عبداللطيف مهنا
يشهد الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة هذه الأيام حفلة تأبينٍ صاخبةٍ للمقترح التصفوي للقضية الفلسطينية المعروف ب”حل الدولتين” . يبدو أن صهاينته ، البارعون عادةً في توزيع الأدوار فيما بين أطيافهم السياسية ، والمعتادون اختلاق الضجيج اللازم للأختلافات فيما هو تحت سقف مسلماتهم الإستراتيجية ولايمس ثوابتهم ، قد وجدوا الآن الوقت الذي يناسبهم للتخلُّص من هذه الفرية التسووية بعد استنفاد طرحها لأغراضه التنازلية المطلوبة منه ، وماوفرَّته حكايتها من الوقت الكافي لمواصلة التهويد المنشود ، أوخلق وقائعهم الإستعمارية المتوخاة . آخر ماجلبته لهم من تلك التنازلات هو شائنة عرب “بلير هاوس” ، التي تنازل فيها مقترفوها عن خطوط تليد مبادرتهم الحمراء وقفزوا على “حق العودة” . الآن وقد وصل الحال لما هو عليه ، واستباقاً لقدومٍ محتملٍ لحليفهم كيري ، أو تهيئةً لجديدٍ قد يأتي به في سياق مكوكياته الإيهامية التسووية ، إختاروا لحظة البدء في دفن مقولة هذا الحل العتيد . على مدار جولات كيري المنقضية عم صمتهم أوكاد ، ظل نتنياهو وحده يعاونه بعضهم يصدح بمفهومه لهذا الحل ، القاضي باستعداده للتفاوض من دون شروطٍ مسبقةٍ ، ودون إيقافٍ لعجلة التهويد الدائب ، حول دويلة ذلكم الحل الثانية الموهومة ، التي تضم فتاتاً من كانتونات أو معازل مقطّعة الأوصال أشبه بالمعتقلات الكبيرة المكتظة المتناثرة ، والتي تعوزها كل مقوِّمات الدولة ، وزيادة على هذا منزوعة السلاح ، وفوقه خاضعة للإحتلال … كل ما أسفرت عنه اطلالات كيري أنه ختمها بإعلانٍ عن إزماعه محاولة ترجمة هذه الرؤية النتنياهوية إقتصادوياً.
أعطى داني دانون ، نائب وزير الحرب إشارة البدء باحتفالية التأبين . كان كل ماقاله أنه مامن غالبيةٍ أئتلافيةٍ في حكومة نتنياهو حول “مبدأ حل الدولتين” ، فلم يلبث وإن بدأ البازار وكرت المسبحة وتوالى صراخ المزايدين ، وبالمقابل كان لابد من معترضين كتسبي ليفي وماشابه على ماوصفوها ب”الدانونية” ، وجل اعتراضهم يلف ويدور حول التحذير من خطر الوقوع في محذور ما يدعى خطر “الدولة ثنائية القومية” ولايتعداه ، وهي إعتراضات مهما علت لاتحجب المؤشر على أن القفزة التصفوية الصهيونية التالية ستقترب اكثر من مشارف “حل الترانسفير” ، أو”العرب خارجاً” وفق العبارة التي يخطها رعاعهم هذه الأيام على جدران بيوت الفلسطينيين في أبو غوش ، أي ذاك الهدف الصهيوني التليد والأخير . إنه حتى الصهاينة لم يخفوا عدم قبضهم لحكاية غضبة نتنياهو من تفلُّت دانون والذي قيل أنه استدعاه مؤنباً . لقد ظل الأخير عند دانونيته موضحاً : إن “نتنياهو يدعو إلى مباحثات السلام مع الفلسطينيين لأن إسرائيل لن تتوصل أبداً إلى سلامٍ” معهم .
كنا نصر دائماً على أن الصهاينة يتحدثون عن “السلام” ويوالون سياسة التهويد ، ولابأس لديهم من مزاولة الجدل حول “المبادرات التسووية” إذا ما أسفر طرحها عن تنازلاتٍ عربيةٍ ، هم لن يجدوا صعوبةً في وئدها في الوقت المناسب ، والبناء عليها لحلب مزيدٍ من التنازلات من بقرة العرب التصفوية الدرورة برعايةٍ يُعتمد عليها من قبل حليفهم الكاوبوي الأميركي . هذا مايفعلونه الآن بصدد المشاوير الكيراوية المتتابعة . قديماً وئد شارون مبادرة عرب قمة بيروت فور صدورها ، واليوم وزير الحرب يعلون لايكفيه بعثها مشفوعةً بتنازلاتٍ إضافيةٍ في “بلير هاوس” ، فيصفها ب”أحبولة إعلامية عربية لإرباك إسرائيل” ! لكن هناك من هو أكثر صراحةً ، أوأكثر وضوحاً في تعبيره عن الرؤية الصهيونية المجمع عليها ، والتي تظل ما فوق التكتيكات اللاعبة تحت سقف ذات الإستراتيجية التي وضعت قبل ماينوف عن القرن ولاتزال . إنه من امثال نفتالي بينت وزير الإقتصاد ، وزعيم حزب “البيت اليهودي” ، الذي لايرى في المدعو “حل الدولتين” ، او الأساس لكل هذا اللغط التصفوي المثار راهناً ، إلا مجرد ” موضوعٍ عديم الجدوى” ، بل شبهه ب”شظية في المؤخرة” ، يمكن إهمالها والتعايش معها !
قال بينت متحدثاً أمام مؤتمرٍ لما يدعى “مجلس المستوطنات” : إن “لدينا الآن 400 ألف إسرائيلي يسكنون يهودا والسامرة ، وأيضاً 250 الفاً في القدس الشرقية ، ويعيش أكثر من 10% من الإسرائيليين خلف مايعرف بالخط الأخضر . إن محاولة إنشاء دولة فلسطينية داخل بلادنا ولَّت” . وحيث يعتبر أن عملية التفاوض مع فلسطينيي أوسلو قد وصلت نهاياتها ، فإن المطلوب عنده الآن قد بات أن “على إسرائيل أن تبني وتبني (أي تهوِّد وتهوِّد) ، فأموال الكافيار المقدم في حفلات الكوكتيل المتصلة بموضوع الدولة الفلسطينية لو استثمرت في انشاء الطرق لبدت الأوضاع بشكلٍ مختلفٍ” …
لقد أوغل الأوسلويون الفلسطينيون والتسوويون العرب في نفق تنازلاتهم التصفوية الكارثية ، إنهم يصطدمون بنهايات مشوارهم التفريطي المسدود . كل يومٍ يذكِّرهم الصهاينة بهذا . ومع ادراكنا أنه ما من أملٍ يعقد على عودة لمن باتت مصالحه مرتبطة بمصالح محتليه إلى خيار مقاومتهم ، فلابأس من إعادة طرح سؤال كم كنا قد طرحناه من قبل … متى تحل السلطة نفسها ؟!!