“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

تتمة الفصل السادس

الفرص والعقبات والتوقعات

العقبات الخارجية

بيد أنه بالإضافة إلى العقبات الداخلية، ينبغي للمشروع البوليفاري أيضاً أن يكافح عقبات خارجية هائلة، يمكن تقسيمها إلى أنواع ثلاثة. الأولى هي النخبة الفنزولية القديمة، من أحزاب حاكمة سابقة، كالعمل الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي وما يتولد عنهما، وشبكة المؤسسات التي تحكم بها، كالكنيسة، واتحاد العمال، وغرفة التجارة الاتحادية، ووسائل الإعلام الجماهيرية الخاصة، والإدارة السابقة لصناعة النفط، وكلها تسعى لاستعادة سلطتها الضائعة. ويشمل النوع الثاني من العقبات المصالح الرأسمالية الوطنية والأجنبية التي همُّها تعظيم الأرباح فقط. والثالثة حكومة الولايات المتحدة برئاسة بوش، التي تحدوها جوهريا مصالح الكسب الإمبريالية أو الحفاظ على الهيمنة الإقليمية. وكل هذه العقبات تتداخل بعضها ببعضها الآخر بدرجات متفاوتة.

العقبات الخارجية 1: النخبة القديمة

تحاول النخبة القديمة في فنزولا، التي فقدت السيطرة على الحكومة ومؤسساتها التابعة، منذ انتخب تشافيز لأول مرة، أن تستعيد تلك السيطرة. وفي مناسبات عديدة، أثبتت هذه الطبقة الحاكمة سابقاً أنها تريد تقويض المؤسسات الديمقراطية باسم إنقاذ فنزولا من دكتاتورية تشافيز المفترضة. بيد أنها، في حملتها لاستعادة سيطرتها على فنزولا، مُنيت بهزائم عديدة، ففقدت مزيداً فمزيداً من قوتها. أما القاعدة الصلبة الوحيدة الباقية من قوتها، منذ 2006، فهي وسائل الإعلام الجماهيرية الخاصة، التي أصبحت، نتيجةً للتجارب الحديثة، غير راغبةٍ في المخاطرة بكل شيء باسم الإطاحة بتشافيز.

كل هجوم على حكومة تشافيز، بالرغم من فشله في النهاية، كان يقوي العقبات الداخلية للمشروع البوليفاري بإعطاء تبرير أقوى لأنصار هذا المشروع للقول إن عليهم حمايةَ أنفسهم من المتسللين والخونة. وهذا يتحقق بإقصاء أنصار المعارضة من الإدارة العامة، بل أحياناً من خدمات الحكومة. أي أن الشعور الدائم بالحصار قد عزّز عقلية التقوقع التي ترعى المحسوبية. وقد ظهر هذا الموقف في أوجِه بوضوح فيما سُمِّي “قائمة تاسْكُن”.([1])

مقابل ذلك، كان لتقوقع شيعة تشافيز وإقصاء شيعة المعارضة من بعض الوظائف الحكومية أن قوي لدى المعارضة الشعور بالتبرير والإلحاح في رغبتها في الخلاص من تشافيز. بعبارة أخرى، لقد خلقت العقبات الداخلية والخارجية حلقة تغذية راجعة إيجابية. كذلك كان جزء من حلقة التغذية الراجعة هذه دعم تشافيز، معززاً عبادة شخصيته، إذ بات يُعَدُّ رجلاً لا تستغني عنه الثورة، وفي الوقت ذاته، بالنسبة إلى المعارضة، بات العقبة الوحيدة أمام استعادتها السلطة. وفي نقاط مختلفة من النزاع، اقتربت افتتاحيات الجرائد وتعليقات المعارضة من حدود السخف حين أخذت تلوم تشافيز على كل مشكلة في فنزولا، من الانزياح الطيني في فارغاس إلى الانقلاب.

لكنّ تشافيز وأنصاره استطاعوا في نهاية المطاف التغلب على هذه العقبة، بالاستفادة بشكل رئيسيٍّ من ضعف المعارضة، كتفرقها الداخلي، وفقدانها للقيادة، وعدم فهمها كليا للواقع الفنزولي. والوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها المعارضة بناء تحدٍّ حقيقيٍّ لتشافيز على المدى البعيد أن تتوحّد، وأن تتقيّد بقواعد اللعبة الديمقراطية، وأن تستفيد إستراتيجياً من ضعف الحكومة في مجالات عدم الأمان، والفساد، والإدارة العامة غير الفعالة. أما خيار المعارضة الآخر، الأقل ديمقراطية، ففي أن تبني على تحالفها مع إدارة بوش وصانعي الرأي الدوليين لكي تُظهر حكومة تشافيز كـ”نظام مارق”، فتنتزع مصداقيته عالمياً، بحيث تبرر في مرحلة ما التدخل الخارجي في فنزولا.

في التنافس على انتخابات 2006، وفي تواليها الفورية، بدا أن المعارضة قد تعلمت من أخطائها السابقة وأصبحت تتبع الإستراتيجية الأكثر اعتدالاً والموجزة هنا. فقد توحدت خلف حاكم ولاية زوليا، مانْوِل روزالس، باعتباره مرشحَ المعارضةِ الرئيسيَّ للرئاسة، وركّزت على عدم الأمان وضعف الإدارة العامة. وفيما يتعلق بالبناء على تحالفها مع إدارة بوش، واضح أن الكثرة من المنظمات المعارضة مستمرة في تلقيها المشورة والمعونة بملايين الدولارات.

العقبة الخارجية 2: رأس المال المحلي والدولي

بطبيعة الحال، تتداخل إلى حدٍّ كبير المصالح الرأسمالية المحلية مع النخبة القديمة المذكورة أعلاه. غير أن هناك فرقاً مُهمًّا. فاهتمام النخبة القديمة الرئيسيُّ هو السعي إلى السلطة بحيث تستطيع استعادة الوضع الذي كان قائماً في السابق. لكن الاهتمام الرئيسيَّ لرأس المال المحليّ والعالميّ كليهما هو قدرتهما على تحقيق الربح؛ والأمر هنا سيان إن تحقق باستعادة الوضع القائم سابقا أو بالتعايش مع تشافيز.

يتوضّح عدم الاهتمام النسبيُّ هذا بمن يحتلُّ منصب الرئاسة في حقيقة أن تشافيز حين ترشّح لمنصب الرئيس نال دعماً من بعض القطاعات الرأسمالية الفنزولية، كجريدة إل ناسيونال، ومن مَلِكِ وسائل الإعلام غوستاف سِسْنيرُس. كذلك استطاع لويس مِكْوِلينا، مدير حملة تشافيز، أن يجد تمويلاً للحملة من رجال أعمال فنزوليين. والكثيرون منهم كانوا يأملون في حصول داعمي الرئيس من كبار رجال الأعمال على مناصب وزارية مرموقة. غير أن تشافيز حاد بوضوح عن هذا التقليد السياسي الفنزولي ولم يستوزر أحداً من هذه الأنواع من الداعمين.

لم يستغرق الأمر هؤلاء الداعمين السابقين من قطاع الأعمال سوى وقت قصير لينقلبوا على تشافيز. لكن، لم تكن الاستهانة بالحقوق التقليدية وحدها، بالطبع، ما أزعج كبار رجال الأعمال الفنزوليين؛ بل كان عليهم أن يكافحوا عددا من البرامج التي مسّت امتيازاتهم مباشرة. ثمة ثلاثة مجالات في السياسة أغضبت طبقة الأعمال الفنزولية.

أولا، على الفور بعد تولّي تشافيز الرئاسة، أبطل قانوناً ينصُّ على أن قطاع الأعمال الفنزولي لم يعد مطلوباً منه دفعُ تعويضات كبيرة للعمال حين يُسرِّحُهم. ثانيا، مضى تشافيز قُدُماً في تعزيز قانون الضرائب الفنزولي. ثالثا، ولعله الأهم، جاء تشافيز بما تُسمَّى مرسومات القوانين 49، التي شملت إصلاح ملكية الأراضي، والإصلاح المصرفي، وإصلاح صناعة النفط، متحرِّشاً بتشكيلة واسعة من مصالح قطاع الأعمال.

وهكذا انضمّ إلى النخبة القديمة في الاصطفاف بقوة ضد تشافيز معظم رأس المال المحلي، ممثَّلا بغرفة التجارة المحلية. غير أن الكثرة من هذه المجموعات والأفراد، عقب الاستفتاء على إبطال الرئاسة، تبين لها أن قيادة هذه المعارضة أوصلتها إلى طريق مسدود، فأخذت، منذئذٍ، خطاً أكثر توافقيةً من حكومة تشافيز. مثل ذلك أن غرفة التجارة الاتحادية، عقب الاستفتاء فوراً، وافقت على الاجتماع بتشافيز لبحث كيف يمكن للجانبين أن يتعاونا بشكل أفضل.

على عكس ما حدث في تشيلي عام 1973، حين كان للشركات الأمريكية الكبرى، كشركة الهاتف والبرق الدولية (آي.تي.تي.)، دور رئيسي في الإطاحة بحكومة أليندي،([2]) لم يُبدِ رأس المال الدولي اهتماماً كبيراً في التأثير على السياسة الفنزولية. ولعل لجزء من السبب علاقةً بحقيقة أن تشافيز لم يكد يلمس مصالح الأعمال الدولية الكبرى – على الأقل، ليس قبل أواخر العام 2004. فالنفط الفنزولي كان قد أُمِّم قبل عدة عقود، وحتى العام 2006، لم يُظهر تشافيز سوى اهتمام قليل في تأميم ملكيات أخرى لرأس المال العالمي. أما المجالان الوحيدان اللذان أثّر تشافيز بهما في رأس المال العالمي، فكانا الضريبة([i]) وإجبار شركات النفط على تشكيل ائتلاف مع شركة نفط فنزولا.

في حالة الأعمال المتعلقة بالنفط، لم تكن الضرائب تُفرَض فقط، بل إنها زيدت عدة مرات. فبالنسبة إلى الاتحادات الإستراتيجية، التي تستخرج الخام الثقيل جداً من “حزام أورينوكو النفطي”، رُفع مُعدّل الامتياز من 1% إلى 16% عام 2005، ثم إلى 30% عام 2006. كذلك، في حال اتفاقيات التشغيل، حيث تستخرج شركات النفط العالمية الخام العادي كمقاوِلةٍ في الباطن لدى شركة نفط فنزولا، طالبت الحكومة هذه الشركات بتغيير ترتيباتها مع شركة نفط فنزولا إلى ائتلاف. بهذه الطريقة، تشارك شركات النفط الأجنبية شركة نفط فنزولا في الكلفة والعائدات، فلا تستطيع بهذا أن تنفخ كلفة التشغيل (التي كانت شركة نفط فنزولا تدفعها لهذه الشركات كمقاوِلة في الباطن).

بعبارة أخرى، بالرغم من الزيادات الضريبية المتنوِّعة، لم يُؤثِّر تشافيز كثيراً حتى الآن على المصالح الرأسمالية الدولية بقدر ما أثّر على نخبة البلاد القديمة، التي خسرت أكثر بكثير. نتيجةً لذلك، ما دامت هذه المصالح الرأسمالية منفصلة عن النخبة القديمة، فإنها لم تفعل إلا القليل نسبياً في معارضة تشافيز بقوة، بالرغم من انزعاجها منه. هناك توقع كبير أن تكون تلك الشركات الأجنبية تموّل مجموعات المعارضة، لكنّ الدليل على ذلك لم يظهر حتى الآن. غير أن الدور الذي قد يقوم به رأس المال الدولي ضد تشافيز قد يزداد إذا جذّر برنامجه الاقتصادي.

بشكل طبيعي، لدى رأس المال العالمي وسائل أكثر تأثيراً بكثير من المشاركة في معارضة سياسية نشيطة، كتمويل مجموعات المعارضة أو إعادة تنظيمها. أي أن رأس المال العالمي في معظم دول العالم يستطيع إجبار الحكومات على فعل ما يريد بالمشاركة في إضراب استثماري.([ii]) لكن هذه الطريقة، التي تستعمل مراراً وتكراراً حول العالم، بمساعدة فعالة من لدن صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، أقل فعالية بكثير في فنزولا. وسبب كون الإضراب الاستثماري أقل تأثيراً فيها منه في دول أخرى، أن لدى هذه الدولة نفطاً جاذباً للاستثمارات الأجنبية المباشرة لأنه، حتى بالضريبة العالية، لا يزال يُحقِّق أرباحاً ضخمة. كذلك، طالما أن سعر النفط عالٍ، تستطيع فنزولا أن تموّل الكثير من استثماراتها غير النفطية محليا بدل اعتمادها على المصادر الأجنبية للاستثمار، كما تُضطر معظم الدول الأخرى. وفي نهاية المطاف، بينما يعارض رأس المال المحلي والخارجي تشافيز، فإن معارضتهما عملية وليّنة أكثر من النخبة القديمة.

العقبة الخارجية 3: إمبريالية الولايات المتحدة

غالباً ما يخلط المحللون مصالح رأس المال العالمي بمصالح الولايات المتحدة الإمبريالية. لكن هذا الخلط مفهوم لأن الاثنتين كثيراً ما تلتقيان، مثلما كان الحال في أثناء رئاسة كْلِنْتُن، التي كانت تستند إلى توحيد المصالح الإمبريالية الأمريكية مع مصالح رأس المال العالمي.([iii]) بناء عليه، استطاع كْلِنْتُن وتشافيز أن يعقدا اتفاقية مؤقتة، خاصة أن تشافيز لم يهاجم المصالح الرأسمالية الأمريكية. لكن هذا الحال تغيّر حين تولى بوش السلطة عام 2000، بإدارة كان السعيُ وراء عقيدتها المحافظة والإمبريالية أهمَّ من مصالح رأس المال الأمريكي.

كان تشافيز يعارض سياسة بوش الخارجية أشدَّ من معارضته سياسة إدارة كْلِنْتُن، لأن سياسة بوش الخارجية كانت أكثر إمبريالية. فنادراً ما كانت تفوت تشافيز فرصة شجب سياسة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، مثلا. كذلك كان تشافيز معادياً دائماً لسياسة الولايات المتحدة التجارية، محارباً بقوة اتفاقية “التجارة الحرة لمنطقة الأمريكيات”، محبِّذاً التوحدَ الاقتصاديَّ الأمريكيَّ-اللاتينيَّ قبل إجراء أية اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة. كما أن هناك قضية ربما أقلقت إدارة بوش حول فنزولا، هي مسعى تشافيز إلى تزويد السوق الصينية بالنفط، إذا كان تزويد النفط هذا على حساب الولايات المتحدة.

سريعاً ما أصبح التدخل الأمريكي في فنزولا على مستوى مفتوح قضيةً لإدارة بوش، باتهاماتها المستمرة التي لا أساس لها أن تشافيز كان يدعم المغاوير الكولمبيين، ويسمح للإسلاميين الأصوليين أن يتحركوا بحرية في فنزولا، ويموّل حركات المعارضة في أمريكا اللاتينية كلها. لكن التدخل في الشؤون الفنزولية ساء مع حدوث انقلاب نيسان 2002، الذي كانت الولايات المتحدة إحدى الدول القليلة في العالم التي رحبت به (الدولتان الأخريان كانتا إلسلفادور وكولمبيا) . كذلك هناك دليل كبير على تورط الولايات المتحدة النشيط في دعم الانقلابيين.

بينما أنكرت إدارة بوش أيّ تدخل سرّيٍّ في فنزولا، استمرّ التدخل العلنيّ طوال عامي 2002 و2003، وكان أغلبُه على لسان المتحدثين، مثل روجر نورييغا، أو أوتو رايخ، أو آمر القيادة الأمريكية الجنوبية، الجنرال جيمْس هِل، الذين كانوا جميعاً يُطلقون اتهامات متنوعة ضد حكومة تشافيز. ومنذ أوائل العام 2004، كشف النشطاء في الولايات المتحدة عن وثائق تُظهر بتفاصيل كبيرة كيف أن الولايات المتحدة، عبر “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، و”شركة البدائل التنموية”، تُموّل المعارضة الفنزولية، بمعدّل خمسة ملايين دولار في السنة أو يزيد.

تَعُدُّ الحكومة الأمريكية مثلَ هذا التمويل، الذي تُشارك فيه الولايات المتحدة في جميع دول العالم باسم “تعزيز الديمقراطية”، شرعياً تماماً. أما بالنسبة إلى أنصار تشافيز، فلا ينطوي تعزيز الديمقراطية هذا على أية شرعية لأن فنزولا أصلاً ديمقراطية فاعلة، وهي، على الأقل، في المستوى ذاته من الديمقراطية كما هي الولايات المتحدة، إن لم تكن أكثر. وأما الولايات المتحدة والمعارضة الفنزولية، فتنكران هذا طبعا. غير أن تصرف حكومة الولايات المتحدة (وحكومات ومنظمات غير حكومية أخرى) موضع تساؤل أيضاً، لأن ما يفعله تعزيز الديمقراطية إنما هو خلق مجتمع مدني على هيئة مموليه الدوليين.([iv]) عندئذٍ، قد يتصرّف هذا المجتمع المدني المموَّل من الخارج لصالح مموليه أكثر مما يفعل لصالح المواطنة الوطنية، وهذا ما يُلقي بالظنون الخطيرة على شرعية هذا المجتمع المدني.

المجتمع المدني وتعزيز الديمقراطية

إن الأحداث في فنزولا ودول أخرى تشبهها، حيث تموّل الحكومةُ الأمريكيةُ والمؤسساتُ الدوليةُ مجموعاتِ المجتمع المدني، تثير قضايا خطيرةً حول كيف يُفترض أن تعمل الديمقراطية وتُموَّل. في العقدين السابقين كان العلماء والمنظرون السياسيون يقولون إن المجتمع المدني يوازن ويصحح بشكل حاسم سلطة المشاريع الخاصة وسلطة الدولة.([v]) وفي أعقاب “الثورات الديمقراطية” في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، التي كانت إلى حد كبير مدفوعة من قبل المجتمعات المدنية في الدول المختلفة، والحركة المضادة للعولمة في أواخر التسعينات، بدا معقولا أكثر مما يجب أن المجتمع المدني (أو الحركات الاجتماعية أو “الجماهير”، حسب هاردت ونِغْري)([3]) كان الموضوع الثوري الجديد، الذي سيهيّئ لمجتمع أفضل.

غير أنه، بعيداً عن أعين العامة في الغالب، بينما كان المنظرون السياسيون يُنشِدون الشعرَ في مديح المجتمع المدني، أصبحت الحكومة الأمريكية، والمنظمات متعددة الجوانب، والمؤسسات الكبرى، لاعبين كباراً في عالم منظمات المجتمع المدني. أي أنه، بالرغم من أن منظمات المجتمع المدني قامت بدور حاسم مؤكَّد في إحداث تغيير مثير في الكثرة من الدول، فالمجموعات التي عُدّت جزءاً من المجتمع المدني، أي المنظمات غير الحكومية، جُلبت بالتدريج، بالهبات المالية الضخمة، إلى الفلك الأمريكي والمؤسسات الدولية التي تسيطر عليها أوربا. ولقد قامت الهبات المالية المقدمة إلى هذه المنظمات غير الحكومية بدور مهمٍّ في مساعدة هذه المجموعات في إحداث تغيير اجتماعي إيجابيٍّ في كل شيء، من حقوق المرأة، إلى الحقوق المدنية، فحماية السكان الأصليين، وحماية البيئة، والرعاية الصحية، والتعليم، إلخ.

غير أن السؤال الذي يثيره المثل الفنزولي هو إن كان دعم المجتمع المدني – بالتمويل الأجنبيّ إلى حدٍّ كبير – لا يُغيّر ذلك المجتمعَ المدني بحيث يعكس مصالح المموِّلين وأولوياتهم. بعبارة أخرى، ما مدى الشرعية في أن يُموَّل المجتمع المدني من قبل مصالح خارجية وبذلك يُشكَّل بحسبها؟ لا نعني بذلك أن مثل هذا التمويل غير شرعي. لكنّ على علماء السياسة، والناشطين، والسياسيين أن يتأملوا في السؤال حول مدى ما ينبغي لهذا الدعم أن يكون. أيكون شرعياً إذا موّل المموِّلون الأجانب جميع منظمات المجتمع المدني في بلد ما من الصفر وبهذا سيطروا على كل نشاطٍ من أنشطة هذه المنظمات؟ يمكن المرءَ أن يقول إنه طالما جاء هذا التمويل من مصادر متنوعة، فإن تنوع الدعم سيدعم مجتمعاً مدنياً متنوعا. ولكنْ، ماذا إن لم يكن هذا هو الحال؟ أين يضعُ المرءُ الخطَّ وكيف يمكن أحداً أن يرسم أية خطوط أصلاً؟ فإن كان غيرَ مقبولٍ أن يأتي 100% من التمويل الخارجيّ من لونٍ سياسيٍّ واحد فقط، فهل يُقبل تمويلٌ قدرُه 75% إذا جاء من لونين سياسيين؟ كذلك لا يعني هذا أن تمويل مجموعات المجتمع المدني محلياً أفضل بالضرورة (وهو ما تقدّمه حكومة تشافيز). فمثل هذا التمويل أيضاً قد يأتي بشكل سائد من مصدر واحد ذي مصلحة سياسية ما.

لم تبلغ فنزولا بعدُ هذه المشاهدَ ذاتَ الحالات المتطرفة. بيد أن التمويل الدولي لمنظمات المجتمع المدني قد جاز آفاقاً بعيدة؛ من ذلك، مثلاً، التقدير الدالُّ على أن حكومة الولايات المتحدة وحدها يأتي منها ما لا يقل عن خمسة ملايين دولار في السنة، عبر “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”. وينبغي للمرء أن يضيف إليها تلك الأموالَ التي تأتي من مؤسسات دولية أخرى، كمؤسسة كُنْراد أدِنَوَر الألمانية المحافظة، التي قيل إنها قامت بدور مهمٍّ في دعم بعض المعارضين في فنزولا.

لم تنجح إدارة بوش حين حاولت أن تخطو خطوة أبعد في نفوذها المستتر على دول أمريكا اللاتينية خلال دورة الجمعية العامة لمنظمة الدول الأمريكية الخامسة والثلاثين، التي عُقدت في حزيران 2005، في مدينة فورت لودرديل [فلوريدا]. في هذا الاجتماع، اقترحت إدارة بوش نظام “مراقبة ديمقراطية”، لمراقبة مدى ديمقراطية الحكومات الأعضاء في منظمة الدول الأمريكية. ويُفتَرَضُ أن تدخل في نظام المراقبة هذا منظمات مجتمع مدني تصبح أيضاً أعضاء مشاركة في المنظمة. غير أن هذا الاقتراح رُفض رفضاً قاطعاً لأن معظم الحكومات أدركت ما تنطوي عليه هذه الفكرة من تهديد لسيادتها، واعتقدت الكثرة أنها لم تكن سوى محاولة من إدارة بوش لعزل حكومة تشافيز.

بالرغم من نكسة إدارة بوش في محاولتها “الترويج للديمقراطية”، لا بدّ من البدء في نقاش مفتوح في فنزولا (وفي دول العالم أيضاً) حول ما إذا كان ينبغي تنظيم تمويل المجتمع المدني وكيف يكون ذلك.([vi]) غير أن جوهر المسألة أنه إذا كان من شأن الأموال الآتية من الولايات المتحدة أن تبني معارضةً فنزولية قوية، فإن هذا التمويل يمثل عقبة خارجية واضحة للمشروع البوليفاري. أما إن كانت هذه العقبة شرعية أم لا، فمسألة منفصلة.

 


[1] سميت باسم لويس تاسْكُن، عضو الجمعية الوطنية عن الحزب الحاكم، الذي نشر على موقعه على الشبكة العالمية أسماء مليونين و400 ألف فنزويلي وقعوا على عريضة الاستفتاء على رئاسة تشافيز، مع أرقام هوياتهم الشخصية. [المترجم]

[2] سلفادور أليندي كان أول ماركسي انتخب انتخاباً ديمقراطياً رئيساً لتشيلي في 4 تشرين الثاني 1970. وإذ بدأ أليندي في تأميم الصناعات الكبرى ذات المصالح الأجنبية في البلاد، متخذاً خطَّ حكم اشتراكياً، تآمرت الولايات المتحدة على إسقاطه، إلى أن نجحت في تدبير انقلاب عسكري أطاح به في 11 أيلول 1973. وقد قيل إن الفرقة التي هاجمت القصر الرئاسي قتلته عقب إلقائه “خطبة الوداع” للشعب التشيلي. لكن طبيبه الخاص بعد سنوات أكد قول الجيش إنه انتحر قبل أن ينالوا منه. [المترجم]

[3] مايكل هاردت وأنطونيو نِغْري فيلسوفان ماركسيان تجديديان، كتبا كتابهما الشهير، الإمبراطورية (Empire) في منتصف التسعينات، وحين نُشر عام 2000، بيعت منه كميات فاقت التوقع ككتاب أكاديمي. يُنظّر الكتاب لتحوّل جارٍ من ظاهرة الإمبريالية “الحديثة”، المتركزة حول دولة الأمة الفردية، إلى بناء ظاهر فائق للحداثة، مختلق بين السلطات الحاكمة التي يسميها المؤلفان “الإمبراطورية”، بأشكال حربية مختلفة. وحسب المؤلِّفَيْن، يمثل ظهور “الإمبراطورية” نهاية النزاع القومي، فـ”العدو” الآن، كائنا من كان، لم يعد عقائديا أو قوميا. بل يجب فهمه كنوع من مجرم، يمثل تهديداً للقانون، وليس لنظام سياسي أو أمة. إنه عدو إرهابي في النظام الجديد الذي ينتظم الفضاء الحضاري، حيث جُعل النزاع بين الأمم غير ذي أهمية؛ وقد أصبح العدو “مبتذلا” بقيامه بصغائر الأعمال الشرطية، و”مطلقاً” في تهديده النظام الأخلاقي. [المترجم]


[i] بالنسبة إلى الضرائب، تُفعِّل الدولة الفنزولية الآن قوانين ضريبية أشدّ من ذي قبل. ففي حزيران 2005، مثلا، أغلقت سلطة الضريبة الفنزولية عدة مصانع سيارات دولية لبضعة أيام لأن عليها ضرائب غير مدفوعة. كذلك أوقفت مصنع كوكا-كولا يومين لعدم دفعه كامل ضريبته: “وكالة الضريبة الفنزولية تغلق كوكا كولا لثماني وأربعين ساعة.”. 16 شباط، 2005. (http://www.venezuelanalysis.com/news.php?newsno=1509).

[ii] في حالة فنزولا، بلغ “الاستثمار الأجنبي المباشر” 4.9 مليار دولار عام 1998، وبقي ثابتاً نوعاً ما حتى 2002، حين انخفض إلى 782 مليون دولار، ثم استعاد عافيته ثانية، بالغاً 2.6 مليار دولار عام 2003، و1.5 مليار دولار عام 2004، و2.9 مليار دولار عام 2005. (المصدر: مصرف فنزولا المركزي.)

[iii] لمناقشة جيدة حول كيف كان كْلِنْتُن، باعتباره لبراليا جديداً، يمثل منطق رأس المال، بينما كان بوش [الابن]، باعتباره من المحافظين الجدد، يمثل منطق فرض السلطة الإقليمية أو الإمبراطورية، راجع ديفد هارفي، الإمبريالية الجديدة (David Harvey, The New Imperialism). 2004.

[iv] وليم روبنسُن (1996).

[v] تشمل الأعمال المرموقة في هذا المجال: جان كوهِن وأندرو أراتو، المجتمع المدني والنظرية السياسية (J. Cohen and A. Arato: Civil Society and Political Theory)، كامبردج، ماساتشوستس، منشورات معهد ماساتشوستس للتقانة. 1992؛ يورغِن هابيرماس، ما بين الحقائق والأعراف (J. Habermas, Between Facts and Norms). منشورات معهد ماساتشوستس للتقانة. 1998؛ جون كين، المجتمع المدني العالمي؟ (J. Keane, Global Civil Society?). كامبردج: منشورات جامعة كامبردج. 2003؛ أنطونيو نِغْري ومايكل هاردت، التعدد (A. Negri and M. Hardt, Multitude). نيويورك. بنغْوِن. 2004.

[vi] بدأ النقاش في فنزولا عام 2006، بمناقشة الجمعية الوطنية لقانون جديد ينظِّم التمويل الدولي للمنظمات غير الحكومية في فنزولا. راجع: “قانون مؤسسة التراث والتعاون الدولي في فنزولا،” (“Heritage Foundation and Venezuela’s International Cooperation Law,”)، 1 آب 2006. (http://www.venezuelanalysis.com/news.php?artno=1785).