروز تركيا جديدة تواكب العصر الراهن من بين براثن الاحتجاجات.. سيما وان المتظاهرين حافظوا على سلمية نشاطهم بل انطلق البعض في حملة لتنظيف الشوارع عقب كل جولة مواجهة..” واكد ان “رسالة المحتجين الأساسية لا تكمن في مطلب الإطاحة بالحكومة او فرض امر معين على الاخرين.. بل الرغبة في العيش بحرية كما يرونها مناسبة لهم..”

          يخشى معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS من هجوم على المنشآت النووية الايرانية وتداعياته على تركيا مما “سيقوض الاستقرار الراهن في المنطقة.. ويعرض طموح تركيا في توليد الطاقة النووية الى النسيان.. الامر الذي سيضاعف من اعتمادها على موارد ايران لتوليد الطاقة.”

الخليج العربي:

          اكد معهد واشنطن Washington Institute على أهمية مشاركة الولايات المتحدة “مع الدول المتشاطئة على الخليج لبسط الاستقرار في الخليج العربي.. وهو الأسلوب الأفضل كلفة ومردودا.” ويتعين على الولايات المتحدة “حفز صناع القرار في دول مجلس التعاون الخليجي لترسيم أولويات الجهود الفردية والجمعية والتي من شأنها إبقاء ايران تحت المراقبة.”

التحليل:

زوبعة اوباما لتسليح المعارضة السورية لن تنهي عاصفة الفضائح:

اميركا دولة الأمن القومي تتعرى مجددا بفضيحة قرصنة وتجسس على مواطنيها

استوقفنا توقيت اعلان ادارة اوباما عن تزويد المعارضة السورية بالسلاح ونحن على وشك انهاء اعداد عليها فعله بعد سقوط القصير على يد الجيش العربي السوري ومسانديه من مقاتلي حزب الله. ولكن الادارة في مأزق جدي تحاصرها عاصفة تسريب الوثائق السرية عن القرصنة والتجسس الداخلي وعلى العالم، وكأنها ترمي بإعلانها الى حرف الانظار عن تكثيف وسائل الاعلام تغطية مصاعبها الداخلية، ان لم نقل فضائحها المتتالية من ملابسات اخفاء معلومات عن كيفية التصرف في بنغازي، الى مصادرة سجلات الاتصالات الهاتفية لبعض الصحفيين، وفضيحة تسييس اعمال هيئة الضرائب وصولا الى القرصنة والتجسس.

لا شك ان اوباما يسعى جاهدا لتحسين شروط التفاوض مع الرئيس الروسي بوتين قبل لقائهما المنتظر في مؤتمر الدول الثمانية الصناعية، بعدما قدمت الولايات المتحدة تنازلات للأولى بشأن سورية. وقد تكشف لنا الايام والاسابيع القادمة ان آثار الفضائح ستعود الى الواجهة مهما حاول الرئيس أوباما التهرب منها او ترحيلها.

لم تشهد الولايات المتحدة جدلا واسعا واصطفافات حادة بين مواطنيها كما هو الوضع الراهن منذ الحرب الفيتنامية على خلفية استمرار الأجهزة الأمنية بالتنصت ومراقبة وتسجيل كل ما يتعلق بوسائل الاتصالات الحديثة، منذ الكشف عن “أوراق البنتاغون” السرية الخاصة بتضليل الحكومة حول الحرب الدائرة في فيتنام. ومنذ ذلك الحين، والأجهزة الأمنية الأميركية تحظى بعناية استثنائية وعلى حساب الأولويات الاجتماعية والتربوية والتنموية الأخرى، وانخرطت بدورها في سباق تحكمت فيه بكل ما طرأ من تطور علمي وتقني لتعزيز ادواتها في رصد ومتابعة ومراقبة النشاطات اليومية لافراد ومجموعات بعينها، والتي اتضح مؤخرا ان تلك الجهود كانت ابلغ شمولية تتم خلف ستار كثيف من السرية، بل طالت كل فرد من افراد المجتمع، دون استثناء.

          منذ العدوان واحتلال العراق، بشكل خاص، برزت ردود فعل شعبية معارضة لشن الحروب واستعداء الشعوب وتقييد الحريات فحسب، بل لكشف المستور عن تراكم القوانين المقيدة للحريات التي دشنها الرئيس السابق جورج بوش الابن، المعروفة تضليلا بـ “القانون الوطني” الذي يمنح الأجهزة الحكومية والأمنية المختلفة سلطات واسعة غير مقيدة للانقضاض على هامش الحريات المدنية.

          في هذا السياق برزت أهمية وثائق ويكيليكس التي أتت على خلفية صحوة ضمير احد المجندين الاميركيين في العراق، برادلي مانينغ، واكتشافه بالوثائق حقائق استهداف المدنيين العراقيين العزل من قبل الجيش الأميركي وتواطؤ أجهزة الاعلام قاطبة لترويج الروايات الرسمية التي تمجد “اخلاقيات” الجيش والمسؤولين على السواء؛ تلتها صحوة ضمير لمواطن عادي لديه خبرات تقنية مميزة استطاع فتح الباب واسعا للتدليل على عمق جهود التجسس الجارية على المواطنين الاميركيين وتفنيد روايات وزعم كافة المسؤولين، في السلطات التنفيذية والتشريعية بعكس ذلك. الحالة الأخيرة للموظف ادوارد سنودن شكلت هزة عنيفة داخل المؤسسة الحاكمة لما لها من تداعيات على الحريات المدنية المقدسة لدى العموم، ولا تزال تفاعلاتها قائمة تتجاذبها اتهامات رسمية لسنودن بالخيانة العظمى، يقابلها وجهة نظر معارضة لم تتبلور بشكل فاعل للحظة تقدم عونا ودعما لما قام به من باب أولويات الولاء للدستور.

          في الجانب الرسمي المؤسساتي برز صوت ممثلين اثنين في مجلسي الكونغرس ليس دعما لما قام به سنودن بالضرورة، بل لمعارضتهما تطاول وكالة الأمن القومي وقيامها خلسة باعمال تجسس في الداخل الأميركي. وسبق للسيناتور الديموقراطي عن ولاية اوريغان، رون وايدن، ان وجه سؤالا مباشرا لمدير الاستخبارات القومية، جيمس كلابر، حول القيام بنشاطات تجسس داخل الولايات المتحدة التي نفاها الأخير في جلسة استجواب علنية في شهر آذار الماضي. والآن يعاد تسليط الأضواء على كلابر ليدفع ثمن تضليله ومطالبة أحد النواب بتقديمه استقالته.

          وقال النائب الجمهوري عن ولاية ميتشيغان، جستين آماش، مؤخرا “يتضح لنا اليوم ان مدير الاستخبارات القومية، جيمس كلابر، كذب على الكونغرس والشعب الأميركي وحنث بالقسم… الادلاء بشهادة الزور يعد جرم خطير. يتعين على السيد كلابر تقديم استقالته على الفور.”

          ليس من المرجح ان تلقى دعوة آماش آذانا صاغية داخل المؤسسة، وذلك نظرا لاحاطة البيت الأبيض قيادات الحزبين مسبقا بقدر وافٍ من المعلومات في هذا الشأن، والتي ايدت توجه الإدارة المضي في برنامجها التجسسي، وخاصة من قبل ابرز اقطاب الحزب الجمهوري مثل جون ماكين؛ بل ذهب النائب الجمهوري المتعصب عن ولاية نيويورك، بيتر كينغ، الى المطالبة بانزال اقصى العقوبات بحق الصحافي العامل في جريدة الغارديان البريطانية التي اجرت المقابلة الشهيرة مع ادوارد سنودن.

          على الرغم من حدة الرد القاسية للحكومة الأميركية بكامل أجهزتها لما أبرزه سنودن، الا انها تخشى تفاعلات غير مرئية على ثلاث مستويات: هل سيقدم سنودن على افشاء المزيد مما لديه من اسرار وماذا ينتظره من مصير؛ التداعيات السياسية الداخلية المترتبة عن فضيحة التجسس وما تسببه من احراج بالغ للمؤسسة الحاكمة؛ وطبيعة التداعيات على المستوى الدولي جراء ذلك.

من هو ادوارد سنودن

          الجانب المخفي في طبيعة وحجم المعلومات التي بحوزة سنودن ستقرر مسار ردات الفعل الرسمية بغية الحد من تأثيرها، فضلا عما سيقدم عليه للادلاء بمزيد من معلومات للرأي العام ومساعي الحكومة الأميركية للقبض عليه واحضاره كي تتم محاكمته على فعلته. ربما ستسهم تفاعلات قضية سنودن في تخفيف المصير المظلم الذي ينتظر المجند برادلي، صاحب وثائق ويكيليكس، من حيث لا يدري.

          سنودن لم يلتحق بوكالة الأمن القومي رسميا، بل وظف مهاراته التقنية لخدمة الوكالة عبر برامج تخصيص المهام الحكومية للقطاع لخاص؛ الأمر الذي أتاح له الاطلاع والتحكم، لو أراد، بكم هائل من المعلومات الخاصة جدا بكل المواطنين الاميركيين وآخرين عبر العالم. من الجائز أيضا ان احدا ما من المسؤولين الكبار في الوكالة قدم او وفر لسنودن المعلومات بينما يقوم الأخير بتمثيل الوجه الإعلامي البارز. يلفت المطلعون النظر الى ان القرار القضائي لشركة “فرايزون” للهاتف، مثلا، لتسليم بياناتها للسلطات لا تسمح الا لنحو 40 فردا الاطلاع على محتويات السجلات الهاتفية؛ والأهم ان سنودن ليس من بينهم.

          استنادا الى هذا الفهم، من الجائز ان سنودن يحتفظ ببضعة آلاف من بيانات السجلات في حوزته، التي يعتقد انه احتفظ بها على قرص تخزين متحرك، وسيستمر في الكشف عنها تباعا. ما يعزز هذه الفرضية المقابلة الصحفية التي اجراها في منفاه الاختياري، هونغ كونغ، اذ أشار الى عزمه البقاء في دائرة الاهتمام العام والتصدي للاتهامات الموجهة. وصرح لصحيفة (ساوث تشاينا مورننغ بوست) “أولئك من يظنون انني ارتكبت خطأً باختياري هونغ كونغ كمحطة انطلاق يسيئون ادراك نواياي.. لست هنا لاجل التواري عن الأنظار هروبا من العدالة؛ وجودي هنا لأجل الكشف عن المسلك الجنائي.”

          في تطور لافت، أعلن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، اف بي آي، روبرت ميوللر عن عزم الجهاز مقاضاة سنودن جنائيا حفاظا على هيبة الدولة، بينما يمعن جهازه في تشويه صورة سنودن إعلاميا بانه يسعى وراء الشهرة. في توقيت موازٍ، أشادت صحيفة صينية ناطقة باللغة الإنكليزية، “ذي غلوبال تايمز” بالمعلومات الأولية التي كشفها سنودن حول القرصنة الالكترونية الأميركية ضد الصين، حاثة السلطات الصينية الاستفادة القصوى مما لديه من معلومات وعدم الاستجابة لطلبات تسليمه للسلطات الأميركية، سيما وان هونغ كونغ تخضع لسيادة الصين الشعبية.

          من بين القوى والمؤسسات الشعبية التي انبرت للدفاع عن سنودن برزت مؤسسة “مشروع شفافية الأداء الحكومي،” التي ادلت احدى مسؤوليها جيسلين راداك بتصريح ليومية نيويورك تايمز قالت فيه ان “تصويب الأنظار على فعلة سنودن ليس الا ثمة محاولة حكومية لحرف الأنظار عن إجراءاتها المتواصلة لتجاوز الأطر القانونية وبرنامجها للتجسس المكثف على المواطنين. اما السعي لمقاضاة سنودن جنائيا فليس لها علاقة وثيقة بالتهم الموجهة اليه، بل ترمي الى ارسال رسالة بالغة الشدة من خلاله لكل من تسول له نفسه القيام او التفكير بالقيام للكشف عن المخالفات الحكومية.. سيما لعدم توفر بند قانوني يدعى “التسريب”.. اذ ان سنودن قد يكون خرق موافقته الخطية للحفاظ على السرية، التي لا تتعدى عرضا موقعا لا اكثر..”

التداعيات السياسية الداخلية

          توقيت فضيحة التجسس جاء ليفاقم الازمات التي تعصف بإدارة الرئيس أوباما، ابتداء بمخالفات هيئة الضرائب والفضائح التي تلاحق وزارة الخارجية، الى التحكم ببيانات الصحافيين؛ مما أدى بها الى دور الدفاع عن نفسها بدلا من ممارسة مهامها التنفيذية.

          من غرابة الامر ادراك الإدارة الأميركية لمسألة تآكل شعبيتها طردا مع عزمها تسليط الضوء على القضايا ذات الاهتمام، اذ أوضحت استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا بانخفاض مضطرد لثقة الناخبين لأدائها. كما أوضحت نتائج استطلاع اجرته شبكة “سي بي اس” للتلفزة يومي 9 و10 حزيران ثبات دعم غالبية المستطلعة آراءهم للإجراءات الحكومية ضد المشتبه بهم القيام باعمال إرهابية، الا ان نسبة عالية أعربت عن عدم رضاها لقيام أجهزة الدولة الاحتفاظ ببيانات الهواتف الخاصة للافراد العاديين.

          اما استطلاع شبكة فوكس للتلفزة الذي أجرته يوم 13 حزيران، فقد أشر على متاعب مضاعفة لهيبة الدولة كاشفا عن اعتقاد 62% من الناخبين قيام الدولة خلسة بجمع ومراكمة سجلات الهاتف لملايين عدة من الاميركيين بانه “اجراء غير مقبول وتعدي صارخ على الحريات الشخصية.”

          قاعدة الدعم التقليدية لاوباما لا زالت متماسكة بعض الشيء، بيد ان التحول الأكبر يجري بين صفوف المستقلين الذين يبغضون تجاوزات وكالة الأمن القومي؛ وقد تسهم مشاعر الإحباط لديهم في دعم المرشح الجمهوري لمقعد جون كيري في مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس في الانتخابات التي ستجري الشهر الجاري، على الرغم من ان الولاية تميل نحو تأييد الحزب الديموقراطي بشكل عام. ما يعزز هذا الاحتمال تضافر جهود الحشد المكثف لأنصار الحزب الجمهوري وتنامي الشعور بالغبن من الرئيس أوباما لدى شريحة المستقلين.

          سيقدم الكونغرس على عقد جلسات علنية للبحث في المدى الذي وصلت اليه جهود التجسس، والتي قد ينتج عنها افشاء مزيد من التفاصيل المتعلقة بما في جعبة سنودن او ما يتوفر منها لدى صحافيين آخرين. وما قد يفاقم الازمة والاحراج لدى الإدارة الأميركية الكشف عن استهداف مناوئيها السياسيين بشكل خاص في حملة التجسس الداخلية. واستبق البعض توفر الأدلة وشرع التحقيق في إمكانية استغلال الإدارة الأميركية لتلك المعلومات لتحديد ماهية العناصر المناوئة لها والمنتمية للجمعية الوطنية لحمل السلاح، الأمر الذي تنفيه الإدارة بشدة.

          ثمة عوامل تتحكم بما قد يرشح من معلومات تتعلق بطبيعة وموقع الشخصيات المدعوة للادلاء بشهاداتها، سيما وان مدير وكالة الأمن القومي اثبت انه قدم معلومات تضليلية في السابق مما يضعه تحت طائلة المقاضاة القانونية. حينئذ، قد يلجأ كلابر وآخرين متورطين للتعاون مع طلب أعضاء الكونغرس كجزء من صفقة لنيل الحصانة والاعفاء من الملاحقة القانونية، وما سيترتب على ذلك من تضييق دائرة المتورطين الى بضعة اشخاص في هرم الإدارة عينها، وهو أمر شبيه بما جرى ابان فضيحة ووترغيت الممتدة لعامي 1972-1974.

          تنامي حالة الإحباط الشعبية قد تسهم في تعزيز مواقع الحزب الجمهوري في الانتخابات المقبلة للكونغرس، 2014، دون ان تقصد تأييد سياساته وسياسييه. وسبق للحزب الديموقراطي ان شهد وضعا مشابها في العام 1974 اذ اسفرت الانتخابات آنذاك عن فوزه بغالبية كبيرة؛ الامر الذي سيفضي الى اغلبية من الحزب الجمهوري في مجلسي الكونغرس، مما سيضيق حيز المناورة السياسية امام الرئيس أوباما لاقرار أي من بنود سياساته التي وعد الناخبين بها.

الانعكاسات الدولية لفضيحة التجسس

          سياسات الرئيس أوباما أضحت تواجه متاعب عديدة على المستوى الدولي، ليس بفضل المعلومات التي كشفها سنودن فحسب، بل لما سبقها من تسريبات وثائق رسمية من قبل ويكيليكس. “الحرب على الإرهاب” التي دشنت فيها اميركا سيطرة القطب الواحد على مقدرات العالم، سرعان ما ارتدت تفاعلاتها سلبا وانكشاف أهدافها الحقيقية. ذيلية بريطانيا للسياسات الأميركية بدأت تثير تذمر بعض المؤسسات البريطانية النافذة. صحيفة الغارديان، 10 حزيران، أوضحت ضلوع بريطانيا في مراكمة الأجهزة الأمنية الأميركية لمعلومات بحق المواطنين مسترشدة بشعار الأجهزة الأمنية السائد “نقوم بقرصنة على الجميع، في أي مكان،” منوهة الى وقوع مواطنين بريطانيين أيضا ضحية جهود التجسس. وفندت الصحيفة مزاعم البلدين لتشديد اجراءاتهما الأمنية حيث انهما “لا تواجهان تهديدا وجوديا من احد ما.. وتمضي الحكومتين بالزعم ان تدخلاتهما تتم ضمن الحدود المسموح بها قانونيا.” كما سخرت من ادعاءات وزير الخارجية البريطانية وليم هيغ الذي طمأن “المواطن العادي لعدم الخشية من أي اجراء،” موضحة انه يمثل زعما ثابتا لكل الدول والسلطات البوليسية عبر التاريخ.

          ما كشف عنه سنودن من تفاصيل برنامج “بريزم” تجاوز إجراءات التنصت والتجسس والمراقبة متضمنا خططا اميركية بالغة السرية لشن هجمات قرصنة الكترونية وقائية ضد الدول الأخرى. المانيا حليفة الولايات المتحدة الاوثق أصابها الذهول بعد الكشف عن استهدافها لجهود تجسسية هي الاشمل في أوروبا على ايدي وكالة الأمن القومي. ومن المتوقع ان تثار المسألة رسميا مع الرئيس أوباما خلال زيارته لبرلين الاسبوع المقبل.

          ووصفت وزيرة العدل الألمانية، سابين لوثوسر – شارينبيرغر، امتعاض الحكومة الألمانية من برنامج بريزم الذي “يثير قلقا بالغا.. وخطيرا،” كما فندت مزاعم الرئيس أوباما الأخيرة لصعوبة تحقيق “الأمن 100% والحفاظ على الحريات بنسبة 100% في الوقت عينه.” وقالت بوضوح على صفحة “دير شبيغل” الالكترونية “لا اشاطر (الرئيس) ذلك الرأي. تعرض المواطنين لإجراءات الرقابة ينافي مباديء الحرية.. تحقيق الأمن في النظام الديموقراطي لا يشكل هدفا بحد ذاته، بل وسيلة لصون الحرية.”

          اقطاب المعارضة الألمانية المشاركة في الحكومة قلقة لإجراءات التجسس. اذ اقر وزير الداخلية هانز – بيتر فريدريش ان “كل ما نعرفه (عن بريزم) كان مصدره وسائل الاعلام.” يذكر ان فريدريش مقبل على حملة لاعادة انتخابه عن منطقة بافاريا في شهر أيلول المقبل، وعليه اجراء حسابات دقيقة لمستقبله السياسي.

          تواطؤ شركات القطاع الخاص لتوفير بيانات المعلومات للأجهزة الأميركية، غوغل ومايكروسوفت وآخرين، سيتطلب منها مشاركة الإدارة الأميركية في تحمل تبعات سياساتها وحماسها للتعاون بوعي وادراك في عمليات التجسس. أوروبيا، تزهو الشركات الأوروبية المختلفة لمحنة الشركات الأميركية التي أوقعت نفسها بها، سيما وهي تكن مشاعر البغضاء للاخيرة لسيطرتها الكاسحة على السوق الأوروبية في قطاعي أجهزة الكمبيوتر وشبكة الانترنت؛ الامر الذي يضع الشركات الأميركية تحت المساءلة القانونية في القارة الاوروبية.

تداعيات الضرر

          بقاء ادوارد سنودن خارج الأراضي الأميركية يعزز شكوك وخشية الأجهزة الأمنية بما قد يفصح عما لديه من معلومات بالغة الحساسية لا تدرك كنهها، وتسبب لها مزيدا من الاحراج ومفاقمة تراكم الازمات. في المستوى السياسي الداخلي، تتنامى دعوات أعضاء الكونغرس من الحزبين لكل من وكالة الأمن القومي ووزارة العدل لتوفير مزيد من الأجوبة للاسئلة المطروحة، والتي من شأنها ان تستغرق فترات زمنية قد تطول.

          شهادة مدير وكالة الامن القومي السابقة امام لجنة الشؤون الأمنية في مجلس الشيوخ طعنت مصداقيته وقد يواجه مسؤولون كبارا آخرين مصيرا مماثلا يعرضهم للمساءلة القانونية لاحقا. الامر الذي قد يحفز البعض للتوصل الى تفاهم معين مع الكونغرس يوفر لهم الحصانة مقابل توريط مسؤولين آخرين تطال هرم المسؤولية في البيت الأبيض.

          في المستوى العام، تستعد طواقم الصحفيين استغلال سيل الفضائح المتلاحقة التي تطوق البيت الأبيض للضغط على مصادرهم الإخبارية من مسؤولين للادلاء بمعلومات ذات أهمية إعلامية قبل انهيار المعبد، سيما ان تضمنت استغلال السلطة التنفيذية للمعلومات المتوفرة عبر

:::::

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

مدير المركز: د. منذر سليمان

الموقع: www.thinktanksmonitor.com

العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com