أحمد حسين
عبد النّاصر :
حِينَ انْطَفَأَ فَنارُ السّاحِلِ وَجَدَتْ سُفُنُ القُرْصانِ شَواطِئَها.
وَجَدَ الخَفّاشُ جَناحَيْهِ، وَصارَ المَوْتى حُلُمَ الأحْياءِ، وَسَقَطَتْ مِصْرْ.
(آهِ، لَمْ تَحْفَظْ مِنَ الشَّمْسِ سِوى الحَرِّ
وَمِنْ فارِسِها غَيْرَ السُّعالْ
لَمْ يَكَدْ يَمْضي!
فَمَنْ أعْطاكِ هذا القُبْحَ وَالوَجْهَ المُحالْ
آهِ، ما اشْتَقْنا إلى البَسْمَةِ وَالعَيْنَيْنْ
وَاشْتَقْنا لِتَأميمِ القَنالْ.)
مَنْ قالَ بِأنَّكَ تَرْجِعُ حَتّى نَعْشَقَ كُلَّ طَويلِ القامَةِ تَبْتَسِمُ السُّمْرَةُ فِيهِ، وَعَيْناهُ كَحُلُمِ الفُقَراءِ مُسَيَّجَتانِ بِقَمْحْ؟
لَوْ كُنّا نَعْرِفُ سِرَّكَ ما انْطَفَأَ اللُّؤْلُؤُ بَيْنَ أصابِعِنا.
(آهِ، يا أرْضَ جَنوبِ العِشْق…
مَنْ أعْطى الظِّلالْ
نَكْهَةَ الحُلُمِ…
وَأعْطى الخُبْزَ طَعْمَ البُرْتُقالْ؟)
كُنّا حينَ دَفَنّاكَ، أقَمْنا كَهَنوتَكَ في الفُقَراءِ، بَنَيْنا في الأطْفالِ كَنيسَتَكَ، كَتَبْنا أعْداءَكَ في اللَّعَناتِ وَقَسَمِ الهَجْرْ.
(هُوَ لَمْ يَأْتِ مِنَ الأحْبارِ
لَمْ يَأْتِ مِنَ التُّجّارِ
لَمْ يَأْتِ مِنَ البَيْتِ الكَبيرْ.
كانَ أطْيَبْ!
جاءَ مِنْ رَحْمِ السُّلالاتِ الَّتي تَحْيا لِتَتْعَبْ.
مِنْ رِجالٍ رَفَضوا حَمّلَ النُّبُوّاتِ لِيَبْقَوْا فُقَراءْ.
عَلَّمَ الأطْفالَ أنَّ الخُبْزَ لا يَمْشي إلى بَيْتِ الفَقيرْ.
عَلَّمَ الأطْفالَ أنَّ الحُبَّ إنْسانٌ وَدارْ،
فارِسٌ يَتْعَبُ في الحَقْلِ وَيَغْوي في السَّريرْ.
عَلَّمَ الأطْفالَ أنَّ الوَقْتَ في النّاسِ نَهارْ
وَعَلى الأبْوابِ، لَيْلْ.)
حينَ أتَيْتَ اقْتَحَمَ الشَّمْعُ أصابِعَنا.
وَرَأيْنا العالَمَ، فَاخْتَلَطَ بِحُلُمِ الصَّحْراءِ المُزْمِنِ وَظِلالِ الإبِلِ الوَحْشِيَّةِ فَحَسِبْناكَ أميرًا سُنِّيّاً.
وَصَرَخْنا: ابْنِ لَنا مَمْلَكَةَ الخُبْزِ وَما قُلْنا: ابْنِ لَنا مَمْلَكَةَ القَمْحِ، فَسِرْتَ عَلى الأرْضِ لِوَحْدِكْ.
كُنْتَ تَموتُ مِنَ الحُزْنِ لِأنَّ الفُقَراءَ أحَبُّوكَ لِذاتِكْ.
وَاكْتَشَفَ مُلوكُ العالَمِ سِرَّكَ فَاقْتَسَموا مَوْتَكَ بِالسّاعاتِ وَكانَتْ حِصَّةُ مَلِكِ الثُّوّارِ التَّعْذيبْ.
أَوَما عَرَفَ الأبْلَهُ أنَّكَ قاتِلُهُ يَوْمَ تَموتْ؟!
(ماتَ لَمْ يَأخُذْ سِوَى قامَتِهِ…
وَالوَسامَة.
ماتَ لَمْ يَأخُذْ مَعاهُ النِّيلَ…
أوْ ذاكِرَةَ الأطْفالِ…
لَمْ يَأْخُذْ مَعاهُ السَّدَّ.. أوْ كَهْرَبَةَ الرِّيف.. وَلا التَّأْميمْ
لَمْ يَأخُذْ سِوى قامَتِهِ…
وَالوَسامَة.)
أَتُراكَ بَدَأْتَ القِصَّةَ مِنْ آخِرِها؟
لا أدْري!
كانَ زَمانُكَ أجْمَلَ مِنّا، خُبْزُكَ أطْيَبُ مِنْ كَعْكِ العيدِ، وَمَوْتُكَ أَذانَ المَغْرِبْ.
(أَبْعِدوا عَنْهُ الرِّثاءْ!
فَإذا جاءَ أوانُ الشِّعْرِ لا تَنْتَظِروا
وَاغْمِسوا أعْيُنَكُمْ في الطِّينِ حَتّى تُبْصِروهْ
في ابْتِهاجِ الأرْضِ بِالقُطْنِ وَأعْوادِ الذُّرَة.
سَوْفَ يَأتي!)