تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.
الفصل السادس
الفرص والعقبات والتوقعات
العقبات
العقبات الداخلية داخلية بمعنيين؛ داخلية بالنسبة إلى الحركة البوليفارية، كما أنها تقبع داخل عقول الناس، في طريقة تفكيرهم وفهمهم للعالم. أما العقبات الخارجية على الجانب الآخر، فخارجية بالنسبة إلى الحركة البوليفارية، وخارجية في أن لها ظهورا موضوعياً، أي أنها ذات علاقةٍ بأعمال الناس والأنظمة والقوى المحركة لها.
تشمل العقبات الداخلية استمرار المحسوبية والفساد، وأسلوب الإدارة الفوقي، وسياسة الشخصنة. إنها عقبات داخلية في كونها جزءاً من التفكير داخل الحركة البوليفارية. وهي عقبات بمعنى أن هذه النزعات تقوّض المشروع البوليفاري من داخله وتُفاقم العقبات الخارجية، مثل معارضة الحكومة. أما العقبات الخارجية ، فتشمل التدخل الأمريكي في فنزولا، والمصالح الرأسمالية الدولية والمحلية، والنخبة الفنزولية القديمة المستمرة في رفضها تشافيز على أنه رئيس البلاد المنتخب. وتنزع العقبات الداخلية والخارجية إلى تقوية بعضها بعضاً، خالقة حلقة مفرغة يمكنها تقويض المشروع البوليفاري بأكمله.
العقبات الداخلية
في كتابه المعنون، تأملات في الثورة في فرنسا (Reflections on the Revolution in France)، قال المُنظِّر البريطاني المحافظ، إدْمُن بيرْك، عام 1790، إن الثورات، كالثورة الفرنسية، فاشلة لا محالة. ذلك أن للعلماء، حسب بيرْك، منطقَهم في التطور والنمو العضوي، فلا يمكن تعمُّد إعادة تنظيمه بحسب إرادة الزعماء الثوريين. والمجتمعات تُطوِّر التقاليد وطرق فعل الأشياء لسبب ما، إذا عُطِّل، فمن المحتمل أن يُسبِّب ضرراً أكبر من الخير.
لا نقصَد بإشارتنا إلى بيرْك القول لماذا تكون الثورة في فنزولا (أو في أي مكان) مُخطئةً أو مستحيلة، كما يقول. بل نفترض جلب الانتباه إلى مقولات بيرْك في كيف تكون الثورات صعبة التأسيس والإدامة. ومن المؤكد أن بيرْك، كمؤسس للعقيدة المحافظة، كان معنياً بالحيلولة دون نشوب الثورة، لكن لديه ولدى منظرين محدَثين شيئاً مهمًّا يقولونه حول المشاكل والتحولات الجذرية في وجوه المجتمع. لاحقا، في أوائل القرن العشرين، أدرك منظرون اجتماعيون وسياسيون جذريون أيضاً، مثل لينين، ولوكاس، وغْرامْشي، كيف يُمكن لنُظم الإيمان، والعقيدة، والثقافة، أن تضع عقبات قاسية في طريق التحوُّلات الاجتماعية.([i])
يقول النقد الثقافي للثورة إن المجتمعات، من حيث الجوهر، لا يُمكن إعادة تنظيمها بإرادة الدولة أو القادة كأفراد، لأن هذه المجتمعات نتجت عن قرون من التطور التدريجي المعقَّد، إذ تتطور التقاليد والعادات والمواقف والطرق المعتادة في فعل الأشياء ونظم الإيمان بطرق تجعل التغييرات الهيكلية من أعلى صعبةَ التطبيق جداً أو مستحيلة من دون تغير متناظر في طرق تفكير الناس.
أما الاعتراض على خط التفكير هذا، ففي أن الثورة تكون حقيقية حين تكون “الجماهير” وراءها، وهو ما ينطوي أصلاً على التغييرات الثقافية التي لا تفعل الثورة سوى تطبيقها في المجال السياسي والاقتصادي. بعبارة أخرى، إن الثورة “الحقيقية” تُهيِّئ التغييرات السياسية والاقتصادية التي تولّدت قبلها في الثقافة الأوسع. فالخلاف ما بين النقد الثقافي والتبرير البنيوي الاجتماعي للثورة ينتهي في التركيز حول أيهما يأتي أولا، الثورة الثقافية أو الثورة البنيوية الاجتماعية.
التجربة الفنزولية، في أثناء رئاسة تشافيز على الأقل، تؤكِّد جزئياً النقد الثقافي للتحولات الاجتماعية؛ أي أن طرق التفكير تتغير ببطء أشدّ مما يرغب صناع السياسة في رؤيته. بعبارة أخرى، على الثوريين البوليفاريين أن ينتبهوا إلى الطرق التي تكون بها الثقافة شديدة المقاومة للتغيير. وبدقة أكثر، تقف النزعات الثقافية الفنزولية صوب المحسوبية وتفضيل القادة الأقوياء متعارضةً مع مساعي إقامة ثورة ديمقراطية تشاركية. بعبارة أخرى، لكي ينجح المشروع البوليفاري، لا بد له من أن يعي هذه النزعات وينبغي أن يجد وسائل التغلب عليها. لقد كان جزء من هدف تشافيز، أصلاً، أن يجتثّ عمليا ما أسماها نظم المحسوبية في “الجمهورية الرابعة”. وبينما استطاع تشافيز أن يُحدث تغييرات في الدستور يُقصَد منها تقويض تلك النظم، فإن الكثيرين من أنصاره ومن المسؤولين في الحكومة مضوا في الوقت عينه يُنشئون نظمهم المحسوبية الخاصة بهم.
بدأ تشافيز نفسه في جلب الانتباه إلى العقبات الداخلية التي يواجهها المشروع البوليفاري. ففي أثناء الورشة الإستراتيجية في تشرين الثاني 2004، اقتبس تشافيز من رواية البؤساءلفِكتور هوغو القول، “ليس العمل كاملا، أعترف بهذا. لقد هدمنا النظام القديم فعلا، لكننا لم نستطع التغلب عليه فكريا. ليس كافياُ أن تدمِّر المساوئ، بل من الضروري أن تُعدِّل العادات – فالطاحونة لم تعد موجودة، لكن الريح التي كانت تحرِّكها لا تزال تهب.” ثم قال تشافيز، “ينبغي علينا ان نُدمِّر النظام القديم على المستوى الفكري.” ([ii])
بينما يُدرك تشافيز المشكلة الداخلية التي تهدد المشروع البوليفاري، فإنه غالباً ليس واضحاً حول ما تتألف منه هذه المعتقدات أو كيف يمكن التغلب عليه. أي أنه والمسؤولين الحكوميين كثيراً ما يتكلمون حول الحاجة إلى نشر “العقيدة البوليفارية” وإلى تعليم أطفال الأمة القيم والأخلاق البوليفارية، لكنّ ما يعنيه هذا متروك غالباً في أفكار عمومية نسبياً، كالحاجة إلى التوكيد على التعاون لا على المنافسة، وعلى التضامن لا على المصالح الأنانية، والسعي إلى الخير الجماعي لا إلى الفردية.
العقبات الداخلية 1: المحسوبية والفساد
إن جزءاً من المشكلة في كلِّ القيم المذكورة أعلاه التي يؤكِّد عليها المشروع البوليفاري أنها جميعاً تشير إلى انتقال من الفردي إلى الجماعي من غير تحديد أيّ جماعيٍّ هو المطلوب. أي أنّ في الإمكان الافتراض، طبعاً، أن ما يراه المرء جماعياً هو الذي يُفترَض فيه التوكيد عليه – أي المجتمع الفنزولي ككل، في هذه الحالة. غير أن تعبير “جماعي” قد يعني أسرة المرء، أو أصدقاءه، أو من هم من عرقه أو طبقته أو مجموعته السياسية، أو أمته، أو البشرية جمعاء. والسؤال المهم هو أي “جماعي” هو المفضَّل، لأنه في معظم الحالات يكون “الجماعي” الذي يفضله الناس شبكة أصدقائهم وأسرتهم ومجموعتهم السياسية. بعبارة أخرى، من السهل أن يتحول وضع الجماعية على درجة أعلى من المصالح الشخصية إلى المحسوبية، حيث يساعد من هم أعضاء في مجموعة ما بعضهم بعضاً، وكل منهم يفهم ضمنياً أن الفائدة، على المدى البعيد، مشتركة بين الجميع.
كان المظهر الملموس لهذه الأشكال من المحسوبية في فنزولا في عهد تشافيز حين ينال من يؤيد المشروع البوليفاري فقط وظيفة ما أو خدمة حكومية، كالحصول على قرض صغير أو موقع تعليمي في إحدى البعثات. ولسوء الحظ، ليس هناك معطيات ملموسة عن مدى انتشار هذه الممارسة، لكن بعض الوقائع تدل على اتساع انتشارها. لكن على المرء أن يتذكّر أن هذه ليست ممارسة ابتدعتها حكومة تشافيز. ذلك أنه معروف جيداً لدى الفنزوليين أن المحسوبية كانت منتشرة جداً في الجمهورية الرابعة، حين كان ضروريا أن يكون المرء عضواً في أحد الحزبين الرئيسيين، العمل الديمقراطي أو المسيحي الاجتماعي للحصول على وظيفة أو خدمةٍ حكومية. كذلك تمارَس المحسوبية داخل القطاعات المعارضة لتشافيز، التي كثيراً ما تُحابي من يدعم المعارضة في قرارات التوظيف في القطاع الخاص (أو حتى في القطاع العام، إذا لم يزل يسيطر على المؤسسة المتعاطفون مع المعارضة). المهمّ أن تشافيز قد وعد بالخلاص من هذه الممارسات، لكنها حتى الآن لا تزال تتوالد.
إن أحد أسباب تقويض المحسوبية للمشروع البوليفاري بعيداً عن كونها انتهاكاً لأحد أهدافه الرئيسية، في غرس الشعور بالانتماء لدى المواطنين، والحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، أنها تقوي المعارضة. ذلك أن حركة المعارضة تصبح أشدّ عناداً كلما شعرت بأنها مستبعدة من الحكومة ومن منافعها وخدماتها. كذلك، وهو الأهم، أن عقلية المحسوبية تحول دون الإدارة العقلانية والعادلة والفعالة. والسبب الثالث وراء تقويض المحسوبية للمشروع البوليفاري أنها تؤدي بسهولة إلى الفساد، الذي يساهم كثيراً في فقدان الشرعية السياسية. فالمسافة قصيرة ما بين منح منافعَ صغيرةٍ خاصةٍ مقابل دعم سياسيٍّ وبين منافع أكبر مقابل كمية من المال أكبر.
بيد أن على المرء أن يلاحظ أنه بالرغم من أن الفساد في فنزولا مشكلة خطيرة حقاً، فقد يكون أيضاً مبالغاً فيه. ذلك أن تصنيف فنزولا منخفض جداً على “مؤشر الشفافية الدولية حول إدراك الفساد”،([iii]) وهو ما يعني أن مستوى الفساد، كما يلاحظه مجتمع الأعمال الدولي في فنزولا، عالٍ جدا. وقد يكون جزء من سبب هذه الملاحظة أن مجتمع الأعمال الدولي يتلقى أخباره عن فنزولا من وسائل الإعلام الخاصة بالمعارضة ويتواصل في غير هذا مع أنصار المعارضة هناك. والسبب الثاني في التقييم العالي للفساد أنه يبدو أن الفنزوليين يحملون فكرة خاطئة كليا عن مدى غنى بلادهم، حسب بعض المسوحات، فيظنون أن الفجوة ما بين ثروة البلاد الضخمة وفقرهم الشخصي سببها الفساد.([iv]) هذه الرؤية الوطنية للفساد الواسع الانتشار متأصلة في الثقافة، بحيث أن المحللين الوطنيين وأصحاب الأعمال الدوليين يتلقونها ثم ينتهي بهم المطاف مبالغين في تقدير الفساد في مؤشر الشفافية الدولية.
غير أن هناك دليلا على أن الفساد ليس من السوء كما يظن المرء من قراءة “مؤشر الشفافية الدولية حول إدراك الفساد”. ففي العام 2005، وجد مسحٌ أجرته مؤسسة “لاتينوباروميتر” أن فنزولا تقع في المرتبة الثالثة في أمريكا اللاتينية، بعد كولمبيا وأوروغواي، على أساس عدد الناس الذين قالوا إن البلد أنجز تقدماً كبيراً في محاربة الفساد في السنتين المنصرمتين (42%). وفي جميع دول أمريكا اللاتينية، يوافق المواطنون على هذه المقولة في 34% من الوقت أو أقل. كذلك ازداد الإدراك بأن محاربة الفساد في تقدم منذ العام 2004، حين كان يوافق على ذلك 33% من الفنزوليين فقط. أما نسبة الفنزوليين الذين يقولون إنهم يعرفون شخصياً عن عمل فاسد، فقد انخفض من 27% عام 2001 إلى 16% عام 2005 (كان المتوسط في أمريكا اللاتينية 20% عام 2005). ولم يكن عاليا إلى حد سوى تقدير نسبة الموظفين المدنيين الفاسدين، بالغاً 65% (حين كان التقدير المتوسط 68%).([v])
ليست المسألة هنا إن كانت حكومة فنزولا أكثر فساداً أو أقل من الحكومات الأخرى. بل ينبغي لحكومة تشافيز، إن كان لمشروعها أن ينجح في المدى البعيد، أن تجد الوسائل لاجتثاث المحسوبية والفساد اجتثاثاً حقيقياً. ذلك أن سبب تهديدها للمشروع أن الاعتقاد المستمر بتواصل المحسوبية والفساد سوف ينهش من الدعم الشعبي للحكومة ومن شرعيتها ويقوِّض فعالية الدولة ووضوحها. وإذ تُدرك الحكومة هذه المشكلة، لا يبدو أن لديها إستراتيجية لمكافحة المحسوبية والفساد سوى بتعليم الأخلاق الفاضلة وزيادة الشفافية والمراقبة. بكلمات أخرى، يبدو أن الحكومة تفتقد إلى تحليل واضح لما يسبب المحسوبية والفساد ولكيفية معالجة هذه الأسباب الجذرية بغير القول إن القوانين لا تُطبَّقُ تطبيقاً كافيا (وهو صحيح، لكنه جزء من تحليل شامل).
الحقيقة أن الحكومة تساهم في المحسوبية بطريقة غير مباشرة ، ومن ثم بالفساد، بطرق ثلاث على الأقل. أولا، يساهم التوكيد على المسؤولية الجماعية على حساب المسؤولية الفردية في فكرة المحسوبية النموذجية القائلة، “نساعد بعضنا بعضاً”، حيث أنّ من يتلقون المساعدة أعضاء في مجموعة سياسية. ثانيا، يزيد التذكير الدائم بأن المشروع البوليفاري يتعرض للهجوم من تعزيز الحاجة لأن “نبقى معا” وأن نساعد بعضنا بعضاً وأن نبقي “الأعداء” (كعملاء المعارضة أو الحكومة الأمريكية) بعيداً – وكل هذه أفكار تقوي المحسوبية. ثالثاً، هناك عبادة للشخصية على مستوى منخفض لشخص تشافيز، مما يربط الناس به ويخلق تمييزاً واضحاً بين من هم مع المشروع البوليفاري ومن هم ضده، وهو ما يقوي نظام المحسوبية أكثر.
العقبات الداخلية 2: الشخصنة
عبادة شخصية الرئيس تشافيز ليست كاملةً تماماً في فنزولا، بمعنى أن يُعبد هذا الرجل أو يُتملَّق في جميع أدبيات الحكومة ولدى المسؤولين الحكوميين في جميع لقاءاتهم الشعبية. غير أن ثمة إصراراَ واضحاً في شخصنة تشافيز سياسياً في بلاده. أي أن هناك ميلاً للاحتفاء به وتوقيره بطرق تتجاوز ما نراه في معظم الديمقراطيات الأوربية أو الأمريكية الشمالية أو الجنوبية. وإلى حدٍّ كبير، لا غرو في ذلك، لأن تشافيز، فوق كلِّ شيء، شخصية جذابة جداً، وبفضل جاذبيته هذه وبراعته السياسية، اتَّحد اليسار الفنزولي في الحركة البوليفارية واستطاع كسب الكثير من الانتخابات. مع هذا، لا تزال عبادة شخصية تشافيز، بالرغم من انخفاض مستواها، تُشكِّل عقبةً في سبيل تطبيق المشروع البوليفاري تطبيقاً كاملا.
يُصدر كلٌّ من تشافيز والحكومة رسائل متناقضة فيما يتعلّق بعبادة الشخصية. فمن ناحية، كثيراً ما حاول تشافيز التقليل من دوره في تاريخ فنزولا الحديث، قائلاً أشياء من قبيل “إنْ أنا إلا ورقة في مهبِّ رياح التاريخ.” كذلك أصدرت الحكومة أوامر تنفيذية أن على الوزارات ألا تستخدم صورة تشافيز في منشوراتها من غير إذنٍ مسبق من مكتب الرئيس. مع هذا، من الناحية الأخرى، يُعزّز تشافيز فكرة عدم الاستغناء عنه بقوله أشياء من قبيل “من كان معي فهو معي، ومن لم يكن معي فهو ضدي…. لن أقبل بالمواقف الرمادية: أن يكون للمرء قدم هنا وأخرى هناك….”([vi]) فإن كان هذا قد يعني مطالبة بالولاء المطلق، وهو ما يتفق مع الأهمية التي يوليها تشافيز للولاء، ففي الإمكان تأويله بسهولة بأنه مطالبة بالطاعة العمياء. أي طالما لا يوضح تشافيز الفرق بين الطاعة العمياء والولاء المطلق، إذ يسمح الأخير بالنقد البنّاء ولا تسمح به الأولى، فإنه يعطي انطباعاً بأنه لا يُستغنَى عنه ولا يُساءل. أكثر من ذلك، معروف جيداً في فنزولا أن شيعة تشافيز المتصلبين غالباً ما يُصنِّفون من ينتقدون جانباً من تشافيز أو حكومته بـ”القاذورات”، حتى لو كان الناقد أحد الأنصار في غير هذا.
كذلك كانت شعارات الحملات تعكس هذا الأمر، قائلةً، “من كان ضد تشافيز، كان ضد الشعب”, و”مع تشافيز يحكم الشعب.” كما كان هناك شعار شعبي على الجدران أيام إضراب صناعة النفط يقول، “مع تشافيز كلُّ شيء، ومن غير تشافيز لا شيء.” وفي الحملة للانتخابات الرئاسية عام 2006، كانت جميع ملصقات الحكومة الإعلانية تقول، “مع تشافيز كلنا نحكم.”([vii])
هناك عدة تبعات لهذه الشخصنة. أولا، إنها تجعل المشروع البوليفاري معرَّضاً جداً للهجوم. أي أن يكون جميع الانتباه مركَّزاً على تشافيز وقدرته على تعبئة الحركة وحشدها يعني أن الحركة تعتمد عليه. فلو أنه اغتيل، فمن المحتمل جداً أن تنشقَّ الحركة إلى ثلاثة أجنحة على الأقل: جناح جذري، وآخر معتدل، وثالثٍ عسكري. وإذ تُدرك المعارضة فائدة اختفائه، فمن المؤكد أن هذا، على الأغلب، هو السبب في توالد تلك الكثرة من المؤامرات لاغتياله.
ثانيا، تُعزِّز الشخصنة الحدود بين المنتمين للمجموعة، أي أولئك المستفيدين من المحسوبية السياسية، وبين غير المنتمين: فإما أن يؤيد المرء تشافيز أو يكون معارضاً له – فلا يُسمح بالمناطق الرمادية. وهذا يجعل تحديد من يستفيد من نظام المحسوبية أسهل مما يسمح به مقياس أكثر غموضا، كالالتزام بعقيدة ما أو بمجموعة من الأفكار (بالرغم من أن عضوية الحزب، كما كان الحال في الماضي، تُعدُّ مقياساً سهلاً أيضاً).
أخيراً، تقوِّض الشخصنة شرعية الحكومة لمن يُعارضون هذه الطريقة في التفكير. أي أن قطاعاً مهما من الناس، للأسباب المذكورة ولأسباب أخرى، معارض فطرياً للشخصنة ولعبادة الشخصية من أي نوع كانت، ومن شأنه أن يرفض بغريزته أية حكومة تشيع فيها عبادة شخصية الرئيس.
العقبات الداخلية 3: الإدارة من أعلى إلى أسفل
كما هو الحال في عبادة الشخصية، ليس في فنزولا سلطوية مباشرة أو ما يُسمى “حكم الرجل القوي”. وحقيقة الأمر أن الكثرة من أنصار تشافيز يقولون بقوة إن الدولة تحت حكم تشافيز متسامحة أكثر مما يجب، في أنّ قلةً قليلةً من الناس من حُمِّلت مسؤوليةَ انقلاب نيسان 2002 أو إضراب صناعة النفط من كانون الأول 2002 إلى كانون الثاني 2003 أو أي حادث آخر ذي دوافع سياسية مما آذى الدولة أو الناس. وبالرغم من أن هذا صحيح، ففي الوقت ذاته مرَّر المشرِّعون الموالون للرئيس في الجمعية الوطنية في فنزولا قوانين أو نظروا في أخرى يُمكن أن تُعدَّ سلطوية من منظور الحريات المدنية. مَثَلُ ذلك أن تعديلا على القانون الجزائي في أوائل عام 2005 شدد عقوبات الحبس على من يُهين المسؤولين الحكوميين، أو يُرهبهم “بقرع القدور”،([9]) أو من يقطع الطرق.([viii]) وإذ لم تطبِّق قطُّ حكومة تشافيز، أو فلنقل النائب العام، هذا القانون في محاكمة من ارتكبوا مثل هذه الأعمال، فإن حقيقة وجود هذا القانون وتشديد عقوبته ليس حسناً للحريات المدنية.
شبيه بذلك قانون جديد مناهض للإرهاب قدّمته للجمعية الوطنية حركة الجمهورية الخامسة عام 2001، ولكنه لم يُفعّل إلا عقب اغتيال مدعٍ عامٍّ في الدولة في تشرين الثاني 2004. يُجرِّم هذا القانون كلَّ من ينشر بشكل مباشر أو غير مباشر معلوماتٍ تُرهب الناس أو تُهدِّدهم بنيّة إحداث هلع بين الناس أو لدى قطاع منهم. كذلك يُعَدُّ غيرَ شرعي استخدامُ “وسائل يمكنها تغيير النظام الاقتصادي في الجمهورية أو تخريبه.” هنا يشير النقاد إلى أن كلمة “تغيير” من الغموض بحيث قد ينتهي بها الأمر أن تُطبّق في حالات واسعة التنوع. وإذ يبدو أن هذا القانون قد جُمِّد إلى أجل غير مُسمَّى، تدلُّ حقيقة تقديمه على أن بعضاً من ائتلاف شيعة تشافيز يحملون غرائز سلطوية.
أخيراً، بالإضافة إلى بعض النزعات السلطوية في القوانين التي مرّرتها الجمعية الوطنية أو نظرت في تمريرها، هناك شخصية تشافيز، التي توصف بالاستبدادية. أي أن أسلوب إدارته يبدو من الأعلى إلى الأسفل كلياً، وليس من الأسفل إلى الأعلى، أو مُكيَّفاً لعمل فريق. ويبدو أنه، كحال قائد عسكريٍّ في ميدان قتال، يرى إصدار الأوامر لوزرائه عفو الخاطر أمراً طبيعياً ومقبولاً تماماً، بغض النظر عن خطط عملهم الحالي أو واجباتهم. وقد روى الوزراء السابقون كيف كان تشافيز يدعوهم أحياناً في منتصف الليل ليطلب منهم الاهتمام بواجب ما. وإلى جانب هذه النزعة لإصدار الأوامر كقائد عسكري، لا يبدو أن تشافيز يرتاح إلى النقد أو الاعتراض على أوامره. وأحيانا، حين يواجه النقد، تكون ردة فعله بالقول، “دعني أذكّرك: إنك تكلِّم الرئيس.”([ix]) وإذ يعكس هذا نمط ثقافة فنزولية متجذِّرةٍ، فحواها مطالبةُ الرئيس من مرؤوسيه بمطلق الاحترام والولاء ، فإنه يجعل النقد البناء صعباً للغاية، إن لم يكن مُحالا.
يكمن الخطر الذي تُمثِّله الإدارةُ من أعلى إلى أسفل، مع عدم القدرة على قبول النقد، في أنها تشجِّع، داخل الدولة، عدم الفعالية واستمرار الأخطاء. أي أن الحكومة، من تشافيز فمن دونه، كثيراً ما تُعاني من عدم الفعالية لأن الرؤساء يأمرون موظفيهم من غير مراعاة لخطط عملهم أو التزاماتهم المسبقة، مجبرين إياهم على إعادة التكيُّف باستمرار للأوامر المتغيرة الآتية من الأعلى، وعلى غضِّ النظر عن خططهم. أما عدم القدرة على انتقاد هذه الحالة، فإنما يُديم المشكلة، ويحول عملياً دون تحسين الإدارة التنظيمية، بالرغم من الدعوات المستمرة لتحسين عمل جهاز الدولة.
تجلب السلطوية في بعض القوانين، كالقانون الجزائي وقانون مكافحة الإرهاب، نوعاً مختلفاً من المشاكل، في تعزيزها مقولات المعارضة في أن حكومة تشافيز تسعى إلى خنق حرية التعبير وقمع المعارضة. لكنّ من غير المحتمل أن المعارضة محقة في تحليلها، لأن الإفلات من العقاب، حتى الآن، على انتهاكات القانون الصارخة، كالانقلاب وإضراب صناعة النفط، كان أمراً عاديا. بل يبدو محتملا أكثر أنه إن استطاع قطاع ما من المعارضة أن يستعيد السيطرة على السلطة التنفيذية أو على دائرة النائب العام (التي هي فرع مستقل في الدولة)، فسوف يستخدم هذه القوانين لتقديم أنصار تشافيز للمحاكمة. سبب احتمال هذا المشهد أن هذا ما حدث في الماضي تماما. ففي أثناء انقلاب كارمونا على الرئاسة الذي دام 47 ساعة،([10])مثلا، لم يرفّ لقادة المعارضة جفن حين غزوا بيوت أنصار تشافيز أو حين اعتقلوا مسؤولي حكومته من غير موجب قانوني من أي نوع. فإذا بلغ زعماء المعارضة هؤلاء مناصب عليا في السلطة وكانت بين أيديهم قوانين غامضة تحتمل القمع، كالقانون الجزائي المعدّل وقانون مكافحة الإرهاب، فسيكون لهؤلاء الزعماء مجال أسهل في قمع أعدائهم التقليديين. لهذا، يشكل وجود هذه القوانين، على المدى البعيد، خطراً أعظم على المشروع البوليفاري من عدم وجودها.
[1] مجموعة بيتروكاريبي: قام بتاسيسها عام 2005 القائد البوليفري الخالد أوغو شافيسHugo Chávez كاحدى الخطوات العملية في استراتيجية التقارب و التكامل وتوحيد امريكا اللاتينية والكاريبي، وبموجب لوائحها تقدم فنزويلا وهي قوة نفطية عالمية الوقود ومشتقاته الى بلدان الكاريبي باسعار تفاضلية لتجنيبها كارثة الاسعار المرتفعة والازمات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليها، وتفادي وقوعها تحت طائلة مديونية صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وهما اداتان للسيطرة الامبريالية على شعوب العالم الثالث تحديدا/ المترجم.
[2] المقصود رونالد ريغن / المترجم
[3] فضيحة ايران كونتراس/المترجم.
[4] المقصود قيام ادارة ريغن بتهريب الارهابي الدولي الشهير لويس بوسادا كاريليسLuis Posada Carriles من احد السجون الفنزويلية بعد محاكمته وادانته بتفجير طائرة مدنية كوبية يوم 6 اكتوبر 1976. (وهو من اصل كوبي وتحتضنه الاستخبارات المركزية والادارات المتعاقبة منذ انتصار الثورة الكوبية)/المترجم.
[5] تيمنا بالتسمية التي اطلقها البطل القومي الكوبي خوسيه مارتيJosé Martí على امريكا الجنوبية والوسطى والكاريبي، من اجل التمثُّز عن الولايات المتحدة وكندا، وتمتد من النهر الكبير (الحدود الامريكية المكسيكية) الى (ارض النار) في اقصى جنوب القارة/المترجم.
[6] روساريو: زوجة دانييل اورتيغا وهي شخصية سياسية بارزة داخل الحكومة والمجتمع اللنيكاراغوي/المترجم.
[7] أول رئيس دستوري فنزويلي خليفة لقائد الثورة البوليفرية الخالد أوغو شافيس Hugo Chávez /المترجم.
[8] فنزويلا /المترجم.
[9] قرع الطناجر أو القدور، أو ما يُسمَّى بالإسبانية (cacerolazos)، عادة أمريكية-لاتينية (باستثناء كوبا)، يلجأ إليها الناس في احتجاجهم على أحد الزعماء السياسيين الفاسدين أو القمعيين بقرع القدور (الطناجر) وغيرها من مواعين المطبخ. وهي ذات أثر قوي، وقد تنطوي على إهانة، باعتبار أن نساء البيوت من يفعلنها. [المترجم]
[10] انقلاب كارمونا هو انقلاب 11 نيسان عام 2002 على الرئيس هوغو تشافيز، الذي عُزل عن الرئاسة مدة 47 ساعة، إلى أن أعادته قوة من الجيش والمظاهرات الجماهيرية العارمة. وكان بيدرو فرانسسكو كارمونا نُصِّب رئيساً مؤقتاً، فحلّ في أثناء ذلك الجمعية الوطنية والمحكمة العليا، وأعلن بطلان دستور عام 1999. وكانت الولايات المتحدة وإسبانيا وحدهما من أيد الانقلاب، لكنهما تراجعتا حين فشل. [المترجم]
[i] استمر تحليل هذا النوع من المشاكل في منتصف الثلث الأوسط من القرن العشرين وما بعد ذلك، وقد قام به فردرك فُن هايِك، وتالكُت بارْسُنْس، ونيقولاس لُهْمَن، وسامْوِل هَنْتِنْغْتُن، وآخرون، للمحافظين ولليسار من قبل ما تُسمَّى مدرسة فرانكْفورت، مثل ثيودور أدورْنو، ووالتر بِنيامين، وماكْس هورْكْهايْمر، وهيربِرْت مارْكوز، وإرِك فْرُم، ويورغِن هابِرْماس، وآخرون.
[ii] كلا الاقتباسين من (“Taller de Alto Nivel)، 12-13 تشرين الثاني 2004. ص. 17. وزارة الاتصال والمعلومات.
[iii] تُحقق فنزولا 2.3 نقطة، على مقياس 1 إلى 10، وهي من أدنى النقاط، وبذلك تكون فنزولا في الدرجة 114 من بين 146 دولة مُسحت. راجع “الشفافية العالمية، مؤشر إدراك الفساد 2004” (www.transparency.org).
[iv] روميرو (1997). ص. 20-21.
[v] المصدر: (www.latinbarometro.org)، تقرير 2005.
[vi] (“Taller de Alto Nivel)، ص. 12، 12-13 تشرين الثاني 2004. وزارة الاتصال والمعلومات.
[vii] (“Con Chávez gobernamos todos”) [“مع تشافيز كلنا نحكم!”]: شعار يُرى في أسفل الملصقات الحكومية والإعلانات الصحفية التي لا حصر لها.
[viii] الإصلاح الجزئي للقانون الجزائي أصبح سارياً منذ 13 نيسان 2005.
[ix] رويت للمؤلف من عدة أناس مقربين من الرئيس ويودون أن تبقى أسماؤهم مكتومة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.