ناجي العلي اغتاله التطبيع فصار ما بعد كربلاء

عادل سمارة

للمرة السادسة والعشرين ينهض ناجي العلي صارخاً في وجه المرحلة رغم هدوئه العميق … وصلتم إلى هذا الدرك! معذرة للحسين بأن ناجي ما بعد كربلاء. وحيداً هو وطريدا من حفرة النفط الكويتية لكي يُغتال في غير أرض العراق (الكويت جزء مسلوب من العراق) ولكي لا تحمل سلطاتها المعينة من بريطانيا والموروثة كما تُورَّث الجواري من الولايات المتحدة، كي لا تحمل مسؤولية اغتياله على أرضها في فترة لم يُلقي بعض أهل السلاح سلاحهم/ن نفته إلى لندن.

حين أبلغه ضابط الشرطة الكويتي أي العراقي قرار الترحيل، سأله ناجي: لماذا؟، أجاب الضابط “يا اخي لا استطيع الحديث” وأكمل لي ناجي بأن للسعودية ومنظمة التحرير دور في ذلك. سلطة آل سعود  التي لم يُصب اي عربي شرَّاً إلا وهي بدايته وربما نهايته..

كربلائي وما بعد لأنه كان يواجه النظام العالمي كاملاً الكيان الصهيوني الإشكنازي وكل من يدعمه بل يحمله على كتفيه إلى أن تُحرر فلسطين.

بموقفه هذا كان ناجي العلي يواجه التطبيع لاجتثاث جذوره بدءاً من سايكس-بيكو بريطنيا وفرنسا وصولا إلى دولة العقل والفعل التدميري الشامل الولايات المتحدة، فسحقاً لكل من لا يقاتلها فكيف بمن يخدمها ممن يسمون لبراليين! وكان يواجه الأنظمة العربية جميعها ، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية جميعها، وشراذم مثقفين عربا كانوا يرتادون لندن لبعض القبض وبعض الجنس وترتيب بعض الارتباطات والتعاقدات ثم يتطفلون عليه للقائه. لذا، حين خرج عن طوره قال: أنا ضد التطبيع واللي بدو يطخني يطخني” كان ذلك في سهرة في مكان ما وبيت ما، واشخاص ما، وهو ما كان قد سجله الصحفي المصري حمدي النحلة ونشره بعد اغتيال ناجي في جريدة العرب في لندن يوم 27 تموز 1987.

كان ناجي العلي فلسطينيا وعروبيا وأمميا إنسانياً ربما في طليعة هذه الجبهة التي تقيم رؤيتها ونضالها على التاريخ ومن ثم صياغة التاريخ. ولهذ لم يكن مع ذبح اليهود، ولا مع إنكار المحرقة. كان يقول عليك أن تخاف ممن ينكرون المحرقة ومن ينادون بذبح اليهود لأن هؤلاء ليسوا ثواراً، ولن يقودوا إلى تحرير.  لكنه كان مع الكفاح المسلح وتحرير فلسطين بلا نقاش ولا تردد. ولا أعلم مرة واحدة أنه كان يضع حق العودة منفردا أو كبداية فقد كان التحرير أولا.

إبداع ناجي العلي وانتمائه والتزامه ساهم ربما أكثر من أي فريق عروبي في كشف جوهر التطبيع. وهنا لا أغفل مبادرة الحركة القومية العربية في مصر التي إثر كامب ديفيد جعلت من مناهضة التطبيع مشروعا اساسياً لكفاحها.

كان ناجي في طليعة مواجهة التطبيع، ولا يُقتل سوى من يكن في الطليعة. لم يكن له جيشا ولا خلفه حزبا ولا تحميه مخابرات بريطانيا العريقة في الدم والقتل مقرونتين بالابتسام البارد. كنا نعلم أنه سوف يُغتال ولم يكن بوسعنا أن نفعل شيئاً سوى أن ننتظر. هل كان ذلك جبنا أم عجزا أو قلة حيلة…؟ لا يمكنني حتى اللحظة أن أُحير جوابا.

حامت الشبهات حول منظمة التحرير الفلسطينية، وها هي تقود التطبيع وكأنه التحرير، وحامت حول أنظمة عربية، وها هي تحتضن الصهاينة  والصهاينة فقط لا مواطنيها، وحامت الشبهات حول الكيان الصهيوني الإشكنازي،  وهو يفتخر بذلك، وحامت حول تواطؤ المخابرات البريطانية قبل وبعد الاغتيال، ولماذا لا تفعل.

ولكن السؤال: وما جدوى أن تعرف من بين هؤلاء ما حصة و دور كل قاتل! يكفي أن نقول بأن قاتله هو التطبيع الذي صممه  ومارسه هؤلاء جميعاً، ولحق بهم كثيرون، من أنظمة حاكمة، ومن يساريين ومن قوى الدين السياسي. عليك أن تنظر إلى من يمارسون الإرهاب في سوريا (شيوعيين يعترفون بالكيان منذ 1948 وربما قبلها، ووهابيين وسلفيين وإخوان يعترفون ويغطون إلى أن أعلنوها صراحة بعد هجومهم على الدولة السورية، وتروتسكيين نبتوا في حضن الصهيونية، ولبراليين مخروقين بالثقافة والخطاب اللبرالي الغربي منذ دور الحضانة، ناهيك عن فرق الأنجزة التي تتحكم بأموال كالدول، ويُنظِّر لذلك فريق شعراء ومثقفي النفط والناتو. حين تنظر إلى هذا الصف تعرف كم كان ناجي العلي صاحب رؤية وكان على حق حين قرر ان يواصل السير وكاتم الصوت يقترب من مجمع الأعصاب في مؤخرة عنقه لحظة بعد أخرى إلى أن نفذت الرصاصة من خده الأيسر. رصاصة واحدة.

هكذا قال لي الراحل أحمد الهوني صاحب  جريدة العرب. وأُعيد الموقف. عند الخامسة بعد الظهر يوم الأربعاء 22 تموز 1987، اتصلت ليال كبرى بنات وابناء ناجي : عمو : قتتوا بابا وهو في المستشفى .

إذن نفذوا ما هددوا به، استأذنت صاحب الجريدة وسارعت إلى هناك. كان ناجي مسجىً تحت التنفس الاصطناعي.

في اليوم الثاني سألني صاحب الجريدة: كيف صاحبك يا استاذ؟

قلت: طالما بقي حيا حتى اليوم فنأمل خيراً.

قال: آىسف لأقل لك بأن الشرطة البريطانية استدعتني اليوم، واخبروني أن القاتل خبير وأنها رصاصة واحدة لا أكثر وأن الرجل قد رحل.

طبعاً لم نحب أن نصدق إلى اليوم الثامن والثلاثين حتى قرر وفد طبي سوفييتي بأن الرجل قد رحل.

رحل ناجي العلي وبقي التطبيع وامتد ليس فقط كسرطان حميد، بل سرطان عنيد. أنظروا حولكم/ن إن كانت لديكم جرأة رفع طرف العين، لرؤية العار الذي تتغذون به ومنه، كمن تعيش بثدييها (ومعذرة للنساء فكثير من الرجال أشد سقوطاً)  تجدون التطبيع يسري في دماء العديد. أمة بأكملها ينخرها التطبيع وهي بين من يدري ومن لا يدري.

أما ما يثير التقزز حقاً أن ترى بين من ينقدون التطبيع  من هم فيه غرقى بإرادة وقناعة وثمن، بين هؤلاء من يمارس التطبيع بكامل حياته ومنهم من يزور ضريح ناجي ليذرف دمعة هي بكائه على نفسه كم كان قذراً ولن تغسل نفسه المحيطات  كلها. أيها الناس، لا فرق بين من أطلق الرصاصة على ناجي العلي، وبين اي مطبعٍ صغر أم كبر لأن نتاج التطبيع مذبحة وطن وأمة، فليختبر كل دمه.

ملاحظة: ساحاول –دون وعد- نشر بعض ما كُتب قبيل وبعد اغتيال ناجي في لندن

22 تموز 2013