د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 6 تموز 2013
المقدمة:
تصدرت احداث مصر واقصاء الرئيس مرسي اهتمامات معظم مراكز الابحاث ووسائل الاعلام الاميركية، وتراجعت بالمقابل تغطيتها لسورية وقضايا اخرى، على الرغم من اجواء احتفالية بعيد الاستقلال الذي يصادف يوم 4 تموز وتمتد اجواءه لعدة ايام متتالية.
التطورات التاريخية والمفصلية في مصر ستكون محور قسم التحليل وتسليطه الضوء على الخيارات الاميركية المتاحة للتعامل او الرد عليها. ويمضي التحليل بالاستنتاج الى ان الرئيس اوباما قد ينهج نهجا عدائيا لاية تشكيلة حكومية في مصر لا تحظى برعاية اميركية، مع ابقائه على تدفق باب المساعدات المالية مفتوح خشية تداعيات غير مرئية على مستقبل اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر و”اسرائيل.”
ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث
(ستلاحظون ان تقارير مراكز الدراسات تغطي ما انتجته قبل وبعد خلع مرسي)
مصر:
حث معهد بروكينغز Brookings Institution الولايات المتحدة على تكثيف تواجدها العسكري في المنطقة، في اعقاب التطورات المصرية، “وانشاء قواعد عسكرية اضافية .. سيما وانها تعتمد بشكل شبه حصري على حاملات الطائرات .. التي قد تحتاجها في مواجهة مرتقبة مع ايران.” وعزت مطلبها الى الكلفة الباهظة لابقاء حاملة طائرات واحدة تحت الخدمة التي تصل الى “نحو 12 مليار دولار، اي نحو ستة اضعاف كلفة منشأة ارضية محصنة جيدا.”
اعرب مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations عن قلقه ممن سيخلف مرسي بعد الاطاحة به، مؤكدا انه “لا يوجد زعيم سياسي بديل” نظرا لقصور قوى المعارضة عن “حشد وتوحيد وبلورة زعامة” لها مما يحفز رغبة القوى العلمانية في عودة الحكم العسكري نكاية “بالديموقراطية الاسلامية.” واستدرك بالقول ان مصر تمر في مرحلة “توفيق بين نموذج الاسلام السياسي ونمط حكومة عصرية.” وحذر انه لا يجوز للولايات المتحدة “الاستخفاف برغبة مرسي التمسك بشرعية منصبه.”
ناشدت مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation الرئيس الاميركي اوباما “تحذير مرسي من حملة قمعية” قد يشنها سيما وان جهوده منصبة على “توسيع قواعد قوته وتوطيد سيطرته على تنظيم الاخوان المسلمين عوضا عن تحقيق الاهداف المعلنة لثورة مصر الديموقراطية وانعاش الاوضاع الاقتصادية المتدهورة هناك.” واوضحت المؤسسة انه ينبغي على الولايات المتحدة “مقاومة ادعاءات مرسي غير القانونية لسلطات غير مقيدة (منحها لنفسه) ورفضها تمويل سعيه لتركيز السلطة بين يديه وقمع الحريات السياسية.”
تناول المجلس الاميركي للسياسة الخارجية American Foreign Policy Council تداعيات تقلص الدعم الشعبي لمحمد مرسي الذي بلورته “حركة مناهضة وليدة، لكنها بعيدة كل البعد عن التوحد .. بيد ان مطالبتها مرسي تقديم استقالته والا ستلجأ لاسلوب العصيان المدني الشامل يجد ما يؤيده في حشد جمهور تأكيد على جدية تهديدها.”
شكك معهد واشنطن Washington Institute بقدرة تنظيم الاخوان المسلمين “انقاذ مرسي،” سيما وان فرص تدخل اجهزة الدولة لفك الاعتصامات تبدو بعيدة المنال، سيما وان “تهديد القوات المسلحة لمرسي بامهاله فرصة 48 ساعة .. حفزت مشاعر المتظاهرين لاصطفاف الجيش الى جانبهم ضد الرئيس المنتخب.”
في تغطية موازية، اوضح المعهد عينه ان انتشار وتوسع رقعة الاحتجاجات تدل على “عمق مشاعر الاحباط بين مختلف شرائح الشعب المصري لسياسات مرسي بعد الاطاحة بحسني مبارك … لا سيما لقراراته الدستورية يوم 22 تشرين الاول التي اعطى نفسه الحق شبه المطلق في ممارسة السلطة الرئاسية ..” كما اشار المعهد الى تآكل سلطات الرئيس مرسي الفعلية التي تجسدت في “رفض وزارة الداخلية مطلبه لتوفير الحماية لمقر الاخوان المسلمين الرئيس الذي احرقه المتظاهرون.”
اما معهد المشروع الاميركي American Enterprise Institute فقد تناول الاوضاع في مصر من منظار جيو-استراتيجي وتداعياتها على الوضع الدولي الشامل. وقال ان “اي ارتفاع جديد في سعر النفط الخام سيترك اثرا مؤقتا على المدى الآني، على الارجح.” كما ان اقصاء مرسي “يترجم بأنه انتكاسة ملحوظة لحركة حماس .. لكنه لا يوفر طمأنينة لاسرائيل،” في ظل تصاعد اعمال العنف في شبه جزيرة سيناء.
اعرب معهد بروكينغز Brookings Institution عن اعتقاده ان “استئثار واحتكار الاخوان المسلمين للسلطة هو ما دفع جمهور المحتجين للتظاهر ضد حكومة تم انتخابها بحرية،” فضلا عن استعداء السلطات الجديدة للسلك القضائي “والدخول معه في حرب مفتوحة لفرض سيطرتها عليه.” اذ “ولأول مرة في تاريخ البلاد جرى اعتداء وحشي ادى لاعدام اربعة مصريين يتبعون المذهب الشيعي،” والسماح “للمتطرفين السنة الترويج لخطاب الكراهية ضد الاقليات والمذاهب الدينية.”
كما تناول معهد بروكينغز، في تغطية موازية، وضع المعارضة المصرية التي تسير دون قبطان “مما يؤشر على غياب مرشح ليبرالي ذو حظوظ قوية لتبوأ منصب الرئاسة في مصر.” واستدرك المعهد بالقول ان مسلك المعارضة الراهن يضعها “كمن يلعب بالنار .. وقد يؤدي الى فرض الحكم العسكري لعقد قادم من الزمن .. شبيه بعقد الثمانينيات في اميركا اللاتينية” التي سيطر العسكر على عدد من بلدانها. وحذر المعهد من انجرار قوى المعارضة الى الطعن “بالشرعية التي لا تستند استمراريتها الى الكفاءة او الاداء حصريا، والا سيكون من الجائز تبرير قيام الثورة في اي مكان واي زمان، من ضمنها عدد من الديموقراطيات الاوروبية.”
وحذر معهد بروكينغز من مساعي اقصاء الاخوان المسلمين، بل شدد على “حق الشرائح الاجتماعية التي تدعم فكرهم ورؤيتهم لانشاء احزاب تعبر عن مطالبهم. ان اي سعي لحظر الاحزاب الاسلامية .. سيؤدي الى ابعاد ليس اعضاء الاخوان المسلمين فحسب بل غالبية الشعب المصري .. الذين يرون ان السياسة ينبغي ان تعكس نفوذ الاسلام” في المجتمع.
اشار معهد الشرق الاوسط للدراسات Middle East Institute الى المتاعب التي ابرزتها الازمة المصرية للرئيس اوباما، سيما “في معارضتها الحازمة والشديدة لعودة الجيش للسلطة في مصر .. اما وقد وقفت المؤسسة العسكرية الى جانب المتظاهرين وبموازاة الاهداف الاميركية، يتعين على ادارة الرئيس اوباما مراجعة موقفها. فالمؤسسة العسكرية اثبتت بالتجربة نيتها التخلي عن السلطة لصالح القوى المدنية.”
لبنان
حذر معهد كارنيغي Carnegie Endowment من تداعيات هزيمة القوى السلفية على يد الجيش اللبناني في ظل “نظام سياسي مشلول في لبنان. واي انتقال لعدوى الحرب في سورية سيكون بمثابة صب الزيت على النار.” وحث المعهد القوى الخارجية على “ابقاء مستويات الدعم الحالية للجيش اللبناني وتطويرها.”
ايران
تناول معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War التحولات التي طرأت على عمليات سلاح البحرية الايرانية واتخاذه تدابير جديدة من شأنها “ترجمة طموحات ايران الاستراتيجية الشاملة.” واوضح ان تعزيز التشكيلات والتدريبات العسكرية “يؤشر على نية ايران تطوير وتوسيع نطاق عملياتها البحرية خدمة لاهدافها الاستراتيجية.”
تداعيات التنصت والتجسس الداخلي
اعرب معهد المشروع الاميركي American Enterprise Institute عن اعتقاده بسوء تقدير وادارة الرئيس اوباما لمسألة التجسس الداخلي ومحورها المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي، ادوارد سنودن. وجاء على لسان المندوب الاميركي الاسبق للهئية الدولية، جون بولتون، ان الشعب الاميركي “شهد مرارا وتكرارا اخفاقات الرئيس اوباما في معالجة حوادث الانشقاق مما يخوله القول الى اي مدى وصل اليه الرئيس اوباما من الضعف وانعدام الكفاءة .. ويضع (الرئيس الاسبق) جيمي كارتر في مرتبة اعلى بالمقارنة” من حيث ليونة تعامله في مسائل الدفاع والسياسة الخارجية.
التحليل:
اميركا والقيادة من الخلف
انتفاضة مصر تبرز تصدعات السياسة الاميركية وحدود القوة
هناك شبه اجماع لنظرة مؤسسات صنع القرار الاميركي حول وهن وسطحية مدى الخبرة في السياسة الخارجية للادارة الاميركية، دون استثناء الرئيس اوباما الآتي من خلفية سياسية متواضعة تجد امتداداها في مسيرة والده المتوفي الذي ترعرع في كنف الاستعمار البريطاني لمسقط رأسه كينيا. وعليه، اثرت تلك التجربة على نظرة الشاب باراك اوباما الى الاوضاع العالمية من زاوية متواضعة لمناهضة الاستعمار، وادراك مدى نفوذ القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في السيطرة على مقدرات وسياسات الدول الاخرى.
في ظل هذه الخلفية ينبغي النظر الى حملة الانتخابات الرئاسية لاوباما التي روج فيها لانتهاج سياسة خارجية تقلع عن شن الحروب وانهاء الوجود العسكري الاميركي في افغانستان، بل سعى لاضفاء صبغة تآزرية تؤكد اصطفافه الى جانب القوى والشرائح المضطهدة في العالم خلال جولاته الخارجية المتعددة.
بداية لعل اجواء “الربيع العربي” جاءت في خدمة خطاب اوباما السياسي الموجه للعالم الخارجي. اذ خص مصر في اولى زياراته الخارجية للتأكيد على مكانتها في الاستراتيجية الاميركية الشاملة، ودعم اسقاط حسني مبارك فضلا عن مؤازرة، ولو ملتوية، التدخل العسكري الاخير ضد مرسي. ادرك اوباما ان الفرصة المتاحة تلوح بانجاز في السياسة الخارجية: المساهمة في اسقاط حليف مؤيد للولايات المتحدة ودعم طموحات الشعوب العربية دون الاقدام على اتخاذ خطوات ملموسة، تتويجا لسياسته التي اطلق عليها “تصدر القيادة من الخلف.”
رهانات الولايات المتحدة في المنطقة لم تسفر عن نجاحات معقودة مما انعكس سلبا على سياساتها الخارجية، وانحاز اوباما مع اتجاه الرأي العام في مناهضة الرئيس الاسد بعد نفاذ صبره من تعاون سورية معه في الاقليم. اما ليبيا في عهده فقد انحدرت الى مستنقع الفوضى وتحكم الميليشيات المتعددة بترسانة الاسلحة الليبية وتصديرها الى جهات متعددة، وانتشرت مظاهر القتال والعنف ووفرة السلاح في مالي. تركيا، التي عوّل عليها اوباما لتكون رأس الحربة في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، شهدت احتجاجات مناوئة لحكم حزب العدالة والتنمية لم تكن في الحسبان، بل توغل الحزب المدعوم اميركيا في نكران الحراك الشعبي. المحصلة العامة لسياسة “تصدر القيادة من الخلف” اضحت تشبه سياسة “تنحى جانبا.”
مصر كانت ابرز مظاهر فشل السياسة الاميركية، اذ راهنت الادارة على ان ما سيخلف نظام مبارك سيكون مقبول لها، وعمدت الى غض النظر وتجاهل تجاوزات الرئيس مرسي وفريقه في الاخوان المسلمين. اداء مرسي المروع منذ استلامه السلطة افصح عن عدم الكفاءة لادارة الملف الاقتصادي الضاغط على الاوضاع، رافقه ازدراء واستخفاف الاخوان المسلمين بالاحزاب العلمانية وقطاع المرأة والاقباط المسيحيين. كما انخفض مخزون الاحتياط النقدي للخزينة المصرية بشدة من 36 مليار دولار الى نحو 13 مليار في غضون سنتين من الزمن، وتبخرت ايرادات قطاع السياحة الذي يعد احد اهم العائدات على الاقتصاد المصري.
سلكت الادارة الاميركية منحى تجاهل ما يجري من تجاوزات وتعديات قام بها الرئيس مرسي وفريقه الاخواني، بل قللت السفيرة الاميركية لدى القاهرة من شأن انتهاكات الرئيس مرسي، ولزمت لغة ادانة مخففة لسياساته واقلعت عن لقاءاتها مع قوى المعارضة المختلفة. السفيرة آن باترسون اضحت من اتباع سياسة اوباما التي تحصر نزعة العداء الشعبي للولايات المتحدة بمن يشغل قمة الهرم الرئاسي، وبهذا استهانت بحجم وتجذر حدة المعارضة للرئيس مرسي وحطت من شأنها. كما نقل عنها انها اعربت عن شكوكها بامكانية قوى المعارضة تحقيق اهدافها المعلنة، مما انعكس على سياسة الرئيس اوباما بالذهول وعدم القدرة على تحديد موقف فوري كالعادة.
يذكر ان الادارة الاميركية استمرت في تمويل حكومة الرئيس مرسي على الرغم من الاخفاقات والفشل في ادارة الملف الاقتصادي. وقد ارجأت ادارة الرئيس اوباما العمل بالقيود القانونية المفروضة على الدعم العسكري لمصر لدواعي انتهاكات الحقوق المدنية، يوم 10 أيار 2013، وافرجت بموجبه عن مبلغ 1،3 مليار دولار من بند المساعدات دون ادنى مراعاة لاشتراطات القانون على ضرورة “دعم الحكومة المصرية المرحلة الانتقالية للوصول الى حكومة مدنية، تتضمن اجراء انتخابات حرة ونزيهة وتبني سياسات لحماية حق التعبير والتجمهر واعتناق الدين وسيادة القانون.”
خلافا لتقديرات السفيرة الاميركية في القاهرة، اشارت تقارير الاجهزة الاستخبارية الاميركية الى تنامي حالة الاستقطاب والتي قد تؤدي الى حرب اهلية متدنية الحدة. وعليه، قام الرئيس اوباما باجراء اتصال هاتفي متأخر مع الرئيس مرسي ليبلغه ان “الولايات المتحدة ملتزمة بمسار التحول الديموقراطي في مصر ولا تقف الى جانب طرف معين او مجموعة” محددة. كما اكد اوباما مرارا ان “الديموقراطية تتعدى ثمة اجراء الانتخابات .. بل ضمان الاصغاء الى اصوات كافة المصريين وتمثيلهم في الحكومة، بمن فيهم اولئك المحتجون في عموم البلاد” كما اوضح بيان رسمي اصدره البيت الابيض بهذا الخصوص. وحث الرئيس اوباما الرئيس مرسي اتخاذ اجراءات من شأنها طمأنة الاخرين الى اخذ قضاياهم وبواعث قلقهم في الحسبان، مؤكدا ان الازمة الراهنة ينبغي معالجتها بالوسائل السياسية.
ما اغفل ايضاحه بيان البيت الابيض ان الرئيس اوباما ليس في وارد الانخراط الفعلي في الاحداث كما كان شائعا ابان بداية احتجاجات الربيع العربي، بل اكد مجددا ان المصريين وحدهم من سيقرر مصيرهم ومستقبلهم. كان ذلك بمثابة اشارة واضحة فسرها الرئيس مرسي بأن الولايات المتحدة لن تلجأ لاتخاذ تدابير لازاحته؛ كما شكلت في الوقت عينه مؤشرا للمؤسسة العسكرية المصرية بأن الضغط الدولي على الرئيس مرسي لتليين مواقفه امر بعيد المنال.
سعى مرسي وفريقه الاخواني استرضاء القوات المسلحة، وقوبل باستقالات متتالية لوزراء في حكومته شملت الاتصالات والسياحة والشؤون القضائية والبيئة، تلاها استقالة متحدثين باسم الرئاسة المصرية، معربين عن رفضهم لأي تنازلات قد يقدم عليها مرسي وفريقه ان لم تتضمن اجراء تعديلات وزارية واستبدال النائب العام المؤيد للاخوان طلعت عبد الله. ولم ينقل عن الوزراء المستقيلين دعمهم لاجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
قضي الأمر وتحركت القوات المسلحة
عند هذه النقطة المفصلية في الاوضاع المصرية تساءل الجميع عن حقيقة دور الادارة الاميركية على خلفية مبادرة وتحرك القوات المسلحة المصرية. الموقف الاميركي المعلن لا يدعم حركة انقلاب عسكري، بالمعنى التقليدي الذي يؤدي انتقال زمام الامور الى ايدي المؤسسة العسكرية، سيما وان السفيرة الاميركية لدى القاهرة اوضحت “قلقها العميق” لاجراءات اقصاء وعزل الرئيس مرسي مطالبة القوات المسلحة “التحرك العاجل والمسؤول لاعادة السلطة كاملة الى حكومة مدنية منتخبة في اقرب فرصة ممكنة .. وتفادي اية اجراءات تعسفية لاعتقال الرئيس مرسي واعوانه.” كما لوح الرئيس اوباما بمراجعة “تداعيات ذلك في ظل ما ينص عليه القانون الاميركي” الخاص بوقف المساعدات العسكرية الاميركية السخية في حال تنفيذ انقلاب عسكري.
بالنظر الى محدودية الخيارات المتوفرة للادارة الاميركية، التي يرجعها البعض لسياستها المتبعة التي يمكن ايجازها بـ “تصدر القيادة من الخلف،” باستطاعتنا القول انه من غير المرجح ان يقدم الرئيس اوباما على اتخاذ اجراء محدد، سيما وان الادارة عينها تأرجحت في مواقفها حيال الصراع الدائر في سورية.
ويبقى السؤال مشرعا حول ما قد تقدم عليه الولايات المتحدة في حال اندلاع حرب أهلية محدودة، سيما بعد قيام مجموعة اسلامية متطرفة شن هجوم مسلح في شبه جزيرة سيناء في ساعات الفجر الاولى من يوم الجمعة، 5 تموز، والذي اسفر عن مصرع احد الجنود المصريين؛ سبقه تداعي بضعة آلاف من مسلحي تنظيم الاخوان المسلمين الى سيناء خلال ذروة الأزمة مع الرئيس مرسي. يضاف ان “مجموعة ملثمة” شنت هجوما على مطار مدينة العريش مستخدة الصواريخ والقذائف الصاروخية ومضادات الطائرات، واستهدفت ايضا معسكرا لقوى الأمن في مدينة رفح المصرية وعدة مواقع عسكرية اخرى امتدت لنحو اربع ساعات.
لو قدر لتلك الاشتباكات ان تتوسع وتتطور الى ما قد يصل الى حرب أهلية في مصر، فمن المستبعد تدخل الولايات المتحدة بكل ثقلها كما فعلت في الحالة الليبية، سيما وان الاعتبارات المصرية في الاستراتيجية الاميركية هي اشد فعالية وحضورا منها في حال ليبيا، مما يضاعف من فرص تعقيدات دعم اميركي يصل الى مجموعات متمردة مع تماسك القوات المسلحة وفعاليتها التي لا يستهان بها. كما ينبغي الا ينظر في مسألة انشاء منطقة حظر جوي لعدة اعتبارات.
الخيار الاوحد المتاح امام الولايات المتحدة هو الضغط عبر القناة المالية، مع الاشارة الى ان الدعم المقرر للسنة المالية الحالية، 2013، قد تم صرفه وتسليمه.
النفوذ الاميركي في مصر يستند الى ركيزتين في المدى البعيد: استمرار الدعم المالي والمحافظة على مستوى العلاقات الراهن مع قيادة القوات المسلحة.
قد يلوح اوباما بوقف الدعم المالي للسنة القادمة، بيد ان تداعيات ذلك ستترك آثارها سلبا على قدرته في التحكم بسير الاوضاع في مصر خاصة وهو في امسّ الحاجة الى ممارسة نفوذه في المنطقة. الخيار الآخر امامه يكمن في استغلال العقود العسكرية الجارية مع مصر، الرسمية منها والتي في طور البحث. الرئيس اوباما في مأزق لا يحسد عليه، ما تقدم يجمل المتاح له من خيارات التصرف.
دأبت المؤسسة العسكرية المصرية المحافظة على افضل العلاقات مع الولايات المتحدة، سيما وانها تستند الى التقنية الاميركية في معداتها وما تتيح لها من امتيازات ميدانية في المنطقة. من الجائز ان تنحو الحكومة الجديدة نحو مصدر عسكري بديل مثل روسيا او الصين، الا ان ذلك سيستغرق بضعة سنوات وعشرات المليارات من الدولارات لاحداث التحول المنشود. فالقوات البرية المصرية تمتلك اكبر قوة مدرعة في المنطقة قوامها دبابات اميركية من طراز ابرامز – ام 1. مصادر التسليح البديلة ستترك تداعياتها على فعالية القوات المصرية في المدى المنظور، وعليه من المرجح بقاء القوات العسكرية المصرية حريصة على الابقاء على الدعم العسكري ولكن مع تثبيت هامش حركة واسع تحت المظلة الاميركية.
لعل العامل الأهم في خيارات الرئيس اوباما هو مستقبل اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر و”اسرائيل” ان هو اقدم على معاقبة القوات المسلحة بوقف المساعدات العسكرية. سيما وان الحافز الرئيس لبقاء الاتفاقيات قائمة يكمن في استمرار الدعم المالي، كما ان “اسرائيل” ليست في وارد عقد اتفاقيات شبيهة مع الجانب الفلسطيني. وكعادتها، ستطلب “اسرائيل” مساعدات عسكرية اضافية من الولايات المتحدة في اي خطوة قادمة.
قد تقرر الولايات المتحدة حينئذ ولوج سياسة الترقب والانتظار لحين بزوغ حكومة جديدة، بيد ان ذلك التوجه لن يؤدي الى تنمية العلاقات مع الشعب المصري بشكل عام. اذ اشارت الشعارات المنتشرة في الاحتجاجات المختلفة عداءاً متجذرا واضحا لسياسة الرئيس اوباما حيال مصر من قبل اوساط واسعة من الشعب المصري.
لجوء الولايات المتحدة لوقف او التلويح بوقف حجم المساعدات المقدمة لمصر سيحفز حكومة توجهها المؤسسة العسكرية على استعادة بعض الثقة المفقودة في الاقتصاد المصري، يتلوه عودة الاستثمارات الاجنبية وتنشيط قطاع السياحة.
سياسات اوباما الخارجية لم تعود عليه الا بالاخفاق، اذ وفر دعما للرئيس السابق مرسي ظنا منه ان نمط حكم الاخوان المسلمين هو سمة عصر المستقبل يستحق حيزا هاما في اولويات سياساته الخارجية في المنطقة. ولم يشأ التصديق برفقة فريقه السياسي بأن الشعب المصري يتنفض مزهوا لاقصاء مرسي، كما ليس بوسعه ادراك مساواة الشعب المصري له مع رئيسهم السابق مرسي.
القوات المسلحة المصرية، غربية الهوى والولاء، اضحت في موقع المسؤولية وتحظى بتاييد شعبي ملحوظ. لكن هل بمقدور اوباما وفريقه السياسي الاقرار بخطأ نظرتهم السياسية المسطحة للعالم، ام سيسعى لقولبة اجراءات المؤسسة العسكرية المصرية كي تتماشى مع رؤيته. آنذاك سيكون لزاما عليه التعرض للقوات المسلحة من منطلق عدائي يبتعد عن التعاون التام مع الحكومة الجديدة، ويخفق في ادراك طموحات الشعب المصري. اوباما والرؤساء الاميركيين ممن سبقوه لم يعرف عنهم يوما جرأة الاقرار بفشل سياساتهم الخارجية.
الاعتبارات السياسية لن تتوقف فجأة عند الرغبات الذاتية لكافة الاطراف، بمن فيها الرئيس اوباما، الذي سيجد متسعا من الوسائل لتجديد حلقة الاتصال مع الاوضاع الجديدة في مصر. فالعلاقة القائمة مع القوات المسلحة الاميركية ستؤدي الى تنامي فرص العمل للشركات الاميركية التي تسعى دوما لتوسيع نطاق عملها فور استتاب الاوضاع الأمنية. قطاع السياحة ايضا قد يشهد انتعاشا وان بوتيرة بطيئة في البداية خاصة وانه يعد اللحمة التي تربط العلاقات الانسانية بعضها ببعض.
اينما رست ردود الفعل الاميركية على ما يحدث في مصر فلا ينبغي ان تشكل قلقا، خاصة بالنظر الى استمرارية الرئيس اوباما وفريقه السياسي النظر الى الاحداث العالمية من منظور ضيق وسطحي، لكنه يعكس تماما حدود النفوذ والقوة الاميركية امام صعود قوى دولية اخرى منافسة. محصلة الأمر ان الرئيس اوباما لن يلجأ الى اتخاذ قرارات مصيرية مغايرة للوضع الراهن، وسيمضي في سياسته “بتصدر القيادة من الخلف.”
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
مدير المركز: د. منذر سليمان
الموقع: www.thinktanksmonitor.com
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com