تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.
تتمة خاتمة
2007 عام الانتقال إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين
2007: سنة الانتقال إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين؟
باستثناء اليساريين الأشدِّ جذريةً، لا تُنكر سوى قلة أن برنامج تشافيز السياسي قد تجذّر بشكل كبير منذ إعادة انتخابه في كانون الأول 2006. فقد مضى قُدُماً في إعادة تأسيس حركته السياسية، ودشّن تأميماتٍ جديدةً، ويعِد بإصلاح شامل للدستور ولقوانين البلاد بحيث يهدم مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية القديمة، ويستمر في تحدي سلطة نخبة البلاد القديمة في عدم تجديد رخصة “إذاعة كاراكاس المتلفزة”. لكنْ، هل ستُقرِّب هذه الجذرية المتزايدة البلاد من شيء قد يُسمَّى شرعياً اشتراكية القرن الحادي والعشرين؟
بالنظر إلى السياق المحافظ للقرن الحادي والعشرين، تبدو الكثرةُ من الإجراءات جذريةً حقاً، إذ أن الخصخصة وفضَّ التعبئة باتتا بعضاً من العرف السائد في معظم دول العالم. فلو حدث قبل ثلاثين عاماً أنْ لم يجدِّد تشافيز رخصة “إذاعة كاراكاس المتلفزة” لإنشاء محطة تلفزة عامة، ولو أنه يومئذٍ أمّم الصناعات الكبرى، فلن يكاد أحدٌ يعدُّ ما فعله جذرياً أو حتى دكتاتوريا. فمن العدل القول، إذاً، إن هاتين الخطوتين، بحدِّ ذاتهما، لا تكادان تكونان جذريتين ولا تستحقان وصفهما بصورةٍ خاصّةٍ باشتراكية القرن الحادي والعشرين، لأن سيطرةً أكبرَ للدولة على المجتمع المدني والاقتصاد من الأشياء التي لا يُفترَض بمثل هذه الاشتراكية أن تشتمل عليها. بيد أن المرء قد يعدُّ هذه الخطوات شروطاً مسبقة ضرورية لإقامة اشتراكية القرن الحادي والعشرين.([i])
بطبيعة الحال، من غير تعريف اشتراكية القرن الحادي والعشرين، يستحيل القول إن كانت فنزولا سائرةً في هذا الاتجاه. لكنْ، استناداً إلى تصريحات صرّح بها تشافيز والكثرة من المفكّرين الرئيسيين من حوله، من الممكن إجمال بعض العناصر الدستورية الأساسية التي لا بدّ لاشتراكية القرن الحادي والعشرين من أن تشتمل عليها.([ii]) أولا، إذا كانت اشتراكية القرن الحادي والعشرين تعني تعميق الديمقراطية، كما يقول تشافيز، فلا بدّ لها من تفعيل قدرةِ كل فردٍ على الإدارة الذاتية، أكان ذلك في العمل، أم في كونه مستهلكا، أم في المجال السياسي. ثانياً، تعني النقطة السابقة أن ملكية وسائل الإنتاج والسيطرة عليها يجب أن تكونا جماعيتين ديمقراطيتين. ثالثاً – واستقاءً من النقطة الأولى أيضاً – ينبغي للدولة أن تكون منظمةً بحيث تكون مستقلة حقاً عن المصالح الخاصة القوية تحديداً ولا تكون مسؤولة إلا أمام الشعب. رابعاً، بالنظر إلى عدم المساواة المادية، وبالنظر أيضاً إلى مراكز القوة الخاصة التي تنتجها الأسواق، ينبغي إيجاد آليات توزيع وتخصيص جديدة تقلل من عدم المساواة.
باستخدام هذه النقاط الأربع كدليل تقريبي للطريق إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين، يمكن المرءَ أن يؤكد تعزيز الإدارة الذاتية في المجال السياسي عبر مجالس المجتمعات المحلية. بيد أنه، حتى الآن، لم يحدث الكثير في الوقت الراهن لنقل مكان العمل إلى هذا الاتجاه. أي أنه بالرغم من تأميم شركة الهاتف الفنزولية، وشركة نفط فنزولا، وشركات الكهرباء، قد حدث القليل، أو لم يحدث شيء، لإقامة الديمقراطية داخل هذه المشاريع. فبينما حدثت حركة باتجاه إدارة ذاتية أكبر في مجالات أخرى، كما حدث عبر النمو الضخم للحركة التعاونية واستيلاء العمال على العديد من المصانع المفلسة، لا تزال قطاعات الاقتصاد الفنزولي الرئيسية تُدار بأسلوب الإدارة الفوقية الرأسمالية التقليدية. والشيء نفسه يحدث في الإدارة العامة عموماً.([iii])
فيما يتعلق بإدخال الديمقراطية والإدارة الذاتية إلى المجال السياسي، يستمر بوضوح في العام 2007 التحرك قُدُماً صوب تعميق مجالس المجتمعات المحلية في الحياة السياسية الفنزولية، مما يعزِّز إمكانية تحقق هذا الجانب من اشتراكية القرن الحادي والعشرين. لكنّ السبب في أن هذا لا يزال ممكناً فقط وليس مُتحقِّقاً تماماً يعود إلى أن إحدى القضايا الرئيسية حول مجالس المجتمعات المحلية لم تُحلّ بعد، وهي الخطر الآتي من المحسوبية. أي أنه طالما لا يوجد تحيّز أو تأكيد آخر بأن تمويل المجالس لا يقتصر على المجالس المؤيدة للحكومة، فإن ثمةَ خطراً حقيقياً وخطيراً من أن يُعاد خلق هياكل المحسوبية القديمة، حيث تُبادَل المنافع الحكومية بالدعم السياسي.
غير أن الدولة الفنزولية الآن، على الجانب الإيجابيّ، أكثر استقلالا عن المصالح الخاصة القوية مما كانت عليه من قبل قط. فليس ثمة بابٌ دَوّارٌ بين الصناعة الخاصة والحكومة كما كان عليه الأمر سابقاً، ومن الواضح أن ليس للأعمال التجارية الكبرى، أكانت محلية أم دولية، سلطة على الحكومة، وهذا مغاير لما كان عليه الحال في الفترة السابقة لتشافيز. يخلق هذا الاستقلالُ الأكبرُ مساحةً لمشاركةٍ شعبيةٍ أكبرَ وذاتِ معنى في الحكومة الذاتية. كذلك سواء أصبحت قناة التلفزة التي تحلُّ محلَّ “إذاعة كاراكاس المتلفزة” جماعيةً حقاً ومسيطراً عليها ديمقراطياً أو محض قناة حكومية أخرى، فستكون مؤشراً على مدى شجاعة الحكومة في التخلي عن السيطرة وإحالتها للشعب.
أخيراً، فيما يتصل بالنقطة الرابعة حول تنمية آليات التوزيع والتخصيص اللاسوقية، فإن دور الدولة هو الوحيد الذي عُزِّز عام 2007، من خلال إعادة توزيع الثروة بالتأميم، والضرائب، والبرامج الاجتماعية، وإصلاح ملكية الأراضي. أما أشكال التخصيص غير المستندة إلى الدولة والسوق (كما هو مُقدَّم في الملحق، على هيئة اقتصاد تشاركي)، فلا تزال كلياً تقريباً خارج مجال البحث، بَلْهَ التطبيق.
بعيداً عن السؤال حول مدى ما تتحرك فيه السياسات الجديدة صوب اشتراكية القرن الحادي والعشرين، على المرء أيضاً أن يفحص إن كانت هذه السياسات تساعد في التغلب على العقبات القابعة في سبيل تلك الاشتراكية التي وُصفت في الفصل السادس من هذا الكتاب؟ وبشكلٍ خاصّ، هل تساعد هذه الخطوات الحديثة في التغلب على العقبات الداخلية الرئيسية الثلاث، أي الشخصنة والمحسوبية والإدارة الهابطة من أعلى إلى أسفل؟
إن أهم تطور حديث في هذا المجال هو إنشاء الحزب الاشتراكي الفنزولي الموحّد، الذي، إذا نُظم بشكل ديمقراطي شعبي حقا، فسيحمل إمكانية التغلب على الشخصنة والإدارة الهابطة من أعلى إلى أسفل. أي أنه إذا كان قادة الحزب وبرنامجه مسؤولين مباشرة أمام أعضاء الحزب، فسيقطع شوطاً طويلاً في التقليل من اعتماد الحركة البوليفارية على تشافيز، فيتغلب بهذا على أسلوبه الفوقي في الإدارة. وسيرتفع قادة الحزب على أساس قدراتهم الشخصية وبالتناغم مع الأعضاء الذين انتخبوهم أكثر من ارتفاعهم على أساس تأييدهم المطلق للرئيس. كذلك ستتمتع الحركة البوليفارية الاشتراكية بترابط تنظيميٍّ وعقائديٍّ، فلا تعود تعتمد على قيادة تشافيز لتحقيق توحدها.
لسوء الحظ، بينما يساعد إنشاء الحزب الاشتراكي الفنزولي الموحّد في دفع الحركة البوليفارية أبعد من اعتمادها على تشافيز، فإن هذه الحركة نفسها تقترح أيضاً تعديلا للدستور الفنزولي بحيث يمكن أن يعاد انتخاب الرئيس أكثر من مرة. والسماح بإعادة انتخابه عدداً لانهائياً سوف يؤجّل حاجة الحركة إلى التغلب على اعتمادها على تشافيز ويمكن أن يُعزِّز التبعات السلبية التي يأتي بها هذا الاعتماد.
فيما يتعلق بالتغلب على ثقافة المحسوبية السياسية في فنزولا، من الممكن جداً أن يصبح حزب منظم تنظيماً ديمقراطياً عاليا، كالحزب الاشتراكي الفنزولي الموحّد، مطيةً للمحسوبية، ما دام الإصلاح لم يُصب الدولة. إن ثقافة المحسوبية متجذرة عميقاً في فنزولا وفي أمريكا اللاتينية عموماً، ولفنزولا تاريخ طويل لم تكن المحسوبية تعتمد فيه على تأييد الرئيس كثيراً، بل على عضوية أحد الحزبين المهيمنين، العمل الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي. فإذا أصبح الحزب الاشتراكي الفنزولي الموحّد هو القوةَ السياسية المهيمنة في البلاد، فسيكون مغرياً جداً للمدراء في الإدارة العامة أن يؤكدوا ولاءهم بتشغيل أعضاء الحزب وحدهم (حالياً، لا تقوم عضوية أي من الأحزاب الحاكمة بهذا الدور). أضف إلى ذلك أنه قد يغدو وسيلة لتقرير من يتلقى خدمات الدولة.
أن تتغلب فنزولا والحركة البوليفارية الاشتراكية على هذا الإغراء يعتمد على إصلاح الدولة، بحيث يُطبِّق الموظفون العامُّون سياسات الحكومة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية الشخصية، وبحيث يفعل الشيء ذاته أيضاً من يُوظِّفون الموظَّفين العامّين، بغض النظر عن انتمائهم السياسي.([iv]) هذا يعني أن إصلاح الدولة سيعتمد على تدريب موظَّفين عامّين جددٍ أكثر من اعتماده على التغييرات الهيكلية الحقيقية (بالرغم من أنها مطلوبة أيضاً). ويغطي أحدُ مجالات التخويل القانوني للعام 2007 إصلاحَ الإدارة العامة تحديداً. غير أنه لما كانت المراسيم القانونية التي تغطي هذا المجال لم تُقدَّم بعد، فمن غير الممكن معرفة ما إذا كانت ستُعالج المشاكل المذكورة هنا.
يتعلّق مصدر الكثرة من المشاكل المذكورة أعلاه تعلُّقاً مباشراًً بنجاح الحركة البوليفارية حتى الآن: الرئيس هوغو تشافيز. فبينما يرى بعض المحللين أن نجاحه يأتي من شعبيته،([v]) يبدو أكثر فائدةً أن يُرى أنه نابعٌ من جاذبيته الشخصية. ومن المؤكد أن هاتين الفكرتين متعلِّقتان تعلُّقاً حميماً بالنظر إلى الجاذبية الشخصية كمكوِّنٍ جوهريٍّ للشعبية، ولكننا بتوكيدنا على دور الجاذبية الشخصية، نستطيع بشكل أوضح أن نرى كيف أنها تخلق مشاكل كالشخصنة، والمحسوبية، والاستبداد، وفي الوقت عينه تجعل التحوَّل الجذري في المجتمع أمراً ممكناً.([vi])
إنها جاذبية تشافيز التي استطاعت توحيد يسارٍ كان منقسماً داخليا انقساماً كبيراً في فنزولا، وساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في فوز تشافيز في انتخابات تلو أخرى (والعامل الرئيسي الآخر كان سياسات الحكومة الحقيقية التي عزّزت الشمول السياسي للأغلبية الفقيرة في البلاد). في الوقت عينه، إنها هذه الجاذبية هي التي تخلق اعتماد الحركة اعتماداً زائداً على تشافيز في منحها وحدتها، وبهذا تخلق سياسةً شخصانية جدا، حيث يُعدُّ شيئاً واحداً الإخلاصُ للمشروع البوليفاري، والولاء لتشافيز، وقبول جميع سياساته قبولاً مطلقاً. هذه الشخصانية، مضافاً إليها الجهود المخرّبة من جانب قطاعات المعارضة للإطاحة بتشافيز، تُنتج حاجةً إلى حماية الحكومة من التخريب، وتنضمُّ إلى ثقافة المحسوبية الموجودة مسبقاً لإنتاج هياكل المحسوبية ضمن المجتمع الجديد الذي يرغب تشافيز وأنصاره في خلقه.
بعبارةٍ أخرى، يواجه المشروع البوليفاري وضعاً متناقضاً بحيث لا يمكن، من جانب، أن يكون حيث هو من غير تشافيز، وجاذبيته، ورؤيته الإستراتيجية، ومن جانب آخر، يُنتج اعتمادُ الحركة على تشافيز وجاذبيته بعضَ أسوأ مظاهر النظام السابق الذي قامت الحركة للإطاحة به. مع هذا، وبالرغم من هذا الوضع المتناقض، يبقى مشروع فنزولا البوليفاري – وحديثاً المشروع البوليفاري الاشتراكي – أحد أفضل منارات الأمل ليسارٍ أمريكيٍّ-لاتينيٍّ يُعادُ إنعاشُه حديثا. وإذ تمضي حكومة تشافيز قُدُماً، فتجرّب، وأحياناً تتعثّر، بأشكال جديدةٍ من التنظيم السياسي الاقتصادي، فإنها تقود بالمثال وتقدِّم الإيحاء بأن عالماً أفضل ممكنٌ حقا.
[i] يقول تشافيز هذا القدر حين يقول إن المحرك الخامس للاشتراكية البوليفارية هو الأهم، لكنه يعتمد في نجاحه على المحركات الأربعة السابقة.
[ii] راجع الملحق في هذا الكتاب لشرح أوفى عما تعنيه اشتراكية القرن الحادي والعشرين.
[iii] اقترح الحزب الشيوعي الفنزولي حديثاً إنشاء مجالس عمال اشتراكية من شأنها أن تنطوي على دور إداري مشترك في جميع المؤسسات الخاصة والعامة. لكن المعارضة والكثرة من النقابات انتقدت ذلك المقترح باعتباره محض وسيلة لتقويض دور النقابات في مكان العمل، وهو ما ينفيه الحزب الشيوعي، طبعا. “مشروع قانون خاص بمجالس العمال الاشتراكية” قُدِّم للجمعية الوطنية في نيسان 2007. وقد بدا أن تشافيز كان يؤيد ذلك المقترح مما يعطيه فرصة جيدة للقبول خلال تلك السنة.
[iv] أحد الأشياء التي يتناساها منتقدو تشافيز بانتظام حين ينتقدون الحكومة، مصيبين، بسبب التوظيف السياسي هو أن الكثيرين من موظفي الدولة يرتكبون ذنب تخريب الإدارة العامة لأنهم لا يريدون تنفيذ سياسات الحكومة. مثل هذا التخريب، طبعا، يجبر المدراء على التوظيف بناء على الانتماء السياسي. بعبارة أخرى، كلا الطرفين شريك في إقحام السياسة على الإدارة العامة.
[v] من المحللين الذين قالوا هذا القول رابي (2006)، وإلْنر (2001 و2005)، وهوكنْز (2003)، وباركر (2001). التحليل العام للسياسة الشعبية في أمريكا اللاتينية الذي يحاول تفسير قدرتها على حشد قطاعات كبيرة من الناس ما قدمه لاكْلو (2005).
[vi] ماكْس ويبر (1947) كان أول من رأى هذه الإمكانية الثنائية للجاذبية الشخصية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.