إيران روحاني ليست مصر السادات

عادل سمارة

لا يزال الجدل حول إيران  يدور ويتعدد من حيث المناحي والمواقف، وإن اتخذ منحى جديداُ إثر انتخاب السيد حسن روحاني رئيسا للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهنا أود قراءة ذلك بإبجاز وعن بُعد بالطبع في مقارنة بينه وبين السادات في مصر رغبة في إعطاء القول معنى افضل بالمقارنة. وهذا استكمال لحديث قصير مع الرفيق محمود فنون-بيت لحم.

لكنني سوف اسمح لنفسي بدخول هذه المقالة ببعض التنظير الذي ربما يصلح لموضوع المقالة هذه. وأقصد هنا العلاقة بين اللغة ومحمولها ومعناها من جهة وأساس هذا جميعه من جهة ثانية لتسهيل العبور إلى الحالة المعطاة.

فاللغة غلاف يدل عليه محموله الذي نفهمه ونستخدمه من حيث معناه، أي ان المحمول او الحمولة نفسها تحتاج إلى قدرة منا على كشفها وتوظيفها  سطحيا أو عميقا بقدر وعينا لها وإحاطته بها وتحديدا بمعناها. وأهمية المعنى هنا كامنة في قدرته ودوره على دفعنا باتجاه تكوينه من جهة ومؤداه من جهة ثانية. فلو أخذنا مفردات  كالتنمية او النمو او الفائض أو حتى السجن الذي أذهل وجوده ودوره ميشيل فوكو فعممه على الدولة…الخ. هذه المفردات اللغوية تكتسب قيمتها من المواقع الاجتماعية الاقتصادية التي تولدت فيها وبالتالي دور الناس في العمل في تلك المواقع-الطبيعة- وتحديدا شغل الناس في الطبيعة من أجل الإنتاج ومن ثم علاقاتهم تجاه هذا الإنتاج أي صراعهم أو عدالتهم فيما بينهم. هذا الموقع المادي وذلك الشغل البشري وتلكم العلاقات هي محمول اللغة الذي يعطيها معنى ويعطينا المعنى بفتح المحمول أي ان اللغة لا تقدم المعنى بعيدا عن محمولها الذي يحدث ويتطور ويشتبك في الواقع المادي. وهذا الواقع المادي ليس لحظي بل تاريخي بمعنى ان له سياق زمني يكتسب هذا معناه ايضا من خلال قيام الإنسان بالعمل معتمدا نمط إنتاج معين هو الذي يجعل الزمن مجسدا في العمل، يجعله من صنع الإنسان. وبغير رد اللغة ومعناها إلى اساس تكونها يكون الناس أمام ترداد مفردات وتوليد كلام من كلام في عملية تطريب لغوي لا يقود إلى فهم الواقع، ويكون نكاح لغة، نكاح افتراضي لا يتولد عنه حملاً.

يمكننا الحديث اللامتناهي عن التنمية وخلطها بالنمو والازدهار ومستوى المعيشة…الخ. ويمكن للفقراء ان يقرأوا هذه الجمل ويرددوها ويكتبوها ويبقى كل هذا كلام في الكتب او الصحف. ولا يكتسب قيمته إلا إذا ربطنا ذلك بالواقع الانتاجي المادي، الشغل والإنتاج ومن يعمل ولا يملك ومن يملك ولا يعمل، وهذا يفتح بالطبع على رؤية الفقر والاستغلال، والترف وتهريب الثروات…الخ وهو وحده عبر الوعي والتنظيم ، هو الذي يخلق الاحتجاج والاعتراض والنضال والثورة.

وكان أن سألني صديق: لماذا ترى فارقا بين قوى الدين السياسي في الوطن العربي وبين إيران مع أن الأخيرة تعتبر نفسها جمهورية إسلامية بالكامل؟ وهذا استدعى لجوء السادات إلى الإيمان (الدين الإسلامي السياسي) واستخدام الإسلام خلال فترة حكمه للتظليل على مسألتين على الأقل:

  • إعادة سيطرة البرجوازية الكمبرادورية  والطفيلية ورجال الأعمال على الاقتصاد المصري
  • وإخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني وضمها إلى معسكر الثورة المضادة.

والمسألتان مترابطتان تماماً ويخدمان النهج نفسه.

جاء السادات إلى حكم مصر عبر الشكلية الدستورية، لكنه بحكم ارتباطاته الطبقية وليس الدينية، رغم زعمه الإيمان قام بانقلاب على الشريحة الحاكمة في مصر بهدف الانقلاب على البنية الاقتصادية التنموية للبلد مما يعني أنه انقلب على مصر.

وعليه، تحت  يافطة “الرئيس المؤمن” تقارب مع قوى الدين السياسي كي يغطي على ارتداده  على الاقتصاد التنموي المصري عبر الانفتاح الاقتصادي الذي هو بدوره أدى إلى إفقار عشرات الملايين الذين ينسبون فقرهم إلى الله بمعنى أنه لم يعطهم على حد قناعتهم. ومن هنا موقفه ضد الطبقات الشعبية.

وحينما تمكن من القضاء على الناصرية الاقتصادية اتجه للقضاء على الناصرية السياسية/القومية بالتصالح مع الكيان الصهيوني والاعتراف به وهو الأمر الذي حرك قوى الدين الإسلامي السياسي ضده فاغتالته. ولكن، لتعود بعد دورة طولها ثلاثين عاماً لتتبنى النهج نفسه اليوم تحت حكومة الإخوان المسلمين. وعليه، إذا ما بقي هؤلاء في السلطة، فإنهم قد يعيدوا الاعتبار للسادات ويعتذروا عن قتله!!

أما حسن روحاني فجاء بعملية انتخابية واضحة وعبر مشاركة فاقت 70 بالمئة من أصحاب حق الاقتراع وهي نسبة عالية جدا مقارنة بالدول الغربية التي تفاخر بديكتاتورية الصندوق. وحتى لو افترضنا ان من لم يشاركوا في الانتخاب هم جميعا من القوى العلمانية و اليسارية التي ترفض هذه الانتخابات، فهذا لا يقلل من القاعدة الشعبية التي يرتكز عليها النظام في إيران وبالتالي رئيس الجمهورية المنتخب. إذن مقابل انقلاب السادات هنك انتخاب روحاني. ومقابل قضاء السادات على مؤسسات الدولة وتشكيله قوات الأمن المركزي جاء حسن روحاني على دولة مؤسسات لم يتناقض معها، ولا يبدو ان بوسعه –لو رغب- ان يقوضها لأنها كما يبدو مؤسسات متمأسسة.

كما أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي  جمهورية قومية بوضوح تعتمد الإسلام كنظام سياسي اجتماعي للحكم، بينما مصر في عهد السادات تخلت عن العمق القومي العربي وانحصرت في مصر نفسها من جهة وفرطت في الاقتصاد والأمن المصريين لصالح المركز الإمبريالي بسياسة الانفتاح ولصالح الكيان الصهيوني بالاعتراف بهذا الكيان الصهيوني الإشكنازي من جهة ثانية. وقد اتضح لاحقاً، أن مصر التي زعم رئيسها السادات بأنه عقد صلحا مع الكيان واستعاد سيناء، لكنه لم يستعيدها حقيقة، وها هي اليوم تشكل نواة إمارة إرهاب، لا تستطيع القوات المصرية دخولها سوى بقدر معين وطبقا لقرار صهيوني.

لعل في هذا توضيح بين إسلامية السادات وإسلامية حسن روحاني، فبقدر ما أن الأول استخدم الدين لضرب القومية، فإن الثاني يستخم الدين لتقوية الدولة القومية في إيران. كان السادات ممن روجوا بأن الرئيس الأمريكي حينها جيمي كارتر هو الرئيس المؤمن، فإن روحاني كما سابقيه في الجمهورية الإسلامية يعتبرون الولايات المتحدة (طبعا كدور للطبقة الحاكمة) هي الشيطان الأكبر.

لقد قوض السادات القاعدة الصناعية المصرية التي تعتبر خطوة مبكرة في حينها  في بلدان المحيط، بينما جاء روحاني على قاعدة صناعية وتقنية في حالة تطور. ولا يقلل من خطورة السادات أنه جاء بعد هزيمة حزيران بينما جاء روحاني بعد سلسلمة مواجهات إيرانية مع المعسكر الإمبريالي الذي يحاول تجريدها من مشروعها النووي. وما نقصده هو ان ما كان على السادات فعله وخاصة بعد حرب اكتوبر هو أن يتبنى سياسة ذات قدر كافٍ من فك الارتباط بالمركز الإمبريالي كي يواصل النهج الناصري وخاصة أن الكتلة السوفييتية كانت لا تزال قوية. بينما واجهت الجمهورية الإسلامية ألإيرانية بعد عشر سنوات من قيامها وضعا عالميا خطراً هو واحدية القطبية  وهي معادية بالطبع لإيران.

لقد اقام السادات مجموعة من المنابر السياسية في محاولة للظهور بمظهر ديمقراطي، لكنه حال دون تحولها إلى أحزاب حقيقية سوى جماعة الإخوان المسلمين، وهو التراث الذي امتد طوال فترته هو ومبارك أي من  1970إلى 2010، وتجلى في تجويف الوعي السياسي والحزبي في مصر وبالطبع من أجل تسهيل تجريف الثروة. بينما جاء روحاني على وضع من تعدد التيارات السياسية الإسلامية في إيران والتي خاضت انتخابات فعلية هناك تغلب فيها الإصلاحيون على المحافظين ، وهو الأمر الذي أسقط في يد المعسكر الإمبريالي وقلب توقعاته، فانقلب يحاول استجراء مواقف مرتدة من روحاني وهو أمر لا يبدو انه قيد التحقق.

إن الاختلاف بين طبيعة قوى دين إسلامي سياسي وقوى أخرى له دوره في توضيح ما ارمي إليه. فقد أثبتت تجربة  قوى الدين الإسلامي السياسي لأتباع السُّنة والجماعة عدائهم للقومية العربية تحديداً، وامتد هذا إلى عدائهم للوطن والتفريط به. وهو ما يمكننا رؤيته في النظام الوهابي الحاكم في السعودية والإخواني في قطر وفي المغرب. فأرض السعودية تضج بالمصالح الاقتصادية الاستعمارية الغربية سواء في الاقتصاد أو القواعد العسكرية، وأرض المغرب محتلة من إسبانيا التي لا تحرك ساكنا، بينما شغلها الشاغل هي الصحراء الغربية. كما ان النظام الإخواني في مصر قد واصل الاعتراف بالكيان الصهيوني الذي يحتل سيناء عمليا، ويؤكد تبعيته للولايات المتحدة، .

ولا بد من التوضيح بأن أي نظام سياسي لا يعمل باتجاه الاستقلال الاقتصادي وعلى الأقل فك الارتباط بالمركز الإمبريالي هو لا وطني حتى دون خضوع ارضه لاستعمار عسكري اقتصادي او استيطاني، لأن التفريط بالثروة ووأد الصناعة المحلية وتقويض قطاعات الإنتاج تندرج في نطاق اللاوطنية. وهذا يعني ان التنمية هي موقف او مشروع وطني. ولعل المطلوب في هذا المستوى هو مقاطعة منتجات الكيان الصهيوني والمركز الإمبريالي وهذا غير حاصل من قبل أنظمة السنة بل هي باتجاه توسيع تبادلها-اي وارداتها من هذا المعسكر وتحويل فوائضها إلى اقتصاداته.

وفي حين يفاخر كثيرون بنظام حكم قوى الدين الإسلامي السياسي في تركيا، فهم يغفلون بأن هذا النظام هو راس حربة الناتو تجاه الوطن العربي كما هو الكيان الصهيوني راس حربة في قلب هذا الوطن. هذا ناهيك عن أن  البرجوازية التركية ذات راسمال مختلط مع راس المال الأوروبي الذي استفاد من تشغيل/استغلال العمال الأتراك. ولا شك أن الرأسمالية التركية في هذا المستوى حريصة على السوق القومي التركي بعكس نظيرتها في الوطن العربي.

بينما نرى أن قوى الدين السياسي في إيران ذات منحى مختلف تماما من حيث محاولات التنمية والتطوير الاقتصادي وحتى التقني المتقدم، بل هي تتعرض لمقاطعة وحصار من القوى الغربية والصهيونية والعربية الرجعية معاً.

لا بد من ملاحظة عن الحرب العراقية الإيرانية  أن تلقي بظلالها على اي تحليل للعلاقة العربية الإيرانية. وهي مسألة يختلف فيها الطرفان اختلافا عميقاً. وفي حين يعتقد كثيرون من العرب بأن العراق هو الذي بدأ الحرب ضد الثورة الإسلامية في إيران، لست مقتنعا بهذا. فليس من مصلحة العراق فتح تلك الحرب. وفي اعتقادي أن العراق شعر بتهديد الثورة الإيرانية التي كانت تدعو لتصدير الثورة مما يشكل خطراً على العراق بالمفهوم القومي لأن الثورة في إيران هي قومية ايضاً، ولأن العراق حينها كان عروبي انتماء وإسلامي ثقافة. ولم أغير بدوري قناعتي أنه لا توجد أمة إسلامية بل أمماً. وبأن الحديث عن وحدة الأمة الإسلامية هو وهم قاد وسيقود إلى حروب وآخرها الحرب على سوريا. وأخشى ما اشخاه أن يلتقط هذا الكيان الصهيوني الإشكنازي ليقول: نعم لأمة إسلامية في دولة واحدة، ولكن قولوا يا عرب ومسلمين: نعم لأمة يهودية واحدة في فلسطين!

والذي يبدو أن النظام الإيراني توصل إلى فهم مختلف للعلاقة بالأمة العربية، بمعنى أنه رغم الأهوال التي تعيشها الأمة العربية سواء من الطبقات الحاكمة أو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني او التجزئة القطرية، او الاستعمار الاقتصادي وخاصة ثمرته الزقوم، احتجاز التطور وقتل التصنيع مما يؤبد الذهنية الوهابية الريعية البدوية، فإن كل هذا لا يعني ان تتجه إيران لاستعمار الوطن العربي. هذا رغم النفوذ الإيراني المتزايد في العراق والذي نرفضه تماماً رغم تحالفنا مع إيران في الحرب الجارية ضد سوريا والتي إيران هدفها الآخر.

إلا أن بوسع المرء التوصل إلى أن هناك فرصة وتوجها لعلاقات جديدة بين العرب والفرس، ليس جوهرها فقط مواجهة الإمبريالية والصهيونية، بل كذلك مصالحة متبادلة لإقامة نظام إقليمي متعاون لا متقاتل. وإن لم يكن هذا قيد التحقق فلا بد من العمل عليه. وفي هذا الصدد، يصبح المطلوب نضالاً عربياً وحدوياً أكثر مما هو إثارة نعرات طائفية وقومية ضد إيران ومن قبل من؟ من قبل أنظمة يبيت الإمبريالي في مخادعها. وهي نعرات تشتغل عليها أنظمة الخليج والإمبريالية بشكل خاص في عداء منها للقومية العربية وللحفاظ على أنظمة الحكم العائلية والظلامية هناك.

وربما نذهب إلى القول، بان إيران قومية وقوية هي خدمة للقومية العربية بمعنى ان هذا يشكل نموذجا لا بد للقوى القومية واليسارية في الوطن العربي من الشغل عليه والاستفادة منه بدل الارتهان والتقليد للنموذج التركي الشوفيني والصهيوني. ولنتذكر ما هو ماثل أمامنا اليوم، فأوروبا –الاتحاد الأوروبي- بغض النظر عن تعثراته الاقتصادية يقيم كتلة اقتصادية ضخمة لا على اساس ديني بل على اسس مادية اقتصادية إنتاجية وإمبريالية معا.